نحن لا ندعي، وأنتم لا تنكرون أن ثمة صراعاً دائماً بين القديم والجديد بين أشكال الفنون قاطبة، وتلك هي سنة الحياة، فمن رحم القديم يولد الجديد، ومن رحم الأم يولد الجنين. تلك حقيقة نعتقدها، إلا أن بعضنا ما زال محكوما بالثقافة العربية المتعالقة منذ قرون بعقلية القبيلة، أي بالتفرد والواحدية، ورفض التعددية. لهذا تشهر السكاكين والخناجر ضد كل جديد يمكن أن يخلخل نمط القبيلة، فالقصيدة العمودية كانت لعدة قرون هي النمط الشعري السائد في الذهنية العربية.
السرد وقصيدة النثر:
انطلاقاً مما تحدثنا عنه من سرد في الشعرية العربية القديمة والحديثة، نؤكد أن قصيدة النثر في علاقتها بالسرد أو تمازج السرد في مكوناتها الجمالية، لم يأت من فراغ، بل ارتكز إلى أشكال أخرى سابقة. واعتماد قصيدة النثر على التجريب واختيار سبل عديدة، هذا لا يعني أنها أضحت بديلا عن الأنماط الشعرية الأخرى، بل هي جزء لا يتجزأ من المشهد الشعري الراهن، تتجاور وتتجاوز وتتشابك مع تلك الأنماط.
لقد استندت قصيدة النثر في بنيتها بشكل جوهري إلى السرد، فهي بتواطئها باستمرار مع أجناس قريبة منها، كما عبرت سوزان برنار، تحطيمها للإيقاع الخارجي، وجدت نفسها تعتمد بشكل كبير على السرد والحكي والحوار والخبر والاستغراق في تصوير الجزئيات، والتركيز على المفارقة، وهي كلها من خصائص فن القص. وتؤكد "مارغوريت مورفي" على تمازج قصيدة النثر بفن السرد، تقول: هذا الجنس الأدبي المبتدع، والذي يشبه بسهولة شديدة أنواع النثر الأخرى، لهذا كثيرا ما يتم خلطه مع مقتطفات من أشكال خطابية أخرى، فالكثير من قصائد النثر قد تشبه الحكايات أو الأمثال الرمزية أو القصص أو غيرها من الشذرات النثرية. لهذا رفض النقاد بعض ما تضمنه كتاب بودلير "سوداوية باريس" على اعتبار أنها ليست قصائد نثر، بل هي أشبه بالقصص الفلسفية ونصوص تكاد تكون مستلة من يومياته تطغى عليها الانطباعات الشخصية والحكم الأخلاقية.
ولم يبتعد الكتاب والنقاد والشعراء العرب عن هذه المواقف، إذ أكدوا على تمازج السرد في قصيدة النثر واعتباره مكوناً أساسياً من مكوناتها، يقول عبد القادر الجنابي: إن قصيدة النثر تعتمد على عناصر سردية قريبة من عناصر الحكاية: كان ذلك في ...، وبعد أن ...، فطوفت في ذلك الليل الأخير حتى مطلع الفجر ....، ثم راح ...، بقعة صفراء أشبه بقمر توقف عن الحركة. ويؤكد أدونيس على حضور السرد في قصيدة النثر، إلا أن ذلك يبقى مشروطاً بان يتسامى بالقصيدة ويعلو بها لغاية شعرية خالصة، بمعنى أن تغلب الشعرية على السرد وليس العكس، وإلا تحولت إلى جنس آخر. ويرى أمجد ناصر أن قصيدة النثر لها خاصية القص تارة، والسرد تارة أخرى، والأمثولة حيناً، والاستطراد حينا آخر، ولها ما للنثر أيضاً من أخبار وبرهنة وتحليل.
ومع هذا فليست لها أبداً الغائية التي يهدف إليها السرد في الحكاية. فالسرد في قصيدة النثر هدفه خلق عنصر تأثير آخر على المتلقي يضاف إلى عناصر التأثير الأخرى المبثوثة في جسد النص، مما يجعل المتلقي يشعر حينما يقرأ نصاً شعرياً، كأنه يسمع صوت الشاعر يحول النص الشعري إلى نص بصري وسمعي، بالإضافة إلى انه نص فكري وتأملي ووجداني، لان بناء قصيدة النثر السردية سيوحي للقارىء بأنه يشاهد منظر الشاعر أمامه ويتخيل سماع صوته, ومعبرا عن ذات المتلقي.
