حينما شرعتُ بكتابة الشعر أواخر الستينيات تماماً من القرن المنصرم، حاولت السيطرة قدر المستطاع على الأوزان الشعرية المعهودة، وما يعتمل داخلها من إيقاعات وما إذا كانت تنطوي على مرونة في توليد إيقاعات أخرى ولو من خلال تعشيقة وتركيبة وزنية ما. فلاحظت أن ذلك ممكناً إلى حدود معينة وبعدها يضيق النَفَس. أخذت أبحث- خارج الأوزان أولاً- عن إيقاعات شعرية داخل مساحة الشعر ذاته فشعرت بعد سنوات بعدم كفاية مثل هذا الفضاء للتنفس بطلاقة. فما الذي حصل؟ جاءت الخطوة الأولى منتصف السبعينيات، بهجر القصيدة العمودية أو ما يطلق عليها "ذات الشطرين" نهائياً، بعد تولد قناعة لدي أنها تعبر عن أشكال وإيقاعات وصيغ تمُتّ للماضي البعيد قبل سواه. لاحظتُ فيما بعد أن وراء تلك البحور إيقاعات الحياة وثمة إيقاعات ما وراء هذه الإيقاعات. هذا الأمر وما اعتراني من شكوك أخذت تساورني بشأن الإيقاع قادني للبحث عما هو أبعد من الإيقاعات المحسوسة أو المعهودة. رافقتْ قطيعتي للقصيدة العمودية، ممارسةُ قصائد تعتمد على "التفعيلة" نشرت حينها في الصحف والمجلات العراقية والعربية. قمتُ في مرحلة تالية ضمن شعرالتفعيلة بالاستفادة من عناصر النثر: (كالوصف والسرد وشكل النثر مثلاً). كنتُ دائماً اشتغل، بنفس القدر، على قضايا الشكل- المعنى، والإيقاع- بصوره المختلفة: تلك التي يمكن التقاطها والأخرى العسيرة على الرصد: إيقاع داخلي وآخر خارجي وما بينهما وحولهما وخارجهما، إيقاع ذو صلة بتناغم وتفاعل أو تناقض الكلمات وأحياناً المعاني، وإيقاع له صلة بشؤون بلاغية- من قبيل الجناس والطباق وما شابه، وآخر له علاقة بالمعنى وانعكاس الحياة اليومية على العمل الأدبي والإبداعي وهو مرتبط بشكل أو بآخر بحركة الوجود، وثمة آخر ذو صلة وثيقة بالشكل الكلي أو الجزئي للقصيدة. للمفاجأة في القصيدة إيقاعها كذلك. من بين أجمل الإيقاعات إيقاع الرمل حينما تسفّهُ الرياحُ بتؤدة أو تعصف به! لاحظت ثمة إيقاعات متكررة (بعضها ترسّخ زمنياً بفعل تكراره شعرياً وحياتياً) وأخرى تصاحبها، تبدو كتنويع عليها، لكنها في واقع الحال تسعى لاستقلالية ذاتية ضمن كلية إيقاعية يفرضها في المحصلة النهائية الجو العام للقصيدة. ثمة إيقاع مفصلي في كينونته يتمثل بإيقاع النَّفْسِ أو الذات الشعرية، لكلّ شاعر (حقيقي) إيقاعه الخاص- نَفَسُه المنبعث الذي ينعكس سلباً أو إيجاباً على القصيدة. في واقع الحال هناك تجارب لشعراء عراقيين وعرب سعتْ إلى كسر إيقاعية القصيدة العمودية من جهة ونمطية قصيدة التفعيلة من جهة ثانية، امتزج فيها النثر بالشعر (بما في ذلك عنصرا التوثيق والخبر)، فخسرَ الشكلان معاً في أغلب الأحيان! ثمة سرّ يتعلق بجوهر الشعر وممارسته، يدركه المجربون من الشعراء (الحقيقيين) ويُعيرونه أهمية دون سواهم، يتمثل، على صعيد الشعر بسيادة ما هو شعري على سواه، وأية تعشيقة معه ضمن القصيدة لابد وأن يبقى هو سيّد النص، لا الضيف النثري! قبل الدخول في توضيح الأمر، ينبغي التذكير بالتمايز بين الأشكال الشعرية عربياً وبالتالي