تتميز أدبيات ما بعد الحداثة بإعتمادها الكبير على تقنيات مثل: التشظي (Fragmentation)، والتناقض الظاهري (Paradox)، وغرائبية الرواة (Questionable Narrators)، وغالباً (وليس حصرياً) تُعرّف بأنها نمط أدبي أو إتجاه برز في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. وتُعتبر أعمال ما بعد الحداثة كرد فعل ضد "التفكير التنويري" والمنحى الحداثي في الأدب
كثيراً ما قاومت حركات ما بعد الحداثة مساعي التعريف بها على أنها "حركة"، وكانت على تقارُب مع عدة نظريات نقدية، لاسيما مع "رد فعل القارئ" و "منحى التفكيكية Deconstruction "، وتدمير الإتفاق الضمني ما بين الكاتب-النص- القارئ (الذي غالباً ما يُسبغ خصائصه على العمل الأدبي). تلك الأساليب قادت الى نصوص، كرواية "دون كيشوت" لـ"سرفانتس" (المكتوبة مابين 1605-1615)، في زمن سابق لما بعد الحداثة بكثير.
لا يوجد سوى القليل من الإجماع على خصائص أدب ما بعد الحداثة وأهميته ومداه، ( وليس كما كان عليه الحال في الحركات الأدبية الأخرى)، لكنهُ يُعرّف عموماً ضمن علاقتهِ بما قبله. فعلى سبيل المثال؛ ينحو ذلك الأدب الى عدم الإحتواء على نهايات دقيقة للحبكة (كما في أدب الحداثة)، بل غالباً ما نجد محاكاة ساخرة للنهاية. ويميل كُتّاب ما بعد الحداثة الى الإحتفال بالفرصة على حساب الحرفة، والمبالغة بتوظيف أنماط "الميتافيكشن - Metafiction" (ما وراء السرد) التي تًلمّح الى إصطناعية العمل بالإبتعاد عن الأدبيات الروائية المتعارف عليها (وخاصةً الواقعية) وتقنيات السرد التقليدية. وهنالك أيضاً العمل على تقليل سطوة الكاتب على النص واستخدام تركيبات من مواضيع وأنماط روائية لا تُعد سابقاً صالحة للأدب.
اسم الوردة
في روايته ما بعد الحداثية: "إسم الوردة- The Name of the Rose"، يقول "أمبرتو إيكو" (فيلسوف وروائي وناقد وكاتب دلالي إيطالي؛ من مُنظّري ما بعد الحداثة المرموقين) في سياق النص: "تتحدث الكتب دائماً عن كتب أُخرى، وكل قصة تروي قصة سبق أن تمت روايتها بالفعل"؛ مُشيراً الى مفهوم ما بعد حداثي يقضي بأنَّ كل النصوص تُشير في النهاية الى نصوص أُخرى وليس الى حقائق خارجية.. يتحرى المحقق في الرواية عن جرائم قتل، ويحل الألغاز عن طريق الخطأ، ظناً منه بعدم وجود نمط معين لها، ولكن في الحقيقة كانت توجد عدة أنماط مشتركة ومترابطة مع أخطاء إرتكبها القاتل عن طريق الصدفة. وباسلوب ما بعد الحداثة الحق، تنتهي الرواية بصورة غير محسومة، إذ يخلص المحقق الى نتيجة "عدم وجود أي نمط". وهكذا يقلب "إيكو" المسعى الحداثي لإيجاد الغاية واليقين والمعنى رأساً على عقب، تاركاً الحبكة الكلية لتقع ثمرةً للمصادفة العرضية، وتكون جدلياً بلا معنى. وحتى عنوان الرواية يُلمّح لإمكانية وجود عدة معاني أو معنى واحد غامض، فيما يقول الكاتب أنه اختار العنوان "لأن الوردة كيان رمزي غني بالمعاني جداً بحيث لم يبقَ فيه اليوم أي معنى لم يُستعمل".
السيميولوجيا واللغة
يُعد " إيكو" من أوائل المُنظّرين الذين وجهوا أنظار الجمهور الى معاني السيميائية، خاصةً بكتابه "نظرية السيميائية- 1976" وروايته "إسم الوردة"، الذي يحوي تطبيقيات سيميائية. كما ان مساهماته الأهم في هذا الحقل تتلخص في: التفسير، والموسوعة، والقراءة النموذجية. وفيما ينتقد نموذج "الأيقونية- Iconism " يقترح بالمقابل أربعة أنساق لإنتاج العلامات: "التمييز-"Recognition ، "تعيين المعنى بضرب الأمثلة- " , " Ostension نسخ طبق الأصل- Replica"، و" الإبتكار- Invention ".
