نحن لا ندعي، وأنتم لا تنكرون أن ثمة صراعا بين القديم والجديد دائما بين أشكال الفنون قاطبة، وتلك هي سنة الحياة، فمن رحم القديم يولد الجديد، ومن رحم الأم يولد الجنين. تلك حقيقة نعتقدها، إلا أن بعضنا ما زال محكوما بالثقافة العربية المتعالقة منذ قرون بعقلية القبيلة، أي بالتفرد والواحدية، ورفض التعددية. لهذا تشهر السكاكين والخناجر ضد كل جديد يمكن أن يخلخل نمط القبيلة، فالقصيدة العمودية كانت لعدة قرون هي النمط الشعري السائد في الذهنية العربية.
وحين أعلنت قصيدة التفعيلة عن وجودها، اعتبرت في وقتها خارجة عن السائد والمألوف، وسلت السيوف وصدحت الأبواق بكل الاتهامات ضد هذا النمط الشعري الجديد، إلا أن شعراء التفعيلة استطاعوا إثبات حضورهم وتأثيرهم، وترسخت لهم المكانة بعد انزياح نسبي للقصيدة العمودية، فشكلت واحديتها وتفردها على مستوى المشهد الشعري العربي. وعندما خرجت قصيدة النثر لكي تبحث لها عن مكانة في هذا المشهد، دون أن تدعو إلى إلغاء القديم بل تجديده على مستويي الشكل والمضمون، وقف لها شعراء التفعيلة بالمرصاد، واعتبروها قصيدة خنثى، ووجهوا لكتابها اتهامات وصلت إلى حد العمالة للاستعمار. إن شعراء التفعيلة يحاربون شعراء قصيدة النثر بنفس السلاح الذي حاربهم به شعراء القصيدة العمودية، فهم يرفضون التجديد ويقاومون الانزياح عن المشهد خوفا من اندثار مكانتهم. تلك هي المسألة.
إن السجال القائم بين فريقي الشعرية العربية، هو سجال عقيم، أضاعوا فيه وقتا ثمينا، وأراقوا حبرا غزيرا في معركة وهمية زائفة، فلا بيانات شعراء قصيدة النثر قادرة على انتزاع الاعتراف بهم وبشرعية ما يكتبون، ولا مماحكات خصومهم قادرة على طمس وجودهم كشعراء يجددون في شكل القصيدة. لهذا على شعراء قصيدة النثر الترفع عن المماحكات، والتوجه للاستفادة من تجارب الآخرين وخصوصا خصومهم من شعراء التفعيلة، فلم يكتسب شعر التفعيلة مكانته الفنية عن طريق البيانات أو التنظيرات، وإنما عن طريق إنتاج نصوص ذات جمالية فنية عالية المستوى، تجاوبت مع نبض الناس واحتياجاتهم الفنية والذهنية والاجتماعية والوطنية والقومية، فأحسنوا استقبالها، ووجدوا فيها المتعة التي يهبها الشعر الحقيقي للمتلقين.
قصيدة النثر ... تأصيل معرفي:
تخلقت قصيدة النثر من الصدع الاجتماعي، بمعنى شعور المرء بحالة من الاغتراب داخل مجتمعه، وعدم قدرته نفسيا على التكيف مع واقع زائف يفرض عليه قيما وأنماطا اجتماعية وسياسية تجاوزها الزمن، هذا الوضع خلق لدى الشاعر ما يشبه الرفض لكل ما هو ماض أو موروث، مما جعله يلج إلى عالم القصيدة متسلحا بذاتيته العالية لكي يثبت حضورها في واقع يسعى إلى تهميشها أو الهيمنة على تفكيرها, دون أن يلتفت إلى مسألة الوزن أو القافية، أو البحث في القاموس عن كلمة ليستقيم بها شطر البيت، في محاولة يسابق بها الزمن الحاضر.