وقد حفلت التجارب الإبداعية في مشهد قصيدة النثر العربية بالعديد من النماذج التي تؤكد حضور السرد ضمن جماليتها. يقول الشاعر (عباس بيضون): "الأربعة النائمون على الطاولة وسط الجبال لم يشعروا بخيال الطائر وهو يتضخم في الغرفة"، سرد نثري، كأنه يحكي قصة فيها شخصيات "أربعة"، ومكان "وسط الجبال"، وحدث "لم يشعروا بخيال الطائر .."
ويشير الناقد "حسن ناظم" إلى أن ديوان (سركون بولص) (شاعر عراقي توفي في المنفى) الأخير الذي صدر بعد وفاته بعنوان "عظمة أخرى لكلب القبيلة" عام 2008، يرتكز قوامه الشعري على السرد، حيث تربو قصائد السرد فيه على النصف، نقرأ من قصيدة الكرسي:
في البدء يشخص الكرسي:
كرسي جدي ما زال يهتز على
أسوار أوراك
تحته يعبر النهر، يتقلب فيه
الأحياء والموتى.
نص سردي يحضر فيه الجد والأب والصديق، وشخصيات حقيقية ومتخيلة يروي عنها آلامها وشدائدها، فالديوان قصائد سرد عن حكايات الأحياء والأموات في الزمن الغابر من الأيام والحاضر.
وفي ديوان الشاعر (سيف الرحبي)الأخير "حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة" الصادر عام 2010، يذكر الناقد "فيصل عبد الحسن" أن الديوان يضم نصوصاً تقترب في تقنياتها إلى فن القص والحكاية الشعرية، وتحتمل التأويل أكثر مما تحتمله القصيدة الاعتيادية. ونقرأ في نصه "قمر الهضاب" نصاً سردياً بامتياز، حيث ينقلنا إلى عالم نثري ثري، يجوس من خلاله حول مفردة قالتها الحبيبة عن قمر الشاعر، الذي يسألها هاتفياً، إن كانت ترى القمر في بيتها مثلما يراه في بيته في هذه اللحظة، فتجيبه انه "ضاح" في البيت وعلى الشرفات وعلى هضاب المكان. وتحيل مفردة "ضاح" الشاعر إلى طفولته وتصير بؤرة مشعة ينطلق منها النص القصصي.
ويكتب (جبرا إبراهيم جبرا) في قصيدة "في يومي ذاك الأخضر" من ديوان "تموز في المدينة"، نصاً سردياً يروي فيه ملامح من سيرته الذاتية في زمن الطفولة قبل خروجه من فلسطين إلى ولديه (سدير، وياسر) المهداة إليهما القصيدة. يقول:
في يومي ذاك الأخضر
إذ كنت كالعود الطري
اخضر يومي وليلي
بين فروع التينة
أكل التين الندي
مع رفقتي الحفاة
(أقدامنا صخر مرمري)
وأبو خليل يصيح
راكضا في قنبازه
في أثرنا
وسوطه في يده:
"والله لاذبحنكم
أكلتم التوت والتين،
وقطعتم الجلنار
والله لاذ ... ب ... حن ... كم ..."
تبرز تقنيات السرد واضحة في النص، إذ يفتتح الشاعر قصيدته بضمير المتكلم "في يومي ذاك الأخضر، إذ كنت كالعود الطري". ثم يتابع بوصف أحواله المرحة مع رفاقه في البساتين، رغم أنهم فقراء "مع رفقتي الحفاة". وتمثل شخصية أبو خليل جزءاً من أحداث القصة وعقدتها، حين يكتشف بأنهم يأكلون التوت والتين من بستانه، فيركض خلفهم. ويروي الراوي العليم بكل شيء وهو هنا الشاعر حالة أبو خليل حين اكتشفهم، يصرخ وفي يده سوط يهددهم به. الراوي هنا يروي حكاية الوطن قبل الاحتلال والهجرة، وكيف كان الأطفال أمثالهم (نقصد ولديه) يمرحون ويلعبون في بساتين مليئة بالخير والحياة، ويصف لهم الأماكن التي كانوا يلعبون فيها، ويرسم لوحة تشكيلية بصرية لحياة تنبض بالجمال والمتعة البصرية، ويعرج على حوار الأمهات مع أبنائهن "يا شياطين تعالوا واحملوا السلال عنا". ويستحضر شخصية الأب ويصف علاقته مع ابنه بأنها علاقة محبة وحنو "وأبي واقف كالشجرة، يفيئني بمنكبيه، يلقمني من مقلتيه، وطراوة من شفتيه".
