مشيئة حقية هى مشيئة الإله الذي يتطلب المألوه، وينطوي عليه وجوديا ولغويا، وتتحقق من خلاله ألوهيته، وحضوره وفاعليته الكونية، وبهاؤه الساحر عبر مراياه، أو كما يقول ابن عربي:
“إن الذات لو تعرت من هذه النسب لم تكن إلها. وهذه النسب أحدثتها أعياننا، فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلها، فلا يعرف حتى نعرف، قال (ص) ” من عرف نفسه عرف ربه “. نعم تعرف ذات أزلية، لا يُعرف أنها إله حتى يعرف المألوه، فهو الدليل عليه”.
وقد قام المتصوفة بهذا الفصل بين الذات المحض المجردة من الصفات، التي لا نعرف عنها سوى إطلاق الوجود المحض وأزليَّته، من ناحية، وبين الألوهية (الذات المتصفة) منذ مرحلة باكرة سواء عبر الإشارة أو العبارة الواضحة، وهو فصل معرفي لا يقوم على أي ثنائية وجودية، حيث يعنى باطن الذات المستور الغيبي في مقابل ظاهرها الذي هو وجهها المتجلي في المخلوقات. ودون الخوض في تفاصيل هذه التفرقة المعقدة، فإن ما يعنينا هنا على وجه الخصوص، هو الألوهية التي هي مجموع الأسماء والصفات أي النسب العرضية المتوسطة المشتركة بين الخالق والمخلوق إذ تنسب لكليهما وفقاً للهوية المتباينة تباين المطلق والنسبي، وهى وحدها مساحة التفاعل والتبادل والمشاركة والمعرفة والعبادة، والاستدلال بالدليل على المدلول…الخ.
إنها فضاء صياغة العلاقات المحتملة بين الإله والمألوه الذي إذا عرف نفسه عرف ربه، أي أصله المتجلي به وعبر مراياه الشهادية، والذي يمنحه الوجود والحضور والخصوصية داخل الهيراركية الوجودية. أما الذات المحض، اللاهوت السلبي، فلا تدرك إلا بالعجز عن إدراكها، وليس إلا علاقات السلب، والاستغناء الذاتي للوجود المحض مقابل الافتقار الذاتي للعدم المحض، لكن ما يثير الانتباه حقا هو أن العدم المحض يستكن صلب الوجودالمحض لأن كليهما سلب مطلق. أما الأمر الآخر الأكثر إدهاشا في هذا السياق، فهو أنهذا الحديث عن ذات أزلية مجهولة إطلاقية الوجود، يستثير في الأذهان أساطير وديانات أمومية قديمة حيث الآلهة الأنثى المحتجبة دوما، كلية الحضور والشمول، الأم الأصلية نمو السومرية أو تعامة البابلية للإله الذكور المعبود.
تتجلى الأسماء والصفات الإلهية في صور المخلوقات، لا تعطل فاعليتها، ولا يسلب حضورها، ولا تغدو مساحة ممكنة لتشبيه أو تجسيم، لأنها هي هو، وهي غيره، كالأصل والصورة في المرآة، يقول ابن عربى:
” لما شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى أن يرى أعيانها، وإن شئت قلت أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر كله، لكونه متصفا بالوجود، ويظهر به سره إليه، فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة، فإنه يظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل، ولا تجليه له. وقد كان الحق سبحانه أوجد العالم كله وجود شبح مسوى لا روح فيه، فكان كمرآة غير مجلوة… فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة، وروح تلك الصورة… فسمي إنساناً… لعموم نشأته وحصره الحقائق كلها، وهو للحق بمنزلة إنسان العين الذي يكون به النظر، وهو المعبرعنه بالبصر، فلهذا سمي إنساناً، فإذا به ينظر الحق إلى خلقه، فيرحمهم”.
إن علاقة الأسماء الإلهية بتجلياتها العينية الوجودية هي علاقة الأصول بصورها المنعكسة في المرايا التي تتكشف بمعانيها وأحكامها الباطنية، فتظهرها في العالم الشهادي المرئي. ولا بد لنا أن نلتفت هنا إلى علاقة الأصل بصورالمرايا، وهى العلاقة التي تحقق المعادلة الصعبة، حيث تنبني الثنائية الوجودية معرفيا دون أن تفت في عضد وحدة الأصل أو تدعي اقتناص ماهيته الوجودية المنفردة التي لا قدم لها فيها. ذلك أن صورة المرآة تغاير الأصل معرفياً ووجودياً، فنحن حينما ننظر في المرآة نواجه آخر يشبهنا ويعكس صورتنا بقدر ما يكشف لنا عن المغايرة والاختلاف. إنه تأسيس للمغايرة والثنائية في عمق التشابه والوحدة، حيث أن صورة المرآة هي الظل الناتج من عمق الأصل يشبهه، ويغايره في آن. حين ننظر في المرآة فنحن نمارس نوعا من انقسام الوعي على ذاته، أو البينونة، إذ تباين الذات ذاتها، وتجلي حضورها عبر آخر متخيل هو هي، وهو غيرها، يتبادل النظر وإياها، يحاورها ويحاكيها (محاكاة وحكيا) من أجل إعادة الاكتشاف والفهم والتعرف المجدد، وتقييم المسار وإعادة صياغته في لحظة الآن الطازجة.
ولا تتحقق المغايرة معرفيا، فحسب، بل إنها كذلك على مستوى الملمس الوجودي، فالأصل حضور مادي واقعي متجسد، بينماالصورة حضور شبحي خيالي متوسط ما بين الحسية والتجريد، لكن الصورة تدور مع الأصل وجوداً وعدما، ومن ثم فهي ليست مستقلة عنه، ووجودها ليس لها من ذاتها، بل هو إمداد من الأصل. ووفقاً لهذا، فإن وجود الصور الحسية الوجودية العدمية هو وجود مستعار مقارنة بالأصل الإلهي الغيبي الخالد المجرد، بل أن ابن عربي يشبهه بالرداء الملقى على كاهل الموجود الذي هو محض إمكان مقدر وثابت في العلم الإلهي القديم، مخيلة الحق الخالدة، وقد منحه هذا الوجود المستعار سحر المرئي وسطوعه المجازى المخايل. وبالطبع فمتى أراد الأصل سلب الصورة وجودها استطاع محوها من صفحة المرآة العاكسة التي هي المحل المسوى لقبول الصورة، وكأنها إحدى تجليات الهيولى الأصلية. وتتحقق مغايرة التنوع أو التعددية الوجودية عبر اختلاف طبيعة هذا المحل المنظور فيه، المسوى لتلقى الصورة، بل إن هذا هو سر مغايرة الفرع للأصل أو الصورة للاسم الإلهي المتجلي عبر المرآة. ناهيك عن مباينة النسب من حيث علاقتها بكنه الأصل، والتي تختلف جذريا عن علاقتها بكنه الانعكاس الصوري، مجلى الأصل.
إن المشاركة فى الماهية الأصلية هنا هي مشاركة ادعاء الوجود بالقياس إلى الوجود الحقيقي الأصلي وهو ما ينجز المغايرة والتنوع على أساس من هذه الأرضية الأصلية. إن الموجودات هي تنويعات صورية على تيمة الأصل، إذا صح التعبير، ولابد أن نحترز هنا لمسألة هامة، ذلك أن الموجودات لا يمكن أن تغدو محض أوهام أوصور منحطة أنطولوجيا بالقياس للأصل، كما في التصور الأفلاطوني فى أسطورة الكهف، بلهي مراتب وتجليات وجودية متفاوتة للأصل ما بين الانعكاس المباشر، وظل الظل، لكنها جميعاً حقيقية لأنها خيالات المطلق، وليست خيالات الإنسان النسبي، حيث لا يمكن أن يهدر التصور الصوفي الإسلامي الثنائية نهائيا فيغدو الإله حاكما ومتألها على عالم وهمي، وهو ما ينفى قصدية النبوة والتشريع والعقيدة، بل قصدية الولاية الصوفية ذاتها. وتتفاوت المحال المسواة لتلقي الصور وفقا للرغبة الإلهية القاهرة في الإعلان الكوني الصاخب المحتفي بالألوهية المتجلية والتي دفعت الحق سبحانه لخلق وإبداع التناغم والتناسب الكوني الذي لا مثيل له، والذي يجلى العدالة الإلهية أو الحقالإلهي، حيث إعطاء كل شيء حقه وخلقه بما يمنحه مكانته الخاصة به في النظام الكوني المتماسك ليؤدى داخل تراتبه المحدد له سلفا، وظيفته المنوطة به بما يضمن لهذا النظام استمرارية ودوام التوازن واستقراره دون أدنى خلل من منظور الألوهية، وإن لم يتبدّ لنا نحن العاجزين عن إدراك حكمة الخفاء.