وكانت قصيدة النثر عنوانه المعبر عن حالته النفسية المغتربة، نحو سعي الذات لكي تعبر عن ما يمور بداخلها من مكبوتات، وتعلن ثورتها الاحتجاجية ونضالها الفكري ضد العبث بمصيرها أولا، ومصير مجتمعها ثانيا، في محاولة لهدم القيم والأنماط الاجتماعية السائدة، وبناء مجتمع يستقيم فيه سلم القيم والأخلاق بعيدا عن قهر الذات. تقول سوزان برنار: "لقد شب الجيل الذي خرج من المراهقة ما بين 1880و1885 في المرارة والهزيمة وصخب الثورة، وانهارت من حوله القيم كلها، ولم يعد يؤمن بالجمهورية المهانة المستضعفة، ولا بالفعل التافه الخالي من المثل، ولا بالأساتذة الذين يجلهم، لأنهم ما عادوا يلبون حاجاته".
هذا هو الواقع الغربي الذي أنتج قصيدة النثر، أي أن الجيل الشاب تمرد على واقعه وأساتذته في محاولة للبحث عن ذاته في واقع مهزوم. وإذا نظرنا إلى الواقع العربي، نجد أن جيل الشعراء العرب، وخاصة الفلسطينيين، الذين تبنوا قصيدة النثر وكتبوها، كانوا يحسون بالمشاعر نفسها التي أحس بها أقرانهم الفرنسيون في عهود سابقة أو بما هو قريب منها. فقد عاش هؤلاء الشعراء مرارة الخيبة والهزيمة، بعد نكبة عام 1948، وانهيار القيم القومية والأيديولوجية بعد نكسة 1967، ومازالت النكبات والنكسات متواصلة.
السرد والقصيدة:
لقد عنونا هذا القسم من الدراسة، السرد والقصيدة، وليس السرد والشعر، لأن مفهوم القصيدة في رأينا أوسع وأشمل من مفهوم الشعر، فالشعر في أبسط تعاريفه هو الكلام الموزون المقفى، وكما نرى فهو تعريف عام وشامل يمكن أن يطلق على أي شيء يوحي بالشعر، مثل ألفية ابن مالك، وشعر التقاريظ والمناسبات، قائمة على النظم الشعري ولكنها لا تعتبر قصيدة شعرية رغم الكلام الموزون والمقفى. أما القصيدة فإنها كلمة محددة تدل على وجود مستقل، بناء لغوي قائم بذاته، سواء التزم الوزن والقافية أو لم يلتزم فهو قصيدة.
وإذا كانت الشعرية كقيمة جمالية تتحد بمعارضة النثر بالشعر، حسب رولان بارت، فالنثر ذو طبيعة تتمتع بخاصية تلقائية ذات بنية عادية كالكلام المتداول بين الناس، بينما الشعر هو ما يحطم هذه الطبيعة الوظيفية، فيرفع الكلام إلى مستويات جديدة قوامها الرمز الموحي الذي يخلق دلالات متعددة ومناخات نفسية توسع القدرات التخيلية.
وبعد أن أوضحنا الفرق بين القصيدة والشعر، علينا أن نوضح دلالة السرد وعلاقته بالقصيدة.
يعرف السرد بأنه الحكي القائم على دعامتين أساسيتين: الأولى، انه يحتوي على قصة ما تضم أحداثا معينة. والثانية، انه يعين الطريقة التي تحكى بها تلك القصة، وتسمى هذه الطريقة سردا، ذلك أن القصة يمكن أن تحكى بطرق متعددة، وأشكال متباينة.
وكون الحكي هو بالضرورة قصة محكية يفترض وجود شخص يحكي، وشخص يحكى له، أي وجود تواصل بين طرفين: سارد، ومتلق، وبينهما نص. وهذا تماما ما يتأتى للقصيدة فهي نص يحكي موضوعا ما أو قيمة جمالية ما، سواء بالشعر أو بالنثر، إذن ثمة شاعر ومتلق وبينهما نص. وهنا تبرز العلاقة بينهما في الشكل العام بأن السرد والقصيدة يطلبان المتلقي، وتبقى الوسيلة التي يوصلان بها رسالتهما لهذا المتلقي مغايرة. فنجد أن السرد يتواصل مع المتلقي من خلال القصة أو الرواية أو النص المسرحي أو السيرة، أي أن السرد يختار الشكل النثري لكي يوصل رسالته. وبهذا نلاحظ أن ثمة ترابطا بين السرد والنثر من حيث الشكل والمضمون.
