قبل الخوض في الصورة التقليدية التي استعملها الشعر بدر شاكر السياب* في شعره لصورة المرأة ، علينا ان نبين ان الشاعر قد مر بمراحل مهمة ومتدرجة في حياته لقضية المرأة ، فالمرأة في شعر السياب لم تكن محطة واحدة وقف عليها الشاعر فحسب ، بل تعددت تلك المحطات في حياته وفي قصائده .
ان اكثر الصفات الثابتة للمرأة في الشعر التقليدي لا يميز فيها شاعر عن آخر إلا بمهاراته في تكريس اكبر عدد من المهارات والصفات ، او إغراق الشعر بالإعادة والتكرار(1) .
وقد تميز الشاعر بتصوير الأم وكذلك تطرق لصورة الجدة بوصفها حضنا دافئا ، وتنوع بوصفه للحبيبة .
فالأم عند السياب هي أول محطة مر بها في حياته وهي مرحلة مهمة لأنه قد تأثر بها تأثيرا واضحا في قصائده ، كانت أمه قد توفيت وهو صغير (( فقدت أمي ومازلت طفلا صغيرا فنشأت محروما من عطف المرأة وحنانها ))
ولكنه لم يحرم حنان جدته عندما كفلته في الرعاية والعطف والتربية والتي توفيت هي الأخرى فقال عن هذه الحادثة في رسالة إلى خاله الشواف (( البصرة 23\ 11\ 1942 )) :- ((حرمت عاطفة الأمومة وأنا ابن أربع … ولكنني لم احرم من صدر يضمني ويحنو علي ولكنني لم احرم جدتي ، ومرت السنون وأنا أهفو إلى الحب ولكنني لم أنل منه شيئا ولم اعرفه وما حاجتي إلى الحب ما دام هناك قلب لجدتي يخفق بمحبتي ، أفيرضى الزمن العاتي ……..
أيرضى القضاء ان تموت جدتي اواخر هذا الصيف ؟ فحرمت بذلك آخر قلب يخفق بحبي ويحنو علي ، أشقى من ضمت الأرض )) (2) ، وهذا الإحساس بالخيبة والمأساة والوحدة دفعه مبكرا إلى كتابة قصيدة ( رثاء جدتي ) وذلك في 9\9\1942 والتي يقول فيها :
جدتي
وهي كل ما خلف الدهر من الحب والمنى والظنون
ورجاء بدا فألهمني الصفو وخفـًت انواره لحنيني
ثم يقول :
جدتي من أبث بعدك شكواي ؟
طواني الأسى وقل معيني
أنت ِ يا من فتحت قلبي
وهكذا بقي السياب متعطشا لحنان أمه ، وهو يتذكر طفولته البائسة وحرمانه من أحضان الأم الدافئة ، ان محنة الإنسان في حياته تدفعه الى تتبع تاريخ ماساته من جذورها حينما يقول ( عطش أنت يا أمي ؟ ) لان الطفل لا ينام إلا في حجر أمه كما يقول في قصيدة ( سهر ) كما يتذكر أمه في قصيدة ( نداء الموت ) ابان تذكره لابنه غيلان يقول :- غيلان يدعو أبي سر ، فاني على الدرب ماش أريد
الصباح
وتدعو من القبر أمي ” بني احتضني فبرد الردى في
عروقي ” . (3)
أما قصيدة ( الباب تقرعه الرياح ) فإنها محاولة لاستحضار صورة الأم وحنانها إلى ابنها ، ان صورة الأم هنا تعبير عن العودة إلى الجذور الى البداية والمنعطفات الأولى وجواهر الأشياء ، إنها عودة الى جوهر الحقيقة في التفاعل مع الحياة والوجود لإعادة ترميم ما تهدم ، فرح الأم يهزها الحب العميق حب الأمومة فتسال عن ابنها والابن ينطلق عبر منولوج درامي يحاول أمه التي رحلت عن أطفالها ، فالتمسك بالأطياف والأرواح هو التمسك بالأحلام :-
هي روح أمي هزها الحب العميق
حب الأمومة فهي تبكي :
( اه يا ولدي البعيد عن الديار !
