هل المرواة فنا سرديا كالقصة والرواية ،أم أنها كلمة منحوتة من المروي والراوي ؟ كلمة أريد بها أن تكون حاملة لما هو اثقل منها وهو الفضاء ذو الخصوصية الطوبوغرافية؟،ربما يقودنا السؤال إلى منطقة وسطى حين تخلق المرواة شكلا سرديا خاصا بها،لا هو قصة ولا هو مقالة، شكل سردي بغير أسس السرد الحكائية المعروفة،ومثل هذا التأسيس يسبق التنظير له لأنه واقع قائم بالفعل ومتداول دون ان يكون فنا، فالمرواة فضاء يروى بوساطة راو هو من بيئة المروي،والناتج مجموعة من المعلومات الفنية تقدم على شكل سردي بطبيعة خاصة، وإذا تكوّن شكل فني عن هذه الطبيعة فهو شكل غير مقصود، يمكن أن نطلق عليه "مراواة أو مرواتيات" وليست مرويات أو اي اسم آخر،ولكن هذه الكينونة للمرواة تتم بدون قصدية مسبقة، بالرغم من انه لا يولد شكل فني اعتباطيا، كل شكل له جذوره ومرجعياته، القصدية في المرواتية تتم باختلاق شكل سردي لها يستوعب ما فيها،وهذه القصدية توفرها ثلاثة عوامل:الأول: وجود مروي طبيعي غريب وغامض،الثاني: وجود راو من بيئة المروي غير تقليدي ،الثالث: وجود واقع باطني غيرظاهر للعيان.هذه العوامل الثلاثة تمنحنا فرصة أن يكون ثمة نص نسميه "المرواة" وهي مفردة جمع لهذه الثلاثية، فضاء، وراو، وحدث. وكلها غير معروفة إلا لمن يسكن فضاء المرواة.
شخصيا أعتبر القاص حامد فاضل في "مرائي الصحراء" احد القصاصين الذين كتبوا المرواة الدقيقة المعنى،عندما اختار بادية السماوة ميدانا بكرا لسردياته،واختارت البادية قاصا راويا هو من البيئة نفسها، فاستدل بظاهرها على اعماقها،وعرف الطرق الموصلة بين شعابها فكانت روايته لها تجسيدا لواقعها ولمخياله المنبثق منها.ثم اختار حدثا هو جزء من اركولوجية البادية المحكية،فالراوي لا ينفصل عن مرويته،والمروية لاتجد حضورا لها الا عبر مرواتها الخاصة،هكذا اجد ابراهيم الكوني راويا لمرواة الصحراء الليبية،كلاهما يكمل الآخر..أما من ناحية التمرد على الشكل السردي القائم و- نعد التمرد شكلا سرديا جديدا- لم يقله جمال الغيطاني في الزيني بركات، ولم يقله محمد خضير في بصرياثا، ولم يقله الكوني في رواياته،إنما قالوا ما يفيد انهم جددوا في الاسلوبية السردية المألوفة لصالح قالب القصة والرواية.ولذلك لم يتطور هذا الخروج الفني إلى اسلوبية معتمدة من قبل كتاب آخرين.
عندما بدأت الرواية الجديدة خروجها على مألوف السرد،بنت خروجها على ثورة الظاهراتية ورؤيتها للأشياء بوصفها ظاهرة عيانية تأويلية،فأدخلت الرواية الجديدة الاشياء بعدّها كيانات تتحسس العالم،وليست كيانات يُتحسس بها فقط، فابعدت السرد عن هيمنة الشخصيات والاحداث الاجتماعية والنفسية، فيما اصبحت الأشياء فضاء جديدا للرواية،ولكن الرواية الجديدة لم تأت من الفراغ،فخلفها الرواية الحديثة والكلاسيكية والتاريخية ومعها ثورة الظاهراتية والوجودية والتأويلية ومدارس النقد الحديثة،فكانت نبتا طبيعيا للتجديد، يجمع بين القديم والحديث، ترى ماوراء المرواة كنص سردي جديد كما يدعي البعض؟ لا شيء غير الحكاية، والرواية التقليدية، والنص السردي العادي، وهذه ليست جذورا يمكنها أن تورث شجرة سردية جديدة.ما وراء المرواة هو الصحراء، البحر،الخيال،أو اي فضاء مجهول،كل حكايات الف ليلة وليلة يمكن عدّها مرواتيات،لأنها بنت حكايتها على اصقاع مجهولة بما فيها الجسد والسفر والطلاسم وليست شكلا قصصيا مكتملا،إنما هي شكل مرواتي.