المصطلحات المعبرة عنها. منذ الثمانينيات وفي أكثر من مناسبة كتابة وشفاهاً، كنت أحدَ الداعين إلى عدم خلط الأوراق الخاصة بالمصطلح ومنه الشعري. وعليه فهناك «القصيدة العمودية» و«قصيدة التفعيلة» و«القصيدة الحرة» و«قصيدة النثر». قصيدة التفعيلة تعتمد على ما يمكن تسميته بالبحور الشعرية الصافية. والبحر الشعري الصافي هو الذي يرتكز على تفعيلة واحدة (فعولن أو فاعلن أو مستفعلن أو فاعلاتن، كما هو الحال بالنسبة للبحر المتقارب، مثلا: فعولن فعولن فعولن فعولن/فعولن فعولن فعولن فعولن) تتكرر حسب حاجة القصيدة لها. البحورالعربية غير الصافية تتألف عادة من تنوع التفعيلة- تفعيلتان تتكرران عادة حسب طول البحر الشعري (مثلاً في البحر الطويل: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن/ فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن – التي جرت وفقه معلقة امرئ القيس مثلا)، بغض النظر عن مجزوءات البحور وما يحصل فيها من تغييرات وعلل وزحافات. أما قصيدتا الشعر الحر والنثر فلا تعتمدان على الأوزان الشعرية المعهودة، سوى أن الأولى تقترب من قصيدة التفعيلة شكلاً وإيقاعاً، بينما تنأى الأخيرة عنهما شكلاً ومنهجاً. في قصيدة الشعر الحر ثمة وشيجة قوية أخرى تربطها بقصيدة التفعيلة، ألا وهي سيادة ما هو شعري فيها على النثري- في النصوص الناجحة بالطبع. مثلما للنثر إيقاعه للشعر كذلك، وعلى هذا الأساس فالحصان يبدو لي يمثل حيوية الشعر، بينما البعير يمثل نثريته! ولاعلاقة لهذا التخريج بأهمية أي منهما الحيوانية: الشعرية والنثرية، فلكل منهما إيقاعه الخاص وسجله المجيد (ألمْ يقل الشاعر الجاهلي: ما للجمالِ مشيها وئيدا/ أجندلا يحملنَ أم حديدا)- كثافة شعرية واقتصاد في الشكل واللغة. لعل أهم وأخطر شروط القصيدة الناجحة سيادة ما هو شعري فيها على النثري. لا أرمي هنا، بطبيعة الحال، إلى التخلي عن قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر أو قصيدة النثر التي أمارسها كذلك، إنما غرضي التنبيه والدعوة إلى فكرة تسييد ما هو شعري على ما هو نثري أثناء كتابة القصيدة، بعبارة أخرى، هناك فرق كبير بين البحث عن الشعري في النثر وبين البحث عن النثر في الشعر، بين توظيف النثر: بعض أدواته وأشكاله وأساليبه لكسر نمطية الشعر لتنويع وتطوير وتحديث الخطاب الشعري. أنا أدعو وبوضح تام إلى النمط الثاني الرامي إلى تحرر وتحديث القصيدة بما في ذلك الاستفادة من النثر. لذا جاءت تجربتي اللاحقة بخلط الشعري بالنثري عبر توليفة تعتمد تعدد الإيقاعات (لا نقصد الوزن والتقفية بالضرورة) بما في ذلك الاستفادة من التفعيلة- التفعيلات، بغض النظر عن صفائها أو عدم صفائها، والسعي للحفاظ على النّفَسِ الشعري، على جوهر الشعر، ضمن سياق الشعر، فلاحظت انبثاقاً لإيقاعات لفظية ومعنوية، شكلية وجمالية، فيها الحركة ناطقة والسكون هامس، تأتلف أوتتصادم لخدمة قيامة قصيدة يكون الإيقاع الشعري عمودها الفقري: قصيدة مسنودة بالتفعيلة واللاتفعيلة، وبالإيقاع الشعري بلا تفعيلة، حيث