إذن ما العلاقة التي تربط بين السرد وهو النثر، والقصيدة وهي شعر أو نثر؟ وهنا ثمة قاسم مشترك يجمع بين السرد والقصيدة النثرية، فما هو هذا القاسم المشترك وما دلالته؟، وهل ثمة قاسم يجمع بين السرد والشعرية؟.
إن القصيدة بشكليها الشعري والنثري، تعد حالة وجدانية فكرية، يتركز فيها الذهن على نقطة معينة من صورة، من فكرة، من قضية، وهي لذلك تتأثر بالعصر، وبالبيئة، وبظروف الحياة التي تتطور باستمرار، والضرورة تستلزم أن يرافق تطور الحياة تطور مماثل في شكل ومضمون القصيدة، خاصة بعد أن خلخلت التحولات الحداثية ثوابت نظرية الأنواع الأدبية التي كانت تحدد مواصفات كل جنس أدبي بقوانين وشروط أدبية صارمة، فتلاقحت الأجناس والفنون، وانهمرت خواصها الفنية على بعضها، فظهرت تقنيات تشكيلية وسينمائية وسردية في القصيدة. وكذلك تداخلت الأجناس الأدبية في السرد نفسه، حيث تداخل الشعر في النص السردي سواء قصة أو رواية أو مسرحية، وعديد من النصوص المسرحية كتبت شعرا.
ورغم هذا التلاقح والتمازج بين السرد والقصيدة، إلا انه تبقى ثمة حدود بين الجنسين الأدبيين، بحيث لا يطغى احدهما على الآخر ويخرجه من جنسه الأدبي، فيبقى السرد كجنس أدبي له خصائصه، وتبقى القصيدة جنساً أدبياً مستقلاً تستعين بمجموعة من خصائص السرد لغايات جمالية.
السرد والموروث الشعري العربي:
آثرنا قبل الشروع في إبراز دلالات السرد في قصيدة النثر، أن نعود إلى مرجعية تاريخية أدبية استفادت من السرد في بناء عالمها الشعري، ونقصد بذلك التراث الشعري العربي.
إن علاقة السرد بالقصيدة قديمة قدم الشعر نفسه، وقد تحدثت الملاحم الشعرية الأولى في الأدب العالمي عن أبطال وأحداث وسير وأمكنة، وخير مثال على ذلك، ملحمتا الإلياذة والأوديسا في الأدب الإغريقي، وملحمة جلجامش في الأدب العربي. كذلك ثمة قصائد في الشعر العربي بدأ من العصر الجاهلي وصولا إلى العصر الحديث أو المعاصر، نجد فيها مكونات سردية. ولسنا مبالغين إذا قلنا، بأن وراء كل قصيدة قصة هي المثير أو الدافع، مثل قصائد الحب والعشق، أو قصائد المعاناة والألم، أو القصائد التاريخية.
لقد استخدم الشاعر العربي بعضا من تقنيات السرد، واتكأ على الحكاية أو القصة كوسيلة تعبيرية يبني عليها حدث قصيدته. فنجد (امرؤ القيس) في معلقته يصف مغامراته في "دارة جلجل" ومع "بيضة الخدر" التي تجاوز أهلها وتبادل معها مختلف صنوف الحب واللهو. وهذا (المنخل اليشكري) يصف لنا في رائيته الشهيرة مشهد دخوله الخدر على فتاته في اليوم المطير. ولم يكن (عنترة بن شداد) بعيدا عن صاحبيه في قص الأخبار ورواية الحكايات عن حبه ل(عبلة) ومتذكرا إياها بين ضربات السيوف وطعن الرماح. وهؤلاء الشعراء لم يكن هدفهم القص بحد ذاته، وإنما رواية ما وقع لهم من أحداث ومغامرات في أسلوب قصصي متخذا من القصيدة الشعرية شكلا فنيا.