يتم تعريف السيميولوجيا على أنها: نظرية دراسة العلامات والرموز، (طبيعية أو إصطناعية)، خاصةً لكونها عناصر اللغة أو أنظمة الإتصال الأُخرى، ولأنها تضم دلالات (Semantics,) وتراكيب (Syntactics) و براغماتيات (إضافة السياق الى المعنى- Pragmatics). ترتبط السيميولوجيا بحقول دراسة اللُغويات (التي تدرس ضمنياً هيكلية ومعنى اللغة بصورة أدق)، ولكنها تدرس أيضاً أنظمة الإشارات غير اللغوية (بصرية، صوتية، تصميمية،...)، وتبحث في التناظرات الوظيفية (Analogy)، والإستعارة (Metaphor)، والرمزية (Symbolism).
ووفقاً لنظرية "إيكو"؛ يمكن دراسة كل ظاهرة ثقافية على أنها أداة إتصال، والتعامُل مع القواعد التي تُحدد كيفية ربط مفرداتها لتشكيل مقاطع وجمل؛ أي أنها تُشكّل طرائقية لتحليل التراكيب والنصوص بغض النظر عن الوسط الذي تم تقديمها من خلاله (لأن نص أي رسالة يكون محفوظاً في كيان مستقل عن المرسل والمُستقبِل). تأتي أهمية هذه الدراسة حينما نحتاج لقياس كفاءة تعامُل الإنسان مع محيطه، سواء كانت الظاهرة الثقافية ذات مقياسٍ كبير، كالعمارة (Architecture)، أو صغير، مثل أدوات الإستعمال الإنساني.
أما علم العلامات الحضري فهو دراسة المعنى في إطار حضري حسبما تقدمه الإشارات والرموز ودلالاتها الاجتماعية. ويركز على العناصر المادية في البيئة المبنية مثل الشوارع والميادين والمتنزهات والمباني، بيد أنه يركز أيضًا على المنتجات الثقافية غير المبنية مثل رموز المباني ومستندات التخطيط والتصميمات. تُشدّد السيميائيات الحضرية على ان الهياكل الحضرية تصبح مفهومة غالباً لأن لها معاني رمزية أبعد من معانيها الوظيفية. نشأت مقاربة السيميائية الإجتماعية نحو الحضرية من نقديات السيمياء المعمارية، والتي سبق النظر اليها على أنها مبالغة بإرتباطها بالنماذج اللغوية، وبالتالي ستكون غير قادرة على تقديم دراسة وافية للدلالات الأجتماعية للعلامات.
العمارة كوسيلة إتصال
لماذا تُشكّل العمارة تحدياً خاصاً للسيميولوجيا؟ يبدو أن معظم الأشياء المعمارية لا تتواصل مع المُتلقي (إذ لم يتم تصميمها لتتواصل بل لتُؤدي وظيفة). فلا يمكن لأحد أن يُجادل أن للسقف أساساً وظيفة الحماية. لذا، سيكون على السيميائية أن تواجه أولا التساؤل ( إذا كانت ترغب بتوفير المفاتيح للظواهر الثقافية في حقل العمارة) عن إمكانية ترجمة الوظيفة على أساس كونها ذات إرتباط بالإتصالية.
هنالك منظور واسع في علاقتنا مع الأشياء المعمارية يُخبرنا أننا نتفاعل أحياناً مع العمارة كأداة إتصال، حتى أثناء أدراكنا لها كأداة وظيفية.
وفي كتابه "لغة العمارة ما بعد الحديثة" يتتبع المعماري "تشارلز جينكز"(ناقد ومُنظّر معماري أميركي) أصول التحليل السيميائي في العمارة، عودة الى ستينيات القرن الماضي (حقبة نشوء ما بعد الحداثة في العلوم المتنوعة)، ومدى تأثرها بكتابات "أمبرتو إيكو".