في قصيدة النثر أصبحت الذات هي بؤرة الشاعر، وحل صوت الفرد محل صوت الجماعة، وان كان ينطوي على معاناة الجماعة الإنسانية.
يعد الشاعر (محمد حسيب القاضي) من الشعراء الذين كتبوا الضدين، قصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر، وفي كليهما أجاد وأبدع، وتميزت قصيدته النثرية بالركون إلى التراث العربي والعالمي، والميثولوجيا، وقراءة الواقع الفلسطيني برؤية جديدة بعيدا عن السوداوية. في ديوانه "السدى قطرة قطرة"، كتب أكثر من قصيدة نثرية تمازجت مع السرد، منها: كابوس، لمجرد أغنية، الخوف، غبار، قصيدة في الليل. استخدمت جميعها تقنيات سردية، مثل ضمير الأنا، والحوار، ووصف المكان، وضمير المخاطب. نقرأ من قصيدة كابوس (ص21):
كل شيء هنا ...
بالضبط كما هو
الطاولة، المرآة، البرداية، اللمبة، ديوان إبراهيم طوقان،
آخر سيجارة في العلبة، قصاصات صحف ومجلات، نظارة ..
الخ .. الخ
مد يده. حمل الصمت برفق. اجتاز الغرفة إلى الصالة.
صمت رجراج. كاد أيفلت من يده. افلت بالفعل.
تهشم فوق الأرضية
تبرز تقنية السرد منذ افتتاح القصيدة بضمير الغائب "كل شيء هنا .. بالضبط كما هو"، ثم يصف تفاصيل الأشياء في المكان "الطاولة، المرآة، البرداية، اللمبة، ..."، وينتقل بعدها إلى سير الأحداث وتفاصيل الحركة في المكان الذي تمثله "الغرفة" التي يجتر فيها الراوي الصمت والكآبة. وتحضر العقدة حينما "فجأة سمع خطواته خلف الباب .." وهنا تدخل القصيدة/ القصة في الفانتازيا، حيث تنقسم الشخصية إلى شخصيتين، لكنها هي نفسها، ويحل الراوي عقدة القصة/ القصيدة باكتشاف الذات لنفسها. هي بلا شك قصيدة سردية تحكي شعور المرء بالاغتراب في المكان البعيد عن الوطن، ورغم ذلك لم تتخل عن طرائق الشعر في التكثيف والإيحاء، فهي قصيدة أولا توسلت السرد ثانيا.
والشاعر (عثمان حسين) منذ أن تفتحت بداياته الشعرية رسخ نموذج قصيدة النثر كمنطلق شعري يعبر به عن ذاته، وليصدم مجتمعه برؤية جديدة بعيدا عن السائد والمألوف، فشكل تمرده الذاتي دون أن يبتعد عن هموم مجتمعه. وقد خلق جمالياته الشعرية في قصائد نثرية توسل في بعضها السرد كتقنية فنية وجمالية ليعبر بها عن ذاته وعن الواقع المحيط به. ففي ديوان "من سيقطع رأس البحر"، يهيمن ضمير الأنا المتكلم كتقنية سردية على معظم القصائد، وهذا الضمير يعبر عن الذاتية ويوحي للقارىء بان الشاعر يحكي سيرته وتفاصيل حياته وتجاربه، ويمنحنا ضمير المتكلم دلالة مزدوجة على الفعل والحركة. ومثال على ذلك قصيدتي: "لم يعد في القلب متسع" (ص42)، و"رأيته جميلا" (ص43). كما تجلى ضمير المخاطب في قصيدة "أمنية" (ص60)، كتقنية سردية. وهي قصائد سردية تأخذ منحى القصة الوصفية التي تعتمد على وصف المكان ورسم تفاصيل الأشياء.