إن فن القص جزء من النفس البشرية، تخلقه إذا لم تكن تعرفه، كوسيلة تعبيرية حينما تعجز الوسائل الأخرى عن التعبير. فنجد في العصور الإسلامية تطوراً ملموساً للسرد في القصيدة حيث أدرجت قصص شعرية كاملة من حيث بناؤها ورسم شخصياتها وحبكتها في الشعرية العربية. فهذا (الحطيئة) في قصيدته التي مطلعها:
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل
ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما
يحكي القصة/ القصيدة عن مشاعر الأب وخشيته على سمعته بين القبائل إذا لم يكرم ضيفه الذي حل بدياره، وتنتقل مشاعر الهم والخوف إلى احد أبنائه، فيدنو من أبيه ويحاول حل الأزمة بطريقة مأساوية "يا أبت اذبحني ويسر له طعاما"، وتبلغ الحبكة ذروتها عندما يهم الأب بذبح ابنه، حينها يسمع صوت قطيع من حمر الوحش تقصد بئراً مجاورة، فينسل الأب نحوها ويرسل سهما فتصيب إحداها، وهكذا يحل الشاعر عقدة قصته/ قصيدته سريعا.
هي قصة بكل مستويات السرد، ولكن لم يقل احد عنها قصة أو حكاية شعرية، لأنها قدمت للقارىء مرتدية الزي العام للشعر، وهو إيقاع البيت ذي الشطرين، حيث كانت السمة الشعرية الوزنية فيها طاغية على السرد ومكوناته.
وقد كان للشعراء العذريين حكايات وقصص كثيرة أيضا مع محبوباتهم نظموها شعرا، أمثال: قيس وليلى، وقيس ولبنى، وكثير عزة، وجميل بثينة، وعمر بن أبي ربيعة، وغيرهم.
وحين أحس الشعراء القدامى بوطأة السرد على خطابهم الشعري، حاولوا أن يفتتحوا القصيدة بالغزل أو بالحكمة، فمثلا قصيدة (أبو تمام) عن فتح عمورية وهي قصيدة سردية، ولكنها تبدأ بحكمتها الشعرية "السيف اصدق أنباء من الكتب". وكذلك قصيدة (المتنبي) عن قلعة الحدث تحكي عن واقعة فيها بطل وحدث ومكان، لكنها تتقدم بلباس الحكمة "على قدر أهل العزم تأتي العزائم".
وتستمر مسيرة القصة الشعرية لتصل ذروتها مع قصائد الرعيل الأول من شعراء النهضة أو الإحياء، بتأثير من التراث الشعري العربي الذي تم إحياؤه، أمثال: احمد شوقي، ومحمود سامي البارودي، ومعروف الرصافي، والأخطل الصغير، والياس أبو شبكة، وخليل مطران، وحافظ إبراهيم، وإيليا أبو ماضي، وغيرهم.
وفي تجربة شعر التفعيلة ثمة إمكانات هائلة استثمرها الشعراء ليصلوا بالسرد الشعري إلى مدى أوسع وآفاق أرحب، ومن يقرأ قصائد (نزار قباني) يجد قصائد كثيرة تؤكد هذا الحضور السردي الشعري. وكذلك لدى شاعر العربية (محمود درويش) قصائد عديدة تحاكي فن السرد، في قصيدتي "الحديقة النائمة" و"كان ما سوف يكون" من ديوان أعراس، و"الحوار الأخير في باريس" و"بيروت" من ديوان حصار لمدائح البحر، ويتوج المحاكاة السردية في عمله الإبداعي"في حضرة الغياب". وهذا بالإضافة إلى تجارب أخرى عند معين بسيسو، وأمل دنقل، واحمد عبد المعطي حجازي، وصلاح عبد الصبور، واحمد دحبور، ومحمد الفيتوري، وسعدي يوسف، وغيرهم.
