أخذتني من أحشاء السوق المسقوف، من رائحة الأقمشة والزعفران، المسك والبخور، من مخاريط الضوء المنهمر من ثقوب السقف الصفيحي الصدئ المنخور، من برودة الظلال، من البلاط المبقع بدوائر الشمس، من الأغبرة المتراقصة وهي تعفرني أثناء مروري المتأني في طريقي إلى دكان أبي النجار، من الغمرة العميقة، من كسل الظلال.
أيقظني وجهها المضيء، وأنساني لعبة الأغبرة والروائح والأضواء، فحملتُ مبهوراً بنحت القسمات المتناغمة بالشعر الكستنائي المتحدر أمواجاً.. أمواجاً. كانت بصحبة أختها الكبيرة السمراء. صرنا وجهاً لوجه. انخمرتُ.. ووجدتني أستدير متتبعاً خطوها الغنج، مخدراً باللفتات الخاطفة، وبالعينين النجلاوين، الهدباوين، الخضراوين خضرة مشوبة بلون السماء.. أخذتني.. إلى أن ألقتني وحيداً، غريباً في ظلال تنحسر قليلاً... قليلاً. أظاهر آجر الجدار، غير آبه بعيون نسوة الزقاق الداخلات الخارجات من وإلى البيوت. أتشاغل عنهن بالتحديق بأشجار الحقول، بالأفق المترامي خلفها، بتموج التلال، بالنوافذ المسدودة، وبتراب الشارع، محتدماً أفور بين باب خشبي مغلق غيبها والسفرطاس الساخن المركون جواري. أحلم بشربة ماء فأقوم. أقرع أقرب باب. تسقيني صبية سمراء، رشيقة القد، شاحبة الخد، لعوبة النظرات، بطاسة ماء، فأحرز من دكنة عينيها السوداوين بريق الشهوة، ومن الجسد المراهق الضائق بالثوب الخلق ارتجافة النهدين الصارخين المختنقتين. أستدير عائداً إلى بقعة ترابي لأظاهر الجدار، مصلوباً في انتظاري المفتوح. أتذلل بعيني الساهرتين للخشب الصامت القاسي، لشكل الباب الحاوي خلفه قامتها اليافعة، أتوسل سكونه.. لعله يرحمني.. يأتي بها.. ماذا أفعل؟ ماذا أصنع؟ وصبيتي "أمل" الخضراء حطتني في باطن حيرة ملساء، فلا هي تصد، ولا هي بالوصال تجود. ترد تحيتي مرة، وتتجاهلها مرات في انتظاراتي اليومية بأغباش المدارس وأماسي اللعب، لم أفز منها إلا بتحديقة غريبة، تتملاني أول الأمر عميقاً في شرود، ثم تستعيد الخضرة الرقراقة صرامتها، والنظرة حياديتها الطاردة، فتضيع فرصة مواصلة الكلام بعد التحية والسلام. ماذا أفعل يا روحي؟ ماذا أفعل إزاء الصد المحير وشبه الوصال.. غير التحول إلى كائن من ظلال، ألاحق مسراها الخفيف في الأزقة وأطراف الحقول، في الأغباش والهواجر والأماسي، أربو من انصلابي المكين في بئر الظلال طلوعها المتوقع كل لحظة.. طلوعها المستحيل من خلف صمت خشب باب خالتها العنيد.