وفي ديوان "الأشياء متروكة إلى الزرقة"، تحفل قصائد الديوان النثرية بالعديد من تقنيات السرد، ويهيمن عليها ضمير المخاطب، فنجد: الرؤية الاستباقية، والحوار في قصيدة "دعاء الاقتحام" (ص32). ويستعرض يوميات ومواد إخبارية في قصائد: "مخيم بلوك 5 فجر 11تموز 2001" (ص35)، حيث يسرد يوم في حياة المخيم في ظل الاحتلال. وقصيدة "الهزيمة" (ص68). و"دعاء السماء" (ص42)، و"دعاء الرحمة" (48)، و"دعاء الفجر" (ص54). ويورد قصة قصيرة كاملة بتقنياتها السردية في قصيدة "جدارية" (76). نقرأ من القصيدة:
"كانوا عائدين مساء إلى بيوتهم، مثقلين بحقائبهم المشبوحة خلف ظهورهم الطرية، وكانوا أيضا أغصانا طرية تحلقت راسمة نصف دائرة على الرصيف المحاذي لجدار مدرسة خولة الابتدائية المطل على شارع البحر، أما النصف الأخر يبدو في هيكل دبابة إسرائيلية مرسوما على الجدار محاطا بشعارات وطنية/ معادية. ..."
وفي ديوان "له أنت" تنزاح القصائد ما بين ضمير المتكلم، والوصف، والسيرة الذاتية، وهي تقنيات سردية. ففي قصيدة "في غزة" (ص23) يأتي ضمير الأنا ليروي حكاية غزة بكل همومها وتفاصيلها، راسما معالم المكان وتفاصيل الأشياء. وفي قصيدة "انتظر المفاجأة منذ وقت بعيد" (ص63)، يعتمد على تقنية الوصف ورسم تفاصيل المكان. ونلمس ملامح من السيرة الذاتية في قصائد: " ضدان" (ص31)، و"صباح الخير" (ص43)، "طاحونة جائعة" (ص68). فنجد ضمير المتكلم، والمنولوج الداخلي، ووصف الأماكن، وتحديد مكان الحركة والأحداث.
ويأتي الشاعر (شجاع الصفدي) من جيل الشباب الذين تمردوا على كل شيء، بدأ من القصيدة العمودية وصولا إلى التفعيلة، وكونوا لأنفسهم عالماً مستقلا تأخذ فيه الذاتية الشعرية المتمثلة في قصيدة النثر أبعادا تغوص في الميثولوجيا الإغريقية كمرجعية يناظرها بها الواقع الراهن، وهذا ما لمسناه في ديوانه "اتكئ على حجر"، وفما بين القصيدة وقصيدة النثر المصاحبة للسرد تشكلت عوالم الديوان.
إن الاتكاء على البنى السردية في هذا الديوان يهدف إلى استلهام المكنوز التراثي الإنساني المتمثل في الميثولوجيا الإغريقية، وتأويله، وبعثه في إيقاع جديد يحاكي واقعه المعاش. ونقرأ من قصيدة "جلجامش يبكي" (ص17)
رأيته في حلم يصعب أن يصحو منه
إلا الخالدون
يسقط كوكب يثقل علي حمله
تصارعنا نقيضين
وخرنا خوار ثورين وحشيين.
غابت عنا قلوبنا ...
حتى توحد نزفنا ...
فبتنا صديقين.
تأخذ القصيدة بتقنيات فن القص، حيث تحكي الذات بضمير الأنا قصة توحدها مع الأسطورة، وانعكاس ذلك في الواقع المعاش، و"انكيدوا يصنع توحدهما" بهدف تغيير العالم. ويبرز فن القص كذلك لديه في قصيدتي: "سيناريوهات ليلية" (ص52)، و"رفاقي الأربعة" (ص55). كما يوظف المقالة السردية في قصيدة "لحم الحكايا" (ص65) عن معاناة المؤرخ في كتابة التاريخ. وفي ديوانه "للألم بقية"، يستخدم أيضا تقنيات فن القص في قصيدتي "صديقتي وزيت القنديل" (ص22) وهي تحكي قصة عشق. وقصيدة "الغريب" (ص62).
وفي الختام، يأتي السؤال، هل تنازلت قصيدة النثر عن جمالياتها الفنية حين جسدت عناصر السرد وتقنياته ضمن محتواها؟.
لقد لاحظنا في النماذج المقدمة أن السرد وخصوصاً فن القص هو أكثر الأشكال الفنية تمازجا مع قصيدة النثر، ولكن هذا السرد لم يدفع بالقصيدة إلى التنازل عن جمالياتها الفنية، ولم يخرجها عن شروطها الشعرية، لان شعرية قصيدة النثر تكمن فيما يطلق عليه "بالمجانية" حسب قول سوزان برنار، أو "اللاغرضية" حسب قول أحد النقاد، وهذه اللاغرضية أو المجانية مغايرة تماما لما ترسخ عليه النثر العربي من وظيفة الوصف كما في الرواية أو القصة مثلا. وهنا يكمن الفرق بين سردية القص وسردية قصيدة النثر، أن سردية القص تسعى نحو الوصول إلى رؤية أو هدف ما، أما سردية قصيدة النثر فغرضها أو هدفها فني جمالي محض.