الإستعارة
تتم قراءة المباني (كصور فيزياوية في الفضاء) على انها رسائل، وهذا يتضمن كون وظائفها الأساسية تمثل إشاراتٍ تمت صياغتها بطرائق متنوعة على وفق خلفياتها. وهذا يعني ان نفس المبنى قد يوحي بأشياء مختلفة عندما تتم "قرائته" من صورة على الانترنيت مما سيكون عليه لو "قُرِئَ" في الفضاء ضمن سياق موقعه الثقافي. (وعلى سبيل المثال؛ وصف "جينكز" مبنى "كبسولة ناغاكين" للمصمم "كيشو كيروكاوا" على انه مجرد تجميعة من مكائن غسل الملابس، حتى إلتقى لاحقاً بالمصمم الذي شرح لهُ أنَ الإستعارة التي قادت تفكيره كانت أقفاص الطيور، إشارةً الى الطبيعة المؤقتة لوجود شاغلي المبنى).
تنطبق الإستعارات على مباني عمارة ما بعد الحداثة كما تنطبق على مباني العمارة الحديثة، بفارق واحد- أن العمارة الحديثة كانت تنحو الى إنكار تلك القدرة الإنسانية الطبيعية.
لذا كان (عدم) تقبُّل حقيقة ان المباني تُقرأ عموماً كإستعارات (كما يُشدّد "جينكز") نقطة إنفصام في مهنة العديد من معماريي العمارة الحديثة.
وبما أن الكلمة هي الوحدة الأساسية في اللغة المنطوقة، فعندما ننظر الى العمارة على أنها لغة الفضاء المكاني يعني أن عناصرها تعمل كالكلمات، وبالتالي تمتلك تعاريف عمومية ذات مفاهيم شائعة- أو "كليشيهات".
وكما يمكن للكلمة ان تمتلك عدة معاني، يمكن للكلمات المعمارية أن تغير معانيها عند تطبيقها في سياقات مختلفة. فالصراع ما بين السقف التقليدي المائل والسقف المستوي (الذي يفضله مصممو العمارة الحديثة) يُصوّر التوترات المُصاحبة لفهم الكلمات المعمارية التي تُعبّر عن "الأمان" و "الملجأ".
المجموعات السيميائية
طالما كان للعمارة زبائنها ومستخدِميها، سيقوم أولئك المُستَخدِمون بتقسيم أنفسهم الى مجموعات وفق أذواقهم (وهذا هو تفسير عمارة ما بعد الحداثة للتعددية). تنمو تلك التقسيمات، ليس فقط طبقاً لثقافة الطبقة (أي- الخلفيات الإجتماعية والإقتصادية)، بل بنحوٍ أكثر أهمية- طبقاً لتفضيل معاني معينة تتخطى حدود الطبقات. لذلك، تظهر المجاميع السيميائية و "كلماتها المفضلة" (ونعني بها هنا- الكليشيهات المعمارية).
تمت مخاطبة تلك المجموعات المختلفة مباشرةً لأول مرة في معرض المعماريَيَن "روبرت فنتوري" و"سكوت براون" وعنوانه- (إشارات الحياة: الرمزية في المدينة الأميركية، 1976). وبسبب عروضهم المعمارية الجريئة (ورغم إنه لم يتقبل بالضرورة اللغات المعمارية المألوفة) فقد وصفهم "جينكز" وأتباعهم بـ" بدائيو المفاهيم الجديدة"؛ وهو تعبير إستعارهُ من المستقبليون.
التركيبية
قاد التسليم بوجود منطق محتمل في العمارة، مشابه لمنطق اللغة، معماريو ما بعد الحداثة الى مناقشة وجود تركيباتية معمارية محتملة. كان "مايكل غريفز" من أوائل المعماريين المناصرين لها، وتبعهُ "فرانك غيري" و"إيريك موس".
تزامن مسار هذه المناقشة مع وجود قواعد للغة العمارة وكتابات "جاك دريدا" (فيلسوف فرنسي، مُنظّر التفكيكية- Deconstruction) وتجارب "بيتر آيزنمان" المعقدة في العمارة.
ولم تكن سيميائية العمارة بالتأكيد من إكتشاف عمارة ما بعد الحداثة، فلقد كان تمايز البنيوية ما بين أنواع الأعمدة الإغريقية الثلاثة (الدوري والأيوني والكورنثي) يُشكّلُ عُرفاً بديهياً في إستخدامها في الأبنية المتنوعة. ولكن عمارة ما بعد الحداثة هي التي أنعشت أهمية الإتصال المعماري (عبر المنتوج النهائي-أي المبنى)، الذي لا يحتاج الى وسيطٍ بين المعماري والمُستَخدِم، كما شهدناهُ في منتجات العمارة الحداثية الأكثر راديكالية.
