عرف الشاعر الجاهلي النص الشعري برؤاه المتنوعة، والتي فرضتها حياته الاجتماعية والثقافية، وأغلق النص بعناصر متآزرة متوافقة تصب في قالب دلالي واحد، رغم تباين بعض الرؤى العضوية شكلاً، إلا أن المضمون أو المعنى الأدبي حافظ على تمسكه وهذا ما جعله خالداً عبر العصور.. يحتفظ ببريقه ولمعان تكوّنه وسيظل مثار جدل القدامى والمحدثين.
ورغم الحداثة الشعرية ظلت القصيدة في تألقها نصاً قادراً على مواكبة الحداثة -سواءً الأولى في العصر العباسي، أو الثانية في القرن العشرين، مما أدى بنا إلى الاستسلام بأن العصر وعوامل القوة تفرض على المتلقي النص القادر على الحركة والتعبير عن متطلبات هذا العصر، وليكون أكثر ليونة في نقل هذا الواقع بكل مستوياته، وهذه الأخيرة تجعلنا نؤمن أن النص الشعري مهما تغير شكله من عمودٍ أو تفعيلة أو حرٍ كما يسمونه “قصيدة النثر” هو القالب الذي تصب فيه رؤى العالم المصاحبة للتغيير.
وبهذا فإن النص لا يتشكل عند الشاعر إلا حينما تتوفر له اللحظة التي يكون فيها خلقه الأدبي الخاص ويهيئ رؤاه وأفكاره ليحشرها في النص وفق تباين أو توافق بعد ما يأخذ عناصره من عالمي الحقيقة والمجاز، ويشكله في فن أدبي خاص، وتعد هذه العناصر المتكونة هي زخرفة القصيدة (1)، والعناصر الطريقة التي تتحد في المجموع لتؤثر بعضها على البعض الآخر بفعل التواليات والتداعيات والتجاوزات، كما في الأغراض الشعرية سابقاً أو الوحدات على لسان الحداثيين لإنتاج تأثيرات إيقاعية أو متضادة، وهي في الأول والأخير تخضع للفكرة المولدة –أي البؤرة الرئيسية للنص- أو ما أنجز دلالياً أثناء القراءة، وتقوم على الترابط والتواصل والانسجام لذلك سمي قانون الانسجام العام الكبير مقارنة بعمود الشعر في القديم، وهو يحفظ الوحدة العضوية للقصيدة ويحفظ أيضاً لها نغمتها الموسيقية التي ينكرها كثير من الشعراء – أعني قصيدة الأجد.
وقصيدة النثر دخلت الشعر العربي بتأثير مسبق ابتداءً من التيار الرومانسي وكتابات جبران وميخائيل وإسهامات روحية احتفظ لكتابة الصوفية بحقهم في الرجوع إلى المصادر الأولى لو حاولنا التأصيل لهذا النمط من القول، أما من اعتمد النموذج الغربي في الكتاب سندعه يخوض ويلعب حتى يأتيه اليقين الأدبي.
كثر في المصطلح النقدي الحديث استخدام لفظ النثر.. فيه أشكال أدبية متنوعة، ولكن اقترانه ب(قصيدة) يخرج عما هو متعارف عليه سابقاً – قبل الاقتران اللغوي، بخلاف مفردة “الشعر” التي تناولها البلاغيون القدامى كثيراً، وجاء النثر في اللغة : التفريق والنشر، ومنه نثر الحب إذا بذره.. أما في تاج العروس للزبيدي النثر بالتحريك كثرة الكلام وإذاعة الأسرار، وقال: النثر هو الكلام المقفى بالأسجاع ضد النظم (2)، أي أنه يقتضي وجود وزن وإيقاع كما في الشعر، وبهذا رد على من يقول بأن النثر فيه وزن.. وبفعل عامل التحديث الشعري وجدت قصيدة النثر وإن كانت مصادرها الأولى غربية، بل يمكن التأصيل لها، لأنها تعتبر آخر شكل شعري تعبيري وصل إلى الشعر الحديث، ومن اللازم أن لا نبقيها على تسميتها الأوروبية، بل بالإمكان أن نسميها القصيدة الجديدة أو الأجد كما يقول الدكتور عبدالعزيز المقالح في تنظيره النقد (3) وتسميتها ب (قصيدة النثر) شكلت أزمات ثقافية لدى القارئ العربي المعتمد على الوزن في القصيدة.. رغم أنها تتخلى عن هذه الأزمات.
أما مصطلح قصيدة فيرجعها الدكتور صلاح فضل إلى فكرتين متلازمتين، إحداهما: القصد والتعمد، أي أن القصيدة هي الكلام المقصود في ذاته، وهي اللغة عندما تصبح هدفاً فنياً محدداً، وليست مجرد وسيلة للتواصل تحترق بانتهائه، ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا تختلف قصيدة النثر عن بقية أشكال الشعر المنثور أو النثر الشعري، ولذلك لعدم مركزية القصد الشعري فيها، أما المعنى الثاني: فهو الاقتصاد، أي أن اللغة التي تنتظم في قصيدة لا بد لها أن تتسم بالقصد والتركيز والتكثيف، بحيث يتم تشغيل عناصرها غياباً وحضوراً بفاعلية كبيرة (4)، هذا الاقتصاد جوهر لأنه مظهر الشعرية فيها.
