نحن نحب الأمكنة التي نعتقد أنها جميلة ، ونعتقد بجمال الأمكنة التي نشعر نحوها بالحب ، تلك هي الأمكنة التي ألفناها وعشنا فيها وهي تحمل ذكريات وبقايا حضور ساكنيها ، حيث يؤسس المكان من يحلّ فيه ، فتنال الأمكنة أهميتها من مرتاديها . الكرسي موطىء جليس الأمسية ومسرح كلماته وضحكاته ، والمطبخ خطو الزوجة المحموم وأقداح الشاي الدافيء ، والبيت حيث نلتم طويلا الى من نحب ، والشارع رفيق خطواتنا في النهار والمساء ، والمدينة أفق الحياة وميدانها .
ولأن كل مكان هو مشروع ماهية مكانية ، تحضر فيه الأشياء ، تتعالق وتتداخل كي تنسج حضورها فيه وإستحضارها له ، وهي تؤسس مع المكان ومعطياته جدلا يمنحه مكانيته ويصنع تميزها ، فيكون الكرسي في فضاء الغرفة المغلق هو غير الكرسي في فضاء الحديقة المفتوح ، حيث تتكفل العمارة بتفرد المكان وجعل وجوده حدثاً يكون الفعل الانساني فيه متفرداً هو الآخر، كما أن تمضي ليلتك في غرفة ليست كسواها ، أو أن تجالس أصدقاءك في فضاء يحفظ للوقت ثراءه ودفئه وجماله . غير إن الجمال الذي يحل في الأمكنة يربك الشعور أحيانا ، اذ تدخل قصراً معمراً عاش قروناً ، تنسج سطوح جدرانه الجليلة زخارف من الطابوق ، وترتقي سقوف أروقته خلايا مقرنصات مدهشة تقود الى تأملها زمن إستغراق طويل ، حد أن يداخلك الشك في أن تتمكن من العيش في مثل هذا المكان ، والركون الى سكن هادىء ، رفقة جمال مثير يجعلك مستفزا طول الوقت ، ليس لعينيك أن تستريح وليس لشعورك أن يهدأ ، كي تغادر اليقظة المتعطشة اليه وتذهب الى هدأة النوم . إن جدران البيت هي ليست جدران القصر او جدران المتحف ، في البيت نتوخى جداراً مهذباً ومتعقلاً يدعو الى الاسترخاء والهدوء .
نحن ندخل الأمكنة محملين بثقل إعتقادنا عنها ، نبني صورتنا الذهنية عن المكان من تضافر وإنتظام مافيه ، ومن تدخّل الانسان وهو يقيم علاقته الحسية والسلوكية مع معطياته ، يصوغه وهو يمد محمولاته الثقافية في نسغ المعطيات الطبيعية والأشيائية ، بما ينظُّم المكان ويكشف عن قدرته على التشكل ، فيكون بذلك بعداً مكوناً في الوجود الإنساني ، يحفظه ويصونه ويحمل مقاصده ومعانيه ، وأكثر من فرصة لتجلي الموجود . وهو غير حال الأمكنة التي تتكرر قبل أن تنفذ اليها نوايا الابداع متمعنة في وضع كل حجر جوار حجر . وحيث تدرك العمارة كيف تنتج المكان وتوقظ إحساسنا به ، يتوغل الذهن نافذاً فيه . إنها تجعلنا نعيش المكان مثل ما نعيش فيه ، مهمتنا أن نتعلم كيف نتعاطاها ، عمارة رصينة وعميقة ، وتلك ثقافة وتعودات ونوايا يصعب إخفاء تدخلاتها في إكتشاف الأبنية وتلقيها .