ومهما توغلت قصيدة التفعيلة في السرد واعتمدت مكوناتها على حكاية أو قصة شعرية، ونجد أن مفرداتها البنائية والدلالية هي مفردات قصة بحدثها وحوارها الداخلي، إلا أن إيقاعها شعري يؤكد انتماءها إلى الشعر لا إلى السرد.
وحين أعلنت قصيدة التفعيلة عن وجودها، اعتبرت في وقتها خارجة عن السائد والمألوف، وسلت السيوف وصدحت الأبواق بكل الاتهامات ضد هذا النمط الشعري الجديد، إلا أن شعراء التفعيلة استطاعوا إثبات حضورهم وتأثيرهم، وترسخت لهم المكانة بعد انزياح نسبي للقصيدة العمودية، فشكلت واحديتها وتفردها على مستوى المشهد الشعري العربي. وعندما خرجت قصيدة النثر لكي تبحث لها عن مكانة في هذا المشهد، دون أن تدعو إلى إلغاء القديم بل تجديده على مستويي الشكل والمضمون، وقف لها شعراء التفعيلة بالمرصاد، واعتبروها قصيدة خنثى، ووجهوا لكتابها اتهامات وصلت إلى حد العمالة للاستعمار. إن شعراء التفعيلة يحاربون شعراء قصيدة النثر بنفس السلاح الذي حاربهم به شعراء القصيدة العمودية، فهم يرفضون التجديد ويقاومون الانزياح عن المشهد خوفا من اندثار مكانتهم. تلك هي المسألة.
إن السجال القائم بين فريقي الشعرية العربية، هو سجال عقيم، أضاعوا فيه وقتا ثمينا، وأراقوا حبرا غزيرا في معركة وهمية زائفة، فلا بيانات شعراء قصيدة النثر قادرة على انتزاع الاعتراف بهم وبشرعية ما يكتبون، ولا مماحكات خصومهم قادرة على طمس وجودهم كشعراء يجددون في شكل القصيدة. لهذا على شعراء قصيدة النثر الترفع عن المماحكات، والتوجه للاستفادة من تجارب الآخرين وخصوصا خصومهم من شعراء التفعيلة، فلم يكتسب شعر التفعيلة مكانته الفنية عن طريق البيانات أو التنظيرات، وإنما عن طريق إنتاج نصوص ذات جمالية فنية عالية المستوى، تجاوبت مع نبض الناس واحتياجاتهم الفنية والذهنية والاجتماعية والوطنية والقومية، فأحسنوا استقبالها، ووجدوا فيها المتعة التي يهبها الشعر الحقيقي للمتلقين.
قصيدة النثر ... تأصيل معرفي:
تخلقت قصيدة النثر من الصدع الاجتماعي، بمعنى شعور المرء بحالة من الاغتراب داخل مجتمعه، وعدم قدرته نفسيا على التكيف مع واقع زائف يفرض عليه قيما وأنماطا اجتماعية وسياسية تجاوزها الزمن، هذا الوضع خلق لدى الشاعر ما يشبه الرفض لكل ما هو ماض أو موروث، مما جعله يلج إلى عالم القصيدة متسلحا بذاتيته العالية لكي يثبت حضورها في واقع يسعى إلى تهميشها أو الهيمنة على تفكيرها, دون أن يلتفت إلى مسألة الوزن أو القافية، أو البحث في القاموس عن كلمة ليستقيم بها شطر البيت، في محاولة يسابق بها الزمن الحاضر.
وكانت قصيدة النثر عنوانه المعبر عن حالته النفسية المغتربة، نحو سعي الذات لكي تعبر عن ما يمور بداخلها من مكبوتات، وتعلن ثورتها الاحتجاجية ونضالها الفكري ضد العبث بمصيرها أولا، ومصير مجتمعها ثانيا، في محاولة لهدم القيم والأنماط الاجتماعية السائدة، وبناء مجتمع يستقيم فيه سلم القيم والأخلاق بعيدا عن قهر الذات. تقول سوزان برنار: "لقد شب الجيل الذي خرج من المراهقة ما بين 1880و1885 في المرارة والهزيمة وصخب الثورة، وانهارت من حوله القيم كلها، ولم يعد يؤمن بالجمهورية المهانة المستضعفة، ولا بالفعل التافه الخالي من المثل، ولا بالأساتذة الذين يجلهم، لأنهم ما عادوا يلبون حاجاته".