تحقق المخلوقات شرط المغايرة جزئيا لأن كل مخلوق هو مجلى لاسم من الأسماء الإلهية، وليس جامعا لها، فكل اسم إلهي يأتنس بمجلاه، كما أن كل مجلى يلوذ باسمه، كما قال النبي فيما يروي المتصوفة، “من عرف نفسه عرف ربه”. إنها لعبة التبادل المرآوي ثانية، فحين ترتد الذات إلى عمق ذاتها مقتنصة حضورها من صخب الخارج وفوضاه وتشتته تعي حقيقتها عبر انفتاح نوافذ وعيها على أصلها الغيبي المتجلي عبرها. إلا أن هذه المغايرة الجزئية لا تحقق الهدف الإلهي الأسمى من الخلق، المعرفة الجامعة والعبادة التامة، ولا تمنح الألوهية الشاملة مساحة الإئتناس الحقة الكاملة بصورتها، فليس إلا مساحات الأنس الجزئي المتعدد، ذلك أن الإئتناس والحميمية الحقة يتطلبان أن تكون الصورة جامعة لصفات الأصل، عاكسة وكاشفة لاكتماله وبهائه. إنه الفرق بين النظرة التي يستلبها التشتت الكوني، والنظرة التي تحدق في عمق الوحدة الكامنة وراء هذا التشتت الكوني وتلك الكثرة، فتعي النظام والانسجام ووحدة الحقيقة المطلقة.
أسطورة عتيقة تقول أن الإلهي اللامرئي لابد أن يتجلى عبر الوسائط الكونية المرآوية لأنه لا يمكن أن يسفر عن حضوره المبهر للبشر الفانين فيقضى عليهم صعقاً، ذلك أن الإلهي حينما يسطع نوره ويتلألأ بهاؤه، إنما يصيب الناظر إليه بالدهش أو عشى العينين، وكل من يحاول تأمله مباشرة، ووجها لوجه قضى عليه بالهلاك المحقق، ولذا تتخذ الآلهة لنفسها مظاهر عينية حسية، تخفيها بقدر ما تكشفها.
وفى الحديث القدسي يقول تعالى :
“كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني ”
إن المخلوقات دلائل كونية تكشف عن الوجود الإلهى القدير، وهى في نفس الوقت بمثابة رموز مكثفة الحضور والدلالة، ينجلي عبرها اللغز الإلهي، بقدر، فيعرف الحق، ويعبد، مصداقا لقوله تعالى “وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون”. ويفسر ابن عربي الحديث القدسي سالف الذكر قائلا :
“أن الأصل حركة العالم من العدم الذي كان ساكنا فيه إلى الوجود، ولذلك يقال أن الأمر حركة عن سكون. فكانت الحركة التي هي وجود العالم حركة حب.. . فلو لا هذه المحبة ما ظهر العالم… حب من جانب الحق، وجانب العالم… فإن الكمال محبوب لذاته… فكمل الوجود فكان حركة العالم حبية للكمال”.
حب ينبع من الأصل الميتافيزيقى، فالأسماء الإلهية تتوق للتنفيس عن حضورها وممارسة فاعليتها وتأثيرها، ومن ثم يريحها الحق من هذا التوق، فيجليها عبر صور الموجودات لتظهر آثارها فى عين مسمى العالم. أما المخلوقات فهي بدورها تتوق لأن تخرج من حصار قبضة العدم الإمكاني، حين كانت ثابتة لم تزل، محض صور متخيلة فيغيب الإله (الخيال الوجودي)، ورغبة متأججة في التحقق بالاكتمال الوجودي، وبلوغ الغاية المنوطة بها، فتتحرك من توتر الإمكان إلى الوجود الفعلي الذي هو بدوره حالة من الاستقرار النسبي المؤقت بالقياس لسكينة الغيب الخالدة. وحين تتحقق الموجودات بأشواقها الوجودية، فإنها بقدر ما تتحرر من قبضة العدم، تحرر الأسماء الإلهية منالحضور المعطل السلبي، حيث تبرز أحكامها وآثارها المتنوعة التي وسعت كل شيء وجودا وحكما حتى الأسماء الإلهية ذاتها!
ولعلنا نلاحظ أن هذا الحب أو التوق والاشتياق ليس متبادلا بالمعنى الدارج أو المتعارف عليه، فهو نوع من المحبة النرجسية الخلاقة تمارسه الذات إزاء ذاتها عبر الآخر المرآة العاكسة إذ تحتفي باكتمالها وذروة تحققها. فالأسماء الإلهية تتوق لرؤية أحكامها، وفاعليتها المؤثرة عبر صور مراياها الحسية، وتستمع بل تلتذ برؤية تأثيرها الخلاق. أما الكائنات فهي بدورها تعشق تحققها بالوجود بقدرما تتوق إلى الإعلان الاستعراضي الصاخب عن هذا الحضور البهي، المرتدي رداء الاسم الإلهي، والمجلي لزينته. إنه عشق اكتمال الإله بالمألوه، والعكس صحيح، وهواكتمال أريستوفانى الهوى.
أريستوفانيس، فيما يخبرنا محمود رجب في كتابه الرائع “فلسفةالمرآة” يقيم نظرية رمزية في الحب، أوردها أفلاطون في محاورة “المأدبة”، كنظرية نقيضة لنظريته. تنبني النظرية الأريستوفانية على ما يتميز به الرمز في معناه اليوناني الأصلى من خاصتين أساسيتين هما.. الانقسام والاكتمال، أو التجزيء والتوحيد، أو الاختلاف والائتلاف. فاللفظ اليوناني الدال على الرمز، وهو symbolon مأخوذ من فعل symballein أي : يتوافق أو يتطابق، بمعنى أن يتوافق جزء مع جزئه الآخر، الشبيه به فيتحدان أو أن يتطابق نصفه مع نصفه الآخر المماثل له فيكتمل كل منهما بالآخر. فالحب إذن، هو تعبير عن الإحساس بعدم الاكتمال من ناحية، وعن الحنين إلى الوحدة والتكامل، من ناحية ثانية.
لكن لننتبه، فهذه هي مساحات التوق المتبادلة بين الأسماء الإلهية، والمخلوقات المنبثقة من عمقها الغيبي لكنها ظلالها التي تنطوي عليها وتكتمل بحضورها. ومن المثير للانتباه فى هذا الصدد، أن يعتبر ابن عربي الأسماء الإلهية من الأشياء لأنها من حيث ظاهرها الذي إلى عالم المخلوقات، تجلياتها الحسية، ليست هي الذات، بل هي غيرها، صورها لا ماهيتها، وصور الذات الإسمائية تكتمل بصورها الحسية، المخلوقات.
ومن الأفكار الغامضة المحيرة في هذا الصدد، ما ذكره ابن عربي في”فصوص الحكم”، نص النضج الآسر، قائلا:
” أول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجودة للرحمة بالرحمة، فأول شيء وسعته الرحمة نفسها ثم الشيئية المشار إليها، ثم شيئية كل موجود”.
ويقدم لنا أبو العلا عفيفى تعليقا لافتا على هذا النص، إذ يراه معبرا عن مرحلة التجلي الأقدس، أي تجلى الذات لذاتها حين كانت، ولا شيء معها فيعماء، وهو ما سبق أن عبر عنه الحلاج بقوله:
“تجلى الحق لنفسه في الأزل قبل أن يخلق الخلق، وقبل أن يعلم الخلق، وجرى له في حضرة أحديته مع نفسه حديث لا كلام فيه ولا حروف، وشاهد سبحان ذاته في ذاته في الأزل، حيث كان الحق ولا شيء معه، نظر إلى ذاته، فأحبها وأثنىعلى نفسه، فكان هذا تجليا لذاته في ذاته في صورة المحبة المنزهة عن كل وصف، وكل حد وكانت هذه المحبة علة الوجود، والسبب في الكثرة الوجودية”.
لحظة وراء البدء في ما يمكن أن نطلق عليه أزل الحق، وعماءه الأول مجازا، ذلك أن مخيلتنا البشرية تأبى إلا أن يدور الحدث في ظل فضاء سردي محدد المعالم، لزمان ومكان ما، ولو بسلبهما وتعيينهما بما ينفيهما من أزل وعماء… لا علم، لا لغة، لا كلام، ولا ثنائيات أو انقسامات لما نطلق عليه الوعي أو الإدارك المعرفي الذي نفهمه ونصفه بقدر حدنا الإنسانى. حديث يدور في حضرة الأحدية الأزلية، ويا لها من مفارقة أن ينطوي مطلق القدم على الحديث، مدار التجدد والطزاجة والحركة والتغير، ولعله تعبير يشي بالإمكانات الواعدة المستترة في عمق الذات المحض، للألوهية الوليدة، التي هي كل يوم في شأن، والتي ستبزغ عبر حركة التجلي الثانية التي يطلق عليها ابن عربي “التجلي المقدس”، حيث يتجلى الواحد الحق لذاته في صورالأسماء الإلهية التي تتجلى بدورها في صور الموجودات من حيث وجودها القديم في باطن الغيب المطلق، وهى مرحلة خلق التقدير في العلم أو المخيلة الإلهية القديمة الخالدة.
أما المفارقة الثانية اللافتة فهي كون الحديث يمارس في حضرة الأحدية المطلقة، حيث لا انقسام ولا ثنائية، ولعله أشبه بحديث البينونة البشرية المعرفية حيث يمارس الإنسان حوارا داخليا هو نوع من المنولوج الشخصي، وليس ديالوغا مع الآخر المغاير فعليا، إنه حديث النفس بيني وبيني في خلوة عازلة عن الآخر، أي آخر. وبالطبع، فليس هذا غير مثال تقريبي، حيث أن الفارق ضخم بين حديث الأحدية الإلهية مع ذاتها في الأزل والعماء، من ناحية، وبين الحديث الإنساني، حديث البينونة الداخلي، من ناحية ثانية، ذلك أن حديث النفس لا يخلو ٍمن انقسام متخيل للأنا، وتكاد تكون خلوته مصطنعة قسرا، إذ يستحيل أن تخلو مطلقا من الحضور المتخيل للآخر المشارك، سواء كان مؤنسا خفيا، أو مقتحما مهددا وعنيفا، أو مخايلا مغويا ومشتهى، أو حتى مقصيا ومرفوضا ومنكرا.