ويلاه ! كيف تعود وحدك ، ولا دليل ولا رفيق ؟ )
اماه .. ليتك لم تغيبي خلف سور من حجار
لا باب فيه لكلي أدق ولا نوافذ في الجدار (4)
والشاعر لم ينس أمه حتى بعد ان لازمه المرض في آخر حياته ، فكانت الأم بالنسبة إليه هي الحضن الدافئ الذي فقده .
كما انه يقرن صورة الم بالوطن ، ويجعل من صورة الأم والوطن ( صورتان متلازمتان ) فالأم هي رمز للوطن يقول :-
هي وجه أمي في الظلام
وصوتها ، ينزلقان مع الرؤى حتى أنام
وهي النخيل أخاف منه اذا ادلهم مع الغروب
فأكتظ بالأشباح تخطف كل طفل لايؤوب (5)
هنا الشاعر قد جعل في هذه القصيدة الرائعة ذات مضامين قوية أثث لها عبر إيحاءات وصور فنية في غاية الجمال والرقة ، الشاعر نجح أيضا في تكريس إقران الأشياء بعضها مع بعض، عبر مزجه للغة التعبيرية التي جاء بها ، ليجسد لنا تلك الكلمات المعبرة .
الصور التي جمعها الشاعر كانت ممزوجة مع بعض في صورة واحدة ، حتى ان بعض هذه الصور أو الأشياء كانت صورا متناقضة إلا أن الشاعر جعلها ذات صورة واحدة بمضمون وشكل جديد ، فجمع ما بين ( الموت والحياة – الجوع والنقود – العودة والبقاء – العراق والأم – الأرض والبحر والسماء ) هذه الصور المتشابهة كانت أو المتناقضة صوًَرها الشاعر عبر مدخل واحد لقصيدة واحدة فكان الإيحاء والشكل والمضمون لصورة في غاية الجمال .
كان السياب يفتقر إلى علاقة راسخة مع أبيه الذي وردت عنه في شعره المبكر إشارتان واضحتان يقول في أولاهما :-
خيالك من أهلي الأقربين = ابر وان كان لا يعقل
أبي منه جردتني النساء = وامي طواها الردى المعجل
مؤكدا انه يتوقع ان يجد من حب ابيه ورعايته ما يعوضه عن غياب امه المبكر ، بينما نستطيع ان نفترض ان اباه لم يكن يختلف آنذاك عن اي رب عائلة من آباء طبقة متوسطة جاهلة يستغرقها الكدح ، لا يعي من علاقته بابنائه اكثر من انه يوفر لهم أسباب العيش حتى سن معيشة ولا شيء غير ذلك .
ربما هذه العوامل الأولى والمهمة في حياة الشاعر ، ومن ثم قد يكون دافعا مهما في التاثير بقصائده وميله للنساء والتعطش لحنان المرأة سواء أكانت محبوبة او زوجة لسد فراغ حنان الأمومة الذي فقده الشاعر اضافة الى مزج فقدان الحنان بالحزن والمعاناة التي مرت على الشاعر في بداية حياته .