وتعريف الدكتور فضل يكسر حجم هامشية البنى طالما تساءل عنها البعض عن مقولة أن القصد النثري يوازي القصد الشعري، فلماذا نقول قصيدة شعر وقصيدة مسرح ولا نقول قصيدة نثر؟ وتكفينا هذه الوقفة التعريفية ل(قصيدة).. والأدب والنقد المقارن حاول أن يظهر بعض المقاربات الحضارية النصية، ولا تفوتنا إننا مستسلمون لعملية التأثير والتأثر التي تتم بين الآداب، وليس معيباً أن تأخذ ملامح نصية من الآداب الأخرى كالفرنسية والإنجليزية، وندخلها إلى الأدب العربي كالمسرحية والقصة مثلاً، والقضية الأكثر أهمية، هي كيف أتعامل مع قصيدة النثر، أهي جنس أدبي أم تجديد في ظل الشعر؟
انقسم النقاد والدارسون للأدب إلى قسمين: الأول : يعترف بأن هذا الدخيل إلى الأدب هو جنس أدبي آخر، وليس ما يكتب شعراً لأنه لا يمت إلى الجذور الثقافية العربية بأي صلة، والقسم الثاني: يعتبر هذا النمط الجديد تحديثاً شعرياً لأنه عرف التتالي التحديثي لقصيدة النثر وكيف وصلت لنا في العصور المتأخرة.
ولم يكن الباحث حسن به فهد الهويمل (5) وحده، بل معه مشايعون يفكرون أن هنا النمط الحديث من الشعر شعراً، والبعض يرفضه تماماً لأنه غير معروف في الثقافة العربية، والأصوليون يرون أن هذا النمط من الشعر لو دخل في الشعر العربي لأفسد الذائقة الشعرية عند المتلقي.. وهذا خطأ غير محمود، لأن الشعر لغة، واللغة تتشكل بناءً على رغبة العصر ولكي تواكب الحداثة الشعرية لا بد أن ترضخ وتستسلم لعناصر التحديث والتجديد، ولا بد أن تكتب وفق ما يريد شعراء الحداثة.. شاء الأصوليون ذلك أم أبوا.. أما عزل قصيدة النثر عن الشعر والاعتراف بوجودها ظاهرة أدبية أخرى ليس صحيحاً، فهي ليست فتنة تفرق بين الأخ وأخيه كما زعم الهويمل، ولم تغرِّب الفن الشعري على الإطلاق، إذ لها خصائصها التي تجمع بين النوعين في وعاء واحد الشعر والنثر معاً كما هو مألوف في قصائد بعض الشعراء الحداثيين، لكن لم يستوعب الشعراء العرب جميعهم هذا النوع، وبعضهم كتب أنموذجاً هشاً شوَّه هذا النوع، فلا تعامل من يجيد كمن لا يجيد.
وتحامل الهويمل ليس صحيحاً لأنه أرجع هذا التطور إلى نظرية التطور الداروينية يقول: وجد المتسطحون نظرية التطور الداروينية ذريعة لجعل النثر شعرا (6) ونظرته هذه من باب الافتراض فقط، لأن استناده الواقعي يهمش دور اللغة في التواصل والشعرية وكذلك تاريخية المزاوجة اللغوية والفجوات واللامتوقع من خلال اللغة.
رغم المدّ والجزر في إيقاف مفهوم قصيدة النثر، ورغم ما كتب الباحثون في هذه النقطة لم يصل منهم تعريف شاملٌ كامل في قصيدة النثر، كل ناقد حاول أن يضع لها تعريفاً وفق ما يقرأها به من رؤية، ولك أن تنظر إلى مفهوم قصيدة النثر عند ميشيل ساندرا، إذ يقول: هي صياغة مستقلة وموجزة في الغالب تمنح تأثيرات شعرية انطلاقاً من تراكيب معاودة (نحوية ومعجمية وصوتية وعروضية) (7)، هذا في البناء اللغوي وفي تعريفه نوع من التقصير لغياب افتراضية تعددية البناء الأسلوبي للقصيدة وقوله صياغة مستقلة تدخل في إطار نظرية الأجناس كذلك وموجزة في الغالب يدرجها تحت المقطعات الشعرية القديمة والحديثة، والأهم من التعريف هو هدف قصيدة النثر، لأن بعض الدارسين أرجع سبب كتابة قصيدة النثر إلى فشل الشاعر في كتابة الوزن (البحر الشعري) والتفعيلة، وهذا خطأ كبير لم يحاول النقاد أن يصححوه للعامة من القرَّاء، ولعلَّه انتشر بشكل غير طبيعي بينهم.
غير أن الهدف الأمثل لقصيدة النثر هو تقديم حجم مرن وقابل للتغيير، وكمية متصلة من الكتابة، وتصبح القضية الأساسية هي التنغيم (8).. إذن حل إشكالية قصيدة النثر بهذه الرؤية لم تعد بحاجة إلى الشرح وتبرير مواقف كتابة هذا النوع، وترتبط بالجمالية أكثر من أي شيء آخر، وتقرأ بمنهجها الخاص.