يسود ما هو شعري على اللاشعري. لا قصيدة ناجحة بدون إضافة خيط الإيقاع الفكري- المعنوي داخلها. قصيدة الشكل المحض تولد ميتة شأنها شأن القصيدة التي يهيمن عليها مطلق الفكر، ومصيرها كذلك مثل تلك النماذج من «قصيدة النثر» العربية التي يندحر فيها الشعري لصالح النثري. أسعى لفك عزلة الشعر بانفتاحه على روافد أخرى، بإضافة «وتر سادس له» أو أكثر، مع المحافظة على هويته كشعر، لا نقصد الشكل هنا، إنما السعي لكتابة نص أرحب من الأشكال الشعرية المطروحة وأمضى من النثر. بتصوري، يشكل الإيقاع جوهر الشعر. للإيقاع أوجه مختلفة ومتنوعة، وإذا كنا تخلينا عن القصيدة العمودية ومارسنا قصيدة التفعيلة والشعر الحر، فليس من الضروري أن نتخلى عن تجربة الإيقاع المحسوسة أوالكامنة أفقياً وعمقاً في تلك الأشكال والألوان الشعرية. الإيقاع يتولد داخل النص الشعري وللواقع وحركة الوجود أثر في انبثاقه. إذا كانت الفكرة غامضة ولكي تتضح أكثر أرجو قراءة شطر من قصائد ديوان«ضفاف وحقول» الذي سيصدر قريباً في بيروت، خصوصاً تلك القصائد التي قد تبدو للوهلة الأولى أنها نثرية محضة. إيقاع وشكل ومعنى كنتُ ومازلتُ أُصغي، أشاهد وأتأمل. تعودتُ أنْ أُصغي لكل شيء، لنَفسِي، لخرير المطر، للماء يجري وينسابُ، للريح وهبوبها وهسيس العشب والشجر والشوك والعاقول، لحفيف الاخضرار ولفرس الحقل مصوتاً، للبروق وهي ترسم شاراتها على صفحات السماء، لسقسقة الطيور، لجُعلٍ وهو يُدحرج كرتهُ فترتد فيحاول إعادتها ثانية وهكذا. كنتُ معجبا بالرمل وبالغِرْيَنِ وبتشققه بعد الصباح، بالصحراء ونقيضها. بالكلاب وهي تعبر النهر ولا تترك أثراً. معجباً بالتعازي (المُقتصدة) والمولد النبوي وأعياد الميلاد، غير أنني أكره العطل: الجُمَعَ والآحادَ لثقلها وما يعتريني فيها من كآبة (أحياناً غير مبررة). كنتُ أغمضُ عينيّ لكي أسمع وقعَ الخيول واللطم على الصدور وهسيس السلاسل الحديدية، وإيقاع الطبول والنقّارات، كنتُ أصغي للظلمة وأرى فيها وأحسّ بإيقاعها، لا شيء، لا شيءَ أعمقَ من الظلمة فهي محل الأسرار والكتم ولهذا نرى الإسراءَ لا يكون إلا ليلاً، وكذا معارج الأنبياء وشطحات الصوفية. غالباً ما كنتُ أشعرُ أنني متفوق بقابليتي على التأمل والإصغاء، غير أن مشكلتي هي في التهيج والثوران أحياناً (وهذا له علاقة بإيقاع الجسد والنفس داخلياً وخارجياً). الشعر مزيج من التأمل والإصغاء والثوران. موسيقاه لا تنبع من شكله فقط، بله من مفرداته وترجيعها وتناغمها أو تضادها، من سديميته وتشكله وتكونه في نص يستحوذ ما هو شعري فيه على سواه. لذا فلكل مرحلة من مراحل بنية القصيدة إيقاعها. ثمة إيقاع يتحرر في داخل القارئ أو السامع. أعني الإيقاع الكائن خارج القصيدة. الشعر إيقاع وشكل ومعنى – أقانيمُ بتداخلها ينبثق الإيقاع كذلك. لماذا الإيقاعُ؟ الإيقاعُ يُخرج الكلمةَ من وحشتها ورنينها المنفرد ويضعها في جو الكتابة، المعنى يمنحها وجوداً وروحاً، والشكلُ قواماً وجمالاً. حينئذ تتشكل الكتابة. الشعر الحقيقي كتابة وكلاماً تنطبق عليه تعاليم زرادشت الثلاثة: فكّرْ جيداً، قُلْ جيداً، اعملْ جيداً. لذا يُقال: قالت العرب وقال الشاعر. الكلام أعمُّ من الكتابة، بينما الكتابةُ أخصّ، هي كشف عن خبايا النفس والكون وعن العلاقة ما بين المرئي واللامرئي، وهو بهذا الحصر يبقى ناقصاً أيضاً. تكمن أهمية الكتابة الشعرية في اشتباكها مع اللامرئي واللامحسوس لمقاربته، ومع المرئي والمحسوس لتسفيه الجانب السطحي فيه أو إعادة كتابته. الإيقاعُ أولاً (قبل المعنى والشكل). الوجود إيقاعٌ، الكلمة أم إيقاعها؟ إيقاعها ومعناها فشكلها. ما الإيقاعُ؟ الإيقاعُ وجود فحركة وسكون كذلك، الإيقاعُ شكل أيضاً. من العسير فصل الإيقاع عن الشكل، عن المحسوس والمجرد، والشكل عن الحيز الذي يتحرك فيه الإيقاعُ. الإيقاعُ سابق على التحديد والتوصيف والضوابط. لذا، تبقى الضوابط والأحكامُ أقلَّ كمالاً من الإيقاع، وأدنى منزلة وأكثر إثارة للشك والارتياب، ولا يمكنها الحكم بوجود أو عدم وجود الإيقاع. الكتابة الشعرية في أحد أوجهها الحية تعني اقتناص الإيقاع/ الإيقاعات، واقتناصها يعني حصرها في حيز. الإيقاع حركة وصوت (وسكون كذلك) وروح، إنه المرآة والصورة، نرى أنفسنا فيه وعبره أحياناً كما نرى أوجهنا في المرآة. المرآة ترانا كما تشتهي هي لا نحن، ونحن نراها مستأنسين ومخدوعين بأن ما نراه سليم الأبعادَ والزوايا والشكل. لا إيقاع دون حركة وصداها في الحيز، في المكان والزمان. الحيز يضمن الحركة ونقيضها، والشعر الحقيقي يجمع النقيض سواء في التناغم أم الفوضى أم هذا وذاك مجتمعين، ولا يمكن فعل ذلك دون تخييل وحدس. الإيقاعُ لا يعني الأوزان والقوافي التي هي حساب منطقي مدرك مرئي – ملموس لشيء غير مرئي لتحديد كنهه وترسيم معالمه وحصره في حيز زمكانيّ. الإيقاعُ إذن سابق (أبريوري) وهو جوهر الشعر والكتابة الشعرية. هناك أنواع من الإيقاع، إثنان منها رئيسان: إيقاع سابق على الكتابة؛ كل شيء له إيقاعه، وإيقاع ينخلق أثناء الكتابة. العمل الشعري الناجح هو الذي يسعى لجمع الإثنين في بوتقة القصيدة بحيث يتشكل النوع الثالث شِبْه الكلي للإيقاع. أقول: شبه الكلي، لأن القصيدة بدون قراءتها أو سماعها أو رؤيتها لا يمكن أن تكتمل. كل إشارة وصوت وكلمة لها إيقاعها المستقل. ولامعنى كبيراً للإيقاع منفرداً، فلا بد من تداخل الإيقاعات، والتداخل يعني التنوع والاختلاف والاستبيان والمقارنة. الإيقاعُ قائمٌ على التناص والاختلاف. هنا يأتي دور المعنى والشكل الذي يمكن إبصاره أو لمسه، وتراني ذاهباً أبعدَ من ذلك، إلى إيقاعاً الشعر العربي. الشعر العربي أعطى الإيقاعَ هيمنة شكلية أي إيقاعا آخر. نحن لا تزعجنا الأوزان الشعرية (إيقاعات التفعيلة) التي اكتشفها الخليلُ بن أحمد الفراهيدي في الشعر العربي، بقدر ما تزعجنا الرتابة (بحجمها الزمني والتكراري) والملل من التحديدات ومن الشكل الذي فُرضَ فتُوّجَ دكتاتوراً يُحدد إيقاعَ الشاعرَ وليس العكس. نلمس هنا، تغلب الطارئ الناجم عن المعاينة والاكتشاف على ما هو أصلي قائم بغض النظر عن محاولة استنباطه وتقنينه. بعبارة أوضح، صار الطارئ هو الأصلَ المقررَ