فقد كان قلب الشاعر يتأجج بتلك المعاناة وتلك العاطفة الحزينة الرقيقة الناجمة عن إحساس دائم بالتهيؤ لحب امرأة تبقى بعيدة عنه ، وكان السياب حساسا مرهفا ومحروما ينطوي على نفسه التي اختزنت كل روادع البيئة ونواهيها ، لا يستطيع لحرمانه ان يتكيف معها تكيفا مطلقا ولا يجد ان من حقه ان يتمرد عليها ، ومن خلال هذا الانطواء الذي يسببه إحساس مرهف بحرمانه يتكشف حنين الى امرأة :
لا تزيديه لوعة فهو يلقاك = لينسى لديك بعض اكتئابه
قربي مقلتيك من وجهه الذاوي = تري في الشحوب سر انتحابه
يتكشف حنينه الى جسد امرأة :-
حسناء يلهب عريها ظمأي
فأكاد اشرب ذلك العريا
وأكاد أحطمه فتحطمني
عينان جائعتان كالدنيا
غرست يد الحمى على فمها
زهرا بلا شجر فلا سقيا (6)
هذه البواكير الاولى التي دفعت الشاعر الى البحث عن امرأة تعوضه عن اليتم المبكر الذي تضافر مع مواصفات البيئة المستقرة على الردع والكف والكبح المتخوفة من الحب تخوفها من ممارسة الحياة في الهاب شعور السياب بالوحدة والحرمان
فالشاعر قد تعطش للمرأة ، للحب ، وللحنان منذ بداية حياته فكان الحب هو الكلمة الاولى التي افتتح بها الشاعر عهده الشعري ، فأول بيت انشده من الشعر هو :
على الشاطئ احلامي
طواها الموج يا حب
وفي حلكة أيامي
غدا نجم الهوى يحبو (7)
فالشاعر لا يتلقى الحب كما قلنا سابقا وانما يكون في تقابل معه لان الشاعر منذ بداية حياته تعطش للحب ، ومن ثم بدأ مشوار البحث عن المرأة التي يراها الشاعر مناسبة له وبالتالي تسد له ظمأه وتشاركه المعاناة وظروف البيئة التي كان يعيشها الشاعر .
فالشاعر قد دخل مرحلة لا تقل اهمية عن الاولى ، وربما ان هذه المرحلة هي الاصعب ( البحث عن امرأة … ) واي امرأة تلك التي تسد له ظمأه من الحب والحنان اضافة الى الغريزة وربما كان البحث لدى الشاعر عن امرأة قد يكون بحثا عشوائيا يتركه للايام و للزمن وللصدفة حتى .
ولسنا نشك ان تلك الفتاة القروية الجاهلة التي كانت اول امراة عرفها الشاعر في حياته لم تكن ما يتمناه الشاعر في حبيبته المنشودة وأيا كان نوع ومدى العلاقة بينهما فان معرفتنا بظروف تلك المرحلة واخلاقها الاجتماعية تبيح لنا ان نفترض انها كانت علاقة حبيبة عابرة لا تتجاوز اللقاءات الخاطفة الحذرة التي لا تشبع ظمأ الشاعر اللاهب الى امرأة تغدق عليه من عطفها وحنانها ما يعوضه عن حنان الام :
(( كانت حياتي وما تزال بحثا ممن سد هذا الفراغ وكان عمري انتظارا للمرأة المنشودة )) (8)
هذا الانتظار المنشود من قبل الشاعر قد يدفعه الى ان ينظر الى المرأة من جوانب عدة وذلك يضيف صبغة عصرية جديدة على قصائده قد لا نجدها في الشعر العربي القديم ولو قابلنا شعراء او مواقف الشعراء من الحب او من المرأة لوجدنا الشاعر بدر شاكر السياب الذي غنى للحب كثيرا واختلفت النظرة بالنسبة اليه للمرأة بجوانبها المتعددة قد تميز كثيرا عن الشعراء الآخرين لما نجده من الحرقة اللاذعة التي المت به طوال عمره ، وقد تمثل الدافع والحافز والمحرك لاشعاره في المرأة والحب فلاسباب متعددة لم يتيح للسياب ان يعرف الحب على حقيقته ، ولم يكن من الوسامة ما يغري به الجنس الآخر ، اما مركزه الاجتماعي والاقتصادي فكان ادنى ما ان تطمع فتاة بالاقتران به ، ولعله الحب في تلك الاثناء كان مبنيا اساسا على الرغبة في الزواج وتكوين اسرة وما عداه فشيء عابر يمكن ان يعثر عليه لدى بائعة هوى ( 9 )
فها هو السياب قد دخل عالم المرأة ، انه يدخل في عالم ادغال ، ليس يدري ما اذا كان سيخرج منها سالما ، وهنا يبدأ بالتساؤل
ان اكثر الصفات الثابتة للمرأة في الشعر التقليدي لا يميز فيها شاعر عن آخر إلا بمهاراته في تكريس اكبر عدد من المهارات والصفات ، او إغراق الشعر بالإعادة والتكرار(1) .