ومواقف تودوروف تساند هذا في تناوله للشعرية أو الأدبية في النص الأدبي لمواكبة التطور الشعري في هذه الفترة الزمنية، وقد كان ينظر إلى أن النص الأدبي يقوم على مبدأ التضاد، وبه ينطلق لقراءة واقع قصيدة النثر ويقول: شكلٌ مناسبٌ لموضوع التناقض والتعارض. وبهذا التعريف الموجز يحدد طبيعة قصيدة النثر، وكأنه يريد أن يقول لنا أنها قائمة على ثنائية ما وبوسعها اتخاذ أشكالٍ موضوعاتية أو شكلية متنوعة، وقد تتجلى هذه الثنائية بشكل طاغ، وقد لا تتجلى إلا بالاستنباط.
والنثر بطاقاته الاستيعابية وعوالمه الداخلية يمقت القوالب الجاهزة، لأنها طريقة استاتيكية تقيد الأسلوب النثري من الخروج إلى ساحة الإبداع، لذلك أيضاً يرفض الإيقاعات المفروضة عليه من الخارج، لأنها عبث شكلي في النثر، وقصيدتنا هروب من الشعر داخل النثر كذلك من التراكيب البلاغية والسمات المنطقية الفخمة المتوافرة في القصيدة الشعرية والأسلوب المرحلي، والنثر بحكم مرونته يسمح بأكثر تنوع الأشكال حجماً، لأنه متحرر من أي تقنين كتابي، وحسب رغبة العصر الفكرية يظهر لأن التنوير يرتكز على الفكر.
ولم يقف التنظير النقدي لقصيدة النثر، ولم يأت فجأة، بل تسلسل مع نموها.. وهذا أحد أقطاب قصيدة النثر مالارميه يرى أن تطبيق النثر على الشعر أمر حتمي لكي يأتي بمغايرة أدبية، هذا الانسكاب يجمع خصائص الجنسين معاً بصورة موجزة تختصر الزمان والفكرة (9).. وبهذا توقع بنية تنظيم لغوية غير مألوفة في السياق اللغوي، إنه تركيب الجملة على الجملة وهو نضال ضد تركيب الجمل الشائع وتنتظم الكلمات داخل الجملة بموجب قوانين جديدة، تعتمد الدلالات اللانهائية وكذلك طرد السهولة الذهنية في الإنتاج وفرض نظام ذهني معقد يبين عمق القراءة عند المتلقي، أرأيت النموذج الأوروبي كيف صعد تدريجياً إلى مستوى الإبهام الدلالي؟ وكيف تأثر بالفن التشكيلي؟
هذه المرحلة غيَّمت كل شيء حتى النص الأدبي، فلم تعد تعرف معناه مما ورد من شكل أمام عينيك، وقد أفاد النقاد من الفوضى النصية ومظاهر عوالمه في قراءة هذا الأنموذج العجيب الزئبقي تارة يصفو لونه وتارة يتعكر، لكنه ظل متوقعاً، وقارئ هذا النوذج لا يتعرض للصدمة لأنه يكون محصناً بلقاح المناهج النقدية قبل الأخيرة، وبهذا تفك شفرات النصوص ويؤخذ البعد التأويلي المناسب للقراءة النقدية.
ولاقحت قصائد النثر لوحات مختلفة تماماً عن لوحات الجمال الحقيقية التقليدية، كما أن اللوحات الطبيعية الميتة زعزعت الأفكار الشعرية حول الرسم (10) ثم أصبحت بعض الأعمال الحديثة للفنانين أصعب فهماً على علم البلاغة والتحليل والقراءة، لأنها تدخل مرحلة الإغراب والغموض والتلغيز أو الخلل في التقديم، وهذا شأن تصميم لوحات مجانين –أي لا تقرأ- تأثر بهذا النوع عدد من الشعراء وحاولوا أن يكتبوا على منوال اللوحات منهم ميشو في نصوص قصيرة.
ولم تلبث مسألة الأغراض الشعرية طويلاً في الأدب العربي، وكأن الحضارة المكانية والزمانية فرضت نفسها على النص، فأصبح إيصال الرسالة بنص يناسب هذا التغيير، قبل أن نقول أن الترابط بين الأجزاء في النص وجد من العصر العباسي بالنسبة لنصنا العربي الحديث، وفي قصيدة النثر تحدثت سوزان بيرنار (11) عن مصطلح الوحدة العضوية وعدَّته أحد الركائز التي تقوم عليها قصيدة النثر، وفكَّ هذه الركيزة فاليزش في تعريفه للنص الأدبي بقوله: النص/ وحدة كلية مترابطة الأجزاء، فالجمل تتبع بعضها تحت نظام سديد، بحيث تسهم كل جملة في فهم الجملة التي تليها فهماً معقولاً، كما تسهم الجملة التالية من ناحية أخرى في فهم الجملة السابقة عليها فهماً أفضل (12) وبعض الشعراء نقضوا هذه فلم تعد هناك وحدة عضوية بين المقاطع، ولأن النص حشرٌ لكل ما يرغب وما لا يرغب به الناص. هذا على مستوى الظاهر أو قل أن الشتات المظهري يفرض علينا قراءة موحدة نستنبطها من خطوط وهمية بين الدلالات في النص وهكذا يعتبر وحدة وإن لم تكن موجودة.. وهذه من حسنات العلاماتية وقت أفادت النص الحديث.. وأكثر ما يرتبط تعريف فاليزش بالسياقية ويتغافل الاستبدالية نوعاً ما ،مما يعطي التعريف بصمات السردية إن كان غير مصرحٍ بها بشكل واضح لأنه ليس من الضرورة أن تشرح الجملة الثانية والأولى في النص.. وهذا يعتبر استسلاماً معيباً عند الشاعر، وكذلك قصوراً عن المدارك الحقيقية لإسقاط النص الشعري.