إن المعنى الذي يناله المكان من تشكله ومن توظيفه ، يمكن له أن يتحول بمثل تحول نوايا التوظيف ، وهي تغادر من حال الى حال بسبب تعقيدات الوضع الحياتي للانسان ، الذي ينتج عنه تعدد الفرص التي يمكن إستثمارها في ضمن مديات عريضة ، تتبع تمظهرات جغرافية الأمكنة ، وتعقيدات شبكة الأفعال السلوكية المتشعبة . كما إن تغير الاسلوب في العمارة يؤدي الى تغير في الأمكنة وفي القدرة على تفعيل مكانيتها ، كما في العمارة التفكيكية ، حيث تتخلى الأشكال المعمارية عن نمط حضورها المتوقع ، فتغادر البداهة وهي ترتاد جماليات الارتباك والاختلال والتموّج والاضطراب ، وهو حال من الشكل يحيله حدثا ويحيل المكان حدثاً ايضا . والاضطراب مقترح لمغادرة الملل الذي ينتج عن التكرار والمزيد من الأنتظام ، يمكن له أن ينقذنا من ملل يرافقنا طويلا ، مع إننا نجهله وننشغل عنه ، وهو يتمثل في البيت ، المكان الذي ندخله و نغادره كل يوم من دون أن ينجح في أن يتغير، وقد يكون في قدرة أحدنا أن يعود الى البيت في غير الوقت الذي تعوده ، فيجده يموج بحركة حياة لم يشهدها في وقت عوداته السابقة ، وربما يكتشف بذلك بيتاً آخر ، فيكون في متاح زمان مختلف أن يدخلنا مكاناً مختلفاً ، ويكون في إختلاف زمان إشغال البيت منفذ يخرجنا من ملل زمان متعود عليه . إضطراب يغادر العود والتكرار نحو الجديد وغير المتوقع ، وهو ما دعاني في إعداد واجهة مبنى لمجموعة من الشقق السكنية المتماثلة ، أن أقترح سطوحاً بألوان متعددة ، يرتفع بعضها قليلا عن مستوى معين وينخفض بعضها الاخر ، في حركة توحي بإضطراب يتدخل في ترتيب تلك السطوح ، وكان ذلك اقتراحاً للأنفلات من جمود التكرار ورتابته . ويمكن أن نجد لتحاشي الملل منفذاً آخر ، عندما يدرك المبنى موضعه الذي يشغله ويحيط به ، ويفتح لذلك فوهاته ومنافذ تحسسه ، وتوصل الى تفرده ، وهو يحضر في الموقع بعناية تتجاوز الحضور الطارئ ، كي توقظ في الموقع مكانيته ، وتعيد للمبنى حيويته وتوقف بذلك هدر الأمكنة . حيث تقرأ الأبنية المكان ، وهي تحل فيه كما تقرأ الكلمات العالم ، تستنطق الصوت والإصغاء ، تصف ماحولها وتتحدث عنه ، وهي تجعله يتمرأى ويتمظهر ، كما يفعل الجدار الذي يواجه الشمس فيكون مشمساً ويقول هاته الشمس ، أو أن يتعقد شكله وتتعدد عناصره ومكوناته فيصنع الظل ، يغطي بعض سطوحه ، وفي الظل ايضا يستحضر الشمس ، اذ الظل تصنعه الشمس . والمبنى لايوضع في المكان هكذا ببساطة ، انما ينتج عن المكان ويولد فيه ، ويمكن له أن يتلمس طريقه الى الكينونة وهو يوسع مساماته للشعور بما حوله . كما ان عليكم ان تتلمسوا ما حولكم ايضا ، انتم شاغلو الأبنية . اذ كيف لكم ان تدخلوا الغرف بغير تحيتها ، من دون أن تقبّلوا عتبات الأبواب ، أو أن تلصقوا أصابعكم الرقيقة الى سطوح الجدران الخشنة ، تعبر أبصاركم النوافذ بلا استئذان ، تستبيحون العالم من حولكم ، وهو الذي أسكنكم اليه . لعلكم تتلطفون ، فالجدار الذي تعبرونه من دون تحية يمكن له أن يغمض عن عيونكم لونه ، أو أن يغمض عن لونكم عيونه . تذكروا ، من الذي يقول لكم من أنتم سوى الأشياء ، وكنتم قد دعوتموها الى الحضور ثم تغادرونها بغير حوار ، فيذهب بكم العماء الى الكلمات مهووسين بالإصغاء ، تركلون بإهمالكم الأشياء ، وتتغافلون عن إيقاظ الحس . تقودكم سرعة في الوجود الى خارج الوجود ، غير ان المبيت برفقة الأشياء دافئ لو تعلمون ، وهو يكفيكم عن صور الخيال والسطو على أحلام الحكايات . أرغب أن نتصالح مع الأحجار، نحملها فوق صدورنا ، فهي ليست ثقيلة كما تبدو ، وكما تقول الكلمات الكاذبة . في الصمت ، يمكن للأشياء الصلبة ، الموجودة والمنسية أن تحضر ، فيحل العالم ، وتبيعنا الأشياء بضاعتها ، خالصة ونقية .