وقد تميز الشاعر بتصوير الأم وكذلك تطرق لصورة الجدة بوصفها حضنا دافئا ، وتنوع بوصفه للحبيبة .
فالأم عند السياب هي أول محطة مر بها في حياته وهي مرحلة مهمة لأنه قد تأثر بها تأثيرا واضحا في قصائده ، كانت أمه قد توفيت وهو صغير (( فقدت أمي ومازلت طفلا صغيرا فنشأت محروما من عطف المرأة وحنانها ))
ولكنه لم يحرم حنان جدته عندما كفلته في الرعاية والعطف والتربية والتي توفيت هي الأخرى فقال عن هذه الحادثة في رسالة إلى خاله الشواف (( البصرة 23\ 11\ 1942 )) :- ((حرمت عاطفة الأمومة وأنا ابن أربع … ولكنني لم احرم من صدر يضمني ويحنو علي ولكنني لم احرم جدتي ، ومرت السنون وأنا أهفو إلى الحب ولكنني لم أنل منه شيئا ولم اعرفه وما حاجتي إلى الحب ما دام هناك قلب لجدتي يخفق بمحبتي ، أفيرضى الزمن العاتي ……..
أيرضى القضاء ان تموت جدتي اواخر هذا الصيف ؟ فحرمت بذلك آخر قلب يخفق بحبي ويحنو علي ، أشقى من ضمت الأرض )) (2) ، وهذا الإحساس بالخيبة والمأساة والوحدة دفعه مبكرا إلى كتابة قصيدة ( رثاء جدتي ) وذلك في 9\9\1942 والتي يقول فيها :
جدتي
وهي كل ما خلف الدهر من الحب والمنى والظنون
ورجاء بدا فألهمني الصفو وخفـًت انواره لحنيني
ثم يقول :
جدتي من أبث بعدك شكواي ؟
طواني الأسى وقل معيني
أنت ِ يا من فتحت قلبي
وهكذا بقي السياب متعطشا لحنان أمه ، وهو يتذكر طفولته البائسة وحرمانه من أحضان الأم الدافئة ، ان محنة الإنسان في حياته تدفعه الى تتبع تاريخ ماساته من جذورها حينما يقول ( عطش أنت يا أمي ؟ ) لان الطفل لا ينام إلا في حجر أمه كما يقول في قصيدة ( سهر ) كما يتذكر أمه في قصيدة ( نداء الموت ) ابان تذكره لابنه غيلان يقول :- غيلان يدعو أبي سر ، فاني على الدرب ماش أريد
الصباح
وتدعو من القبر أمي ” بني احتضني فبرد الردى في
عروقي ” . (3)
أما قصيدة ( الباب تقرعه الرياح ) فإنها محاولة لاستحضار صورة الأم وحنانها إلى ابنها ، ان صورة الأم هنا تعبير عن العودة إلى الجذور الى البداية والمنعطفات الأولى وجواهر الأشياء ، إنها عودة الى جوهر الحقيقة في التفاعل مع الحياة والوجود لإعادة ترميم ما تهدم ، فرح الأم يهزها الحب العميق حب الأمومة فتسال عن ابنها والابن ينطلق عبر منولوج درامي يحاول أمه التي رحلت عن أطفالها ، فالتمسك بالأطياف والأرواح هو التمسك بالأحلام :-
هي روح أمي هزها الحب العميق
حب الأمومة فهي تبكي :
( اه يا ولدي البعيد عن الديار !
ويلاه ! كيف تعود وحدك ، ولا دليل ولا رفيق ؟ )
اماه .. ليتك لم تغيبي خلف سور من حجار
لا باب فيه لكلي أدق ولا نوافذ في الجدار (4)
والشاعر لم ينس أمه حتى بعد ان لازمه المرض في آخر حياته ، فكانت الأم بالنسبة إليه هي الحضن الدافئ الذي فقده .