والإلحاح على وجود الوحدة يحفظ النص من الانفراط ويجعله عالماً محاطاً بسياج أمني راقٍ ويبلور في كتلة بلورية تشع نوراً من دلالات إيحائية متعددة تتلوَّن بتلوُّن الجمل بمموجب انطلاق الفكرة والنغمة المقصودة لإحساس معين.
وتحت مصطلح الوحدة أدخلت سوزان كلية التأثير والمجانية والكثافة، وهي أعمدة تكوين لآليات قرائية في قصيدة النثر ويمكن أن نوضح هنا بالشكل الآتي:
كلية التأثير
الكثافة
المجانية
وعنصر المجانية له أهمية قصوى في قصيدة النثر يضطرد مع الشكل الفوضوي، ووجود التقنيات الكتابية بيانية كانت أم سردية ليس لها غاية خارج ذاتها، وبمستطاع القصيدة الحديثة استخدام أساليب سردية ووصفية، وهذا من أسرار تسميتها وإن كان النص القديم قد وظف هذا الأسلوب مهما كان ذلك أيضاً تموت مسألة الزمانية والمكانية في النص، لأن التقنية السردية لم تكن لذات السرد.. إلى جانب ذلك لا تعرض –أي القصيدة – سلسلة أفعال وأحداثٍ لغرض النمو الحدثي.. إلا إذا كانت لأغراض شعرية بحتة.. والتكثيف يعتمد على اللغة والخروقات التصويرية وتناهض الدلالات فيما بينها ليصير النص عالماً واحداً..أما كلية التأثير فتدخل في الإحاطة بما ورد في النص من علاقات ومن دلالات، ومن جمل وألفاظ تدخل في نسق واحد مترابط الأجزاء، كل عضو أثر في أخيه فبدا كما أراد، ولهذا انحصر النص في بناء واحد متأثر ببعضه البعض.
ورؤية بيرتران في حجم القصيدة لها أهميتها لكي تواكب فلسفة التجريب وفوضوية العالم، وهو حين يشعر بضرورة ضغط القصيدة، وتركيزها حول العناصر الإيحائية والجوهرية يخلِّص قصيدة النثر من القبض الكتابي، ولا أهمية له في هذا النوع والاسترسال الفكري يخمد لهيب النص وثوراته عند القارئ.. وجوهرية القصيدة تكمن في عناصرها الرئيسية السابقة وفيها خروج عن مستوى النثر المرسوم، لأن النثر نزوح نحو التأمل الأخلاقي أو البوح الغنائي، وبها يكون الفرق بين قصيدة النثر والنثر المحض. ولأن الرسائل الأخلاقية تقتضي إطناباً وتفصيلاً فهي تتعارض مع هذا الجديد من الكتابة.. ورؤية بيرتران أقنعت الشباب الفرنسيين في تقبلهم لقصيدة النثر، لأنهم ميزوا بين النثر والقصيدة.
وفي واقعنا العربي، لم يحاول النقاد أن يميزوا للشباب ما هو الشعر من منظور حداثي؟ وما هو النثر؟ وما هي قصيدة النثر؟ وماذا جمعت من الجنسين؟ لأنها انتقلت دفعة واحدة ولم تمر بمراحل مختلفة، وهو السبب الأساس للأزمة بين الشاعر والجمهور.
وبناؤها الداخلي لا يستقر على هيئة موسيقية معينة انطلاقاً من فوضويتها الإيقاعية، والغالب أن القانون الإيقاعي الذي يحكمها قد يتحدد من كون المقطع متنفساً وهي عرضة لعوادات صوتية (13).. تمثل لازمات تتوفر عند بداية المقاطع، أو في نهايتها، هذه اللازمات لها تكوين صوتي موحد في أغلب الأحيان، كذلك توجد في أبنية متفرقة، جناسات استهلالية تزرع التوافق الموسيقي بين المقاطع والوحدات وسجعاً أكثر مما هو موجود في النثر الشعري.. كل هذه الإشارات الموسيقية تحيلنا لمعرفة انطباعية بعوالم التشكيل الداخلي الإيقاعي للقصيدة الذي يجهله كثير من كتابها العرب وهذا كله تعميق لمقولة واحدة.. إن قصيدة النثر هي الأكثر موسيقية والأكثر تنظيماً من بقية الأنواع الأدبية الأوروبية، لكن الشعراء العرب أثبتوا عكس هذا.. فبدت القصيدة أكثر فوضوية إيقاعية وأقل تنظيماً.