الجذور الفنية للمرواة نجدها إذا في طرائق سرد ألف ليلة وليلة،وفي السير الشعبية،عندما تماهت الشخصيات في فن الحكاية فكان "حكيها" هو "حكايتها"، ونجدها في بخلاء الجاحظ عندما كانت النكتة حكاية،أو اقصوصة،فلا تجد فيها إلا توازنا بين النكتة وصاحبها،ونجد جزءا من هذه العلاقة الجدلية في الامتاع والمؤانسة،وأفضل شكل للمرواة نجده في السيرة الشعبية، التي مزجت بين فضاء البادية وناسها،فلا الناس معزولين عن المرواة ولا البادية.كلاهما يحكي مرواته، اي الفضاء الذي يتشكل(ه) ويشكل(ه).كما يقال: "البس ردائي ويلبسني"
إن ما يشفع وجود المرواة،هو الواقع المروي بلسان راو خبير بهذا الواقع أو جزء من هذا الواقع، حيث تتماهى الطبيعة مع سكانها،ويتماهى السكان مع الطبيعة ،وقل ذلك بشان العمل والعامل.،راو قادرعلى صوغ بنية سردية جديدة، عمادها الفضاء والمشهد،وقد تكتب البنية بلغة أخرى غير لغة الكتابة، لغة الفوتو غراف،لغة السيرة الذاتية، لذا فالمرواة ليست نصا سرديا صرفا يتحدث عن موضوع، أو نصا له بداية ونهاية،إنما هي طريقة سرد تفرضها طبيعة الأمكنة وساكنيها، هي "ثقافة مروية" وتهيمن عليها مشهدية الصورة الجماعية، ومادتها الذاكرة الجمعية،ويمكن لأي راو آخر من السكان والبيئة نفسها ان يروي المشاهد نفسها،المرواة فعل يتحرك في أعماق الفضاء، متشكل قبل الآنية،كله ماض، وحركته باتجاه المستقبل متوقفة على المرواتي الذي يجيد الحفر في هذه الاعماق. نص المرواة لا ينبئ،ولا يبدأ لينتهي،ولا يحمل تصورا على العالم الآتي، لانه متخوم بالحكي عن.. ومثل الطابع الوسم، يريد ان يقول أنه وحده النص الحقيقي الذي تشكل قبل ان يعي المؤلف به، وانه نتاج مشترك لحياة سكانها، خاصة في البيئة الدينية الصحراوية مثل بيئتنا. تقترب المرواة من المقدس، شيء ما متكون قبلا أو هو الكينونة التي يجد فيها ساكنها إنها التعبير الوحيد عن الآلهة،ومن هنا تأخر فن الرواية عندنا وتقدم فن الحكاية،لان ما يروى يحكى،بينما ما يكتب يتحول إلى رواية، وفننا كله شفوي. ولان الرواية ترصد الحركة الواقعية الصادقة والحقيقية، تعتمد الحكاية على القدرات الاسلوبية والصدق والكذب الفني،أما المرواة فيرافقها حضور ما انجز منها. فالنص المرواتي هو الجمع بين اسلوبية الحكاية وما يفرضه الفضاء المرواة من لغة اركولوجية، فتنشا نصية تقع ما بين الطبيعة والرؤية،ما بين الواقعي والمتخيل، ما بين الحقيقي والغرائبي، وهذه "المابين "هي حد فني خاص بالفضاء المرواتي، يمنعها كي لا تكون نصا سرديا يلحق بفنون السرد المعروفة،فتصبح الأمكنة هي الشخصية وهي الراوية الذاتية لوجودها، لذلك هي مروية فضائية موضوعية، وفاعلها سارد ذاتي للفضائية الموضوعية، لذا تكون اقرب لسردية فضائية منها لأي نوع مشتق من السردية الاسلوبية، والسردية الفضائية هي اشياء الفضاء وليس الكلام عن هذه الأشياء، فالمرواة صورة ومرآة لفضاء موضوعي،ولراو موضوعي /ذاتي، وليست جنساً أدبياً مستقرا ، صورة كونتها العلاقة بين فضاء مشحون بخصوصيته، وراو مشحون بذاتية فضائية موضوعية.هذه الصورة هي ليس ما نراه عيانيا في الاشياء،إنما هي رؤية اللامرئي في الأشياء ذاتها، رؤية نتائج افعالها،وهذا اللامرئي لا يظهر لأي عين ، ما لم يكن ثمة فضاء مشحون به، ويوجد ثمة راو لا يرى الشيء عبر ذاته الا عبر العلاقة بين الذات والموضوع. لذا فالمرواة شيء فضائي كتب نصه بنفسه قبل أن يكتبه الرواة، نص يمكن أن يكون حكاية البدوي المتجول عن باديته،أو حكاية العواصف والتلال والوديان المطمورة، أو حكاية الأزمنة المتعاقبة والديار الدارسة وافعال الفضاء،هذه الحكايات تروى بدرجات مختلفة من قبل جميع سكنة البادية لانهم سكانها، وليسوا زوارها،أو سياحها، أو قراؤها ،فالمرواة بنية فضائية موجودة قبل الوعي بها، لذا فهي خارج عن وعينا، ولن تخرج للعيان إلا بأدوات من جنسها.