إن البينونة الإلهية في الأزل، إن جاز التعبير، هي بينونة الخلاء المطلق، حيث لا وجود لآخر، سواء على مستوى التقدير العلمي أو التكوينالشهادى الفعلي. أما الحديث الإلهي ذاته فهو الصمت المطلق، وهو ليس نقيض الكلام المتعارف عليه بشريا، بل أنه تعبير عن المعنى البكر النقي البسيط الذي لم ولن تفسده أو تشوهه أو تعتدى على نقائه أو تبتسر إطلاقيته ووحدته الألفاظ والكلمات والحروف، أنه كلام الله الأزلي فيما قبل الانقسام والتوجه التشريعى للمخلوقات. ولعلنا نلاحظ ظلالا خفية منسربة من أقوال عبد الله بن سعيد الكلابي [من الصفاتية الأوائل ت 240هـ ] التي أوردها أحمد صبحي في كتابه عن علم الكلام حيث قال الكلابى بأزلية كلام الله، إلا أن الكلام عنده لا يتصف بالأمر والنهى والخبر في الأزل، وإنما يتصف بذلك عند وجود المخاطبين واستجماعهم شرائط المأمورين المنهيين. ولكن ما القديم في كلام الله ؟ إنه ما يطلق عليه الكلابي، الكلام النفسي القديم المتصل بعلم الله، والذي ليس بحروف ولا أصوات ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير، إنه معنى واحد قائم بالله، والذكر قديم والمذكور محدث، والمتلو قديم، والتلاوة محدثة، ولم يزل الله متكلما قبل تسمية كلامه أمرا أو نهيا أو خبرا أو استخبارا.وبالطبع فإن هذه التفرقة المبكرة بين قدم الكلام الإلهي وحدوثه طُرحت ككل لكي لاتغدو ذات الله محلا للحوادث، لكنها تومئ من ناحية أخرى إلى أن مشكلة خلق القرآن بدأت مبكرا، وقد بلغت ذروتها مع المعتزلة. ولقد نقل الأشاعرة رأي ابن كلاب هذا حول الكلام النفسي القديم، لكنهم كانوا يرون جواز توجه الخطاب الشرعي إلى المعدوم،ويا لها من مفارقة لافتة!
إن الأحدية المصمتة الأولى تعي ذاتها في ذاتها خارج إطار مفاهيم الوعي واللغة، وثنائيات وطرائق كليهما الإنسانية النسبية، لكننا لا نملك إلاحدودنا، وفيما رأى الغزالي فنحن نعرف الله عبر مرايانا ونسبنا وصفاتنا، وليس إلا العجز عن الإدارك، وهو في حد ذاته إدراك.
إئتناس حقيقي، وحميمية ذاتية إلهية مطلقة، حيث تبزغ صورة للذات، هي صورة الجمال المنزه عن كل وصف وحد، محض قيمة جمالية مطلقة ومجردة فيما وراء هواجس التجسيد، وأوهام المتخيل والمرئي، وانقسامات النظرة عبر المرآة.
جمال يأتنس بحضوره المطلق العارم المكتمل، ولعله الوحشي لا نهائي الحضور، والسحر والرعب في آن، لكن تنزيهه عن الوصف والحد يخترق أنس الأصل بذاته، بوحشة ما تنسرب في ثنايا الأزل، وتجلى توق الأصل لأن يرى جماله اللامحدود، متجسدا في آخر يغايره، فتبرز تفاصيله، وتعرف قيمته، وتجلى قدرته، فيعرف ويعبد ويعشق لأن رؤية الشيء نفسه بنفسه في نفسه، ليست كرؤيته في آخر مختلف. ولعل هذا هو شرط حدوث أنس العين القائم على الانفصال والظهور والتجسد.
يقول الحلاج :
“ثم شاء الحق سبحانه أن يرى ذلك الحب الذاتي ماثلا في صورة خارجية يشاهدها ويخاطبها، فنظر في الأزل، وأخرج من العدم صورة من نفسه لها كل صفاته وأسمائه وهى آدم الذي جعل الله صورته أبد الدهر، وعظمته ومجده واختاره لنفسه”
ولعلنا نلاحظ إلى أي مدى يتناص ابن عربي مع الحلاج، ويعيد إنتاج خطابه بصورة أكثر نضجا وتفصيلا وتعقيدا في آن.
الله، الرحمن، الحق، تعبر كل هذه الأسماء عن جمعية الأسماء الإلهية في الواحد، أول انبثاق من الأحدية، ومفارقة لها لأنه ينطوي بدوره علىمفهوم الكثرة بوصفه أول العدد. إنه الانتقال المقدس من الذات المحض للألوهية الموحدة، والتي ستنجلي بدورها عبر الظلال الخيالية في عالم الغيب لتبرز لنا كثرة الأسماء، فنخرج من التأمل المجرد حين كانت الذات تمعن النظر في شؤونها الذاتية التي هي نتاج حب ذاتي محض، وهى تكاد تشبه مثل أفلاطون المجردة، إلى كثرة الصور أوالمثل المعلقة بلغة السهروردي المقتول في عالم الخيال الوجودي، مخيلة الله.
اشتاق الإله لصورته، وتوهجت نيرانه الخالدة المستعرة التي أحاطت بردا وسلاما بإبراهيم، وتجلت رفقا ورحمة وجلالا في الوادي المقدس طوى لموسى، وهوما عبر عنها ابن عربي في فصه المحمدي قائلاً:
“ألا تراه خلقه على صورته لأنه من روحه… فكانت روح الإنسان نارا، ولهذا ما كلم الله موسى إلا في صورة النار، وجعل حاجته فيها… وبطن نفس الرحمن فيما كان به الإنسان إنسانا “.
تجانس لافت ومربك بين الروح الإنساني الذي هو تعبير صادق عن قوله تعالى “ونفخت فيه من روحي”، وبين نيران الألوهية الشاهقة، وهو ما قد يدحض التفاضل الشيطاني العتيق المدعى، ولعله يدمج ما بين الطرفين المتصارعين ليجلى ملامح صورة واحدة للإله لا تنقسم إلى سلب وإيجاب. ناهيك عن أن نيران الروح الإلهي التي منها انبثقت الروح الإنسانية كانت في أغلب تجلياتها تنطوي على الرحمة واللطف التي سبقت الغضب والانتقام، ناهيك عن نفحة الجمال الرفيقة، لكن عنف الجلال، وعرامة القوة الساحقة، ربما أسفرت عن نماذج كفرعون والنمرود وطغاة البشرية، أضمروا في أعماقهم ولاية مستترة كقرينهم الشيطاني أسير لعنة الهجر والتخلي وعشق الأبد. ومن المثير للانتباه في هذا السياق أن عشتار الإلهة الأم في حضارة بابل القديمة كانت توصف بأنها سيدة الشعلة، وكانت النار إحدى رموزها الأساسية. على أية حال، وبعيدا عن إثارة الهواجس والريب، فإن هذه المجانسة النارية هي أصل اشتياق الإله لصورته الحاملة الجامعة لصفاته وأسمائه المصطفاة المختارة، الإنسان الكامل، يقول ابن عربي: ” فلما أبان أنه نفخ فيه من روحه، فما اشتاق إلا لنفسه “توق إلهي ورغبة نارية وآلهة لتأسيس المغايرة الحميمة الحقة، الجامعة، لا الجزئية، هي ما دفع الحق لأن يرى عينه مكتملة في صورت هالمنعكسة في آخر نسبي، لكنه جامع يحصر الأمر كله.
إنه ذلك المختصر الوجيز، الإنسان الصغير مرآة عاكسة وجامعة لكل ما في الكون الكبير، وبطموح أعلى للحقائق الكونية والإلهية معا، وليست المسألة مجرد كثرة تجتمع في ذلك الكيان، بل حضور يسعى محموما لاقتناص صورة الإله-الإنسان روح العالم، بدونه يغدو العالم محض شبح مسوى بدون روح. إن آدم هو عين جلاء تلك المرآة فيما يقول ابن عربي الساحر الدعي – ترى، ماذا يعنى بقوله هذا؟ لعله يقصد أن الإنسان آدم هو الذي يمنح العالم المتشظي لنظام والوحدة، ذلك أن الموجودات الأخرى هي محض تجليات جزئية مبعثرة للأسماء الإلهية، ولا تكاد تعي منها إلا حدود حضورها الجزئي عبر التجلي الخاص بها وفيها وعبرها.