تتراجع الظلال، فألمّ أطرافي، أتكور، أنحشر دافعاً ظهري بالآجر الهش... دون جدوى، فالشمس أضحت في رائعتها.. كأنها جمدت لا تبرح كبد السماء. أدوخ في بحثي عن أثر ظل اندمل بكنف الجدار، وتركني لرحمة صبيب الوهج الحارق، الساقط مثل حمم النيران. غادرتُ مكاني، وجعلت أخطو لائباً. أقطع الزقاق من مبتدئه إلى منتهاه... أدور.. أدور مثل مزهور، علَّ الحركة تخلصني من قساوة الشمس. أمر جوار الباب، أكاد أدفره، أكاد أصرخ باسمها كي تغادر وتنقذني من جنون الظهيرة، والبشر يقيلون في برودة ظلال الغرف والأروقة، أراهم من الأبواب نصف المواربة.. أتحسر. أرمق الجدار المقابل مستعجلاً انبثاق الفيء الحنون الذي سرعان ما لمحتُ بوادره تطلع من كنف الجدار. ظللتُ ألف حول الزقاق إلى أن سمك الفيء وتمدد، فتهالكتُ إلى باطنه الرحيم، لأخوض في محنة قلبي الباحث عن وهم ود مخبوء في متاهة خضرة العينين البخيلتين علي بنظرة تحسسني بالمشاركة ولو للحظات، أتوهم اللحظة التي سيزول فيها الذهول والاستغراب ثم حياد الخضرة الصلد لنستمر أبعد من السلام. أغورُ مقلباً شؤون قلبي. أتساءل عما يجعل قلبها الغافي الجافي يشب بنيران قلبي. أعدمتُ السبل... كل السبل. الحكي الذي أقضي أياماً في تحضيره، والمخنوق بحيادية نظرتها الطاردة، وجد مخرجاً وفاض في سيل من الرسائل لا ينقطع. كنت أجد صعوبة في صوغ ما يعتمل بداخلي، فاشتريت كتاب الرسائل العصرية وجعلت أنتقي ما يناسب حالتي من العبارات، حكيت عن ولهي.. سهري.. أحلامي.. حبي الذي ليس له مثيل. شكوت منها إليها عن إعراضها عني، نضارة المشاعر الطفلية البريئة، رياح القلب في هبوبها الأول، وصفتُ لها ساعات الانتظار.. و.. حكيت.. حكيت بالكلمات.. حكيتُ.. في ورق ملون شفاف كنت لأجل شرائه أسرق من "حسينية" أخي الصغير وأضيفه إلى ما أوفره من مصروفي. تفننت في طرق إيصالها، بيد صبايا محلتنا، بإسقاطها جوار عتبة دارهم أثناء مروري أمام جلستها اليومية قدام البيت، بيد أختي الصغيرة سهاد، برميها في غبشة الصباح أمام خطوها المتوجه نحو المدرسة. كنت أراها تتلقف مظاريفي في لهفة، فأبحر متخيلاً أصابعها الغضة وهي تلامس أثار أصابعي، خفقة قلبها لتذللي المفضوح، إعجابها بعبارات الحب الفخمة المنتقاة بعناية من نماذج الرسائل العصرية، وأشعار الحب القديمة المستلة من ديوان أمرئ القيس، فأتوقع عقب كل رسالة تلتقطها شبوبها بنيران المحبة.. لكن هيهات.. ففي الصبيحة التالية تقابل تحيتي بود وذهول ثم بحيادية النظرة الخضراء الطاردة، فأرجع خائباً من أسوارها العالية، المنيعة إلى وحدتي المترسبة في برودة الأفياء، وانتظاراتي المشبوحة في الأغباش والعصاري، في الظهائر والليالي، لأوقات ذهابها من وإلى فرن الخبز، بيوت الجيران، السوق، المدرسة، العزاءات الحسنية في عاشوراء، الحمام العمومي. أعود لأسكن أخيلتي متمنياً أن يعاكسها صبي فأضربه، أو توشك أن تُدهس بعربة فأنقذها، أو تسقط في نهر المدينة فأنتشلها. أنسجُ في زمن انتظاري المفتوح ألف قصة وقصة. أبحر معها في موج الفيء العميق، في الهبوب الخفيف لنسائم العصر. أبحر في صمت الباب المسدود، سادراً عن ضجيج الزقاق المغادر موات الظهيرة، فرأيتها تطلع من أحشاء الخشب، وحيدة، تتجه نحوي بوقع خطاها المربك. تلفتُ حولي، فاندهشتُ من صمت الزقاق وقفره. مقبلة باسمة عبرت حدود الفيء:
ـ يا عيني... أبعدك تنتظرني.. يا عيني؟.
من جلستي المستسلمة تأملتُ قامتها الممشوقة، خصرها الناحل، رذاذ كلماتها المسكر، أربكني حنان عينيها المنسكب. كاد يبكيني، فأخفضت نظري واقعاً لأول مرة على نحت قدميها الصغيرتين الحميمتين الدانيتين العاريتين إلا من خطوط النعل البلاستيكي الخفيف، أول مرة أرى رهافة الأصابع الحبيبة عن هذا القرب، كدت أقع عليها بوجهي، ألثمها، أشبعها تقبيلاً، أمسحها ببشرة وجهي الخدران، بوجدي.