والحكَمَ. الشعرُ اقربُ إلى الحدس، إنه حركة من الداخل نحو الخارج وليس العكس. العكس، إن وجد إنما لبلورة الإيقاع والمعنى. إنه ملاقاة إيقاعين بسُلّمهما ودرجاتهما المتنوعة: إيقاع الداخل وإيقاع الخارج وما يطرأ في الطريق. والقصيدة تهويةُ هذين الإيقاعين، إنها تأسرهما بكل تفاصيلهما وتفرعاتهما فيصبحا جزءاً من إبداع تشكيل إيقاعيّ جديد. إن للقصيدة إيقاعها الداخلي (بدرجاته المتعددة) ويقول البعضُ ساخراً: إنني لا أسمعه! ليس كل إيقاع مسموعاً أو مرئياً. الإيقاعُ الداخليّ ليس وهماً. فثمة إيقاع الوجود وما وراءه، والحياة وما ماوراءها، وإيقاعُ المعنى والشكل وإيقاع الكلمة – المفردة وحروفها، وإيقاعها مجتمعة كذلك. يقول غنتر غراس: "مثلما للصلب تركيبه، كذلك للشعر تركيبه". نعم، للشكل إيقاع وللمعنى كذلك ولهما إيقاع/إيقاعات أخرى لدى التحامهما. حينما يتحول كل شيء إلى كتابة حينئذ عليك أن تُصغي وتسمع وترى وتبصر وتحس وتدرك. القصيدة هي تناص هذا وذاك في إيقاع خاص. محاورة الشعر كانت تراودني، منذ سبعينيات القرن الماضي، رغبة في محاورة بعض الشعراء والكتاب وأزمانهم كتابة: شعراً وفكراً، لا من خلال أسلوب النقائض والإخوانيات كما كان شائعاً، ولا من خلال إهداء هذه القصيدة وتلك لهذا الشاعر وذاك، وإنما من خلال تسليط الضوء على أهم شيء لدى الشاعر وسبر الذات شعراً وفكراً، واستدراج أو استكناه ما هو خفي لدى أطراف الحوار. إنها قضية أكثر تشابكاً وتعقيداً وأهمية مما ذكرت. اهتديتُ لطريقة تطمن ولعي وشرهي في هذا المضمار بعد قراءة قصيدة الشاعر البولندي تشيسواف ميووش «إلى روبنسن جيفرز» التي كتبها في 1963 أثناء إقامته في بيركلي. لقد نشرها فيما بعد مذيلة بمقالة نقدية معتبراً إياهما جزءاً لا يتجزأ: بدون النص النقدي لا تفهم القصيدة كلياً والعكس صحيح. عزز هذا الموقف لدي الكتاب الذي أهداني إياه صديقي المرحوم الدكتور أبو العيد دودو، وكان بعنوان «الشاعر وقصيدته» (الجزائر 1986). اختار المؤلف ستة عشر شاعراً من ثقافات مختلفة وترجم لكل منهم قصيدة واحدة ودرسها. لاحظت أنني اقرب إلى فكرة ميووش منه إلى دودو ذات الطابع النقدي المحض. آليتُ نشر نماذج من محاولاتي، التي شرعتُ بتنفيذها مطلع الثمانينيات، ضمن ديواني (ضفاف وحقول) الذي سيصدر قريباً في بيروت، إلا أن فكرة الحفاظ على انسيابية الشعر دفعتني (باقتراح وجيه من الناشر) إلى طرحها جانباً لتنشر فيما بعد مع مقالات أدبية لي. النماذج المقدمة تتوزع بين امرئ القيس، والمعري، والنفري، و لدين الرومي، ودون كيخوته، وسفيدبوري، والسياب، وسعدي يوسف، وغينسبرغ، وروزيفيتش، وشيمبورسكا، وميووش، وبرونو شولتز وسواهم. أغلب الشعراء المذكورين في متن الديوان شعراً لهم قسط من التجربة المذكورة، وهناك آخرون من إيقاعات شعرية وثقافية ومكانية مختلفة ومتنوعة. من تلكم الحوارات تنبثق إيقاعات وفضاءات ودلالات محسوسة وغير محسوسة للوهلة الأولى. إنها بعض من ملامسة الآخر والذات، قبس من روح التجربة والشعر.