هذا هو الواقع الغربي الذي أنتج قصيدة النثر، أي أن الجيل الشاب تمرد على واقعه وأساتذته في محاولة للبحث عن ذاته في واقع مهزوم. وإذا نظرنا إلى الواقع العربي، نجد أن جيل الشعراء العرب، وخاصة الفلسطينيين، الذين تبنوا قصيدة النثر وكتبوها، كانوا يحسون بالمشاعر نفسها التي أحس بها أقرانهم الفرنسيون في عهود سابقة أو بما هو قريب منها. فقد عاش هؤلاء الشعراء مرارة الخيبة والهزيمة، بعد نكبة عام 1948، وانهيار القيم القومية والأيديولوجية بعد نكسة 1967، ومازالت النكبات والنكسات متواصلة.
السرد والقصيدة:
لقد عنونا هذا القسم من الدراسة، السرد والقصيدة، وليس السرد والشعر، لأن مفهوم القصيدة في رأينا أوسع وأشمل من مفهوم الشعر، فالشعر في أبسط تعاريفه هو الكلام الموزون المقفى، وكما نرى فهو تعريف عام وشامل يمكن أن يطلق على أي شيء يوحي بالشعر، مثل ألفية ابن مالك، وشعر التقاريظ والمناسبات، قائمة على النظم الشعري ولكنها لا تعتبر قصيدة شعرية رغم الكلام الموزون والمقفى. أما القصيدة فإنها كلمة محددة تدل على وجود مستقل، بناء لغوي قائم بذاته، سواء التزم الوزن والقافية أو لم يلتزم فهو قصيدة.
وإذا كانت الشعرية كقيمة جمالية تتحد بمعارضة النثر بالشعر، حسب رولان بارت، فالنثر ذو طبيعة تتمتع بخاصية تلقائية ذات بنية عادية كالكلام المتداول بين الناس، بينما الشعر هو ما يحطم هذه الطبيعة الوظيفية، فيرفع الكلام إلى مستويات جديدة قوامها الرمز الموحي الذي يخلق دلالات متعددة ومناخات نفسية توسع القدرات التخيلية.
وبعد أن أوضحنا الفرق بين القصيدة والشعر، علينا أن نوضح دلالة السرد وعلاقته بالقصيدة.
يعرف السرد بأنه الحكي القائم على دعامتين أساسيتين: الأولى، انه يحتوي على قصة ما تضم أحداثا معينة. والثانية، انه يعين الطريقة التي تحكى بها تلك القصة، وتسمى هذه الطريقة سردا، ذلك أن القصة يمكن أن تحكى بطرق متعددة، وأشكال متباينة.
وكون الحكي هو بالضرورة قصة محكية يفترض وجود شخص يحكي، وشخص يحكى له، أي وجود تواصل بين طرفين: سارد، ومتلق، وبينهما نص. وهذا تماما ما يتأتى للقصيدة فهي نص يحكي موضوعا ما أو قيمة جمالية ما، سواء بالشعر أو بالنثر، إذن ثمة شاعر ومتلق وبينهما نص. وهنا تبرز العلاقة بينهما في الشكل العام بأن السرد والقصيدة يطلبان المتلقي، وتبقى الوسيلة التي يوصلان بها رسالتهما لهذا المتلقي مغايرة. فنجد أن السرد يتواصل مع المتلقي من خلال القصة أو الرواية أو النص المسرحي أو السيرة، أي أن السرد يختار الشكل النثري لكي يوصل رسالته. وبهذا نلاحظ أن ثمة ترابطا بين السرد والنثر من حيث الشكل والمضمون.