هل أنا في حلم يا إلهي أم أن جسد الحبيب الحي حقاً يخيم فوقي؟.
تهالكتْ جواري على التراب. أحاطتني بذراعيها، بأهداب عينيها الخضراوين الواسعتين، مسحتْ جبهتي المعروقة بطلاوة بشرة أناملها النحيفة. أصابني خرس وكأن ليس بالدنيا كلام، أين مني الحكايا الطوال التي كنتُ أتمرن على سردها وحيداً متهيئاً للحظة كهذه، أنعشتني أنفاسها الهادئة اللافحة وهي تخبرني كل قصتها:
ـ أتدري يا مجنون أني أحفظ جوريتك الحمراء التي ألقيتها قبل سنتين في التراب، عندما كنا نغبش سوياً إلى فرن الخبز، جففتها بين صفحات كتابي.
لماذا إذن اعتقدتُ وقتها بضياع وردتي الجورية التي اضطررت إلى السطو على بستان "عبيد" الكائن بطرف المدينة في غروب موحش، كاد فيه أن يفقدني برائتي ألطف كائن أحسسته بطفولتي، ألطف جار "عبد الحسين داخل الناحل" طالب الخامس ثانوي النجيب الذي حصرني بين ألواح الجوري، والذي لم ينقذني منه إلا تشربك قدميه بلباسه المقطوع التكة. لماذا تخيلتها مهجورة على التراب حيث أسقطتها.
ـ أخاف.. أخاف يا روحي من كلام الناس.
حضنتني.. فأخذتها إلى صدري، والدنيا لا تسع فرحتي.. هذا حلم يقظتي ومنامي ينبض لصق صدري في قفر الزقاق المهجور.. آه.. آه.. ما أسعدني وأصابعنا تتلمس جائبة مناحي جسدينا تماماً مثلما حدث في الفيلم الأجنبي الذي رأيته البارحة في سينما الجمهورية الصيفي، أحنو بأطراف أصابعي على شحوب الوجنتين الناحلتين. كانت مخدرة، مسبلة الأجفان. تكاد تغفو، فأربت بهمس على الخدين إلى أن تباعد أهدابها الطويلة، فيسقط وجهي الخمران في بحر الخضرتين العميقتين الدانيتين الناطقتين بعلامات المحبة والامتنان.. ما أسعدني في حضني جنة ونار.. لحظتها تذكرت وجه معلم الدين بنظاراته الطبية وبوجهه المتجهم وهو يكيل اللوم لأبينا آدم الذي فضل التفاحة.. حواء.. الفناء.. تذكرت وأمل الخضراء تبحر في دمي الساخن، صراخه ـ لولاه... لولاه.. لما كابدنا كل عذاب الدنيا. سألته:
ـ أذنبٌ إذا أكل آدم "ع" تفاحة. التفاح لذيذ يا أستاذ!!!.
فصرخ بي:
ـ اسكت. إنك يا حمار لا تفهم الآن، ما حواء المجرمة السامعة وسوسة إبليس، الغاوية المحرضة بمفاتن الجسد الفاني.. الخاوي.. أصمت يا حمار ولا تفكر بأسئلة الشيطان.
حلاوة التفاح في حضني.. حواء في حضني. ما أجملك يا جدي آدم.. ما ألذ المعصية إذن يا من جعلتني أحس.. كل هذي النعومة.. كل هذا الكيان المبهج.. الأخذ النفس إلى مناح لا تطولها إلا الأحلام.. طوبى لك..
ما ألذ هذي اللحظة.. وبغتة وجدتني أختض مثل محرور مذعوراً من فكرة انقضاء اللحظة.. وهميتها.. كونها قد تكون مجرد حلم.. أنا المكثف إلى مجرد حلم لا أنفع لشيء كما تردد أمي التي أتعبها شرودي، فدفعتني إلى خالي مهدي النجار الذي سرعان ما اكتشف عدم جديتي وسروحي وغيابي اليومي من دكانه حال مغادرته وتركي وحيداً.. والذي قادني من يدي بأصابعه الخشنة العطوفة المتوترة من شارع الكرفت إلى الحي العصري، ودفعني بحنان قائلاً لأمي: ـ لا ينفع.. لا ينفع.. إبنك سارح.. بماذا.. لا أدري؟. ارتججت ذعراً خوف أن كل الأمر مجرد حلم، لماذا أنذعر من الحلم، أنا المدمن دروب الأحلام لماذا؟. تهت.. أنا في حلم أم في منام؟.