ورغم الحداثة الشعرية ظلت القصيدة في تألقها نصاً قادراً على مواكبة الحداثة -سواءً الأولى في العصر العباسي، أو الثانية في القرن العشرين، مما أدى بنا إلى الاستسلام بأن العصر وعوامل القوة تفرض على المتلقي النص القادر على الحركة والتعبير عن متطلبات هذا العصر، وليكون أكثر ليونة في نقل هذا الواقع بكل مستوياته، وهذه الأخيرة تجعلنا نؤمن أن النص الشعري مهما تغير شكله من عمودٍ أو تفعيلة أو حرٍ كما يسمونه “قصيدة النثر” هو القالب الذي تصب فيه رؤى العالم المصاحبة للتغيير.
وبهذا فإن النص لا يتشكل عند الشاعر إلا حينما تتوفر له اللحظة التي يكون فيها خلقه الأدبي الخاص ويهيئ رؤاه وأفكاره ليحشرها في النص وفق تباين أو توافق بعد ما يأخذ عناصره من عالمي الحقيقة والمجاز، ويشكله في فن أدبي خاص، وتعد هذه العناصر المتكونة هي زخرفة القصيدة (1)، والعناصر الطريقة التي تتحد في المجموع لتؤثر بعضها على البعض الآخر بفعل التواليات والتداعيات والتجاوزات، كما في الأغراض الشعرية سابقاً أو الوحدات على لسان الحداثيين لإنتاج تأثيرات إيقاعية أو متضادة، وهي في الأول والأخير تخضع للفكرة المولدة –أي البؤرة الرئيسية للنص- أو ما أنجز دلالياً أثناء القراءة، وتقوم على الترابط والتواصل والانسجام لذلك سمي قانون الانسجام العام الكبير مقارنة بعمود الشعر في القديم، وهو يحفظ الوحدة العضوية للقصيدة ويحفظ أيضاً لها نغمتها الموسيقية التي ينكرها كثير من الشعراء – أعني قصيدة الأجد.
وقصيدة النثر دخلت الشعر العربي بتأثير مسبق ابتداءً من التيار الرومانسي وكتابات جبران وميخائيل وإسهامات روحية احتفظ لكتابة الصوفية بحقهم في الرجوع إلى المصادر الأولى لو حاولنا التأصيل لهذا النمط من القول، أما من اعتمد النموذج الغربي في الكتاب سندعه يخوض ويلعب حتى يأتيه اليقين الأدبي.
كثر في المصطلح النقدي الحديث استخدام لفظ النثر.. فيه أشكال أدبية متنوعة، ولكن اقترانه ب(قصيدة) يخرج عما هو متعارف عليه سابقاً – قبل الاقتران اللغوي، بخلاف مفردة “الشعر” التي تناولها البلاغيون القدامى كثيراً، وجاء النثر في اللغة : التفريق والنشر، ومنه نثر الحب إذا بذره.. أما في تاج العروس للزبيدي النثر بالتحريك كثرة الكلام وإذاعة الأسرار، وقال: النثر هو الكلام المقفى بالأسجاع ضد النظم (2)، أي أنه يقتضي وجود وزن وإيقاع كما في الشعر، وبهذا رد على من يقول بأن النثر فيه وزن.. وبفعل عامل التحديث الشعري وجدت قصيدة النثر وإن كانت مصادرها الأولى غربية، بل يمكن التأصيل لها، لأنها تعتبر آخر شكل شعري تعبيري وصل إلى الشعر الحديث، ومن اللازم أن لا نبقيها على تسميتها الأوروبية، بل بالإمكان أن نسميها القصيدة الجديدة أو الأجد كما يقول الدكتور عبدالعزيز المقالح في تنظيره النقد (3) وتسميتها ب (قصيدة النثر) شكلت أزمات ثقافية لدى القارئ العربي المعتمد على الوزن في القصيدة.. رغم أنها تتخلى عن هذه الأزمات.
أما مصطلح قصيدة فيرجعها الدكتور صلاح فضل إلى فكرتين متلازمتين، إحداهما: القصد والتعمد، أي أن القصيدة هي الكلام المقصود في ذاته، وهي اللغة عندما تصبح هدفاً فنياً محدداً، وليست مجرد وسيلة للتواصل تحترق بانتهائه، ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا تختلف قصيدة النثر عن بقية أشكال الشعر المنثور أو النثر الشعري، ولذلك لعدم مركزية القصد الشعري فيها، أما المعنى الثاني: فهو الاقتصاد، أي أن اللغة التي تنتظم في قصيدة لا بد لها أن تتسم بالقصد والتركيز والتكثيف، بحيث يتم تشغيل عناصرها غياباً وحضوراً بفاعلية كبيرة (4)، هذا الاقتصاد جوهر لأنه مظهر الشعرية فيها.