والحكَمَ. الشعرُ اقربُ إلى الحدس، إنه حركة من الداخل نحو الخارج وليس العكس. العكس، إن وجد إنما لبلورة الإيقاع والمعنى. إنه ملاقاة إيقاعين بسُلّمهما ودرجاتهما المتنوعة: إيقاع الداخل وإيقاع الخارج وما يطرأ في الطريق. والقصيدة تهويةُ هذين الإيقاعين، إنها تأسرهما بكل تفاصيلهما وتفرعاتهما فيصبحا جزءاً من إبداع تشكيل إيقاعيّ جديد. إن للقصيدة إيقاعها الداخلي (بدرجاته المتعددة) ويقول البعضُ ساخراً: إنني لا أسمعه! ليس كل إيقاع مسموعاً أو مرئياً. الإيقاعُ الداخليّ ليس وهماً. فثمة إيقاع الوجود وما وراءه، والحياة وما ماوراءها، وإيقاعُ المعنى والشكل وإيقاع الكلمة – المفردة وحروفها، وإيقاعها مجتمعة كذلك. يقول غنتر غراس: "مثلما للصلب تركيبه، كذلك للشعر تركيبه". نعم، للشكل إيقاع وللمعنى كذلك ولهما إيقاع/إيقاعات أخرى لدى التحامهما. حينما يتحول كل شيء إلى كتابة حينئذ عليك أن تُصغي وتسمع وترى وتبصر وتحس وتدرك. القصيدة هي تناص هذا وذاك في إيقاع خاص. محاورة الشعر كانت تراودني، منذ سبعينيات القرن الماضي، رغبة في محاورة بعض الشعراء والكتاب وأزمانهم كتابة: شعراً وفكراً، لا من خلال أسلوب النقائض والإخوانيات كما كان شائعاً، ولا من خلال إهداء هذه القصيدة وتلك لهذا الشاعر وذاك، وإنما من خلال تسليط الضوء على أهم شيء لدى الشاعر وسبر الذات شعراً وفكراً، واستدراج أو استكناه ما هو خفي لدى أطراف الحوار. إنها قضية أكثر تشابكاً وتعقيداً وأهمية مما ذكرت. اهتديتُ لطريقة تطمن ولعي وشرهي في هذا المضمار بعد قراءة قصيدة الشاعر البولندي تشيسواف ميووش «إلى روبنسن جيفرز» التي كتبها في 1963 أثناء إقامته في بيركلي. لقد نشرها فيما بعد مذيلة بمقالة نقدية معتبراً إياهما جزءاً لا يتجزأ: بدون النص النقدي لا تفهم القصيدة كلياً والعكس صحيح. عزز هذا الموقف لدي الكتاب الذي أهداني إياه صديقي المرحوم الدكتور أبو العيد دودو، وكان بعنوان «الشاعر وقصيدته» (الجزائر 1986). اختار المؤلف ستة عشر شاعراً من ثقافات مختلفة وترجم لكل منهم قصيدة واحدة ودرسها. لاحظت أنني اقرب إلى فكرة ميووش منه إلى دودو ذات الطابع النقدي المحض. آليتُ نشر نماذج من محاولاتي، التي شرعتُ بتنفيذها مطلع الثمانينيات، ضمن ديواني (ضفاف وحقول) الذي سيصدر قريباً في بيروت، إلا أن فكرة الحفاظ على انسيابية الشعر دفعتني (باقتراح وجيه من الناشر) إلى طرحها جانباً لتنشر فيما بعد مع مقالات أدبية لي. النماذج المقدمة تتوزع بين امرئ القيس، والمعري، والنفري، و لدين الرومي، ودون كيخوته، وسفيدبوري، والسياب، وسعدي يوسف، وغينسبرغ، وروزيفيتش، وشيمبورسكا، وميووش، وبرونو شولتز وسواهم. أغلب الشعراء المذكورين في متن الديوان شعراً لهم قسط من التجربة المذكورة، وهناك آخرون من إيقاعات شعرية وثقافية ومكانية مختلفة ومتنوعة. من تلكم الحوارات تنبثق إيقاعات وفضاءات ودلالات محسوسة وغير محسوسة للوهلة الأولى. إنها بعض من ملامسة الآخر والذات، قبس من روح التجربة والشعر.