أيقظني السؤال، فوجدتُ الفيء امتد واستطال، متسلقاً الحائط المقابل، يلاحق ذيول الشمس المائلة للاحمرار، المنحسرة عن بئر الزقاق، الصابغة حافات أسوار الأسطح الواطئة، وبدلاً من قدّ حبيبتي اللين وجدتني أحتضن صلابة معدن السفرطاس، معفراً بغبار النوم، مرتبكاً، مثولاً، مأخوذاً بالسؤال:
ـ ما هذا الزقاق الغريب؟ وأين أنا الآن؟.
تلفت حولي، وجدتني أستيقظ في احتدام عصاري الزقاق الفقير، في الضجيج، ساحة عراك، ساحة كرة قدم، ليس ثمة وجه أليف، ما هذا الزقاق الغريب؟ ما هذا؟.
ذكرني الحلم، جعلني أتلفت، فوقع بصري المشوش، الملهوف على باب خالتها المفتوح. لطمتُ جبهتي بكفي المبسوط وقفزت ماسكاً السفرطاس. هرولتُ مسافة مثل مجنون قبل أن يلجمني شحوب الغروب، فأبي يجلس الآن في فضة السماء وسط حوشنا الفسيح، ينادم كأس خمرته اليومي، ناسياً وجبة الظهيرة الباردة في السفرطاس الذي ضاع معي، فجعلتُ أجرر قدمي يائساً مخذولاً. سيستفزه مرآي ويذكره.. فماذا سأقول؟ أأخبرهم عن انخطافي من ظلال السوق؟ من يصدق؟ ماذا سأقول؟.
لمحتها ما أن بلغت مدخل شارعنا العريض، تلعب جوار عمود النور. اتكأتُ على حائط قديم.. يائساً.. مسكيناً.. فمتى عادت؟ وكيف مرت؟ لم أستطع أن أسأل. فإلى من أتوجه بالسؤال؟ ولم أسأل؟ تأملتها تمرح بين الصبايا، تبتسم للغروب، للمارة، للنسمة، لمقدمي المكروب غير عارفة بمحنتي، بالعاصفة المجلجلة الكامنة بانتظاري خلف بابنا المسدود.
أيقظني وجهها المضيء، وأنساني لعبة الأغبرة والروائح والأضواء، فحملتُ مبهوراً بنحت القسمات المتناغمة بالشعر الكستنائي المتحدر أمواجاً.. أمواجاً. كانت بصحبة أختها الكبيرة السمراء. صرنا وجهاً لوجه. انخمرتُ.. ووجدتني أستدير متتبعاً خطوها الغنج، مخدراً باللفتات الخاطفة، وبالعينين النجلاوين، الهدباوين، الخضراوين خضرة مشوبة بلون السماء.. أخذتني.. إلى أن ألقتني وحيداً، غريباً في ظلال تنحسر قليلاً... قليلاً. أظاهر آجر الجدار، غير آبه بعيون نسوة الزقاق الداخلات الخارجات من وإلى البيوت. أتشاغل عنهن بالتحديق بأشجار الحقول، بالأفق المترامي خلفها، بتموج التلال، بالنوافذ المسدودة، وبتراب الشارع، محتدماً أفور بين باب خشبي مغلق غيبها والسفرطاس الساخن المركون جواري. أحلم بشربة ماء فأقوم. أقرع أقرب باب. تسقيني صبية سمراء، رشيقة القد، شاحبة الخد، لعوبة النظرات، بطاسة ماء، فأحرز من دكنة عينيها السوداوين بريق الشهوة، ومن الجسد المراهق الضائق بالثوب الخلق ارتجافة النهدين الصارخين المختنقتين. أستدير عائداً إلى بقعة ترابي لأظاهر الجدار، مصلوباً في انتظاري المفتوح. أتذلل بعيني الساهرتين للخشب الصامت القاسي، لشكل الباب الحاوي خلفه قامتها اليافعة، أتوسل سكونه.. لعله يرحمني.. يأتي بها.. ماذا أفعل؟ ماذا أصنع؟ وصبيتي "أمل" الخضراء حطتني في باطن حيرة ملساء، فلا هي تصد، ولا هي بالوصال تجود. ترد تحيتي مرة، وتتجاهلها مرات في انتظاراتي اليومية بأغباش المدارس وأماسي اللعب، لم أفز منها إلا بتحديقة غريبة، تتملاني أول الأمر عميقاً في شرود، ثم تستعيد الخضرة الرقراقة صرامتها، والنظرة حياديتها الطاردة، فتضيع فرصة مواصلة الكلام بعد التحية والسلام. ماذا أفعل يا روحي؟ ماذا أفعل إزاء الصد المحير وشبه الوصال.. غير التحول إلى كائن من ظلال، ألاحق مسراها الخفيف في الأزقة وأطراف الحقول، في الأغباش والهواجر والأماسي، أربو من انصلابي المكين في بئر الظلال طلوعها المتوقع كل لحظة.. طلوعها المستحيل من خلف صمت خشب باب خالتها العنيد.