إذن ما العلاقة التي تربط بين السرد وهو النثر، والقصيدة وهي شعر أو نثر؟ وهنا ثمة قاسم مشترك يجمع بين السرد والقصيدة النثرية، فما هو هذا القاسم المشترك وما دلالته؟، وهل ثمة قاسم يجمع بين السرد والشعرية؟.
إن القصيدة بشكليها الشعري والنثري، تعد حالة وجدانية فكرية، يتركز فيها الذهن على نقطة معينة من صورة، من فكرة، من قضية، وهي لذلك تتأثر بالعصر، وبالبيئة، وبظروف الحياة التي تتطور باستمرار، والضرورة تستلزم أن يرافق تطور الحياة تطور مماثل في شكل ومضمون القصيدة، خاصة بعد أن خلخلت التحولات الحداثية ثوابت نظرية الأنواع الأدبية التي كانت تحدد مواصفات كل جنس أدبي بقوانين وشروط أدبية صارمة، فتلاقحت الأجناس والفنون، وانهمرت خواصها الفنية على بعضها، فظهرت تقنيات تشكيلية وسينمائية وسردية في القصيدة. وكذلك تداخلت الأجناس الأدبية في السرد نفسه، حيث تداخل الشعر في النص السردي سواء قصة أو رواية أو مسرحية، وعديد من النصوص المسرحية كتبت شعرا.
ورغم هذا التلاقح والتمازج بين السرد والقصيدة، إلا انه تبقى ثمة حدود بين الجنسين الأدبيين، بحيث لا يطغى احدهما على الآخر ويخرجه من جنسه الأدبي، فيبقى السرد كجنس أدبي له خصائصه، وتبقى القصيدة جنساً أدبياً مستقلاً تستعين بمجموعة من خصائص السرد لغايات جمالية.
السرد والموروث الشعري العربي:
آثرنا قبل الشروع في إبراز دلالات السرد في قصيدة النثر، أن نعود إلى مرجعية تاريخية أدبية استفادت من السرد في بناء عالمها الشعري، ونقصد بذلك التراث الشعري العربي.
إن علاقة السرد بالقصيدة قديمة قدم الشعر نفسه، وقد تحدثت الملاحم الشعرية الأولى في الأدب العالمي عن أبطال وأحداث وسير وأمكنة، وخير مثال على ذلك، ملحمتا الإلياذة والأوديسا في الأدب الإغريقي، وملحمة جلجامش في الأدب العربي. كذلك ثمة قصائد في الشعر العربي بدأ من العصر الجاهلي وصولا إلى العصر الحديث أو المعاصر، نجد فيها مكونات سردية. ولسنا مبالغين إذا قلنا، بأن وراء كل قصيدة قصة هي المثير أو الدافع، مثل قصائد الحب والعشق، أو قصائد المعاناة والألم، أو القصائد التاريخية.
لقد استخدم الشاعر العربي بعضا من تقنيات السرد، واتكأ على الحكاية أو القصة كوسيلة تعبيرية يبني عليها حدث قصيدته. فنجد (امرؤ القيس) في معلقته يصف مغامراته في "دارة جلجل" ومع "بيضة الخدر" التي تجاوز أهلها وتبادل معها مختلف صنوف الحب واللهو. وهذا (المنخل اليشكري) يصف لنا في رائيته الشهيرة مشهد دخوله الخدر على فتاته في اليوم المطير. ولم يكن (عنترة بن شداد) بعيدا عن صاحبيه في قص الأخبار ورواية الحكايات عن حبه ل(عبلة) ومتذكرا إياها بين ضربات السيوف وطعن الرماح. وهؤلاء الشعراء لم يكن هدفهم القص بحد ذاته، وإنما رواية ما وقع لهم من أحداث ومغامرات في أسلوب قصصي متخذا من القصيدة الشعرية شكلا فنيا.