الجدران والسقوف والبيوت والشوارع والأرصفة والأشجار والمدينة التي نسكن اليها ، نحن ضيوفها كما هي ضيوفنا ، أشياء المدينة التي نصنع ونحب ، نحن ايضا اناسها الذين تأوي اليهم وتحبهم ، فلنتلطف بمدينتنا ، ونغسل أحجارها وشوارعها وأشجارها ووجهها الدبق الحالك ، ننفق مياهها المهملة الآسنة ، كي تحل الزرقة في أنهارها الطويلة . انها مدينة مهملة ، ولكن نحن من أوسخها ، إذ إن مكنسة البيت تلقي بترابها ونفاياتها الى رصيف الشارع ، وبقايا الأطعمة في زمان الشبع تسبح في مياه الأنهار ، وعلب الأشياء الأنيقة اللامعة المعطرة تلقى في الحدائق وقد استحالت ألوانها ، وزجاجة الكوكاكولا اللذيذة تطير في هواء المدينة ، وتحل أينما تحل . بيتنا الذي نحب تربكه ضوضاء إهمالنا ، حيث يغيب فضاء خزن الأشياء الفائضة والعاطلة والمهملة ، ويغيب نظام المدينة الذي يزيح قبيحها عن جميلها ، وفائضها عن عوزها ، وجديدها عن قديمها ، وتتوانى العقول المتقاعسة عن إيلاج النظام في الأشياء ، وهي تزاح عن هدوئها وتآلفها نحو عبث إختياراتنا . لنتكفل اذن في أن نعيد لوجوه الأشياء الجمال ، ننفض عن السطوح الأتربة ، ونغسل العتبات ، ونرسل الهدر الى زاوية النسيان . مدن كثيرة تسكن العالم ، كبيرة او صغيرة ، جميلة او غير جميلة ، غير ان مدينتا في العالم هي هذه المدينة .
كنت أنفذ مسرعا في إحدى امسياتها ، وقد كانت السماء تمطر بغزارة ، وصوت المذياع يعاند الصمت ، غير إن قطعان الخوف تركض خلف المركبة ، وكان الذعر يقود عجلاتها ، وماعدت متيقنا من المكان الذي دعيت فيه لتناول العشاء هل هو موجود بحق أو كان محض وهم . وعلى الرغم من إفتقادي للرغبة في الطعام غير إن ذلك ليس دليلا على إني قد أكملت عشائي للتو . الأمكنة التي تعبرها عجلتي الآن ، والتي حضرت في حكايات قصاصي المدينة ، أصبحت مسكونة بالخوف وهو يغزو المكان ، يمحقه ويجعله ملتبسا ، فنعيش فيه حذرين ، يسكننا الخوف ، يقودنا لخشية المدينة التي لن تصبح عندئذ مدينتنا ، إنها مدينة غريبة ، لم نعرفها من قبل . نحن نكره الخوف و نكره المدينة التي يسكنها .
ولأن كل مكان هو مشروع ماهية مكانية ، تحضر فيه الأشياء ، تتعالق وتتداخل كي تنسج حضورها فيه وإستحضارها له ، وهي تؤسس مع المكان ومعطياته جدلا يمنحه مكانيته ويصنع تميزها ، فيكون الكرسي في فضاء الغرفة المغلق هو غير الكرسي في فضاء الحديقة المفتوح ، حيث تتكفل العمارة بتفرد المكان وجعل وجوده حدثاً يكون الفعل الانساني فيه متفرداً هو الآخر، كما أن تمضي ليلتك في غرفة ليست كسواها ، أو أن تجالس أصدقاءك في فضاء يحفظ للوقت ثراءه ودفئه وجماله . غير إن الجمال الذي يحل في الأمكنة يربك الشعور أحيانا ، اذ تدخل قصراً معمراً عاش قروناً ، تنسج سطوح جدرانه الجليلة زخارف من الطابوق ، وترتقي سقوف أروقته خلايا مقرنصات مدهشة تقود الى تأملها زمن إستغراق طويل ، حد أن يداخلك الشك في أن تتمكن من العيش في مثل هذا المكان ، والركون الى سكن هادىء ، رفقة جمال مثير يجعلك مستفزا طول الوقت ، ليس لعينيك أن تستريح وليس لشعورك أن يهدأ ، كي تغادر اليقظة المتعطشة اليه وتذهب الى هدأة النوم . إن جدران البيت هي ليست جدران القصر او جدران المتحف ، في البيت نتوخى جداراً مهذباً ومتعقلاً يدعو الى الاسترخاء والهدوء .