تتراجع الظلال، فألمّ أطرافي، أتكور، أنحشر دافعاً ظهري بالآجر الهش... دون جدوى، فالشمس أضحت في رائعتها.. كأنها جمدت لا تبرح كبد السماء. أدوخ في بحثي عن أثر ظل اندمل بكنف الجدار، وتركني لرحمة صبيب الوهج الحارق، الساقط مثل حمم النيران. غادرتُ مكاني، وجعلت أخطو لائباً. أقطع الزقاق من مبتدئه إلى منتهاه... أدور.. أدور مثل مزهور، علَّ الحركة تخلصني من قساوة الشمس. أمر جوار الباب، أكاد أدفره، أكاد أصرخ باسمها كي تغادر وتنقذني من جنون الظهيرة، والبشر يقيلون في برودة ظلال الغرف والأروقة، أراهم من الأبواب نصف المواربة.. أتحسر. أرمق الجدار المقابل مستعجلاً انبثاق الفيء الحنون الذي سرعان ما لمحتُ بوادره تطلع من كنف الجدار. ظللتُ ألف حول الزقاق إلى أن سمك الفيء وتمدد، فتهالكتُ إلى باطنه الرحيم، لأخوض في محنة قلبي الباحث عن وهم ود مخبوء في متاهة خضرة العينين البخيلتين علي بنظرة تحسسني بالمشاركة ولو للحظات، أتوهم اللحظة التي سيزول فيها الذهول والاستغراب ثم حياد الخضرة الصلد لنستمر أبعد من السلام. أغورُ مقلباً شؤون قلبي. أتساءل عما يجعل قلبها الغافي الجافي يشب بنيران قلبي. أعدمتُ السبل... كل السبل. الحكي الذي أقضي أياماً في تحضيره، والمخنوق بحيادية نظرتها الطاردة، وجد مخرجاً وفاض في سيل من الرسائل لا ينقطع. كنت أجد صعوبة في صوغ ما يعتمل بداخلي، فاشتريت كتاب الرسائل العصرية وجعلت أنتقي ما يناسب حالتي من العبارات، حكيت عن ولهي.. سهري.. أحلامي.. حبي الذي ليس له مثيل. شكوت منها إليها عن إعراضها عني، نضارة المشاعر الطفلية البريئة، رياح القلب في هبوبها الأول، وصفتُ لها ساعات الانتظار.. و.. حكيت.. حكيت بالكلمات.. حكيتُ.. في ورق ملون شفاف كنت لأجل شرائه أسرق من "حسينية" أخي الصغير وأضيفه إلى ما أوفره من مصروفي. تفننت في طرق إيصالها، بيد صبايا محلتنا، بإسقاطها جوار عتبة دارهم أثناء مروري أمام جلستها اليومية قدام البيت، بيد أختي الصغيرة سهاد، برميها في غبشة الصباح أمام خطوها المتوجه نحو المدرسة. كنت أراها تتلقف مظاريفي في لهفة، فأبحر متخيلاً أصابعها الغضة وهي تلامس أثار أصابعي، خفقة قلبها لتذللي المفضوح، إعجابها بعبارات الحب الفخمة المنتقاة بعناية من نماذج الرسائل العصرية، وأشعار الحب القديمة المستلة من ديوان أمرئ القيس، فأتوقع عقب كل رسالة تلتقطها شبوبها بنيران المحبة.. لكن هيهات.. ففي الصبيحة التالية تقابل تحيتي بود وذهول ثم بحيادية النظرة الخضراء الطاردة، فأرجع خائباً من أسوارها العالية، المنيعة إلى وحدتي المترسبة في برودة الأفياء، وانتظاراتي المشبوحة في الأغباش والعصاري، في الظهائر والليالي، لأوقات ذهابها من وإلى فرن الخبز، بيوت الجيران، السوق، المدرسة، العزاءات الحسنية في عاشوراء، الحمام العمومي. أعود لأسكن أخيلتي متمنياً أن يعاكسها صبي فأضربه، أو توشك أن تُدهس بعربة فأنقذها، أو تسقط في نهر المدينة فأنتشلها. أنسجُ في زمن انتظاري المفتوح ألف قصة وقصة. أبحر معها في موج الفيء العميق، في الهبوب الخفيف لنسائم العصر. أبحر في صمت الباب المسدود، سادراً عن ضجيج الزقاق المغادر موات الظهيرة، فرأيتها تطلع من أحشاء الخشب، وحيدة، تتجه نحوي بوقع خطاها المربك. تلفتُ حولي، فاندهشتُ من صمت الزقاق وقفره. مقبلة باسمة عبرت حدود الفيء:
ـ يا عيني... أبعدك تنتظرني.. يا عيني؟.
من جلستي المستسلمة تأملتُ قامتها الممشوقة، خصرها الناحل، رذاذ كلماتها المسكر، أربكني حنان عينيها المنسكب. كاد يبكيني، فأخفضت نظري واقعاً لأول مرة على نحت قدميها الصغيرتين الحميمتين الدانيتين العاريتين إلا من خطوط النعل البلاستيكي الخفيف، أول مرة أرى رهافة الأصابع الحبيبة عن هذا القرب، كدت أقع عليها بوجهي، ألثمها، أشبعها تقبيلاً، أمسحها ببشرة وجهي الخدران، بوجدي.
هل أنا في حلم يا إلهي أم أن جسد الحبيب الحي حقاً يخيم فوقي؟.
تهالكتْ جواري على التراب. أحاطتني بذراعيها، بأهداب عينيها الخضراوين الواسعتين، مسحتْ جبهتي المعروقة بطلاوة بشرة أناملها النحيفة. أصابني خرس وكأن ليس بالدنيا كلام، أين مني الحكايا الطوال التي كنتُ أتمرن على سردها وحيداً متهيئاً للحظة كهذه، أنعشتني أنفاسها الهادئة اللافحة وهي تخبرني كل قصتها:
ـ أتدري يا مجنون أني أحفظ جوريتك الحمراء التي ألقيتها قبل سنتين في التراب، عندما كنا نغبش سوياً إلى فرن الخبز، جففتها بين صفحات كتابي.
لماذا إذن اعتقدتُ وقتها بضياع وردتي الجورية التي اضطررت إلى السطو على بستان "عبيد" الكائن بطرف المدينة في غروب موحش، كاد فيه أن يفقدني برائتي ألطف كائن أحسسته بطفولتي، ألطف جار "عبد الحسين داخل الناحل" طالب الخامس ثانوي النجيب الذي حصرني بين ألواح الجوري، والذي لم ينقذني منه إلا تشربك قدميه بلباسه المقطوع التكة. لماذا تخيلتها مهجورة على التراب حيث أسقطتها.
ـ أخاف.. أخاف يا روحي من كلام الناس.
حضنتني.. فأخذتها إلى صدري، والدنيا لا تسع فرحتي.. هذا حلم يقظتي ومنامي ينبض لصق صدري في قفر الزقاق المهجور.. آه.. آه.. ما أسعدني وأصابعنا تتلمس جائبة مناحي جسدينا تماماً مثلما حدث في الفيلم الأجنبي الذي رأيته البارحة في سينما الجمهورية الصيفي، أحنو بأطراف أصابعي على شحوب الوجنتين الناحلتين. كانت مخدرة، مسبلة الأجفان. تكاد تغفو، فأربت بهمس على الخدين إلى أن تباعد أهدابها الطويلة، فيسقط وجهي الخمران في بحر الخضرتين العميقتين الدانيتين الناطقتين بعلامات المحبة والامتنان.. ما أسعدني في حضني جنة ونار.. لحظتها تذكرت وجه معلم الدين بنظاراته الطبية وبوجهه المتجهم وهو يكيل اللوم لأبينا آدم الذي فضل التفاحة.. حواء.. الفناء.. تذكرت وأمل الخضراء تبحر في دمي الساخن، صراخه ـ لولاه... لولاه.. لما كابدنا كل عذاب الدنيا. سألته:
ـ أذنبٌ إذا أكل آدم "ع" تفاحة. التفاح لذيذ يا أستاذ!!!.