إن فن القص جزء من النفس البشرية، تخلقه إذا لم تكن تعرفه، كوسيلة تعبيرية حينما تعجز الوسائل الأخرى عن التعبير. فنجد في العصور الإسلامية تطوراً ملموساً للسرد في القصيدة حيث أدرجت قصص شعرية كاملة من حيث بناؤها ورسم شخصياتها وحبكتها في الشعرية العربية. فهذا (الحطيئة) في قصيدته التي مطلعها:
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل
ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما
يحكي القصة/ القصيدة عن مشاعر الأب وخشيته على سمعته بين القبائل إذا لم يكرم ضيفه الذي حل بدياره، وتنتقل مشاعر الهم والخوف إلى احد أبنائه، فيدنو من أبيه ويحاول حل الأزمة بطريقة مأساوية "يا أبت اذبحني ويسر له طعاما"، وتبلغ الحبكة ذروتها عندما يهم الأب بذبح ابنه، حينها يسمع صوت قطيع من حمر الوحش تقصد بئراً مجاورة، فينسل الأب نحوها ويرسل سهما فتصيب إحداها، وهكذا يحل الشاعر عقدة قصته/ قصيدته سريعا.
هي قصة بكل مستويات السرد، ولكن لم يقل احد عنها قصة أو حكاية شعرية، لأنها قدمت للقارىء مرتدية الزي العام للشعر، وهو إيقاع البيت ذي الشطرين، حيث كانت السمة الشعرية الوزنية فيها طاغية على السرد ومكوناته.
وقد كان للشعراء العذريين حكايات وقصص كثيرة أيضا مع محبوباتهم نظموها شعرا، أمثال: قيس وليلى، وقيس ولبنى، وكثير عزة، وجميل بثينة، وعمر بن أبي ربيعة، وغيرهم.
وحين أحس الشعراء القدامى بوطأة السرد على خطابهم الشعري، حاولوا أن يفتتحوا القصيدة بالغزل أو بالحكمة، فمثلا قصيدة (أبو تمام) عن فتح عمورية وهي قصيدة سردية، ولكنها تبدأ بحكمتها الشعرية "السيف اصدق أنباء من الكتب". وكذلك قصيدة (المتنبي) عن قلعة الحدث تحكي عن واقعة فيها بطل وحدث ومكان، لكنها تتقدم بلباس الحكمة "على قدر أهل العزم تأتي العزائم".
وتستمر مسيرة القصة الشعرية لتصل ذروتها مع قصائد الرعيل الأول من شعراء النهضة أو الإحياء، بتأثير من التراث الشعري العربي الذي تم إحياؤه، أمثال: احمد شوقي، ومحمود سامي البارودي، ومعروف الرصافي، والأخطل الصغير، والياس أبو شبكة، وخليل مطران، وحافظ إبراهيم، وإيليا أبو ماضي، وغيرهم.
وفي تجربة شعر التفعيلة ثمة إمكانات هائلة استثمرها الشعراء ليصلوا بالسرد الشعري إلى مدى أوسع وآفاق أرحب، ومن يقرأ قصائد (نزار قباني) يجد قصائد كثيرة تؤكد هذا الحضور السردي الشعري. وكذلك لدى شاعر العربية (محمود درويش) قصائد عديدة تحاكي فن السرد، في قصيدتي "الحديقة النائمة" و"كان ما سوف يكون" من ديوان أعراس، و"الحوار الأخير في باريس" و"بيروت" من ديوان حصار لمدائح البحر، ويتوج المحاكاة السردية في عمله الإبداعي"في حضرة الغياب". وهذا بالإضافة إلى تجارب أخرى عند معين بسيسو، وأمل دنقل، واحمد عبد المعطي حجازي، وصلاح عبد الصبور، واحمد دحبور، ومحمد الفيتوري، وسعدي يوسف، وغيرهم.
ومهما توغلت قصيدة التفعيلة في السرد واعتمدت مكوناتها على حكاية أو قصة شعرية، ونجد أن مفرداتها البنائية والدلالية هي مفردات قصة بحدثها وحوارها الداخلي، إلا أن إيقاعها شعري يؤكد انتماءها إلى الشعر لا إلى السرد.