نحن ندخل الأمكنة محملين بثقل إعتقادنا عنها ، نبني صورتنا الذهنية عن المكان من تضافر وإنتظام مافيه ، ومن تدخّل الانسان وهو يقيم علاقته الحسية والسلوكية مع معطياته ، يصوغه وهو يمد محمولاته الثقافية في نسغ المعطيات الطبيعية والأشيائية ، بما ينظُّم المكان ويكشف عن قدرته على التشكل ، فيكون بذلك بعداً مكوناً في الوجود الإنساني ، يحفظه ويصونه ويحمل مقاصده ومعانيه ، وأكثر من فرصة لتجلي الموجود . وهو غير حال الأمكنة التي تتكرر قبل أن تنفذ اليها نوايا الابداع متمعنة في وضع كل حجر جوار حجر . وحيث تدرك العمارة كيف تنتج المكان وتوقظ إحساسنا به ، يتوغل الذهن نافذاً فيه . إنها تجعلنا نعيش المكان مثل ما نعيش فيه ، مهمتنا أن نتعلم كيف نتعاطاها ، عمارة رصينة وعميقة ، وتلك ثقافة وتعودات ونوايا يصعب إخفاء تدخلاتها في إكتشاف الأبنية وتلقيها .
إن المعنى الذي يناله المكان من تشكله ومن توظيفه ، يمكن له أن يتحول بمثل تحول نوايا التوظيف ، وهي تغادر من حال الى حال بسبب تعقيدات الوضع الحياتي للانسان ، الذي ينتج عنه تعدد الفرص التي يمكن إستثمارها في ضمن مديات عريضة ، تتبع تمظهرات جغرافية الأمكنة ، وتعقيدات شبكة الأفعال السلوكية المتشعبة . كما إن تغير الاسلوب في العمارة يؤدي الى تغير في الأمكنة وفي القدرة على تفعيل مكانيتها ، كما في العمارة التفكيكية ، حيث تتخلى الأشكال المعمارية عن نمط حضورها المتوقع ، فتغادر البداهة وهي ترتاد جماليات الارتباك والاختلال والتموّج والاضطراب ، وهو حال من الشكل يحيله حدثا ويحيل المكان حدثاً ايضا . والاضطراب مقترح لمغادرة الملل الذي ينتج عن التكرار والمزيد من الأنتظام ، يمكن له أن ينقذنا من ملل يرافقنا طويلا ، مع إننا نجهله وننشغل عنه ، وهو يتمثل في البيت ، المكان الذي ندخله و نغادره كل يوم من دون أن ينجح في أن يتغير، وقد يكون في قدرة أحدنا أن يعود الى البيت في غير الوقت الذي تعوده ، فيجده يموج بحركة حياة لم يشهدها في وقت عوداته السابقة ، وربما يكتشف بذلك بيتاً آخر ، فيكون في متاح زمان مختلف أن يدخلنا مكاناً مختلفاً ، ويكون في إختلاف زمان إشغال البيت منفذ يخرجنا من ملل زمان متعود عليه . إضطراب يغادر العود والتكرار نحو الجديد وغير المتوقع ، وهو ما دعاني في إعداد واجهة مبنى لمجموعة من الشقق السكنية المتماثلة ، أن أقترح سطوحاً بألوان متعددة ، يرتفع بعضها قليلا عن مستوى معين وينخفض بعضها الاخر ، في حركة توحي بإضطراب يتدخل في ترتيب تلك السطوح ، وكان ذلك اقتراحاً للأنفلات من جمود التكرار ورتابته . ويمكن أن نجد لتحاشي الملل منفذاً آخر ، عندما يدرك المبنى موضعه الذي يشغله ويحيط به ، ويفتح لذلك فوهاته ومنافذ تحسسه ، وتوصل الى تفرده ، وهو يحضر في الموقع بعناية تتجاوز الحضور الطارئ ، كي توقظ في الموقع مكانيته ، وتعيد للمبنى حيويته وتوقف بذلك هدر الأمكنة . حيث تقرأ الأبنية المكان ، وهي تحل فيه كما تقرأ الكلمات العالم ، تستنطق الصوت والإصغاء ، تصف ماحولها وتتحدث عنه ، وهي تجعله يتمرأى ويتمظهر ، كما يفعل الجدار الذي يواجه الشمس فيكون مشمساً ويقول هاته الشمس ، أو أن يتعقد شكله وتتعدد عناصره ومكوناته فيصنع الظل ، يغطي بعض سطوحه ، وفي الظل ايضا يستحضر الشمس ، اذ الظل تصنعه الشمس . والمبنى لايوضع في المكان هكذا ببساطة ، انما ينتج عن