لم يملّ القاص الراحل محمود عبد الوهاب من سرد حكاية العرافة، ففي ذات يوم كان خمسة شباب، هو وبدر شاكر السياب ومحمود البريكان ومهدي عيسى الصقر وسعدي يوسف، في خمسينيات القرن الماضي، يتسامرون في أحد المقاهي على كورنيش شط العرب في مدينة البصرة، فدخلت عرَّافة غجرية للمقهى، وما أن رآها السياب حتى ناداها، مازحاً بأن تفرش لهم أحجارها ليتعرفوا على مصائرهم. غير أن المفاجأة أنها تنبأت للجميع بما سيحدث، فقالت للسياب بأنه سيموت صغيراً في أرض غريبة، ولمهدي عيسى الصقر: أراك تحت نجم آخر، ولمحمود عبد الوهاب: ستعيش حياتك بلا رفيقة درب، ولسعدي يوسف: ستتقاذفك البلاد الغريبة، في حين تنبأت لمحمود البريكان بمصير فاجع.
نبوءة العرافة الغجرية هذه تحققت تماماً، فالسياب مات صغيراً وهو لا يتجاوز الثمانية والثلاثين عاماً في أرض غريبة، وبقي مهدي عيسى الصقر يطوف تحت نجوم أخرى لم يألفها، وتقاذفت البلاد التي تليها بلاد سعدي يوسف، وكان مصير البريكان القتل على يد مراهق طائش لم يعرف أهمية هذا الشاعر عراقياً وعربياً... أما محمود عبد الوهاب فقد عاش أكثر من ثلاثة وثمانين عاماً وحيداً بلا زوجة ولا رفيقة.
هذه النبوءة غيَّرت من مسارات الأدب العراقي عموماً، فسعدي سقته الغربة والمنافي روحاً شعرية لم تنضب حتى الآن، وكان مدرسة لوحده، حتى عدَّه أحد الكتاب بأنه مدرسة نفسه. ولم تهدأ فاجعة مقتل البريكان حتى الآن، فالطارق الذي تحدث عنه في قصيدته الشهيرة كان هو القاتل، في حين بقيت روحه معلقة على أُكره الباب، تترنح للطارق الجديد الذي لم يأت قط. أما محمود عبد الوهاب، فكان مقهى الأدباء؛ في منطقة العشار بمدينة البصرة، مكانه الأثير، فلا يرغب بالتواجد كثيراً في البيت الذي لا روح فيه، فلا زوجة ولا أولاد يؤنسون وحده، وبقي بلا رفيقة درب كما أخبرته العرافة.
أما السياب... فكانت العرافة الغجرية بعيداً جداً عن الصواب في تحديد مصيره، فالذي مات لم يكن هو، بل مجرَّد قمصان مهلهلة كان يرتديها، وبعضٌ من تلافيف سيقانه النحيفة، وحزاماً جلدياً صنع بعناية في سوق الهنود معطراً برائحة شط العرب. في حين بقي هذا الاسم حياً، وأحيا معه جيكور، تلك القرية القابعة في عمق أبو الخصيب، وبويب، ذلك النهر، الذي جعله السياب أعظم قصيدة ترتوي منها محيطات الشعر.
هل مات السياب قبل خمسين عاماً فعلاً؟ وهل مرت خمسة عقود من دون أن يعبر؛ بخطوة صغيرة، نهر بويت؟ وهل ما زال شُبَّاك وفيقة مفتوحاً على مصراعيه، ينتظر القادم من رحلة علاجية في الكويت؟
على مدى هذه العقود كان السياب حاضراً في بيته الذي كان طابوقه ندياً، يرسم ابتسامات أطفاله وكركرات قصائده، إلا أنه مات فعلاً حينما ضاع البيت وبيع شُبَّاك وفيقة كخردة في سوق البصرة القديمة، وأقيم مكانه بيتٌ يدّعون أنه لك، أيها الشاعر العظيم... مات السياب حينما مرت خمسون سنة من دون أن يجمعوا ما تبقى منك ليكون إرثاً، في حين يترامى حول تمثالك عشرات العشاق كل يوم، يلتقطون صوراً تذكارية مع رجل نحيف ببدلة فقيرة، لا يعرفون من هو؟ نعم، حينها متَّ لأن الناس لا تعرف منك سوى هذه الحجارة التي تسمى: تمثال السياب!
نبوءة العرافة الغجرية هذه تحققت تماماً، فالسياب مات صغيراً وهو لا يتجاوز الثمانية والثلاثين عاماً في أرض غريبة، وبقي مهدي عيسى الصقر يطوف تحت نجوم أخرى لم يألفها، وتقاذفت البلاد التي تليها بلاد سعدي يوسف، وكان مصير البريكان القتل على يد مراهق طائش لم يعرف أهمية هذا الشاعر عراقياً وعربياً... أما محمود عبد الوهاب فقد عاش أكثر من ثلاثة وثمانين عاماً وحيداً بلا زوجة ولا رفيقة.
هذه النبوءة غيَّرت من مسارات الأدب العراقي عموماً، فسعدي سقته الغربة والمنافي روحاً شعرية لم تنضب حتى الآن، وكان مدرسة لوحده، حتى عدَّه أحد الكتاب بأنه مدرسة نفسه. ولم تهدأ فاجعة مقتل البريكان حتى الآن، فالطارق الذي تحدث عنه في قصيدته الشهيرة كان هو القاتل، في حين بقيت روحه معلقة على أُكره الباب، تترنح للطارق الجديد الذي لم يأت قط. أما محمود عبد الوهاب، فكان مقهى الأدباء؛ في منطقة العشار بمدينة البصرة، مكانه الأثير، فلا يرغب بالتواجد كثيراً في البيت الذي لا روح فيه، فلا زوجة ولا أولاد يؤنسون وحده، وبقي بلا رفيقة درب كما أخبرته العرافة.
أما السياب... فكانت العرافة الغجرية بعيداً جداً عن الصواب في تحديد مصيره، فالذي مات لم يكن هو، بل مجرَّد قمصان مهلهلة كان يرتديها، وبعضٌ من تلافيف سيقانه النحيفة، وحزاماً جلدياً صنع بعناية في سوق الهنود معطراً برائحة شط العرب. في حين بقي هذا الاسم حياً، وأحيا معه جيكور، تلك القرية القابعة في عمق أبو الخصيب، وبويب، ذلك النهر، الذي جعله السياب أعظم قصيدة ترتوي منها محيطات الشعر.
هل مات السياب قبل خمسين عاماً فعلاً؟ وهل مرت خمسة عقود من دون أن يعبر؛ بخطوة صغيرة، نهر بويت؟ وهل ما زال شُبَّاك وفيقة مفتوحاً على مصراعيه، ينتظر القادم من رحلة علاجية في الكويت؟
على مدى هذه العقود كان السياب حاضراً في بيته الذي كان طابوقه ندياً، يرسم ابتسامات أطفاله وكركرات قصائده، إلا أنه مات فعلاً حينما ضاع البيت وبيع شُبَّاك وفيقة كخردة في سوق البصرة القديمة، وأقيم مكانه بيتٌ يدّعون أنه لك، أيها الشاعر العظيم... مات السياب حينما مرت خمسون سنة من دون أن يجمعوا ما تبقى منك ليكون إرثاً، في حين يترامى حول تمثالك عشرات العشاق كل يوم، يلتقطون صوراً تذكارية مع رجل نحيف ببدلة فقيرة، لا يعرفون من هو؟ نعم، حينها متَّ لأن الناس لا تعرف منك سوى هذه الحجارة التي تسمى: تمثال السياب!