ان الإنسان الكامل يمنح العالم المعنى والتناغم والانسجام الهارمونى، ويعي الوحدة المنسربة في عمق الكثرة والكامنة وراء التنوع اللانهائي، أي أنه يخلق، بل يبدع نصية العالم الذي هو كلمات الله كما في قوله تعالى “لو كان البحر مدادا لما نفدت كلمات ربى”. يسعى الإنسان الكامل لإعادة كتابة النص الوجودي، في سياقات مفهومة كونيا وإنسانيا، ولعله يحاول طموحا ومجترأ أن يكتب نصه الموازى تأويليا لرموز الوجود ونصوصه الإلهية، مسترداً لحظة الخلق الأولى حين قال الله تعالى “كن فيكون”. حينئذ يكون التأمل بالبصر والبصيرة، وصقل مرايا القلب والخيال، وشحذ همة الحواس، خاصة السمع والذائقة الحسية، بما يتجاوز معرفيا حدود الظاهر المخايل بحثا عن ذلك العمق الإلهي الخالد الكامن في الموجودات، وهو ما يمنح النص الوجودي استنارته الكاشفة لمعناه ومغزاه الدلالي المتنوع الآسر والحيوي، حيوية الألوهية الخالدة ذاتها. لا تغدو الموجودات محض وجود مادي زائل وعدمي، بل أحد إمكاناتالخلود الإلهي ألحى، لكن هذا لا يمنح إلا للكمّل بحكم امتلاكهم للتشابه والمناقضةوالضدية، وكلها مساحات مناسبة معرفية، ناهيك عن المجانسة المادية الوجودية رغمالتمايز الروحي. هذا هو معنى جلاء المرآة. لا يستطيع الإنسان الكامل قراءة النصالوجودي، وكتابة نصه التأويلي، كاشفا عن خبايا وأسرار طاقة الحضور الحي للكائنات إلا عبر وعيه الحاد المؤسي بحقيقة انفصامه المؤسي بين العلو والسفل، وجمعيته الإلهية الخالدة، ثم تحققه معرفيا وقيميا بهذا الوعي بالكمال الوجودي المليء بصخب التناقض والمفارقة. هذه الإنسانية الحقة لا وجود لها في كل البشر الذين يشاركون الإنسان الكامل في صورته الظاهرية المادية دون جوهره، وهم من يطلق عليهم أهلالطريق “الإنسان الحيوان”، ويا لها من قسوة نخبوية تنبع من عمق مخايلات القداسة الآسرة.
رحلة الكدح والشقاء البشرى فى هذا السياق، هي رحلة الوعي المرتد إلى عمق الذات، والمقتنص لحضورها من صخب الخارج، والذي يسعى بها في فضاءات الوحشة والخلاء المترعة بزخم الألوهية التي تتوق بدورها لمن يؤنسها، إنسان عينها، وأنسها الذي عبره تأتنس بالموجودات الأخرى الجزئية المبعثرة المتكثرة، فالواحد لا يأتنس إلا بواحده الذي هو هو، وهو غيره فيما يقول الحلاج.
إن هذا الكامل، إنسان عين الله، هو بمثابة العدسة المجمعة للشعاع الإلهي المنتشر، في بؤرتها، حيث تلتقط وحدة الألوهية الكامنة في تنوع الصور وكثرتها وتباينها. ومن ثم فهي تأتنس بكل الموجودات عبر كونها تجليات جزئية للأصل الكلي الواحد القار في عمق الذات الإنسانية الكاملة. بهذا المعنى يحقق الإنسان الكامل القصد الأساسي من الخلق تحقيقاً كاملا حيث تمام المعرفة، وكمال العبادة، ومحض العبودية المطلقة لله دون سواه لأنه وحده يعرف الله ويراه ويعبده فيكافة صور الوجود والمعتقد.
إن العين الإنسانية الكمالية تحرر الصور الوجودية من أسر حضورها المادي الكدر، بقدر ما تحرر المعنى الإلهي من أسر الصور الجزئية، وتطلقه في مداه اللانهائي، فتتحرر هي ذاتها من حدودها الإنسانية، لتقتنص وجودها بوصفها ذاتا كونية جامعة.
عبر هذه العين الكاملة يبزغ نور الألوهية، ويمد الظل منتشرا منخلال مرآتها، موزعَّا عبر صفحة الكون مانحا الكائنات وجودها، ومحررا إياها منسطوة العدم الإمكانى وقبضة الغيب، ليحقق القصد الثانى من الخلق، وهو خلق العالم منأجل الإنسان الكامل مسخرا له، ومحفوظا به.
هكذا تتعرف الألوهية على ذاتها عبر مغايرها الإنساني الكمالي الحميم، وعبر مرآته تشهد كثرتها متجلية في وحدته المنعكسة عن وحدة الأصل مباشرة، إنه وسيطها معرفيا وقيميا ووجوديا. وهو وحده أكمل مجالي الحسن والجمال لألهى، وخاصة المرأة الكاملة مجلى الأنوثة الكونية المنفعلة.
لكن شيئا مثيرا ومدهشا يمكننا أن نلمحه هنا، هو تلك الظلال الواهية لنظرية أفلاطون في الحب والمناقضة لنظرية أريستوفانيس سالفة الذكر. يرى أفلاطون فيما يخبرنا د. محمود رجب في كتابه “فلسفة المرآة” أن الحب البشري هو جنون وهوس إلهي، ذلك أن المحب والمحبوب متى نظر كل منهما في عين الآخر، فإنه لا يرى وجهه بقدر ما يرى وجه الإله، أو وجه الجمال ذاته، مثال الجمال المطلق. أي أن رؤية كل منهما للآخر تخرجهما من نفسيهما انجذابا نحو المطلق، فالحب يفتح الطريق أمام العاشقين إلى السماء، ويؤجج الحنين الجارف للأصل المشترك الميتافيزيقى.
بهذا المعنى الأفلاطوني، وفى ظل ما يمكن أن نطلق عليه نرجسية الإله الخلاقة الفاعلة، فإن الإله حين يتجلى عبر صورة الإنسان الكامل الذي هو إنسان عينه المبرز لجماله الخفي، فإنما يأتنس بذاته عبر تلك الصورة المحققة لأشواق الاكتمال الرائعة. أما الإنسان الكامل نفسه، ففي علاقته بالأصل لا يغدو محض حضور سلبي منفعل فحسب، بل إنه الصورة التي تسعى محمومة لاستلاب صفات الأصل والانسراب في ماهيته المطلقة. إنها حميمية لا تخلو من توتر خلاق، ومخاض لميلاد الذات الإنسانية الكمالية وجودياً عبر الإرتداد إلى ينابيع الصمت والعماء والظلمة والخلاء المطلقة علها تندمج في حضور الأصل، وتمتصه داخلها، حينئذ تولد الذات الكونية.
يقول البسطامى :-
“يصل العبد إلى الله بالخرس والصمم والعمى…”
لائح يشي بإعادة إنتاج النرجسية في اتجاه مضاد، إذ تفنى الذات الشهادية الجزئية، بل تقتل وتدمر لحساب الذات المتخيلة الطامحة لاقتناص شهوة الأصل، والاندماج معه، بل احتواؤه في صميم حضورها، إذ يغدو محض العدم قارا في الصميم من محض الوجود، حيث فضاءات السلب اللانهائية، وحرية اللااكتراث، إن صح التعبير، إذ ينتفي الآخر، وما ثم إلا مطلق الخلاء.
نوع من الجدل النرجسي الخيالي الخلاق الذي لا يخلو من عنف ونزوع ايروتيكي عارم، يقول ابن عربي في فصه المحمدي :
” إن الحق غيور على عبده أن يعتقد أنه يلتذ بغيره وشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله، وأعظم الوصلة النكاح، وهو نظير التوجه الإلهي على من خلق صورته ليخلفه، فيرى فيه نفسه”.
فانتازيا خيالية جامحة وأسطورية تنقلنا عنوة من فضاءات السلطة، وعلاقات التشريع بين العبد والرب إلى فضاءات العاشق والمعشوق وهوس الحب المجنون، حيث يغترب الأصل اغترابا خلاقا ايجابيا عبر صورته الإنسانية الكمالية لاقتناص جماله المطلق عبر حدود الصورة المغايرة، والإئتناس الرهيف بذاته عبر شبحية الطيف، وصورة الخيال، تخفيفا لوطأة الأحدية الصارمة في حين يسعى الفرع أو الصورة بدورها إلى الارتداد بالأصل المغترب في مسار عكسي عبر حضورها الظلالي إلى عمقه ثانية لمعايشة هذا الجمال الآسر المرعب في حيويته اللانهائية، ووحشيته المفعمة بالهوس والجنون في جحيم الإله المستعر ووقدته اللافحة.
يندرج الشبح الكوني منسلا ما بين الأصل وصورته، ومخففا منالإغواء المتبادل في فانتازيا الخيال المجنون، ومستلبا في فتنة الصورة، حجابا على جلال الأصل الصاعق، حينئذ يغدو الكامل فتنة طاغية وهداية حقة، فهو وجه الله العاكس لبهائه وجماله وعظمته، وهو مبعوث الرحمة الإلهية، وحافظ الوجود، بل عمده الماسك له، بلغة الشيخ الأكبر، ولهذا فلا بد لكل زمان من كامل. هكذا ورث الأولياء الصوفية ميراث النبوة، وأسسوا دائرة الولاية لتبتلع داخلها دائرة النبوة ظاهرها وباطنها.
يقول الجنيد السني المعتدل، الذي ينبغي أن يطامن الجموح، ويقاوم تلك الجرأة المفرطة، ويجلى وجه العبادة الصافية من الأغلاط وأخطاء المبتدئين المتطاولين.
“الأنس ارتفاع الحشمة مع وجود الهيبة”…
أتراه كان يخفف الوطأة ويحاصر الهوس بأوهام الاعتدال، أم لعله كان يقارب التخوم دون اقتحامها أو تجاوزها؟ وربما كان يخشى الاحتراق كالفراش يدورحول النار، وقد يكون التكريس اللاواعي عبر مسارب خفيه لذلك الأنس الوحشي الآسر الذي لا يخفف عنفه إلا اختراق الرحمة، ورهافة الجمال، ونسائم المحبة.