السرد وقصيدة النثر:
انطلاقاً مما تحدثنا عنه من سرد في الشعرية العربية القديمة والحديثة، نؤكد أن قصيدة النثر في علاقتها بالسرد أو تمازج السرد في مكوناتها الجمالية، لم يأت من فراغ، بل ارتكز إلى أشكال أخرى سابقة. واعتماد قصيدة النثر على التجريب واختيار سبل عديدة، هذا لا يعني أنها أضحت بديلا عن الأنماط الشعرية الأخرى، بل هي جزء لا يتجزأ من المشهد الشعري الراهن، تتجاور وتتجاوز وتتشابك مع تلك الأنماط.
لقد استندت قصيدة النثر في بنيتها بشكل جوهري إلى السرد، فهي بتواطئها باستمرار مع أجناس قريبة منها، كما عبرت سوزان برنار، تحطيمها للإيقاع الخارجي، وجدت نفسها تعتمد بشكل كبير على السرد والحكي والحوار والخبر والاستغراق في تصوير الجزئيات، والتركيز على المفارقة، وهي كلها من خصائص فن القص. وتؤكد "مارغوريت مورفي" على تمازج قصيدة النثر بفن السرد، تقول: هذا الجنس الأدبي المبتدع، والذي يشبه بسهولة شديدة أنواع النثر الأخرى، لهذا كثيرا ما يتم خلطه مع مقتطفات من أشكال خطابية أخرى، فالكثير من قصائد النثر قد تشبه الحكايات أو الأمثال الرمزية أو القصص أو غيرها من الشذرات النثرية. لهذا رفض النقاد بعض ما تضمنه كتاب بودلير "سوداوية باريس" على اعتبار أنها ليست قصائد نثر، بل هي أشبه بالقصص الفلسفية ونصوص تكاد تكون مستلة من يومياته تطغى عليها الانطباعات الشخصية والحكم الأخلاقية.
ولم يبتعد الكتاب والنقاد والشعراء العرب عن هذه المواقف، إذ أكدوا على تمازج السرد في قصيدة النثر واعتباره مكوناً أساسياً من مكوناتها، يقول عبد القادر الجنابي: إن قصيدة النثر تعتمد على عناصر سردية قريبة من عناصر الحكاية: كان ذلك في ...، وبعد أن ...، فطوفت في ذلك الليل الأخير حتى مطلع الفجر ....، ثم راح ...، بقعة صفراء أشبه بقمر توقف عن الحركة. ويؤكد أدونيس على حضور السرد في قصيدة النثر، إلا أن ذلك يبقى مشروطاً بان يتسامى بالقصيدة ويعلو بها لغاية شعرية خالصة، بمعنى أن تغلب الشعرية على السرد وليس العكس، وإلا تحولت إلى جنس آخر. ويرى أمجد ناصر أن قصيدة النثر لها خاصية القص تارة، والسرد تارة أخرى، والأمثولة حيناً، والاستطراد حينا آخر، ولها ما للنثر أيضاً من أخبار وبرهنة وتحليل.
ومع هذا فليست لها أبداً الغائية التي يهدف إليها السرد في الحكاية. فالسرد في قصيدة النثر هدفه خلق عنصر تأثير آخر على المتلقي يضاف إلى عناصر التأثير الأخرى المبثوثة في جسد النص، مما يجعل المتلقي يشعر حينما يقرأ نصاً شعرياً، كأنه يسمع صوت الشاعر يحول النص الشعري إلى نص بصري وسمعي، بالإضافة إلى انه نص فكري وتأملي ووجداني، لان بناء قصيدة النثر السردية سيوحي للقارىء بأنه يشاهد منظر الشاعر أمامه ويتخيل سماع صوته, ومعبرا عن ذات المتلقي.
وقد حفلت التجارب الإبداعية في مشهد قصيدة النثر العربية بالعديد من النماذج التي تؤكد حضور السرد ضمن جماليتها. يقول الشاعر (عباس بيضون): "الأربعة النائمون على الطاولة وسط الجبال لم يشعروا بخيال الطائر وهو يتضخم في الغرفة"، سرد نثري، كأنه يحكي قصة فيها شخصيات "أربعة"، ومكان "وسط الجبال"، وحدث "لم يشعروا بخيال الطائر .."
