في كل عودة إلى قراءة أعمال بورخيس اكتشافٌ لحرف جديد في أبجدية نعرفها، أو لزاوية مخفيّة في مشهد ألِفناه. «... من والدي تعلّمت أن الكلمات ليست مجرد وسيلة للتواصل بين البشر، بل هي رموز وألغاز... وسحرٌ يرفرف على أغصان موسيقى ملائكية» كان يقول صاحب «الألِف» الذي رأى الجنّة على شكل مكتبة لا يرتادها سوى أنقياء الذهن والمسكونين بالخيال.
كل الذرائع إذن مقبولة للعودة إلى بورخيس... إلى سيرته التي لم ينضب مُعين مفاجآتها بعد أكثر من ثلاثة عقود على رحيله في خواتيم الربيع على ضفاف بحيرة جنيف التي يرقد رفاته في مقبرتها... أو إلى خوابي كتاباته التي ما زالت المنهل الفكري الأول لمعظم أدباء الإسبانية، وما انفكّت تتكشّف عن أغوار غير مسبورة تعبق بعطر البدايات.
الجديد عن عبقري الأرجنتين الذي رفضت نوبل أن تكحّل سجلها بتتويجه لِما زُعِم عن شطط فكره السياسي إلى اليمين، هو كتاب عن الكتب التي عاش بجانبها وواظب على قراءتها وتدوين ملاحظات على متنها. وفي موقع بارز بين تلك المؤلفات الأثيرة لديه، كتاب «أعمدة الحكمة السبعة» الذي وضعه توماس إدوارد لورانس الملقب بلورانس العرب. ويتبيّن من الملاحظات المدّونة على هوامش المجلّد أن بورخيس كان معجباً بلورانس الذي يسمّيه «فاتح العقبة»، وأنه كان يشعر ببعض الغيرة منه لأن زوجته ماريّا كوداما كانت ولهانة بشخصية الممثل بيتر أوتول الذي لعب دور لورانس في الفيلم الشهير، رغم أن بورخيس كان يذكرها بأن الممثل، كما الشخصية الأصيلة، كانا قصيرَي القامة «... وأنتِ تعشقين طوال القامة يا ماريّا».
من الكتب الأخرى التي كانت ترافق بورخيس في حلّه وترحاله «حياة أوسكار وايلد» وأعمال مختارة لكوكتو، إلى جانب نسخ من الإنجيل والقرآن وبعض المؤلفات البوذية، وكتاب «ألف ليلة وليلة» الذي تأثر به كثيراً كما يبيّن الباحث والشاعر عيسى مخلوف في مؤلف له حول هذا الموضوع. ثم هناك «الفردوس المفقود»، قمة الشعر الملحمي باللغة الإنجليزية لجون ميلتون الذي هو أيضاً فقد بصره (لم يفقد بورخيس بصره بشكل كامل حتى بلوغه الثمانين).
تقول ماريّا كوداما، التي كانت مساعدته ثم زوجته ورفيقته حتى مماته وتشرف اليوم على المؤسسة التي تحمل اسمه، إن المكتبة الشخصية لبورخيس كانت معظم مؤلفاتها باللغة الإنجليزية التي كان يتقنها منذ الصغر، ورثها عن أبيه وجدته البريطانية وكان جُلّها في الدين والفلسفة. وتضيف أنه كان شغوفاً بقراءة سبينوزا، وينعم بمطالعة القصص الخيالية مثل «جزيرة الكنز» لستيفنسون الذي كان يعد «... اكتشافه منبع سعادة لا ينضب».
تعود العلاقة الخاصة بين بورخيس والكتب إلى سنوات الحداثة التي كان يمضي خلالها ساعات طويلة في مكتبة والده التي قال عنها: «أعتقد أنني لم أخرج منها أبداً». وكان يعتبر أن «من كل الأدوات التي اخترعها الإنسان، الكتاب هو أعظمها. كل ما عداه امتداد لجسده... وحده الكتاب امتداد لخيال الإنسان وذاكرته». في عام 1914 وضع واحداً من أغرب مؤلفاته «أمين مكتبة بابل» حول مكتبة متخيّلة تحوي كل ما في العالم من كتب، المكتوب منها وما سيكتب، موزّعة بشكل عشوائي تتداخل فيه المؤلفات والنصوص من غير قاعدة لأن «المعارف والآداب مكتوبة أفكارها وأسرارها في الكون... قبل أن تُكتب».