المكان ويولد فيه ، ويمكن له أن يتلمس طريقه الى الكينونة وهو يوسع مساماته للشعور بما حوله . كما ان عليكم ان تتلمسوا ما حولكم ايضا ، انتم شاغلو الأبنية . اذ كيف لكم ان تدخلوا الغرف بغير تحيتها ، من دون أن تقبّلوا عتبات الأبواب ، أو أن تلصقوا أصابعكم الرقيقة الى سطوح الجدران الخشنة ، تعبر أبصاركم النوافذ بلا استئذان ، تستبيحون العالم من حولكم ، وهو الذي أسكنكم اليه . لعلكم تتلطفون ، فالجدار الذي تعبرونه من دون تحية يمكن له أن يغمض عن عيونكم لونه ، أو أن يغمض عن لونكم عيونه . تذكروا ، من الذي يقول لكم من أنتم سوى الأشياء ، وكنتم قد دعوتموها الى الحضور ثم تغادرونها بغير حوار ، فيذهب بكم العماء الى الكلمات مهووسين بالإصغاء ، تركلون بإهمالكم الأشياء ، وتتغافلون عن إيقاظ الحس . تقودكم سرعة في الوجود الى خارج الوجود ، غير ان المبيت برفقة الأشياء دافئ لو تعلمون ، وهو يكفيكم عن صور الخيال والسطو على أحلام الحكايات . أرغب أن نتصالح مع الأحجار، نحملها فوق صدورنا ، فهي ليست ثقيلة كما تبدو ، وكما تقول الكلمات الكاذبة . في الصمت ، يمكن للأشياء الصلبة ، الموجودة والمنسية أن تحضر ، فيحل العالم ، وتبيعنا الأشياء بضاعتها ، خالصة ونقية .
الجدران والسقوف والبيوت والشوارع والأرصفة والأشجار والمدينة التي نسكن اليها ، نحن ضيوفها كما هي ضيوفنا ، أشياء المدينة التي نصنع ونحب ، نحن ايضا اناسها الذين تأوي اليهم وتحبهم ، فلنتلطف بمدينتنا ، ونغسل أحجارها وشوارعها وأشجارها ووجهها الدبق الحالك ، ننفق مياهها المهملة الآسنة ، كي تحل الزرقة في أنهارها الطويلة . انها مدينة مهملة ، ولكن نحن من أوسخها ، إذ إن مكنسة البيت تلقي بترابها ونفاياتها الى رصيف الشارع ، وبقايا الأطعمة في زمان الشبع تسبح في مياه الأنهار ، وعلب الأشياء الأنيقة اللامعة المعطرة تلقى في الحدائق وقد استحالت ألوانها ، وزجاجة الكوكاكولا اللذيذة تطير في هواء المدينة ، وتحل أينما تحل . بيتنا الذي نحب تربكه ضوضاء إهمالنا ، حيث يغيب فضاء خزن الأشياء الفائضة والعاطلة والمهملة ، ويغيب نظام المدينة الذي يزيح قبيحها عن جميلها ، وفائضها عن عوزها ، وجديدها عن قديمها ، وتتوانى العقول المتقاعسة عن إيلاج النظام في الأشياء ، وهي تزاح عن هدوئها وتآلفها نحو عبث إختياراتنا . لنتكفل اذن في أن نعيد لوجوه الأشياء الجمال ، ننفض عن السطوح الأتربة ، ونغسل العتبات ، ونرسل الهدر الى زاوية النسيان . مدن كثيرة تسكن العالم ، كبيرة او صغيرة ، جميلة او غير جميلة ، غير ان مدينتا في العالم هي هذه المدينة .
كنت أنفذ مسرعا في إحدى امسياتها ، وقد كانت السماء تمطر بغزارة ، وصوت المذياع يعاند الصمت ، غير إن قطعان الخوف تركض خلف المركبة ، وكان الذعر يقود عجلاتها ، وماعدت متيقنا من المكان الذي دعيت فيه لتناول العشاء هل هو موجود بحق أو كان محض وهم . وعلى الرغم من إفتقادي للرغبة في الطعام غير إن ذلك ليس دليلا على إني قد أكملت عشائي للتو . الأمكنة التي تعبرها عجلتي الآن ، والتي حضرت في حكايات قصاصي المدينة ، أصبحت مسكونة بالخوف وهو يغزو المكان ، يمحقه ويجعله ملتبسا ، فنعيش فيه حذرين ، يسكننا الخوف ، يقودنا لخشية المدينة التي لن تصبح عندئذ مدينتنا ، إنها مدينة غريبة ، لم نعرفها من قبل . نحن نكره الخوف و نكره المدينة التي يسكنها .