طرائق السرد
لم يُكتشف هذا الفضاء بالطرائق القولية العادية،ولم تضف له المرجعيات إلا تراكما فيه، واحيانا اثقالا عليه،فقد اكتشفت باللاطريقة من الطرائق المألوفة للسرد،عندما تحول الفضاء من كينونة ساكنة إلى كينونة ناطقة، وذلك بوساطة راو من جنس الفضاء نفسه،فمن يروي الصحراء هو ابن الصحراء ذاتها،أما الراوي الآخر فهو يروي عمّا ترويه الصحراء ، أعني أن الجمع بين قول الفضاء عن نفسه،وقول الراوي الفضائي عن قول الفضاء، هو ما يشكل فنية نص المرواة.ولذلك ليس من نص لفضاء المرواة، بمعزل عن قول الراوي المتضايف مع قول الفضاء، فالرؤية المدمجة لرواية الفضاء ولرواية الراوي هي النصية المرواتية. ولأن الفضاء المرواة، يتموقع بين الواقعية والتأويلية، يتطلب أداة معرفية جديدة، هذه الأداة هي "الموقعة"التي يتموقع فيها الراوي ليروي مرويته الفضائية ، بحيث لا ذاتا مستقلة ولا موضوعا،فالمرواة بين أن تكون فضاء، ويبقى هكذا يتجول فيه الاركيلوجيون والفيلوجيون، أو أن تستدعي راويا سيريا تتطابق حياته مع حياة الفضاء. ربما يقودنا هذا التشخيص مستقبلا إلى الكتابة المرواتية العامة،وهي الاختصاص في فضاء ما يكون المؤلف قد عاشه وتشكلت سيكولوجيته فيه،لا يكتب مؤلف عن الصحراء ما لم يعش الصحراء،ولا يكتب مؤلف عن البحر ما لم يعش البحر،هذه الكتابة السيرية للذات- المؤلف- وللموضوع- البحر- الصحراء- الجبال-...الخ هي جمع بين سيرتين تنتجان ما يسميه هايدغر" النصية" التي لا تعود لأحدهما،ولا للقارئ أيضا،وهي عمل فني معزول عن مؤلفها وعن واقعها، لذا اعتبر الفضاء المرواة فضاءً للسيرة المكانية، والكاتب المرواتي كاتب سيرة فضائية مزدوجة: فضائية الفضاء وفضائية الذات، بالرغم من أن كليهما مكتوب بلغة مختلفة،فضاء المرواة مكتوب بلغة الحفريات والتعرجات والمكونات والتقادم التاريخي وما جرى عليه وفيه، ونص الكاتب المرواة مكتوب بما يراه في اللامرئي منه اي في غير ما يرى في سطحه وتاريخه وعمقه وموروثه ،الكاتب المرواة يكتب عن اللامرئي في الفضاء المرواة الذي هو الآخر يخفي هويته باستمرار تقادم الزمن. لذلك يخفي كلا من الفضاء المرواة والراوي المرواة،نصه ولا يبوح باسراره. ما يكتب هو سيرة لكليهما،بحيث يتحول الفضاء المرواة والراوي المرواة إلى مجهولين لغيرهما.