يقول البسطامي:
كنت لي كالمرآة
فصرت أنا المرآة…
* عن الاوان
“إن الذات لو تعرت من هذه النسب لم تكن إلها. وهذه النسب أحدثتها أعياننا، فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلها، فلا يعرف حتى نعرف، قال (ص) ” من عرف نفسه عرف ربه “. نعم تعرف ذات أزلية، لا يُعرف أنها إله حتى يعرف المألوه، فهو الدليل عليه”.
وقد قام المتصوفة بهذا الفصل بين الذات المحض المجردة من الصفات، التي لا نعرف عنها سوى إطلاق الوجود المحض وأزليَّته، من ناحية، وبين الألوهية (الذات المتصفة) منذ مرحلة باكرة سواء عبر الإشارة أو العبارة الواضحة، وهو فصل معرفي لا يقوم على أي ثنائية وجودية، حيث يعنى باطن الذات المستور الغيبي في مقابل ظاهرها الذي هو وجهها المتجلي في المخلوقات. ودون الخوض في تفاصيل هذه التفرقة المعقدة، فإن ما يعنينا هنا على وجه الخصوص، هو الألوهية التي هي مجموع الأسماء والصفات أي النسب العرضية المتوسطة المشتركة بين الخالق والمخلوق إذ تنسب لكليهما وفقاً للهوية المتباينة تباين المطلق والنسبي، وهى وحدها مساحة التفاعل والتبادل والمشاركة والمعرفة والعبادة، والاستدلال بالدليل على المدلول…الخ.
إنها فضاء صياغة العلاقات المحتملة بين الإله والمألوه الذي إذا عرف نفسه عرف ربه، أي أصله المتجلي به وعبر مراياه الشهادية، والذي يمنحه الوجود والحضور والخصوصية داخل الهيراركية الوجودية. أما الذات المحض، اللاهوت السلبي، فلا تدرك إلا بالعجز عن إدراكها، وليس إلا علاقات السلب، والاستغناء الذاتي للوجود المحض مقابل الافتقار الذاتي للعدم المحض، لكن ما يثير الانتباه حقا هو أن العدم المحض يستكن صلب الوجودالمحض لأن كليهما سلب مطلق. أما الأمر الآخر الأكثر إدهاشا في هذا السياق، فهو أنهذا الحديث عن ذات أزلية مجهولة إطلاقية الوجود، يستثير في الأذهان أساطير وديانات أمومية قديمة حيث الآلهة الأنثى المحتجبة دوما، كلية الحضور والشمول، الأم الأصلية نمو السومرية أو تعامة البابلية للإله الذكور المعبود.
تتجلى الأسماء والصفات الإلهية في صور المخلوقات، لا تعطل فاعليتها، ولا يسلب حضورها، ولا تغدو مساحة ممكنة لتشبيه أو تجسيم، لأنها هي هو، وهي غيره، كالأصل والصورة في المرآة، يقول ابن عربى:
” لما شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى أن يرى أعيانها، وإن شئت قلت أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر كله، لكونه متصفا بالوجود، ويظهر به سره إليه، فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة، فإنه يظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل، ولا تجليه له. وقد كان الحق سبحانه أوجد العالم كله وجود شبح مسوى لا روح فيه، فكان كمرآة غير مجلوة… فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة، وروح تلك الصورة… فسمي إنساناً… لعموم نشأته وحصره الحقائق كلها، وهو للحق بمنزلة إنسان العين الذي يكون به النظر، وهو المعبرعنه بالبصر، فلهذا سمي إنساناً، فإذا به ينظر الحق إلى خلقه، فيرحمهم”.
إن علاقة الأسماء الإلهية بتجلياتها العينية الوجودية هي علاقة الأصول بصورها المنعكسة في المرايا التي تتكشف بمعانيها وأحكامها الباطنية، فتظهرها في العالم الشهادي المرئي. ولا بد لنا أن نلتفت هنا إلى علاقة الأصل بصورالمرايا، وهى العلاقة التي تحقق المعادلة الصعبة، حيث تنبني الثنائية الوجودية معرفيا دون أن تفت في عضد وحدة الأصل أو تدعي اقتناص ماهيته الوجودية المنفردة التي لا قدم لها فيها. ذلك أن صورة المرآة تغاير الأصل معرفياً ووجودياً، فنحن حينما ننظر في المرآة نواجه آخر يشبهنا ويعكس صورتنا بقدر ما يكشف لنا عن المغايرة والاختلاف. إنه تأسيس للمغايرة والثنائية في عمق التشابه والوحدة، حيث أن صورة المرآة هي الظل الناتج من عمق الأصل يشبهه، ويغايره في آن. حين ننظر في المرآة فنحن نمارس نوعا من انقسام الوعي على ذاته، أو البينونة، إذ تباين الذات ذاتها، وتجلي حضورها عبر آخر متخيل هو هي، وهو غيرها، يتبادل النظر وإياها، يحاورها ويحاكيها (محاكاة وحكيا) من أجل إعادة الاكتشاف والفهم والتعرف المجدد، وتقييم المسار وإعادة صياغته في لحظة الآن الطازجة.
ولا تتحقق المغايرة معرفيا، فحسب، بل إنها كذلك على مستوى الملمس الوجودي، فالأصل حضور مادي واقعي متجسد، بينماالصورة حضور شبحي خيالي متوسط ما بين الحسية والتجريد، لكن الصورة تدور مع الأصل وجوداً وعدما، ومن ثم فهي ليست مستقلة عنه، ووجودها ليس لها من ذاتها، بل هو إمداد من الأصل. ووفقاً لهذا، فإن وجود الصور الحسية الوجودية العدمية هو وجود مستعار مقارنة بالأصل الإلهي الغيبي الخالد المجرد، بل أن ابن عربي يشبهه بالرداء الملقى على كاهل الموجود الذي هو محض إمكان مقدر وثابت في العلم الإلهي القديم، مخيلة الحق الخالدة، وقد منحه هذا الوجود المستعار سحر المرئي وسطوعه المجازى المخايل. وبالطبع فمتى أراد الأصل سلب الصورة وجودها استطاع محوها من صفحة المرآة العاكسة التي هي المحل المسوى لقبول الصورة، وكأنها إحدى تجليات الهيولى الأصلية. وتتحقق مغايرة التنوع أو التعددية الوجودية عبر اختلاف طبيعة هذا المحل المنظور فيه، المسوى لتلقى الصورة، بل إن هذا هو سر مغايرة الفرع للأصل أو الصورة للاسم الإلهي المتجلي عبر المرآة. ناهيك عن مباينة النسب من حيث علاقتها بكنه الأصل، والتي تختلف جذريا عن علاقتها بكنه الانعكاس الصوري، مجلى الأصل.
إن المشاركة فى الماهية الأصلية هنا هي مشاركة ادعاء الوجود بالقياس إلى الوجود الحقيقي الأصلي وهو ما ينجز المغايرة والتنوع على أساس من هذه الأرضية الأصلية. إن الموجودات هي تنويعات صورية على تيمة الأصل، إذا صح التعبير، ولابد أن نحترز هنا لمسألة هامة، ذلك أن الموجودات لا يمكن أن تغدو محض أوهام أوصور منحطة أنطولوجيا بالقياس للأصل، كما في التصور الأفلاطوني فى أسطورة الكهف، بلهي مراتب وتجليات وجودية متفاوتة للأصل ما بين الانعكاس المباشر، وظل الظل، لكنها جميعاً حقيقية لأنها خيالات المطلق، وليست خيالات الإنسان النسبي، حيث لا يمكن أن يهدر التصور الصوفي الإسلامي الثنائية نهائيا فيغدو الإله حاكما ومتألها على عالم وهمي، وهو ما ينفى قصدية النبوة والتشريع والعقيدة، بل قصدية الولاية الصوفية ذاتها. وتتفاوت المحال المسواة لتلقي الصور وفقا للرغبة الإلهية القاهرة في الإعلان الكوني الصاخب المحتفي بالألوهية المتجلية والتي دفعت الحق سبحانه لخلق وإبداع التناغم والتناسب الكوني الذي لا مثيل له، والذي يجلى العدالة الإلهية أو الحقالإلهي، حيث إعطاء كل شيء حقه وخلقه بما يمنحه مكانته الخاصة به في النظام الكوني المتماسك ليؤدى داخل تراتبه المحدد له سلفا، وظيفته المنوطة به بما يضمن لهذا النظام استمرارية ودوام التوازن واستقراره دون أدنى خلل من منظور الألوهية، وإن لم يتبدّ لنا نحن العاجزين عن إدراك حكمة الخفاء.
تحقق المخلوقات شرط المغايرة جزئيا لأن كل مخلوق هو مجلى لاسم من الأسماء الإلهية، وليس جامعا لها، فكل اسم إلهي يأتنس بمجلاه، كما أن كل مجلى يلوذ باسمه، كما قال النبي فيما يروي المتصوفة، “من عرف نفسه عرف ربه”. إنها لعبة التبادل المرآوي ثانية، فحين ترتد الذات إلى عمق ذاتها مقتنصة حضورها من صخب الخارج وفوضاه وتشتته تعي حقيقتها عبر انفتاح نوافذ وعيها على أصلها الغيبي المتجلي عبرها. إلا أن هذه المغايرة الجزئية لا تحقق الهدف الإلهي الأسمى من الخلق، المعرفة الجامعة والعبادة التامة، ولا تمنح الألوهية الشاملة مساحة الإئتناس الحقة الكاملة بصورتها، فليس إلا مساحات الأنس الجزئي المتعدد، ذلك أن الإئتناس والحميمية الحقة يتطلبان أن تكون الصورة جامعة لصفات الأصل، عاكسة وكاشفة لاكتماله وبهائه. إنه الفرق بين النظرة التي يستلبها التشتت الكوني، والنظرة التي تحدق في عمق الوحدة الكامنة وراء هذا التشتت الكوني وتلك الكثرة، فتعي النظام والانسجام ووحدة الحقيقة المطلقة.