*عن مجلة الصباح
كثيراً ما قاومت حركات ما بعد الحداثة مساعي التعريف بها على أنها "حركة"، وكانت على تقارُب مع عدة نظريات نقدية، لاسيما مع "رد فعل القارئ" و "منحى التفكيكية Deconstruction "، وتدمير الإتفاق الضمني ما بين الكاتب-النص- القارئ (الذي غالباً ما يُسبغ خصائصه على العمل الأدبي). تلك الأساليب قادت الى نصوص، كرواية "دون كيشوت" لـ"سرفانتس" (المكتوبة مابين 1605-1615)، في زمن سابق لما بعد الحداثة بكثير.
لا يوجد سوى القليل من الإجماع على خصائص أدب ما بعد الحداثة وأهميته ومداه، ( وليس كما كان عليه الحال في الحركات الأدبية الأخرى)، لكنهُ يُعرّف عموماً ضمن علاقتهِ بما قبله. فعلى سبيل المثال؛ ينحو ذلك الأدب الى عدم الإحتواء على نهايات دقيقة للحبكة (كما في أدب الحداثة)، بل غالباً ما نجد محاكاة ساخرة للنهاية. ويميل كُتّاب ما بعد الحداثة الى الإحتفال بالفرصة على حساب الحرفة، والمبالغة بتوظيف أنماط "الميتافيكشن - Metafiction" (ما وراء السرد) التي تًلمّح الى إصطناعية العمل بالإبتعاد عن الأدبيات الروائية المتعارف عليها (وخاصةً الواقعية) وتقنيات السرد التقليدية. وهنالك أيضاً العمل على تقليل سطوة الكاتب على النص واستخدام تركيبات من مواضيع وأنماط روائية لا تُعد سابقاً صالحة للأدب.
اسم الوردة
في روايته ما بعد الحداثية: "إسم الوردة- The Name of the Rose"، يقول "أمبرتو إيكو" (فيلسوف وروائي وناقد وكاتب دلالي إيطالي؛ من مُنظّري ما بعد الحداثة المرموقين) في سياق النص: "تتحدث الكتب دائماً عن كتب أُخرى، وكل قصة تروي قصة سبق أن تمت روايتها بالفعل"؛ مُشيراً الى مفهوم ما بعد حداثي يقضي بأنَّ كل النصوص تُشير في النهاية الى نصوص أُخرى وليس الى حقائق خارجية.. يتحرى المحقق في الرواية عن جرائم قتل، ويحل الألغاز عن طريق الخطأ، ظناً منه بعدم وجود نمط معين لها، ولكن في الحقيقة كانت توجد عدة أنماط مشتركة ومترابطة مع أخطاء إرتكبها القاتل عن طريق الصدفة. وباسلوب ما بعد الحداثة الحق، تنتهي الرواية بصورة غير محسومة، إذ يخلص المحقق الى نتيجة "عدم وجود أي نمط". وهكذا يقلب "إيكو" المسعى الحداثي لإيجاد الغاية واليقين والمعنى رأساً على عقب، تاركاً الحبكة الكلية لتقع ثمرةً للمصادفة العرضية، وتكون جدلياً بلا معنى. وحتى عنوان الرواية يُلمّح لإمكانية وجود عدة معاني أو معنى واحد غامض، فيما يقول الكاتب أنه اختار العنوان "لأن الوردة كيان رمزي غني بالمعاني جداً بحيث لم يبقَ فيه اليوم أي معنى لم يُستعمل".
السيميولوجيا واللغة
يُعد " إيكو" من أوائل المُنظّرين الذين وجهوا أنظار الجمهور الى معاني السيميائية، خاصةً بكتابه "نظرية السيميائية- 1976" وروايته "إسم الوردة"، الذي يحوي تطبيقيات سيميائية. كما ان مساهماته الأهم في هذا الحقل تتلخص في: التفسير، والموسوعة، والقراءة النموذجية. وفيما ينتقد نموذج "الأيقونية- Iconism " يقترح بالمقابل أربعة أنساق لإنتاج العلامات: "التمييز-"Recognition ، "تعيين المعنى بضرب الأمثلة- " , " Ostension نسخ طبق الأصل- Replica"، و" الإبتكار- Invention ".