وتعريف الدكتور فضل يكسر حجم هامشية البنى طالما تساءل عنها البعض عن مقولة أن القصد النثري يوازي القصد الشعري، فلماذا نقول قصيدة شعر وقصيدة مسرح ولا نقول قصيدة نثر؟ وتكفينا هذه الوقفة التعريفية ل(قصيدة).. والأدب والنقد المقارن حاول أن يظهر بعض المقاربات الحضارية النصية، ولا تفوتنا إننا مستسلمون لعملية التأثير والتأثر التي تتم بين الآداب، وليس معيباً أن تأخذ ملامح نصية من الآداب الأخرى كالفرنسية والإنجليزية، وندخلها إلى الأدب العربي كالمسرحية والقصة مثلاً، والقضية الأكثر أهمية، هي كيف أتعامل مع قصيدة النثر، أهي جنس أدبي أم تجديد في ظل الشعر؟
انقسم النقاد والدارسون للأدب إلى قسمين: الأول : يعترف بأن هذا الدخيل إلى الأدب هو جنس أدبي آخر، وليس ما يكتب شعراً لأنه لا يمت إلى الجذور الثقافية العربية بأي صلة، والقسم الثاني: يعتبر هذا النمط الجديد تحديثاً شعرياً لأنه عرف التتالي التحديثي لقصيدة النثر وكيف وصلت لنا في العصور المتأخرة.
ولم يكن الباحث حسن به فهد الهويمل (5) وحده، بل معه مشايعون يفكرون أن هنا النمط الحديث من الشعر شعراً، والبعض يرفضه تماماً لأنه غير معروف في الثقافة العربية، والأصوليون يرون أن هذا النمط من الشعر لو دخل في الشعر العربي لأفسد الذائقة الشعرية عند المتلقي.. وهذا خطأ غير محمود، لأن الشعر لغة، واللغة تتشكل بناءً على رغبة العصر ولكي تواكب الحداثة الشعرية لا بد أن ترضخ وتستسلم لعناصر التحديث والتجديد، ولا بد أن تكتب وفق ما يريد شعراء الحداثة.. شاء الأصوليون ذلك أم أبوا.. أما عزل قصيدة النثر عن الشعر والاعتراف بوجودها ظاهرة أدبية أخرى ليس صحيحاً، فهي ليست فتنة تفرق بين الأخ وأخيه كما زعم الهويمل، ولم تغرِّب الفن الشعري على الإطلاق، إذ لها خصائصها التي تجمع بين النوعين في وعاء واحد الشعر والنثر معاً كما هو مألوف في قصائد بعض الشعراء الحداثيين، لكن لم يستوعب الشعراء العرب جميعهم هذا النوع، وبعضهم كتب أنموذجاً هشاً شوَّه هذا النوع، فلا تعامل من يجيد كمن لا يجيد.
وتحامل الهويمل ليس صحيحاً لأنه أرجع هذا التطور إلى نظرية التطور الداروينية يقول: وجد المتسطحون نظرية التطور الداروينية ذريعة لجعل النثر شعرا (6) ونظرته هذه من باب الافتراض فقط، لأن استناده الواقعي يهمش دور اللغة في التواصل والشعرية وكذلك تاريخية المزاوجة اللغوية والفجوات واللامتوقع من خلال اللغة.
رغم المدّ والجزر في إيقاف مفهوم قصيدة النثر، ورغم ما كتب الباحثون في هذه النقطة لم يصل منهم تعريف شاملٌ كامل في قصيدة النثر، كل ناقد حاول أن يضع لها تعريفاً وفق ما يقرأها به من رؤية، ولك أن تنظر إلى مفهوم قصيدة النثر عند ميشيل ساندرا، إذ يقول: هي صياغة مستقلة وموجزة في الغالب تمنح تأثيرات شعرية انطلاقاً من تراكيب معاودة (نحوية ومعجمية وصوتية وعروضية) (7)، هذا في البناء اللغوي وفي تعريفه نوع من التقصير لغياب افتراضية تعددية البناء الأسلوبي للقصيدة وقوله صياغة مستقلة تدخل في إطار نظرية الأجناس كذلك وموجزة في الغالب يدرجها تحت المقطعات الشعرية القديمة والحديثة، والأهم من التعريف هو هدف قصيدة النثر، لأن بعض الدارسين أرجع سبب كتابة قصيدة النثر إلى فشل الشاعر في كتابة الوزن (البحر الشعري) والتفعيلة، وهذا خطأ كبير لم يحاول النقاد أن يصححوه للعامة من القرَّاء، ولعلَّه انتشر بشكل غير طبيعي بينهم.
غير أن الهدف الأمثل لقصيدة النثر هو تقديم حجم مرن وقابل للتغيير، وكمية متصلة من الكتابة، وتصبح القضية الأساسية هي التنغيم (8).. إذن حل إشكالية قصيدة النثر بهذه الرؤية لم تعد بحاجة إلى الشرح وتبرير مواقف كتابة هذا النوع، وترتبط بالجمالية أكثر من أي شيء آخر، وتقرأ بمنهجها الخاص.