وفي السياسة أيضاً لم تكن حياة بورخيس خالية من الألغاز. كان يقول إن «السياسة شيء والأخلاق شيء آخر»، ويعد الديكتاتورية أبشع الأنظمة لأنها «لا تأتي بالعنف والقمع فحسب، بل بالغباء أيضاً». وعندما وقف في وجه نظام الجنرال بيرون، أُعفي من منصبه كمدير للمكتبة الوطنية وعُيّن مفتشاً في أسواق الطيور الداجنة في مدينة بوينس آيرس! لكنه قبِل الدكتوراه الفخرية من ديكتاتور تشيلي الجنرال بينوشيه، وعندما كان مدرِّساً رفض المشاركة في حفل لتكريم تشي غيفارا يوم مقتله.
العديد من الكتّاب في الأرجنتين، وفي أميركا اللاتينية، يعتبرون أنهم جميعاً «أبناء بورخيس»، لكن بورخيس كان يعتبر أن ثمة مبالغة كبيرة في امتداحه ككاتب، ويقول: «فليتباهى غيري بما وُضع من كتب، أنا لي أن أتباهى بالكتب التي قرأتها». والكتاب الذي صدر مؤخراً بعنوان «مكتبة بورخيس» يستعرض نخبة من المؤلفات المحفوظة اليوم في المؤسسة التي تحمل اسمه في العاصمة الأرجنتينية وتديرها ماريّا كوداما التي وضعت مقدّمة الكتاب، حيث تشير إلى تأثره أيضاً بالكوميديا الإلهية لدانتي، وبعض مؤلفات كونراد واومبرتو إيكو، وكيبلينغ الذي كان يكنّ له إعجاباً شديداً ويتفق معه في أن «المرء لا يفشل بقدر ما يعتقد ولا ينجح بقدر ما يتخيّل». وتذكر أمينة أسراره أن علاقته بالكتب كانت حسيّة «... يوليها عناية فائقة ويتمتّع بملامستها... وبعد أن فقد البصر بشكل نهائي ظلّ يعرف موضع كلٍّ منها عندما كان يطلب إحضارها».
كل الذرائع إذن مقبولة للعودة إلى بورخيس... إلى سيرته التي لم ينضب مُعين مفاجآتها بعد أكثر من ثلاثة عقود على رحيله في خواتيم الربيع على ضفاف بحيرة جنيف التي يرقد رفاته في مقبرتها... أو إلى خوابي كتاباته التي ما زالت المنهل الفكري الأول لمعظم أدباء الإسبانية، وما انفكّت تتكشّف عن أغوار غير مسبورة تعبق بعطر البدايات.
الجديد عن عبقري الأرجنتين الذي رفضت نوبل أن تكحّل سجلها بتتويجه لِما زُعِم عن شطط فكره السياسي إلى اليمين، هو كتاب عن الكتب التي عاش بجانبها وواظب على قراءتها وتدوين ملاحظات على متنها. وفي موقع بارز بين تلك المؤلفات الأثيرة لديه، كتاب «أعمدة الحكمة السبعة» الذي وضعه توماس إدوارد لورانس الملقب بلورانس العرب. ويتبيّن من الملاحظات المدّونة على هوامش المجلّد أن بورخيس كان معجباً بلورانس الذي يسمّيه «فاتح العقبة»، وأنه كان يشعر ببعض الغيرة منه لأن زوجته ماريّا كوداما كانت ولهانة بشخصية الممثل بيتر أوتول الذي لعب دور لورانس في الفيلم الشهير، رغم أن بورخيس كان يذكرها بأن الممثل، كما الشخصية الأصيلة، كانا قصيرَي القامة «... وأنتِ تعشقين طوال القامة يا ماريّا».