يتم تعريف السيميولوجيا على أنها: نظرية دراسة العلامات والرموز، (طبيعية أو إصطناعية)، خاصةً لكونها عناصر اللغة أو أنظمة الإتصال الأُخرى، ولأنها تضم دلالات (Semantics,) وتراكيب (Syntactics) و براغماتيات (إضافة السياق الى المعنى- Pragmatics). ترتبط السيميولوجيا بحقول دراسة اللُغويات (التي تدرس ضمنياً هيكلية ومعنى اللغة بصورة أدق)، ولكنها تدرس أيضاً أنظمة الإشارات غير اللغوية (بصرية، صوتية، تصميمية،...)، وتبحث في التناظرات الوظيفية (Analogy)، والإستعارة (Metaphor)، والرمزية (Symbolism).
ووفقاً لنظرية "إيكو"؛ يمكن دراسة كل ظاهرة ثقافية على أنها أداة إتصال، والتعامُل مع القواعد التي تُحدد كيفية ربط مفرداتها لتشكيل مقاطع وجمل؛ أي أنها تُشكّل طرائقية لتحليل التراكيب والنصوص بغض النظر عن الوسط الذي تم تقديمها من خلاله (لأن نص أي رسالة يكون محفوظاً في كيان مستقل عن المرسل والمُستقبِل). تأتي أهمية هذه الدراسة حينما نحتاج لقياس كفاءة تعامُل الإنسان مع محيطه، سواء كانت الظاهرة الثقافية ذات مقياسٍ كبير، كالعمارة (Architecture)، أو صغير، مثل أدوات الإستعمال الإنساني.
أما علم العلامات الحضري فهو دراسة المعنى في إطار حضري حسبما تقدمه الإشارات والرموز ودلالاتها الاجتماعية. ويركز على العناصر المادية في البيئة المبنية مثل الشوارع والميادين والمتنزهات والمباني، بيد أنه يركز أيضًا على المنتجات الثقافية غير المبنية مثل رموز المباني ومستندات التخطيط والتصميمات. تُشدّد السيميائيات الحضرية على ان الهياكل الحضرية تصبح مفهومة غالباً لأن لها معاني رمزية أبعد من معانيها الوظيفية. نشأت مقاربة السيميائية الإجتماعية نحو الحضرية من نقديات السيمياء المعمارية، والتي سبق النظر اليها على أنها مبالغة بإرتباطها بالنماذج اللغوية، وبالتالي ستكون غير قادرة على تقديم دراسة وافية للدلالات الأجتماعية للعلامات.
العمارة كوسيلة إتصال
لماذا تُشكّل العمارة تحدياً خاصاً للسيميولوجيا؟ يبدو أن معظم الأشياء المعمارية لا تتواصل مع المُتلقي (إذ لم يتم تصميمها لتتواصل بل لتُؤدي وظيفة). فلا يمكن لأحد أن يُجادل أن للسقف أساساً وظيفة الحماية. لذا، سيكون على السيميائية أن تواجه أولا التساؤل ( إذا كانت ترغب بتوفير المفاتيح للظواهر الثقافية في حقل العمارة) عن إمكانية ترجمة الوظيفة على أساس كونها ذات إرتباط بالإتصالية.
هنالك منظور واسع في علاقتنا مع الأشياء المعمارية يُخبرنا أننا نتفاعل أحياناً مع العمارة كأداة إتصال، حتى أثناء أدراكنا لها كأداة وظيفية.
وفي كتابه "لغة العمارة ما بعد الحديثة" يتتبع المعماري "تشارلز جينكز"(ناقد ومُنظّر معماري أميركي) أصول التحليل السيميائي في العمارة، عودة الى ستينيات القرن الماضي (حقبة نشوء ما بعد الحداثة في العلوم المتنوعة)، ومدى تأثرها بكتابات "أمبرتو إيكو".