وقبل هذا وذاك، ما هو الفضاء المرواتي، وما هو الراوي المرواتي؟.وقبل ذلك نقول :أن الفضاء المرواتي قد اكتمل نصه،وكتب علاماته ومدوناته،نص هو خالقه، وما افعال البشر في هذا الفضاء إلا قراءة له،واضافة قشرية عليه،وأن الراوي المرواتي هو الذي يأتي بعد ذلك ليروي ما يحمله الفضاء من شحنات خاصة به. ولا يروي ما فعله البشر اللاحقون فيه،الفضاء المرواتي ليس نصا مكتوبا،بل هو نص مكاني خالق، هو "حد " بين الفضاءات الاكثر حداثة، والفضاءات الخيالية، حد يشبه السيرة الذاتية التي لا يكتبها إلا من فعلها، فالسيرة حد لا يدخل في اي جنس آخر ،السيرة فعل ذاتي وليس نصا مكتوبا عن افعال،إنها كتبت قبل النص المكتوب،فالنص المكتوب هو ما يكتب عمّا سبق وان كتب بلغة أخرى،كذلك المرواتي لا يبتدع ولا يكتب نصا مجهول الهوية، بل يكتب عن فضاء سبق وان تشكل وكون حدا لشكله دون تدخل بشري،حد نسخته الطبيعة لذاتها،وبقي على الراوي ان يخرج الفضاء المرواة من واقعيته عبر اكتشافه لطبقات لم ترو من قبل. وهذه التأويلية ليست من فعل القارئ القادم، ولا القارئ القديم، بل من فعل المرواتي المزدوج: مرواة الفضاء ومرواة الراوي.
الفضاء المرواة يملك مرآته الذاتية ولكنه لا يعكس إلا ذاته فيها،لذا فهو يرى نفسه في تشكلاتها الحية وليس في تشكلات المرآة،التي هي بدورها لا ترى إلا ذاتها عبر لغتها المرآوية، فما يعرض على سطحها ليس لها،إنه لذاتها،وما نراه في تشكيلات الشيء المعروض ليس للمرآة بل لذاته،هذا التضايف المفارق هو الذي يعزل بين مرواة فضائية ومرواة تأليفية،أما وجودهما معا على سطح المرآة ،هو لخلق تموقع لذاتين ترويان عن نفسيهما. وتعرف احداهما الأخرى مسبقا،فكاتب السيرة الذاتية مهما يكتب تبقى كتابته ناقصة، لان مرآته الذاتية ما تزال تكتشف يوميا ثمة ثغرات في هذه السيرة،إن المرواتي يركض وراء سيرته،لذلك ليس من بداية ونهاية للنص المرواتي يمكن أن يكون النص مقطعا،،ولن يستطيع احد ان يكمل نقصه إلا مؤلفه،والسيرة نفسها تبدو ناقصة ولن تكتمل حتى لو كتبها مؤلفها ثانيا وعاشرا، تبقى ناقصة لأنها فن لنصية مؤولة لم تكتمل بعد،هكذا المرواة الفضائي لا يمكن احتواؤه ولا يمكن للراوي المرواة أن يكمل نصه،كلاهما ينعكس في مرآة الآخر، ولاشيء يبقى إلا كونهما كانا في اللامرئي الذي يتشكل عبر المرواة الفضائي والراوي المرواة لذا فهما طرفان لا يلتقيان، أما النص المكتوب فهو نص يتحدث عن المرواة الفضائية والراوي المرواة،وكلاهما يكتب نصا غير مكتمل.