أسطورة عتيقة تقول أن الإلهي اللامرئي لابد أن يتجلى عبر الوسائط الكونية المرآوية لأنه لا يمكن أن يسفر عن حضوره المبهر للبشر الفانين فيقضى عليهم صعقاً، ذلك أن الإلهي حينما يسطع نوره ويتلألأ بهاؤه، إنما يصيب الناظر إليه بالدهش أو عشى العينين، وكل من يحاول تأمله مباشرة، ووجها لوجه قضى عليه بالهلاك المحقق، ولذا تتخذ الآلهة لنفسها مظاهر عينية حسية، تخفيها بقدر ما تكشفها.
وفى الحديث القدسي يقول تعالى :
“كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني ”
إن المخلوقات دلائل كونية تكشف عن الوجود الإلهى القدير، وهى في نفس الوقت بمثابة رموز مكثفة الحضور والدلالة، ينجلي عبرها اللغز الإلهي، بقدر، فيعرف الحق، ويعبد، مصداقا لقوله تعالى “وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون”. ويفسر ابن عربي الحديث القدسي سالف الذكر قائلا :
“أن الأصل حركة العالم من العدم الذي كان ساكنا فيه إلى الوجود، ولذلك يقال أن الأمر حركة عن سكون. فكانت الحركة التي هي وجود العالم حركة حب.. . فلو لا هذه المحبة ما ظهر العالم… حب من جانب الحق، وجانب العالم… فإن الكمال محبوب لذاته… فكمل الوجود فكان حركة العالم حبية للكمال”.
حب ينبع من الأصل الميتافيزيقى، فالأسماء الإلهية تتوق للتنفيس عن حضورها وممارسة فاعليتها وتأثيرها، ومن ثم يريحها الحق من هذا التوق، فيجليها عبر صور الموجودات لتظهر آثارها فى عين مسمى العالم. أما المخلوقات فهي بدورها تتوق لأن تخرج من حصار قبضة العدم الإمكاني، حين كانت ثابتة لم تزل، محض صور متخيلة فيغيب الإله (الخيال الوجودي)، ورغبة متأججة في التحقق بالاكتمال الوجودي، وبلوغ الغاية المنوطة بها، فتتحرك من توتر الإمكان إلى الوجود الفعلي الذي هو بدوره حالة من الاستقرار النسبي المؤقت بالقياس لسكينة الغيب الخالدة. وحين تتحقق الموجودات بأشواقها الوجودية، فإنها بقدر ما تتحرر من قبضة العدم، تحرر الأسماء الإلهية منالحضور المعطل السلبي، حيث تبرز أحكامها وآثارها المتنوعة التي وسعت كل شيء وجودا وحكما حتى الأسماء الإلهية ذاتها!
ولعلنا نلاحظ أن هذا الحب أو التوق والاشتياق ليس متبادلا بالمعنى الدارج أو المتعارف عليه، فهو نوع من المحبة النرجسية الخلاقة تمارسه الذات إزاء ذاتها عبر الآخر المرآة العاكسة إذ تحتفي باكتمالها وذروة تحققها. فالأسماء الإلهية تتوق لرؤية أحكامها، وفاعليتها المؤثرة عبر صور مراياها الحسية، وتستمع بل تلتذ برؤية تأثيرها الخلاق. أما الكائنات فهي بدورها تعشق تحققها بالوجود بقدرما تتوق إلى الإعلان الاستعراضي الصاخب عن هذا الحضور البهي، المرتدي رداء الاسم الإلهي، والمجلي لزينته. إنه عشق اكتمال الإله بالمألوه، والعكس صحيح، وهواكتمال أريستوفانى الهوى.
أريستوفانيس، فيما يخبرنا محمود رجب في كتابه الرائع “فلسفةالمرآة” يقيم نظرية رمزية في الحب، أوردها أفلاطون في محاورة “المأدبة”، كنظرية نقيضة لنظريته. تنبني النظرية الأريستوفانية على ما يتميز به الرمز في معناه اليوناني الأصلى من خاصتين أساسيتين هما.. الانقسام والاكتمال، أو التجزيء والتوحيد، أو الاختلاف والائتلاف. فاللفظ اليوناني الدال على الرمز، وهو symbolon مأخوذ من فعل symballein أي : يتوافق أو يتطابق، بمعنى أن يتوافق جزء مع جزئه الآخر، الشبيه به فيتحدان أو أن يتطابق نصفه مع نصفه الآخر المماثل له فيكتمل كل منهما بالآخر. فالحب إذن، هو تعبير عن الإحساس بعدم الاكتمال من ناحية، وعن الحنين إلى الوحدة والتكامل، من ناحية ثانية.
لكن لننتبه، فهذه هي مساحات التوق المتبادلة بين الأسماء الإلهية، والمخلوقات المنبثقة من عمقها الغيبي لكنها ظلالها التي تنطوي عليها وتكتمل بحضورها. ومن المثير للانتباه فى هذا الصدد، أن يعتبر ابن عربي الأسماء الإلهية من الأشياء لأنها من حيث ظاهرها الذي إلى عالم المخلوقات، تجلياتها الحسية، ليست هي الذات، بل هي غيرها، صورها لا ماهيتها، وصور الذات الإسمائية تكتمل بصورها الحسية، المخلوقات.
ومن الأفكار الغامضة المحيرة في هذا الصدد، ما ذكره ابن عربي في”فصوص الحكم”، نص النضج الآسر، قائلا:
” أول ما وسعت رحمة الله شيئية تلك العين الموجودة للرحمة بالرحمة، فأول شيء وسعته الرحمة نفسها ثم الشيئية المشار إليها، ثم شيئية كل موجود”.
ويقدم لنا أبو العلا عفيفى تعليقا لافتا على هذا النص، إذ يراه معبرا عن مرحلة التجلي الأقدس، أي تجلى الذات لذاتها حين كانت، ولا شيء معها فيعماء، وهو ما سبق أن عبر عنه الحلاج بقوله:
“تجلى الحق لنفسه في الأزل قبل أن يخلق الخلق، وقبل أن يعلم الخلق، وجرى له في حضرة أحديته مع نفسه حديث لا كلام فيه ولا حروف، وشاهد سبحان ذاته في ذاته في الأزل، حيث كان الحق ولا شيء معه، نظر إلى ذاته، فأحبها وأثنىعلى نفسه، فكان هذا تجليا لذاته في ذاته في صورة المحبة المنزهة عن كل وصف، وكل حد وكانت هذه المحبة علة الوجود، والسبب في الكثرة الوجودية”.
لحظة وراء البدء في ما يمكن أن نطلق عليه أزل الحق، وعماءه الأول مجازا، ذلك أن مخيلتنا البشرية تأبى إلا أن يدور الحدث في ظل فضاء سردي محدد المعالم، لزمان ومكان ما، ولو بسلبهما وتعيينهما بما ينفيهما من أزل وعماء… لا علم، لا لغة، لا كلام، ولا ثنائيات أو انقسامات لما نطلق عليه الوعي أو الإدارك المعرفي الذي نفهمه ونصفه بقدر حدنا الإنسانى. حديث يدور في حضرة الأحدية الأزلية، ويا لها من مفارقة أن ينطوي مطلق القدم على الحديث، مدار التجدد والطزاجة والحركة والتغير، ولعله تعبير يشي بالإمكانات الواعدة المستترة في عمق الذات المحض، للألوهية الوليدة، التي هي كل يوم في شأن، والتي ستبزغ عبر حركة التجلي الثانية التي يطلق عليها ابن عربي “التجلي المقدس”، حيث يتجلى الواحد الحق لذاته في صورالأسماء الإلهية التي تتجلى بدورها في صور الموجودات من حيث وجودها القديم في باطن الغيب المطلق، وهى مرحلة خلق التقدير في العلم أو المخيلة الإلهية القديمة الخالدة.
أما المفارقة الثانية اللافتة فهي كون الحديث يمارس في حضرة الأحدية المطلقة، حيث لا انقسام ولا ثنائية، ولعله أشبه بحديث البينونة البشرية المعرفية حيث يمارس الإنسان حوارا داخليا هو نوع من المنولوج الشخصي، وليس ديالوغا مع الآخر المغاير فعليا، إنه حديث النفس بيني وبيني في خلوة عازلة عن الآخر، أي آخر. وبالطبع، فليس هذا غير مثال تقريبي، حيث أن الفارق ضخم بين حديث الأحدية الإلهية مع ذاتها في الأزل والعماء، من ناحية، وبين الحديث الإنساني، حديث البينونة الداخلي، من ناحية ثانية، ذلك أن حديث النفس لا يخلو ٍمن انقسام متخيل للأنا، وتكاد تكون خلوته مصطنعة قسرا، إذ يستحيل أن تخلو مطلقا من الحضور المتخيل للآخر المشارك، سواء كان مؤنسا خفيا، أو مقتحما مهددا وعنيفا، أو مخايلا مغويا ومشتهى، أو حتى مقصيا ومرفوضا ومنكرا.