ومواقف تودوروف تساند هذا في تناوله للشعرية أو الأدبية في النص الأدبي لمواكبة التطور الشعري في هذه الفترة الزمنية، وقد كان ينظر إلى أن النص الأدبي يقوم على مبدأ التضاد، وبه ينطلق لقراءة واقع قصيدة النثر ويقول: شكلٌ مناسبٌ لموضوع التناقض والتعارض. وبهذا التعريف الموجز يحدد طبيعة قصيدة النثر، وكأنه يريد أن يقول لنا أنها قائمة على ثنائية ما وبوسعها اتخاذ أشكالٍ موضوعاتية أو شكلية متنوعة، وقد تتجلى هذه الثنائية بشكل طاغ، وقد لا تتجلى إلا بالاستنباط.
والنثر بطاقاته الاستيعابية وعوالمه الداخلية يمقت القوالب الجاهزة، لأنها طريقة استاتيكية تقيد الأسلوب النثري من الخروج إلى ساحة الإبداع، لذلك أيضاً يرفض الإيقاعات المفروضة عليه من الخارج، لأنها عبث شكلي في النثر، وقصيدتنا هروب من الشعر داخل النثر كذلك من التراكيب البلاغية والسمات المنطقية الفخمة المتوافرة في القصيدة الشعرية والأسلوب المرحلي، والنثر بحكم مرونته يسمح بأكثر تنوع الأشكال حجماً، لأنه متحرر من أي تقنين كتابي، وحسب رغبة العصر الفكرية يظهر لأن التنوير يرتكز على الفكر.
ولم يقف التنظير النقدي لقصيدة النثر، ولم يأت فجأة، بل تسلسل مع نموها.. وهذا أحد أقطاب قصيدة النثر مالارميه يرى أن تطبيق النثر على الشعر أمر حتمي لكي يأتي بمغايرة أدبية، هذا الانسكاب يجمع خصائص الجنسين معاً بصورة موجزة تختصر الزمان والفكرة (9).. وبهذا توقع بنية تنظيم لغوية غير مألوفة في السياق اللغوي، إنه تركيب الجملة على الجملة وهو نضال ضد تركيب الجمل الشائع وتنتظم الكلمات داخل الجملة بموجب قوانين جديدة، تعتمد الدلالات اللانهائية وكذلك طرد السهولة الذهنية في الإنتاج وفرض نظام ذهني معقد يبين عمق القراءة عند المتلقي، أرأيت النموذج الأوروبي كيف صعد تدريجياً إلى مستوى الإبهام الدلالي؟ وكيف تأثر بالفن التشكيلي؟
هذه المرحلة غيَّمت كل شيء حتى النص الأدبي، فلم تعد تعرف معناه مما ورد من شكل أمام عينيك، وقد أفاد النقاد من الفوضى النصية ومظاهر عوالمه في قراءة هذا الأنموذج العجيب الزئبقي تارة يصفو لونه وتارة يتعكر، لكنه ظل متوقعاً، وقارئ هذا النوذج لا يتعرض للصدمة لأنه يكون محصناً بلقاح المناهج النقدية قبل الأخيرة، وبهذا تفك شفرات النصوص ويؤخذ البعد التأويلي المناسب للقراءة النقدية.
ولاقحت قصائد النثر لوحات مختلفة تماماً عن لوحات الجمال الحقيقية التقليدية، كما أن اللوحات الطبيعية الميتة زعزعت الأفكار الشعرية حول الرسم (10) ثم أصبحت بعض الأعمال الحديثة للفنانين أصعب فهماً على علم البلاغة والتحليل والقراءة، لأنها تدخل مرحلة الإغراب والغموض والتلغيز أو الخلل في التقديم، وهذا شأن تصميم لوحات مجانين –أي لا تقرأ- تأثر بهذا النوع عدد من الشعراء وحاولوا أن يكتبوا على منوال اللوحات منهم ميشو في نصوص قصيرة.
ولم تلبث مسألة الأغراض الشعرية طويلاً في الأدب العربي، وكأن الحضارة المكانية والزمانية فرضت نفسها على النص، فأصبح إيصال الرسالة بنص يناسب هذا التغيير، قبل أن نقول أن الترابط بين الأجزاء في النص وجد من العصر العباسي بالنسبة لنصنا العربي الحديث، وفي قصيدة النثر تحدثت سوزان بيرنار (11) عن مصطلح الوحدة العضوية وعدَّته أحد الركائز التي تقوم عليها قصيدة النثر، وفكَّ هذه الركيزة فاليزش في تعريفه للنص الأدبي بقوله: النص/ وحدة كلية مترابطة الأجزاء، فالجمل تتبع بعضها تحت نظام سديد، بحيث تسهم كل جملة في فهم الجملة التي تليها فهماً معقولاً، كما تسهم الجملة التالية من ناحية أخرى في فهم الجملة السابقة عليها فهماً أفضل (12) وبعض الشعراء نقضوا هذه فلم تعد هناك وحدة عضوية بين المقاطع، ولأن النص حشرٌ لكل ما يرغب وما لا يرغب به الناص. هذا على مستوى الظاهر أو قل أن الشتات المظهري يفرض علينا قراءة موحدة نستنبطها من خطوط وهمية بين الدلالات في النص وهكذا يعتبر وحدة وإن لم تكن موجودة.. وهذه من حسنات العلاماتية وقت أفادت النص الحديث.. وأكثر ما يرتبط تعريف فاليزش بالسياقية ويتغافل الاستبدالية نوعاً ما ،مما يعطي التعريف بصمات السردية إن كان غير مصرحٍ بها بشكل واضح لأنه ليس من الضرورة أن تشرح الجملة الثانية والأولى في النص.. وهذا يعتبر استسلاماً معيباً عند الشاعر، وكذلك قصوراً عن المدارك الحقيقية لإسقاط النص الشعري.