ليس المرواة نمطا للقص ولا هي جنسا من أجناس السرد،إنما هي طريقة لكتابة السيرة الذاتية للراوي عبر السيرة الذاتية للمكان،والنصية لها تقع "في المابين"، إن من يكتب السيرة الذاتية للمكان ليس المؤلف،إنما يكتبها المكان نفسه، ومن يكتب السيرة الذاتية للمؤلف ليس المؤلف نفسه،بل القارئ،فالمؤلف –الذات- والفضاء المروي – الموضوع- يفقدان منزلتيهما إذا اعتبرنا أن ما يُكتب هو نص ، فما يكتب هو العلاقة الجدلية بين رؤية الراوي للامرئي في المكان، وتكشف اللامرئي في المكان عن منطقة تتقاطع فيها ذات المؤلف مع ذات المكان(موضعة المكان). إن تحويل الفضاء من مجرد جغرافيا وخرائط وعلامات ومراجع، إلى نص سردي،يتطلب ذاتا تحول هي الأخرى طريقة السرد المألوفة إلى طريقة تذوب فيها حدود التأليف في حدود الفضاء،وهذا يعني أن لا وجود في النصية المنتجة لاي من الفضاء والمؤلف،الموجود هو" نصية " تقع في "المابين "و" عملية الكتابة السيرية تصل من يكتب السيرة الذاتية بمن تكتبه السيرة الذاتية عند المكان الذي تتقاطع فيه حدودهما وتتطابق" ص 156 نصيات سلفرمان ترجمة الدكتور حسن ناظم وعلي حاكم صالح.
شخصيا أعتبر القاص حامد فاضل في "مرائي الصحراء" احد القصاصين الذين كتبوا المرواة الدقيقة المعنى،عندما اختار بادية السماوة ميدانا بكرا لسردياته،واختارت البادية قاصا راويا هو من البيئة نفسها، فاستدل بظاهرها على اعماقها،وعرف الطرق الموصلة بين شعابها فكانت روايته لها تجسيدا لواقعها ولمخياله المنبثق منها.ثم اختار حدثا هو جزء من اركولوجية البادية المحكية،فالراوي لا ينفصل عن مرويته،والمروية لاتجد حضورا لها الا عبر مرواتها الخاصة،هكذا اجد ابراهيم الكوني راويا لمرواة الصحراء الليبية،كلاهما يكمل الآخر..أما من ناحية التمرد على الشكل السردي القائم و- نعد التمرد شكلا سرديا جديدا- لم يقله جمال الغيطاني في الزيني بركات، ولم يقله محمد خضير في بصرياثا، ولم يقله الكوني في رواياته،إنما قالوا ما يفيد انهم جددوا في الاسلوبية السردية المألوفة لصالح قالب القصة والرواية.ولذلك لم يتطور هذا الخروج الفني إلى اسلوبية معتمدة من قبل كتاب آخرين.
عندما بدأت الرواية الجديدة خروجها على مألوف السرد،بنت خروجها على ثورة الظاهراتية ورؤيتها للأشياء بوصفها ظاهرة عيانية تأويلية،فأدخلت الرواية الجديدة الاشياء بعدّها كيانات تتحسس العالم،وليست كيانات يُتحسس بها فقط، فابعدت السرد عن هيمنة الشخصيات والاحداث الاجتماعية والنفسية، فيما اصبحت الأشياء فضاء جديدا للرواية،ولكن الرواية الجديدة لم تأت من الفراغ،فخلفها الرواية الحديثة والكلاسيكية والتاريخية ومعها ثورة الظاهراتية والوجودية والتأويلية ومدارس النقد الحديثة،فكانت نبتا طبيعيا للتجديد، يجمع بين القديم والحديث، ترى ماوراء المرواة كنص سردي جديد كما يدعي البعض؟ لا شيء غير الحكاية، والرواية التقليدية، والنص السردي العادي، وهذه ليست جذورا يمكنها أن تورث شجرة سردية جديدة.ما وراء المرواة هو الصحراء، البحر،الخيال،أو اي فضاء مجهول،كل حكايات الف ليلة وليلة يمكن عدّها مرواتيات،لأنها بنت حكايتها على اصقاع مجهولة بما فيها الجسد والسفر والطلاسم وليست شكلا قصصيا مكتملا،إنما هي شكل مرواتي.