إن البينونة الإلهية في الأزل، إن جاز التعبير، هي بينونة الخلاء المطلق، حيث لا وجود لآخر، سواء على مستوى التقدير العلمي أو التكوينالشهادى الفعلي. أما الحديث الإلهي ذاته فهو الصمت المطلق، وهو ليس نقيض الكلام المتعارف عليه بشريا، بل أنه تعبير عن المعنى البكر النقي البسيط الذي لم ولن تفسده أو تشوهه أو تعتدى على نقائه أو تبتسر إطلاقيته ووحدته الألفاظ والكلمات والحروف، أنه كلام الله الأزلي فيما قبل الانقسام والتوجه التشريعى للمخلوقات. ولعلنا نلاحظ ظلالا خفية منسربة من أقوال عبد الله بن سعيد الكلابي [من الصفاتية الأوائل ت 240هـ ] التي أوردها أحمد صبحي في كتابه عن علم الكلام حيث قال الكلابى بأزلية كلام الله، إلا أن الكلام عنده لا يتصف بالأمر والنهى والخبر في الأزل، وإنما يتصف بذلك عند وجود المخاطبين واستجماعهم شرائط المأمورين المنهيين. ولكن ما القديم في كلام الله ؟ إنه ما يطلق عليه الكلابي، الكلام النفسي القديم المتصل بعلم الله، والذي ليس بحروف ولا أصوات ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتغاير، إنه معنى واحد قائم بالله، والذكر قديم والمذكور محدث، والمتلو قديم، والتلاوة محدثة، ولم يزل الله متكلما قبل تسمية كلامه أمرا أو نهيا أو خبرا أو استخبارا.وبالطبع فإن هذه التفرقة المبكرة بين قدم الكلام الإلهي وحدوثه طُرحت ككل لكي لاتغدو ذات الله محلا للحوادث، لكنها تومئ من ناحية أخرى إلى أن مشكلة خلق القرآن بدأت مبكرا، وقد بلغت ذروتها مع المعتزلة. ولقد نقل الأشاعرة رأي ابن كلاب هذا حول الكلام النفسي القديم، لكنهم كانوا يرون جواز توجه الخطاب الشرعي إلى المعدوم،ويا لها من مفارقة لافتة!
إن الأحدية المصمتة الأولى تعي ذاتها في ذاتها خارج إطار مفاهيم الوعي واللغة، وثنائيات وطرائق كليهما الإنسانية النسبية، لكننا لا نملك إلاحدودنا، وفيما رأى الغزالي فنحن نعرف الله عبر مرايانا ونسبنا وصفاتنا، وليس إلا العجز عن الإدارك، وهو في حد ذاته إدراك.
إئتناس حقيقي، وحميمية ذاتية إلهية مطلقة، حيث تبزغ صورة للذات، هي صورة الجمال المنزه عن كل وصف وحد، محض قيمة جمالية مطلقة ومجردة فيما وراء هواجس التجسيد، وأوهام المتخيل والمرئي، وانقسامات النظرة عبر المرآة.
جمال يأتنس بحضوره المطلق العارم المكتمل، ولعله الوحشي لا نهائي الحضور، والسحر والرعب في آن، لكن تنزيهه عن الوصف والحد يخترق أنس الأصل بذاته، بوحشة ما تنسرب في ثنايا الأزل، وتجلى توق الأصل لأن يرى جماله اللامحدود، متجسدا في آخر يغايره، فتبرز تفاصيله، وتعرف قيمته، وتجلى قدرته، فيعرف ويعبد ويعشق لأن رؤية الشيء نفسه بنفسه في نفسه، ليست كرؤيته في آخر مختلف. ولعل هذا هو شرط حدوث أنس العين القائم على الانفصال والظهور والتجسد.
يقول الحلاج :
“ثم شاء الحق سبحانه أن يرى ذلك الحب الذاتي ماثلا في صورة خارجية يشاهدها ويخاطبها، فنظر في الأزل، وأخرج من العدم صورة من نفسه لها كل صفاته وأسمائه وهى آدم الذي جعل الله صورته أبد الدهر، وعظمته ومجده واختاره لنفسه”
ولعلنا نلاحظ إلى أي مدى يتناص ابن عربي مع الحلاج، ويعيد إنتاج خطابه بصورة أكثر نضجا وتفصيلا وتعقيدا في آن.
الله، الرحمن، الحق، تعبر كل هذه الأسماء عن جمعية الأسماء الإلهية في الواحد، أول انبثاق من الأحدية، ومفارقة لها لأنه ينطوي بدوره علىمفهوم الكثرة بوصفه أول العدد. إنه الانتقال المقدس من الذات المحض للألوهية الموحدة، والتي ستنجلي بدورها عبر الظلال الخيالية في عالم الغيب لتبرز لنا كثرة الأسماء، فنخرج من التأمل المجرد حين كانت الذات تمعن النظر في شؤونها الذاتية التي هي نتاج حب ذاتي محض، وهى تكاد تشبه مثل أفلاطون المجردة، إلى كثرة الصور أوالمثل المعلقة بلغة السهروردي المقتول في عالم الخيال الوجودي، مخيلة الله.
اشتاق الإله لصورته، وتوهجت نيرانه الخالدة المستعرة التي أحاطت بردا وسلاما بإبراهيم، وتجلت رفقا ورحمة وجلالا في الوادي المقدس طوى لموسى، وهوما عبر عنها ابن عربي في فصه المحمدي قائلاً:
“ألا تراه خلقه على صورته لأنه من روحه… فكانت روح الإنسان نارا، ولهذا ما كلم الله موسى إلا في صورة النار، وجعل حاجته فيها… وبطن نفس الرحمن فيما كان به الإنسان إنسانا “.
تجانس لافت ومربك بين الروح الإنساني الذي هو تعبير صادق عن قوله تعالى “ونفخت فيه من روحي”، وبين نيران الألوهية الشاهقة، وهو ما قد يدحض التفاضل الشيطاني العتيق المدعى، ولعله يدمج ما بين الطرفين المتصارعين ليجلى ملامح صورة واحدة للإله لا تنقسم إلى سلب وإيجاب. ناهيك عن أن نيران الروح الإلهي التي منها انبثقت الروح الإنسانية كانت في أغلب تجلياتها تنطوي على الرحمة واللطف التي سبقت الغضب والانتقام، ناهيك عن نفحة الجمال الرفيقة، لكن عنف الجلال، وعرامة القوة الساحقة، ربما أسفرت عن نماذج كفرعون والنمرود وطغاة البشرية، أضمروا في أعماقهم ولاية مستترة كقرينهم الشيطاني أسير لعنة الهجر والتخلي وعشق الأبد. ومن المثير للانتباه في هذا السياق أن عشتار الإلهة الأم في حضارة بابل القديمة كانت توصف بأنها سيدة الشعلة، وكانت النار إحدى رموزها الأساسية. على أية حال، وبعيدا عن إثارة الهواجس والريب، فإن هذه المجانسة النارية هي أصل اشتياق الإله لصورته الحاملة الجامعة لصفاته وأسمائه المصطفاة المختارة، الإنسان الكامل، يقول ابن عربي: ” فلما أبان أنه نفخ فيه من روحه، فما اشتاق إلا لنفسه “توق إلهي ورغبة نارية وآلهة لتأسيس المغايرة الحميمة الحقة، الجامعة، لا الجزئية، هي ما دفع الحق لأن يرى عينه مكتملة في صورت هالمنعكسة في آخر نسبي، لكنه جامع يحصر الأمر كله.
إنه ذلك المختصر الوجيز، الإنسان الصغير مرآة عاكسة وجامعة لكل ما في الكون الكبير، وبطموح أعلى للحقائق الكونية والإلهية معا، وليست المسألة مجرد كثرة تجتمع في ذلك الكيان، بل حضور يسعى محموما لاقتناص صورة الإله-الإنسان روح العالم، بدونه يغدو العالم محض شبح مسوى بدون روح. إن آدم هو عين جلاء تلك المرآة فيما يقول ابن عربي الساحر الدعي – ترى، ماذا يعنى بقوله هذا؟ لعله يقصد أن الإنسان آدم هو الذي يمنح العالم المتشظي لنظام والوحدة، ذلك أن الموجودات الأخرى هي محض تجليات جزئية مبعثرة للأسماء الإلهية، ولا تكاد تعي منها إلا حدود حضورها الجزئي عبر التجلي الخاص بها وفيها وعبرها.