والإلحاح على وجود الوحدة يحفظ النص من الانفراط ويجعله عالماً محاطاً بسياج أمني راقٍ ويبلور في كتلة بلورية تشع نوراً من دلالات إيحائية متعددة تتلوَّن بتلوُّن الجمل بمموجب انطلاق الفكرة والنغمة المقصودة لإحساس معين.
وتحت مصطلح الوحدة أدخلت سوزان كلية التأثير والمجانية والكثافة، وهي أعمدة تكوين لآليات قرائية في قصيدة النثر ويمكن أن نوضح هنا بالشكل الآتي:
كلية التأثير
الكثافة
المجانية
وعنصر المجانية له أهمية قصوى في قصيدة النثر يضطرد مع الشكل الفوضوي، ووجود التقنيات الكتابية بيانية كانت أم سردية ليس لها غاية خارج ذاتها، وبمستطاع القصيدة الحديثة استخدام أساليب سردية ووصفية، وهذا من أسرار تسميتها وإن كان النص القديم قد وظف هذا الأسلوب مهما كان ذلك أيضاً تموت مسألة الزمانية والمكانية في النص، لأن التقنية السردية لم تكن لذات السرد.. إلى جانب ذلك لا تعرض –أي القصيدة – سلسلة أفعال وأحداثٍ لغرض النمو الحدثي.. إلا إذا كانت لأغراض شعرية بحتة.. والتكثيف يعتمد على اللغة والخروقات التصويرية وتناهض الدلالات فيما بينها ليصير النص عالماً واحداً..أما كلية التأثير فتدخل في الإحاطة بما ورد في النص من علاقات ومن دلالات، ومن جمل وألفاظ تدخل في نسق واحد مترابط الأجزاء، كل عضو أثر في أخيه فبدا كما أراد، ولهذا انحصر النص في بناء واحد متأثر ببعضه البعض.
ورؤية بيرتران في حجم القصيدة لها أهميتها لكي تواكب فلسفة التجريب وفوضوية العالم، وهو حين يشعر بضرورة ضغط القصيدة، وتركيزها حول العناصر الإيحائية والجوهرية يخلِّص قصيدة النثر من القبض الكتابي، ولا أهمية له في هذا النوع والاسترسال الفكري يخمد لهيب النص وثوراته عند القارئ.. وجوهرية القصيدة تكمن في عناصرها الرئيسية السابقة وفيها خروج عن مستوى النثر المرسوم، لأن النثر نزوح نحو التأمل الأخلاقي أو البوح الغنائي، وبها يكون الفرق بين قصيدة النثر والنثر المحض. ولأن الرسائل الأخلاقية تقتضي إطناباً وتفصيلاً فهي تتعارض مع هذا الجديد من الكتابة.. ورؤية بيرتران أقنعت الشباب الفرنسيين في تقبلهم لقصيدة النثر، لأنهم ميزوا بين النثر والقصيدة.
وفي واقعنا العربي، لم يحاول النقاد أن يميزوا للشباب ما هو الشعر من منظور حداثي؟ وما هو النثر؟ وما هي قصيدة النثر؟ وماذا جمعت من الجنسين؟ لأنها انتقلت دفعة واحدة ولم تمر بمراحل مختلفة، وهو السبب الأساس للأزمة بين الشاعر والجمهور.
وبناؤها الداخلي لا يستقر على هيئة موسيقية معينة انطلاقاً من فوضويتها الإيقاعية، والغالب أن القانون الإيقاعي الذي يحكمها قد يتحدد من كون المقطع متنفساً وهي عرضة لعوادات صوتية (13).. تمثل لازمات تتوفر عند بداية المقاطع، أو في نهايتها، هذه اللازمات لها تكوين صوتي موحد في أغلب الأحيان، كذلك توجد في أبنية متفرقة، جناسات استهلالية تزرع التوافق الموسيقي بين المقاطع والوحدات وسجعاً أكثر مما هو موجود في النثر الشعري.. كل هذه الإشارات الموسيقية تحيلنا لمعرفة انطباعية بعوالم التشكيل الداخلي الإيقاعي للقصيدة الذي يجهله كثير من كتابها العرب وهذا كله تعميق لمقولة واحدة.. إن قصيدة النثر هي الأكثر موسيقية والأكثر تنظيماً من بقية الأنواع الأدبية الأوروبية، لكن الشعراء العرب أثبتوا عكس هذا.. فبدت القصيدة أكثر فوضوية إيقاعية وأقل تنظيماً.