الجذور الفنية للمرواة نجدها إذا في طرائق سرد ألف ليلة وليلة،وفي السير الشعبية،عندما تماهت الشخصيات في فن الحكاية فكان "حكيها" هو "حكايتها"، ونجدها في بخلاء الجاحظ عندما كانت النكتة حكاية،أو اقصوصة،فلا تجد فيها إلا توازنا بين النكتة وصاحبها،ونجد جزءا من هذه العلاقة الجدلية في الامتاع والمؤانسة،وأفضل شكل للمرواة نجده في السيرة الشعبية، التي مزجت بين فضاء البادية وناسها،فلا الناس معزولين عن المرواة ولا البادية.كلاهما يحكي مرواته، اي الفضاء الذي يتشكل(ه) ويشكل(ه).كما يقال: "البس ردائي ويلبسني"
إن ما يشفع وجود المرواة،هو الواقع المروي بلسان راو خبير بهذا الواقع أو جزء من هذا الواقع، حيث تتماهى الطبيعة مع سكانها،ويتماهى السكان مع الطبيعة ،وقل ذلك بشان العمل والعامل.،راو قادرعلى صوغ بنية سردية جديدة، عمادها الفضاء والمشهد،وقد تكتب البنية بلغة أخرى غير لغة الكتابة، لغة الفوتو غراف،لغة السيرة الذاتية، لذا فالمرواة ليست نصا سرديا صرفا يتحدث عن موضوع، أو نصا له بداية ونهاية،إنما هي طريقة سرد تفرضها طبيعة الأمكنة وساكنيها، هي "ثقافة مروية" وتهيمن عليها مشهدية الصورة الجماعية، ومادتها الذاكرة الجمعية،ويمكن لأي راو آخر من السكان والبيئة نفسها ان يروي المشاهد نفسها،المرواة فعل يتحرك في أعماق الفضاء، متشكل قبل الآنية،كله ماض، وحركته باتجاه المستقبل متوقفة على المرواتي الذي يجيد الحفر في هذه الاعماق. نص المرواة لا ينبئ،ولا يبدأ لينتهي،ولا يحمل تصورا على العالم الآتي، لانه متخوم بالحكي عن.. ومثل الطابع الوسم، يريد ان يقول أنه وحده النص الحقيقي الذي تشكل قبل ان يعي المؤلف به، وانه نتاج مشترك لحياة سكانها، خاصة في البيئة الدينية الصحراوية مثل بيئتنا. تقترب المرواة من المقدس، شيء ما متكون قبلا أو هو الكينونة التي يجد فيها ساكنها إنها التعبير الوحيد عن الآلهة،ومن هنا تأخر فن الرواية عندنا وتقدم فن الحكاية،لان ما يروى يحكى،بينما ما يكتب يتحول إلى رواية، وفننا كله شفوي. ولان الرواية ترصد الحركة الواقعية الصادقة والحقيقية، تعتمد الحكاية على القدرات الاسلوبية والصدق والكذب الفني،أما المرواة فيرافقها حضور ما انجز منها. فالنص المرواتي هو الجمع بين اسلوبية الحكاية وما يفرضه الفضاء المرواة من لغة اركولوجية، فتنشا نصية تقع ما بين الطبيعة والرؤية،ما بين الواقعي والمتخيل، ما بين الحقيقي والغرائبي، وهذه "المابين "هي حد فني خاص بالفضاء المرواتي، يمنعها كي لا تكون نصا سرديا يلحق بفنون السرد المعروفة،فتصبح الأمكنة هي الشخصية وهي الراوية الذاتية لوجودها، لذلك هي مروية فضائية موضوعية، وفاعلها سارد ذاتي للفضائية الموضوعية، لذا تكون اقرب لسردية فضائية منها لأي نوع مشتق من السردية الاسلوبية، والسردية الفضائية هي اشياء الفضاء وليس الكلام عن هذه الأشياء، فالمرواة صورة ومرآة لفضاء موضوعي،ولراو موضوعي /ذاتي، وليست جنساً أدبياً مستقرا ، صورة كونتها العلاقة بين فضاء مشحون بخصوصيته، وراو مشحون بذاتية فضائية موضوعية.هذه الصورة هي ليس ما نراه عيانيا في الاشياء،إنما هي رؤية اللامرئي في الأشياء ذاتها، رؤية نتائج افعالها،وهذا اللامرئي لا يظهر لأي عين ، ما لم يكن ثمة فضاء مشحون به، ويوجد ثمة راو لا يرى الشيء عبر ذاته الا عبر العلاقة بين الذات والموضوع. لذا فالمرواة شيء فضائي كتب نصه بنفسه قبل أن يكتبه الرواة، نص يمكن أن يكون حكاية البدوي المتجول عن باديته،أو حكاية العواصف والتلال والوديان المطمورة، أو حكاية الأزمنة المتعاقبة والديار الدارسة وافعال الفضاء،هذه الحكايات تروى بدرجات مختلفة من قبل جميع سكنة البادية لانهم سكانها، وليسوا زوارها،أو سياحها، أو قراؤها ،فالمرواة بنية فضائية موجودة قبل الوعي بها، لذا فهي خارج عن وعينا، ولن تخرج للعيان إلا بأدوات من جنسها.