الإستعارة
تتم قراءة المباني (كصور فيزياوية في الفضاء) على انها رسائل، وهذا يتضمن كون وظائفها الأساسية تمثل إشاراتٍ تمت صياغتها بطرائق متنوعة على وفق خلفياتها. وهذا يعني ان نفس المبنى قد يوحي بأشياء مختلفة عندما تتم "قرائته" من صورة على الانترنيت مما سيكون عليه لو "قُرِئَ" في الفضاء ضمن سياق موقعه الثقافي. (وعلى سبيل المثال؛ وصف "جينكز" مبنى "كبسولة ناغاكين" للمصمم "كيشو كيروكاوا" على انه مجرد تجميعة من مكائن غسل الملابس، حتى إلتقى لاحقاً بالمصمم الذي شرح لهُ أنَ الإستعارة التي قادت تفكيره كانت أقفاص الطيور، إشارةً الى الطبيعة المؤقتة لوجود شاغلي المبنى).
تنطبق الإستعارات على مباني عمارة ما بعد الحداثة كما تنطبق على مباني العمارة الحديثة، بفارق واحد- أن العمارة الحديثة كانت تنحو الى إنكار تلك القدرة الإنسانية الطبيعية.
لذا كان (عدم) تقبُّل حقيقة ان المباني تُقرأ عموماً كإستعارات (كما يُشدّد "جينكز") نقطة إنفصام في مهنة العديد من معماريي العمارة الحديثة.
وبما أن الكلمة هي الوحدة الأساسية في اللغة المنطوقة، فعندما ننظر الى العمارة على أنها لغة الفضاء المكاني يعني أن عناصرها تعمل كالكلمات، وبالتالي تمتلك تعاريف عمومية ذات مفاهيم شائعة- أو "كليشيهات".
وكما يمكن للكلمة ان تمتلك عدة معاني، يمكن للكلمات المعمارية أن تغير معانيها عند تطبيقها في سياقات مختلفة. فالصراع ما بين السقف التقليدي المائل والسقف المستوي (الذي يفضله مصممو العمارة الحديثة) يُصوّر التوترات المُصاحبة لفهم الكلمات المعمارية التي تُعبّر عن "الأمان" و "الملجأ".
المجموعات السيميائية
طالما كان للعمارة زبائنها ومستخدِميها، سيقوم أولئك المُستَخدِمون بتقسيم أنفسهم الى مجموعات وفق أذواقهم (وهذا هو تفسير عمارة ما بعد الحداثة للتعددية). تنمو تلك التقسيمات، ليس فقط طبقاً لثقافة الطبقة (أي- الخلفيات الإجتماعية والإقتصادية)، بل بنحوٍ أكثر أهمية- طبقاً لتفضيل معاني معينة تتخطى حدود الطبقات. لذلك، تظهر المجاميع السيميائية و "كلماتها المفضلة" (ونعني بها هنا- الكليشيهات المعمارية).
تمت مخاطبة تلك المجموعات المختلفة مباشرةً لأول مرة في معرض المعماريَيَن "روبرت فنتوري" و"سكوت براون" وعنوانه- (إشارات الحياة: الرمزية في المدينة الأميركية، 1976). وبسبب عروضهم المعمارية الجريئة (ورغم إنه لم يتقبل بالضرورة اللغات المعمارية المألوفة) فقد وصفهم "جينكز" وأتباعهم بـ" بدائيو المفاهيم الجديدة"؛ وهو تعبير إستعارهُ من المستقبليون.
التركيبية
قاد التسليم بوجود منطق محتمل في العمارة، مشابه لمنطق اللغة، معماريو ما بعد الحداثة الى مناقشة وجود تركيباتية معمارية محتملة. كان "مايكل غريفز" من أوائل المعماريين المناصرين لها، وتبعهُ "فرانك غيري" و"إيريك موس".
تزامن مسار هذه المناقشة مع وجود قواعد للغة العمارة وكتابات "جاك دريدا" (فيلسوف فرنسي، مُنظّر التفكيكية- Deconstruction) وتجارب "بيتر آيزنمان" المعقدة في العمارة.
ولم تكن سيميائية العمارة بالتأكيد من إكتشاف عمارة ما بعد الحداثة، فلقد كان تمايز البنيوية ما بين أنواع الأعمدة الإغريقية الثلاثة (الدوري والأيوني والكورنثي) يُشكّلُ عُرفاً بديهياً في إستخدامها في الأبنية المتنوعة. ولكن عمارة ما بعد الحداثة هي التي أنعشت أهمية الإتصال المعماري (عبر المنتوج النهائي-أي المبنى)، الذي لا يحتاج الى وسيطٍ بين المعماري والمُستَخدِم، كما شهدناهُ في منتجات العمارة الحداثية الأكثر راديكالية.
*عن مجلة الصباح