من الكتب الأخرى التي كانت ترافق بورخيس في حلّه وترحاله «حياة أوسكار وايلد» وأعمال مختارة لكوكتو، إلى جانب نسخ من الإنجيل والقرآن وبعض المؤلفات البوذية، وكتاب «ألف ليلة وليلة» الذي تأثر به كثيراً كما يبيّن الباحث والشاعر عيسى مخلوف في مؤلف له حول هذا الموضوع. ثم هناك «الفردوس المفقود»، قمة الشعر الملحمي باللغة الإنجليزية لجون ميلتون الذي هو أيضاً فقد بصره (لم يفقد بورخيس بصره بشكل كامل حتى بلوغه الثمانين).
تقول ماريّا كوداما، التي كانت مساعدته ثم زوجته ورفيقته حتى مماته وتشرف اليوم على المؤسسة التي تحمل اسمه، إن المكتبة الشخصية لبورخيس كانت معظم مؤلفاتها باللغة الإنجليزية التي كان يتقنها منذ الصغر، ورثها عن أبيه وجدته البريطانية وكان جُلّها في الدين والفلسفة. وتضيف أنه كان شغوفاً بقراءة سبينوزا، وينعم بمطالعة القصص الخيالية مثل «جزيرة الكنز» لستيفنسون الذي كان يعد «... اكتشافه منبع سعادة لا ينضب».
تعود العلاقة الخاصة بين بورخيس والكتب إلى سنوات الحداثة التي كان يمضي خلالها ساعات طويلة في مكتبة والده التي قال عنها: «أعتقد أنني لم أخرج منها أبداً». وكان يعتبر أن «من كل الأدوات التي اخترعها الإنسان، الكتاب هو أعظمها. كل ما عداه امتداد لجسده... وحده الكتاب امتداد لخيال الإنسان وذاكرته». في عام 1914 وضع واحداً من أغرب مؤلفاته «أمين مكتبة بابل» حول مكتبة متخيّلة تحوي كل ما في العالم من كتب، المكتوب منها وما سيكتب، موزّعة بشكل عشوائي تتداخل فيه المؤلفات والنصوص من غير قاعدة لأن «المعارف والآداب مكتوبة أفكارها وأسرارها في الكون... قبل أن تُكتب».
وفي السياسة أيضاً لم تكن حياة بورخيس خالية من الألغاز. كان يقول إن «السياسة شيء والأخلاق شيء آخر»، ويعد الديكتاتورية أبشع الأنظمة لأنها «لا تأتي بالعنف والقمع فحسب، بل بالغباء أيضاً». وعندما وقف في وجه نظام الجنرال بيرون، أُعفي من منصبه كمدير للمكتبة الوطنية وعُيّن مفتشاً في أسواق الطيور الداجنة في مدينة بوينس آيرس! لكنه قبِل الدكتوراه الفخرية من ديكتاتور تشيلي الجنرال بينوشيه، وعندما كان مدرِّساً رفض المشاركة في حفل لتكريم تشي غيفارا يوم مقتله.
العديد من الكتّاب في الأرجنتين، وفي أميركا اللاتينية، يعتبرون أنهم جميعاً «أبناء بورخيس»، لكن بورخيس كان يعتبر أن ثمة مبالغة كبيرة في امتداحه ككاتب، ويقول: «فليتباهى غيري بما وُضع من كتب، أنا لي أن أتباهى بالكتب التي قرأتها». والكتاب الذي صدر مؤخراً بعنوان «مكتبة بورخيس» يستعرض نخبة من المؤلفات المحفوظة اليوم في المؤسسة التي تحمل اسمه في العاصمة الأرجنتينية وتديرها ماريّا كوداما التي وضعت مقدّمة الكتاب، حيث تشير إلى تأثره أيضاً بالكوميديا الإلهية لدانتي، وبعض مؤلفات كونراد واومبرتو إيكو، وكيبلينغ الذي كان يكنّ له إعجاباً شديداً ويتفق معه في أن «المرء لا يفشل بقدر ما يعتقد ولا ينجح بقدر ما يتخيّل». وتذكر أمينة أسراره أن علاقته بالكتب كانت حسيّة «... يوليها عناية فائقة ويتمتّع بملامستها... وبعد أن فقد البصر بشكل نهائي ظلّ يعرف موضع كلٍّ منها عندما كان يطلب إحضارها».