طرائق السرد
لم يُكتشف هذا الفضاء بالطرائق القولية العادية،ولم تضف له المرجعيات إلا تراكما فيه، واحيانا اثقالا عليه،فقد اكتشفت باللاطريقة من الطرائق المألوفة للسرد،عندما تحول الفضاء من كينونة ساكنة إلى كينونة ناطقة، وذلك بوساطة راو من جنس الفضاء نفسه،فمن يروي الصحراء هو ابن الصحراء ذاتها،أما الراوي الآخر فهو يروي عمّا ترويه الصحراء ، أعني أن الجمع بين قول الفضاء عن نفسه،وقول الراوي الفضائي عن قول الفضاء، هو ما يشكل فنية نص المرواة.ولذلك ليس من نص لفضاء المرواة، بمعزل عن قول الراوي المتضايف مع قول الفضاء، فالرؤية المدمجة لرواية الفضاء ولرواية الراوي هي النصية المرواتية. ولأن الفضاء المرواة، يتموقع بين الواقعية والتأويلية، يتطلب أداة معرفية جديدة، هذه الأداة هي "الموقعة"التي يتموقع فيها الراوي ليروي مرويته الفضائية ، بحيث لا ذاتا مستقلة ولا موضوعا،فالمرواة بين أن تكون فضاء، ويبقى هكذا يتجول فيه الاركيلوجيون والفيلوجيون، أو أن تستدعي راويا سيريا تتطابق حياته مع حياة الفضاء. ربما يقودنا هذا التشخيص مستقبلا إلى الكتابة المرواتية العامة،وهي الاختصاص في فضاء ما يكون المؤلف قد عاشه وتشكلت سيكولوجيته فيه،لا يكتب مؤلف عن الصحراء ما لم يعش الصحراء،ولا يكتب مؤلف عن البحر ما لم يعش البحر،هذه الكتابة السيرية للذات- المؤلف- وللموضوع- البحر- الصحراء- الجبال-...الخ هي جمع بين سيرتين تنتجان ما يسميه هايدغر" النصية" التي لا تعود لأحدهما،ولا للقارئ أيضا،وهي عمل فني معزول عن مؤلفها وعن واقعها، لذا اعتبر الفضاء المرواة فضاءً للسيرة المكانية، والكاتب المرواتي كاتب سيرة فضائية مزدوجة: فضائية الفضاء وفضائية الذات، بالرغم من أن كليهما مكتوب بلغة مختلفة،فضاء المرواة مكتوب بلغة الحفريات والتعرجات والمكونات والتقادم التاريخي وما جرى عليه وفيه، ونص الكاتب المرواة مكتوب بما يراه في اللامرئي منه اي في غير ما يرى في سطحه وتاريخه وعمقه وموروثه ،الكاتب المرواة يكتب عن اللامرئي في الفضاء المرواة الذي هو الآخر يخفي هويته باستمرار تقادم الزمن. لذلك يخفي كلا من الفضاء المرواة والراوي المرواة،نصه ولا يبوح باسراره. ما يكتب هو سيرة لكليهما،بحيث يتحول الفضاء المرواة والراوي المرواة إلى مجهولين لغيرهما.