ويشير الناقد "حسن ناظم" إلى أن ديوان (سركون بولص) (شاعر عراقي توفي في المنفى) الأخير الذي صدر بعد وفاته بعنوان "عظمة أخرى لكلب القبيلة" عام 2008، يرتكز قوامه الشعري على السرد، حيث تربو قصائد السرد فيه على النصف، نقرأ من قصيدة الكرسي:
في البدء يشخص الكرسي:
كرسي جدي ما زال يهتز على
أسوار أوراك
تحته يعبر النهر، يتقلب فيه
الأحياء والموتى.
نص سردي يحضر فيه الجد والأب والصديق، وشخصيات حقيقية ومتخيلة يروي عنها آلامها وشدائدها، فالديوان قصائد سرد عن حكايات الأحياء والأموات في الزمن الغابر من الأيام والحاضر.
وفي ديوان الشاعر (سيف الرحبي)الأخير "حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة" الصادر عام 2010، يذكر الناقد "فيصل عبد الحسن" أن الديوان يضم نصوصاً تقترب في تقنياتها إلى فن القص والحكاية الشعرية، وتحتمل التأويل أكثر مما تحتمله القصيدة الاعتيادية. ونقرأ في نصه "قمر الهضاب" نصاً سردياً بامتياز، حيث ينقلنا إلى عالم نثري ثري، يجوس من خلاله حول مفردة قالتها الحبيبة عن قمر الشاعر، الذي يسألها هاتفياً، إن كانت ترى القمر في بيتها مثلما يراه في بيته في هذه اللحظة، فتجيبه انه "ضاح" في البيت وعلى الشرفات وعلى هضاب المكان. وتحيل مفردة "ضاح" الشاعر إلى طفولته وتصير بؤرة مشعة ينطلق منها النص القصصي.
ويكتب (جبرا إبراهيم جبرا) في قصيدة "في يومي ذاك الأخضر" من ديوان "تموز في المدينة"، نصاً سردياً يروي فيه ملامح من سيرته الذاتية في زمن الطفولة قبل خروجه من فلسطين إلى ولديه (سدير، وياسر) المهداة إليهما القصيدة. يقول:
في يومي ذاك الأخضر
إذ كنت كالعود الطري
اخضر يومي وليلي
بين فروع التينة
أكل التين الندي
مع رفقتي الحفاة
(أقدامنا صخر مرمري)
وأبو خليل يصيح
راكضا في قنبازه
في أثرنا
وسوطه في يده:
"والله لاذبحنكم
أكلتم التوت والتين،
وقطعتم الجلنار
والله لاذ ... ب ... حن ... كم ..."
تبرز تقنيات السرد واضحة في النص، إذ يفتتح الشاعر قصيدته بضمير المتكلم "في يومي ذاك الأخضر، إذ كنت كالعود الطري". ثم يتابع بوصف أحواله المرحة مع رفاقه في البساتين، رغم أنهم فقراء "مع رفقتي الحفاة". وتمثل شخصية أبو خليل جزءاً من أحداث القصة وعقدتها، حين يكتشف بأنهم يأكلون التوت والتين من بستانه، فيركض خلفهم. ويروي الراوي العليم بكل شيء وهو هنا الشاعر حالة أبو خليل حين اكتشفهم، يصرخ وفي يده سوط يهددهم به. الراوي هنا يروي حكاية الوطن قبل الاحتلال والهجرة، وكيف كان الأطفال أمثالهم (نقصد ولديه) يمرحون ويلعبون في بساتين مليئة بالخير والحياة، ويصف لهم الأماكن التي كانوا يلعبون فيها، ويرسم لوحة تشكيلية بصرية لحياة تنبض بالجمال والمتعة البصرية، ويعرج على حوار الأمهات مع أبنائهن "يا شياطين تعالوا واحملوا السلال عنا". ويستحضر شخصية الأب ويصف علاقته مع ابنه بأنها علاقة محبة وحنو "وأبي واقف كالشجرة، يفيئني بمنكبيه، يلقمني من مقلتيه، وطراوة من شفتيه".
في قصيدة النثر أصبحت الذات هي بؤرة الشاعر، وحل صوت الفرد محل صوت الجماعة، وان كان ينطوي على معاناة الجماعة الإنسانية.