فصرخ بي:
ـ اسكت. إنك يا حمار لا تفهم الآن، ما حواء المجرمة السامعة وسوسة إبليس، الغاوية المحرضة بمفاتن الجسد الفاني.. الخاوي.. أصمت يا حمار ولا تفكر بأسئلة الشيطان.
حلاوة التفاح في حضني.. حواء في حضني. ما أجملك يا جدي آدم.. ما ألذ المعصية إذن يا من جعلتني أحس.. كل هذي النعومة.. كل هذا الكيان المبهج.. الأخذ النفس إلى مناح لا تطولها إلا الأحلام.. طوبى لك..
ما ألذ هذي اللحظة.. وبغتة وجدتني أختض مثل محرور مذعوراً من فكرة انقضاء اللحظة.. وهميتها.. كونها قد تكون مجرد حلم.. أنا المكثف إلى مجرد حلم لا أنفع لشيء كما تردد أمي التي أتعبها شرودي، فدفعتني إلى خالي مهدي النجار الذي سرعان ما اكتشف عدم جديتي وسروحي وغيابي اليومي من دكانه حال مغادرته وتركي وحيداً.. والذي قادني من يدي بأصابعه الخشنة العطوفة المتوترة من شارع الكرفت إلى الحي العصري، ودفعني بحنان قائلاً لأمي: ـ لا ينفع.. لا ينفع.. إبنك سارح.. بماذا.. لا أدري؟. ارتججت ذعراً خوف أن كل الأمر مجرد حلم، لماذا أنذعر من الحلم، أنا المدمن دروب الأحلام لماذا؟. تهت.. أنا في حلم أم في منام؟.
أيقظني السؤال، فوجدتُ الفيء امتد واستطال، متسلقاً الحائط المقابل، يلاحق ذيول الشمس المائلة للاحمرار، المنحسرة عن بئر الزقاق، الصابغة حافات أسوار الأسطح الواطئة، وبدلاً من قدّ حبيبتي اللين وجدتني أحتضن صلابة معدن السفرطاس، معفراً بغبار النوم، مرتبكاً، مثولاً، مأخوذاً بالسؤال:
ـ ما هذا الزقاق الغريب؟ وأين أنا الآن؟.
تلفت حولي، وجدتني أستيقظ في احتدام عصاري الزقاق الفقير، في الضجيج، ساحة عراك، ساحة كرة قدم، ليس ثمة وجه أليف، ما هذا الزقاق الغريب؟ ما هذا؟.
ذكرني الحلم، جعلني أتلفت، فوقع بصري المشوش، الملهوف على باب خالتها المفتوح. لطمتُ جبهتي بكفي المبسوط وقفزت ماسكاً السفرطاس. هرولتُ مسافة مثل مجنون قبل أن يلجمني شحوب الغروب، فأبي يجلس الآن في فضة السماء وسط حوشنا الفسيح، ينادم كأس خمرته اليومي، ناسياً وجبة الظهيرة الباردة في السفرطاس الذي ضاع معي، فجعلتُ أجرر قدمي يائساً مخذولاً. سيستفزه مرآي ويذكره.. فماذا سأقول؟ أأخبرهم عن انخطافي من ظلال السوق؟ من يصدق؟ ماذا سأقول؟.
لمحتها ما أن بلغت مدخل شارعنا العريض، تلعب جوار عمود النور. اتكأتُ على حائط قديم.. يائساً.. مسكيناً.. فمتى عادت؟ وكيف مرت؟ لم أستطع أن أسأل. فإلى من أتوجه بالسؤال؟ ولم أسأل؟ تأملتها تمرح بين الصبايا، تبتسم للغروب، للمارة، للنسمة، لمقدمي المكروب غير عارفة بمحنتي، بالعاصفة المجلجلة الكامنة بانتظاري خلف بابنا المسدود.