وقبل هذا وذاك، ما هو الفضاء المرواتي، وما هو الراوي المرواتي؟.وقبل ذلك نقول :أن الفضاء المرواتي قد اكتمل نصه،وكتب علاماته ومدوناته،نص هو خالقه، وما افعال البشر في هذا الفضاء إلا قراءة له،واضافة قشرية عليه،وأن الراوي المرواتي هو الذي يأتي بعد ذلك ليروي ما يحمله الفضاء من شحنات خاصة به. ولا يروي ما فعله البشر اللاحقون فيه،الفضاء المرواتي ليس نصا مكتوبا،بل هو نص مكاني خالق، هو "حد " بين الفضاءات الاكثر حداثة، والفضاءات الخيالية، حد يشبه السيرة الذاتية التي لا يكتبها إلا من فعلها، فالسيرة حد لا يدخل في اي جنس آخر ،السيرة فعل ذاتي وليس نصا مكتوبا عن افعال،إنها كتبت قبل النص المكتوب،فالنص المكتوب هو ما يكتب عمّا سبق وان كتب بلغة أخرى،كذلك المرواتي لا يبتدع ولا يكتب نصا مجهول الهوية، بل يكتب عن فضاء سبق وان تشكل وكون حدا لشكله دون تدخل بشري،حد نسخته الطبيعة لذاتها،وبقي على الراوي ان يخرج الفضاء المرواة من واقعيته عبر اكتشافه لطبقات لم ترو من قبل. وهذه التأويلية ليست من فعل القارئ القادم، ولا القارئ القديم، بل من فعل المرواتي المزدوج: مرواة الفضاء ومرواة الراوي.
الفضاء المرواة يملك مرآته الذاتية ولكنه لا يعكس إلا ذاته فيها،لذا فهو يرى نفسه في تشكلاتها الحية وليس في تشكلات المرآة،التي هي بدورها لا ترى إلا ذاتها عبر لغتها المرآوية، فما يعرض على سطحها ليس لها،إنه لذاتها،وما نراه في تشكيلات الشيء المعروض ليس للمرآة بل لذاته،هذا التضايف المفارق هو الذي يعزل بين مرواة فضائية ومرواة تأليفية،أما وجودهما معا على سطح المرآة ،هو لخلق تموقع لذاتين ترويان عن نفسيهما. وتعرف احداهما الأخرى مسبقا،فكاتب السيرة الذاتية مهما يكتب تبقى كتابته ناقصة، لان مرآته الذاتية ما تزال تكتشف يوميا ثمة ثغرات في هذه السيرة،إن المرواتي يركض وراء سيرته،لذلك ليس من بداية ونهاية للنص المرواتي يمكن أن يكون النص مقطعا،،ولن يستطيع احد ان يكمل نقصه إلا مؤلفه،والسيرة نفسها تبدو ناقصة ولن تكتمل حتى لو كتبها مؤلفها ثانيا وعاشرا، تبقى ناقصة لأنها فن لنصية مؤولة لم تكتمل بعد،هكذا المرواة الفضائي لا يمكن احتواؤه ولا يمكن للراوي المرواة أن يكمل نصه،كلاهما ينعكس في مرآة الآخر، ولاشيء يبقى إلا كونهما كانا في اللامرئي الذي يتشكل عبر المرواة الفضائي والراوي المرواة لذا فهما طرفان لا يلتقيان، أما النص المكتوب فهو نص يتحدث عن المرواة الفضائية والراوي المرواة،وكلاهما يكتب نصا غير مكتمل.
ليس المرواة نمطا للقص ولا هي جنسا من أجناس السرد،إنما هي طريقة لكتابة السيرة الذاتية للراوي عبر السيرة الذاتية للمكان،والنصية لها تقع "في المابين"، إن من يكتب السيرة الذاتية للمكان ليس المؤلف،إنما يكتبها المكان نفسه، ومن يكتب السيرة الذاتية للمؤلف ليس المؤلف نفسه،بل القارئ،فالمؤلف –الذات- والفضاء المروي – الموضوع- يفقدان منزلتيهما إذا اعتبرنا أن ما يُكتب هو نص ، فما يكتب هو العلاقة الجدلية بين رؤية الراوي للامرئي في المكان، وتكشف اللامرئي في المكان عن منطقة تتقاطع فيها ذات المؤلف مع ذات المكان(موضعة المكان). إن تحويل الفضاء من مجرد جغرافيا وخرائط وعلامات ومراجع، إلى نص سردي،يتطلب ذاتا تحول هي الأخرى طريقة السرد المألوفة إلى طريقة تذوب فيها حدود التأليف في حدود الفضاء،وهذا يعني أن لا وجود في النصية المنتجة لاي من الفضاء والمؤلف،الموجود هو" نصية " تقع في "المابين "و" عملية الكتابة السيرية تصل من يكتب السيرة الذاتية بمن تكتبه السيرة الذاتية عند المكان الذي تتقاطع فيه حدودهما وتتطابق" ص 156 نصيات سلفرمان ترجمة الدكتور حسن ناظم وعلي حاكم صالح.