ان الإنسان الكامل يمنح العالم المعنى والتناغم والانسجام الهارمونى، ويعي الوحدة المنسربة في عمق الكثرة والكامنة وراء التنوع اللانهائي، أي أنه يخلق، بل يبدع نصية العالم الذي هو كلمات الله كما في قوله تعالى “لو كان البحر مدادا لما نفدت كلمات ربى”. يسعى الإنسان الكامل لإعادة كتابة النص الوجودي، في سياقات مفهومة كونيا وإنسانيا، ولعله يحاول طموحا ومجترأ أن يكتب نصه الموازى تأويليا لرموز الوجود ونصوصه الإلهية، مسترداً لحظة الخلق الأولى حين قال الله تعالى “كن فيكون”. حينئذ يكون التأمل بالبصر والبصيرة، وصقل مرايا القلب والخيال، وشحذ همة الحواس، خاصة السمع والذائقة الحسية، بما يتجاوز معرفيا حدود الظاهر المخايل بحثا عن ذلك العمق الإلهي الخالد الكامن في الموجودات، وهو ما يمنح النص الوجودي استنارته الكاشفة لمعناه ومغزاه الدلالي المتنوع الآسر والحيوي، حيوية الألوهية الخالدة ذاتها. لا تغدو الموجودات محض وجود مادي زائل وعدمي، بل أحد إمكاناتالخلود الإلهي ألحى، لكن هذا لا يمنح إلا للكمّل بحكم امتلاكهم للتشابه والمناقضةوالضدية، وكلها مساحات مناسبة معرفية، ناهيك عن المجانسة المادية الوجودية رغمالتمايز الروحي. هذا هو معنى جلاء المرآة. لا يستطيع الإنسان الكامل قراءة النصالوجودي، وكتابة نصه التأويلي، كاشفا عن خبايا وأسرار طاقة الحضور الحي للكائنات إلا عبر وعيه الحاد المؤسي بحقيقة انفصامه المؤسي بين العلو والسفل، وجمعيته الإلهية الخالدة، ثم تحققه معرفيا وقيميا بهذا الوعي بالكمال الوجودي المليء بصخب التناقض والمفارقة. هذه الإنسانية الحقة لا وجود لها في كل البشر الذين يشاركون الإنسان الكامل في صورته الظاهرية المادية دون جوهره، وهم من يطلق عليهم أهلالطريق “الإنسان الحيوان”، ويا لها من قسوة نخبوية تنبع من عمق مخايلات القداسة الآسرة.
رحلة الكدح والشقاء البشرى فى هذا السياق، هي رحلة الوعي المرتد إلى عمق الذات، والمقتنص لحضورها من صخب الخارج، والذي يسعى بها في فضاءات الوحشة والخلاء المترعة بزخم الألوهية التي تتوق بدورها لمن يؤنسها، إنسان عينها، وأنسها الذي عبره تأتنس بالموجودات الأخرى الجزئية المبعثرة المتكثرة، فالواحد لا يأتنس إلا بواحده الذي هو هو، وهو غيره فيما يقول الحلاج.
إن هذا الكامل، إنسان عين الله، هو بمثابة العدسة المجمعة للشعاع الإلهي المنتشر، في بؤرتها، حيث تلتقط وحدة الألوهية الكامنة في تنوع الصور وكثرتها وتباينها. ومن ثم فهي تأتنس بكل الموجودات عبر كونها تجليات جزئية للأصل الكلي الواحد القار في عمق الذات الإنسانية الكاملة. بهذا المعنى يحقق الإنسان الكامل القصد الأساسي من الخلق تحقيقاً كاملا حيث تمام المعرفة، وكمال العبادة، ومحض العبودية المطلقة لله دون سواه لأنه وحده يعرف الله ويراه ويعبده فيكافة صور الوجود والمعتقد.
إن العين الإنسانية الكمالية تحرر الصور الوجودية من أسر حضورها المادي الكدر، بقدر ما تحرر المعنى الإلهي من أسر الصور الجزئية، وتطلقه في مداه اللانهائي، فتتحرر هي ذاتها من حدودها الإنسانية، لتقتنص وجودها بوصفها ذاتا كونية جامعة.
عبر هذه العين الكاملة يبزغ نور الألوهية، ويمد الظل منتشرا منخلال مرآتها، موزعَّا عبر صفحة الكون مانحا الكائنات وجودها، ومحررا إياها منسطوة العدم الإمكانى وقبضة الغيب، ليحقق القصد الثانى من الخلق، وهو خلق العالم منأجل الإنسان الكامل مسخرا له، ومحفوظا به.
هكذا تتعرف الألوهية على ذاتها عبر مغايرها الإنساني الكمالي الحميم، وعبر مرآته تشهد كثرتها متجلية في وحدته المنعكسة عن وحدة الأصل مباشرة، إنه وسيطها معرفيا وقيميا ووجوديا. وهو وحده أكمل مجالي الحسن والجمال لألهى، وخاصة المرأة الكاملة مجلى الأنوثة الكونية المنفعلة.
لكن شيئا مثيرا ومدهشا يمكننا أن نلمحه هنا، هو تلك الظلال الواهية لنظرية أفلاطون في الحب والمناقضة لنظرية أريستوفانيس سالفة الذكر. يرى أفلاطون فيما يخبرنا د. محمود رجب في كتابه “فلسفة المرآة” أن الحب البشري هو جنون وهوس إلهي، ذلك أن المحب والمحبوب متى نظر كل منهما في عين الآخر، فإنه لا يرى وجهه بقدر ما يرى وجه الإله، أو وجه الجمال ذاته، مثال الجمال المطلق. أي أن رؤية كل منهما للآخر تخرجهما من نفسيهما انجذابا نحو المطلق، فالحب يفتح الطريق أمام العاشقين إلى السماء، ويؤجج الحنين الجارف للأصل المشترك الميتافيزيقى.
بهذا المعنى الأفلاطوني، وفى ظل ما يمكن أن نطلق عليه نرجسية الإله الخلاقة الفاعلة، فإن الإله حين يتجلى عبر صورة الإنسان الكامل الذي هو إنسان عينه المبرز لجماله الخفي، فإنما يأتنس بذاته عبر تلك الصورة المحققة لأشواق الاكتمال الرائعة. أما الإنسان الكامل نفسه، ففي علاقته بالأصل لا يغدو محض حضور سلبي منفعل فحسب، بل إنه الصورة التي تسعى محمومة لاستلاب صفات الأصل والانسراب في ماهيته المطلقة. إنها حميمية لا تخلو من توتر خلاق، ومخاض لميلاد الذات الإنسانية الكمالية وجودياً عبر الإرتداد إلى ينابيع الصمت والعماء والظلمة والخلاء المطلقة علها تندمج في حضور الأصل، وتمتصه داخلها، حينئذ تولد الذات الكونية.
يقول البسطامى :-
“يصل العبد إلى الله بالخرس والصمم والعمى…”
لائح يشي بإعادة إنتاج النرجسية في اتجاه مضاد، إذ تفنى الذات الشهادية الجزئية، بل تقتل وتدمر لحساب الذات المتخيلة الطامحة لاقتناص شهوة الأصل، والاندماج معه، بل احتواؤه في صميم حضورها، إذ يغدو محض العدم قارا في الصميم من محض الوجود، حيث فضاءات السلب اللانهائية، وحرية اللااكتراث، إن صح التعبير، إذ ينتفي الآخر، وما ثم إلا مطلق الخلاء.
نوع من الجدل النرجسي الخيالي الخلاق الذي لا يخلو من عنف ونزوع ايروتيكي عارم، يقول ابن عربي في فصه المحمدي :
” إن الحق غيور على عبده أن يعتقد أنه يلتذ بغيره وشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله، وأعظم الوصلة النكاح، وهو نظير التوجه الإلهي على من خلق صورته ليخلفه، فيرى فيه نفسه”.
فانتازيا خيالية جامحة وأسطورية تنقلنا عنوة من فضاءات السلطة، وعلاقات التشريع بين العبد والرب إلى فضاءات العاشق والمعشوق وهوس الحب المجنون، حيث يغترب الأصل اغترابا خلاقا ايجابيا عبر صورته الإنسانية الكمالية لاقتناص جماله المطلق عبر حدود الصورة المغايرة، والإئتناس الرهيف بذاته عبر شبحية الطيف، وصورة الخيال، تخفيفا لوطأة الأحدية الصارمة في حين يسعى الفرع أو الصورة بدورها إلى الارتداد بالأصل المغترب في مسار عكسي عبر حضورها الظلالي إلى عمقه ثانية لمعايشة هذا الجمال الآسر المرعب في حيويته اللانهائية، ووحشيته المفعمة بالهوس والجنون في جحيم الإله المستعر ووقدته اللافحة.
يندرج الشبح الكوني منسلا ما بين الأصل وصورته، ومخففا منالإغواء المتبادل في فانتازيا الخيال المجنون، ومستلبا في فتنة الصورة، حجابا على جلال الأصل الصاعق، حينئذ يغدو الكامل فتنة طاغية وهداية حقة، فهو وجه الله العاكس لبهائه وجماله وعظمته، وهو مبعوث الرحمة الإلهية، وحافظ الوجود، بل عمده الماسك له، بلغة الشيخ الأكبر، ولهذا فلا بد لكل زمان من كامل. هكذا ورث الأولياء الصوفية ميراث النبوة، وأسسوا دائرة الولاية لتبتلع داخلها دائرة النبوة ظاهرها وباطنها.
يقول الجنيد السني المعتدل، الذي ينبغي أن يطامن الجموح، ويقاوم تلك الجرأة المفرطة، ويجلى وجه العبادة الصافية من الأغلاط وأخطاء المبتدئين المتطاولين.
“الأنس ارتفاع الحشمة مع وجود الهيبة”…
أتراه كان يخفف الوطأة ويحاصر الهوس بأوهام الاعتدال، أم لعله كان يقارب التخوم دون اقتحامها أو تجاوزها؟ وربما كان يخشى الاحتراق كالفراش يدورحول النار، وقد يكون التكريس اللاواعي عبر مسارب خفيه لذلك الأنس الوحشي الآسر الذي لا يخفف عنفه إلا اختراق الرحمة، ورهافة الجمال، ونسائم المحبة.
يقول البسطامي:
كنت لي كالمرآة
فصرت أنا المرآة…
* عن الاوان