يعد الشاعر (محمد حسيب القاضي) من الشعراء الذين كتبوا الضدين، قصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر، وفي كليهما أجاد وأبدع، وتميزت قصيدته النثرية بالركون إلى التراث العربي والعالمي، والميثولوجيا، وقراءة الواقع الفلسطيني برؤية جديدة بعيدا عن السوداوية. في ديوانه "السدى قطرة قطرة"، كتب أكثر من قصيدة نثرية تمازجت مع السرد، منها: كابوس، لمجرد أغنية، الخوف، غبار، قصيدة في الليل. استخدمت جميعها تقنيات سردية، مثل ضمير الأنا، والحوار، ووصف المكان، وضمير المخاطب. نقرأ من قصيدة كابوس (ص21):
كل شيء هنا ...
بالضبط كما هو
الطاولة، المرآة، البرداية، اللمبة، ديوان إبراهيم طوقان،
آخر سيجارة في العلبة، قصاصات صحف ومجلات، نظارة ..
الخ .. الخ
مد يده. حمل الصمت برفق. اجتاز الغرفة إلى الصالة.
صمت رجراج. كاد أيفلت من يده. افلت بالفعل.
تهشم فوق الأرضية
تبرز تقنية السرد منذ افتتاح القصيدة بضمير الغائب "كل شيء هنا .. بالضبط كما هو"، ثم يصف تفاصيل الأشياء في المكان "الطاولة، المرآة، البرداية، اللمبة، ..."، وينتقل بعدها إلى سير الأحداث وتفاصيل الحركة في المكان الذي تمثله "الغرفة" التي يجتر فيها الراوي الصمت والكآبة. وتحضر العقدة حينما "فجأة سمع خطواته خلف الباب .." وهنا تدخل القصيدة/ القصة في الفانتازيا، حيث تنقسم الشخصية إلى شخصيتين، لكنها هي نفسها، ويحل الراوي عقدة القصة/ القصيدة باكتشاف الذات لنفسها. هي بلا شك قصيدة سردية تحكي شعور المرء بالاغتراب في المكان البعيد عن الوطن، ورغم ذلك لم تتخل عن طرائق الشعر في التكثيف والإيحاء، فهي قصيدة أولا توسلت السرد ثانيا.
والشاعر (عثمان حسين) منذ أن تفتحت بداياته الشعرية رسخ نموذج قصيدة النثر كمنطلق شعري يعبر به عن ذاته، وليصدم مجتمعه برؤية جديدة بعيدا عن السائد والمألوف، فشكل تمرده الذاتي دون أن يبتعد عن هموم مجتمعه. وقد خلق جمالياته الشعرية في قصائد نثرية توسل في بعضها السرد كتقنية فنية وجمالية ليعبر بها عن ذاته وعن الواقع المحيط به. ففي ديوان "من سيقطع رأس البحر"، يهيمن ضمير الأنا المتكلم كتقنية سردية على معظم القصائد، وهذا الضمير يعبر عن الذاتية ويوحي للقارىء بان الشاعر يحكي سيرته وتفاصيل حياته وتجاربه، ويمنحنا ضمير المتكلم دلالة مزدوجة على الفعل والحركة. ومثال على ذلك قصيدتي: "لم يعد في القلب متسع" (ص42)، و"رأيته جميلا" (ص43). كما تجلى ضمير المخاطب في قصيدة "أمنية" (ص60)، كتقنية سردية. وهي قصائد سردية تأخذ منحى القصة الوصفية التي تعتمد على وصف المكان ورسم تفاصيل الأشياء.
وفي ديوان "الأشياء متروكة إلى الزرقة"، تحفل قصائد الديوان النثرية بالعديد من تقنيات السرد، ويهيمن عليها ضمير المخاطب، فنجد: الرؤية الاستباقية، والحوار في قصيدة "دعاء الاقتحام" (ص32). ويستعرض يوميات ومواد إخبارية في قصائد: "مخيم بلوك 5 فجر 11تموز 2001" (ص35)، حيث يسرد يوم في حياة المخيم في ظل الاحتلال. وقصيدة "الهزيمة" (ص68). و"دعاء السماء" (ص42)، و"دعاء الرحمة" (48)، و"دعاء الفجر" (ص54). ويورد قصة قصيرة كاملة بتقنياتها السردية في قصيدة "جدارية" (76). نقرأ من القصيدة:
"كانوا عائدين مساء إلى بيوتهم، مثقلين بحقائبهم المشبوحة خلف ظهورهم الطرية، وكانوا أيضا أغصانا طرية تحلقت راسمة نصف دائرة على الرصيف المحاذي لجدار مدرسة خولة الابتدائية المطل على شارع البحر، أما النصف الأخر يبدو في هيكل دبابة إسرائيلية مرسوما على الجدار محاطا بشعارات وطنية/ معادية. ..."
وفي ديوان "له أنت" تنزاح القصائد ما بين ضمير المتكلم، والوصف، والسيرة الذاتية، وهي تقنيات سردية. ففي قصيدة "في غزة" (ص23) يأتي ضمير الأنا ليروي حكاية غزة بكل همومها وتفاصيلها، راسما معالم المكان وتفاصيل الأشياء. وفي قصيدة "انتظر المفاجأة منذ وقت بعيد" (ص63)، يعتمد على تقنية الوصف ورسم تفاصيل المكان. ونلمس ملامح من السيرة الذاتية في قصائد: " ضدان" (ص31)، و"صباح الخير" (ص43)، "طاحونة جائعة" (ص68). فنجد ضمير المتكلم، والمنولوج الداخلي، ووصف الأماكن، وتحديد مكان الحركة والأحداث.
ويأتي الشاعر (شجاع الصفدي) من جيل الشباب الذين تمردوا على كل شيء، بدأ من القصيدة العمودية وصولا إلى التفعيلة، وكونوا لأنفسهم عالماً مستقلا تأخذ فيه الذاتية الشعرية المتمثلة في قصيدة النثر أبعادا تغوص في الميثولوجيا الإغريقية كمرجعية يناظرها بها الواقع الراهن، وهذا ما لمسناه في ديوانه "اتكئ على حجر"، وفما بين القصيدة وقصيدة النثر المصاحبة للسرد تشكلت عوالم الديوان.
إن الاتكاء على البنى السردية في هذا الديوان يهدف إلى استلهام المكنوز التراثي الإنساني المتمثل في الميثولوجيا الإغريقية، وتأويله، وبعثه في إيقاع جديد يحاكي واقعه المعاش. ونقرأ من قصيدة "جلجامش يبكي" (ص17)
رأيته في حلم يصعب أن يصحو منه
إلا الخالدون
يسقط كوكب يثقل علي حمله
تصارعنا نقيضين
وخرنا خوار ثورين وحشيين.
غابت عنا قلوبنا ...
حتى توحد نزفنا ...
فبتنا صديقين.
تأخذ القصيدة بتقنيات فن القص، حيث تحكي الذات بضمير الأنا قصة توحدها مع الأسطورة، وانعكاس ذلك في الواقع المعاش، و"انكيدوا يصنع توحدهما" بهدف تغيير العالم. ويبرز فن القص كذلك لديه في قصيدتي: "سيناريوهات ليلية" (ص52)، و"رفاقي الأربعة" (ص55). كما يوظف المقالة السردية في قصيدة "لحم الحكايا" (ص65) عن معاناة المؤرخ في كتابة التاريخ. وفي ديوانه "للألم بقية"، يستخدم أيضا تقنيات فن القص في قصيدتي "صديقتي وزيت القنديل" (ص22) وهي تحكي قصة عشق. وقصيدة "الغريب" (ص62).
وفي الختام، يأتي السؤال، هل تنازلت قصيدة النثر عن جمالياتها الفنية حين جسدت عناصر السرد وتقنياته ضمن محتواها؟.
لقد لاحظنا في النماذج المقدمة أن السرد وخصوصاً فن القص هو أكثر الأشكال الفنية تمازجا مع قصيدة النثر، ولكن هذا السرد لم يدفع بالقصيدة إلى التنازل عن جمالياتها الفنية، ولم يخرجها عن شروطها الشعرية، لان شعرية قصيدة النثر تكمن فيما يطلق عليه "بالمجانية" حسب قول سوزان برنار، أو "اللاغرضية" حسب قول أحد النقاد، وهذه اللاغرضية أو المجانية مغايرة تماما لما ترسخ عليه النثر العربي من وظيفة الوصف كما في الرواية أو القصة مثلا. وهنا يكمن الفرق بين سردية القص وسردية قصيدة النثر، أن سردية القص تسعى نحو الوصول إلى رؤية أو هدف ما، أما سردية قصيدة النثر فغرضها أو هدفها فني جمالي محض.