كما انه يقرن صورة الم بالوطن ، ويجعل من صورة الأم والوطن ( صورتان متلازمتان ) فالأم هي رمز للوطن يقول :-
هي وجه أمي في الظلام
وصوتها ، ينزلقان مع الرؤى حتى أنام
وهي النخيل أخاف منه اذا ادلهم مع الغروب
فأكتظ بالأشباح تخطف كل طفل لايؤوب (5)
هنا الشاعر قد جعل في هذه القصيدة الرائعة ذات مضامين قوية أثث لها عبر إيحاءات وصور فنية في غاية الجمال والرقة ، الشاعر نجح أيضا في تكريس إقران الأشياء بعضها مع بعض، عبر مزجه للغة التعبيرية التي جاء بها ، ليجسد لنا تلك الكلمات المعبرة .
الصور التي جمعها الشاعر كانت ممزوجة مع بعض في صورة واحدة ، حتى ان بعض هذه الصور أو الأشياء كانت صورا متناقضة إلا أن الشاعر جعلها ذات صورة واحدة بمضمون وشكل جديد ، فجمع ما بين ( الموت والحياة – الجوع والنقود – العودة والبقاء – العراق والأم – الأرض والبحر والسماء ) هذه الصور المتشابهة كانت أو المتناقضة صوًَرها الشاعر عبر مدخل واحد لقصيدة واحدة فكان الإيحاء والشكل والمضمون لصورة في غاية الجمال .
كان السياب يفتقر إلى علاقة راسخة مع أبيه الذي وردت عنه في شعره المبكر إشارتان واضحتان يقول في أولاهما :-
خيالك من أهلي الأقربين = ابر وان كان لا يعقل
أبي منه جردتني النساء = وامي طواها الردى المعجل
مؤكدا انه يتوقع ان يجد من حب ابيه ورعايته ما يعوضه عن غياب امه المبكر ، بينما نستطيع ان نفترض ان اباه لم يكن يختلف آنذاك عن اي رب عائلة من آباء طبقة متوسطة جاهلة يستغرقها الكدح ، لا يعي من علاقته بابنائه اكثر من انه يوفر لهم أسباب العيش حتى سن معيشة ولا شيء غير ذلك .
ربما هذه العوامل الأولى والمهمة في حياة الشاعر ، ومن ثم قد يكون دافعا مهما في التاثير بقصائده وميله للنساء والتعطش لحنان المرأة سواء أكانت محبوبة او زوجة لسد فراغ حنان الأمومة الذي فقده الشاعر اضافة الى مزج فقدان الحنان بالحزن والمعاناة التي مرت على الشاعر في بداية حياته .
فقد كان قلب الشاعر يتأجج بتلك المعاناة وتلك العاطفة الحزينة الرقيقة الناجمة عن إحساس دائم بالتهيؤ لحب امرأة تبقى بعيدة عنه ، وكان السياب حساسا مرهفا ومحروما ينطوي على نفسه التي اختزنت كل روادع البيئة ونواهيها ، لا يستطيع لحرمانه ان يتكيف معها تكيفا مطلقا ولا يجد ان من حقه ان يتمرد عليها ، ومن خلال هذا الانطواء الذي يسببه إحساس مرهف بحرمانه يتكشف حنين الى امرأة :
لا تزيديه لوعة فهو يلقاك = لينسى لديك بعض اكتئابه
قربي مقلتيك من وجهه الذاوي = تري في الشحوب سر انتحابه
يتكشف حنينه الى جسد امرأة :-
حسناء يلهب عريها ظمأي
فأكاد اشرب ذلك العريا
وأكاد أحطمه فتحطمني
عينان جائعتان كالدنيا
غرست يد الحمى على فمها
زهرا بلا شجر فلا سقيا (6)
هذه البواكير الاولى التي دفعت الشاعر الى البحث عن امرأة تعوضه عن اليتم المبكر الذي تضافر مع مواصفات البيئة المستقرة على الردع والكف والكبح المتخوفة من الحب تخوفها من ممارسة الحياة في الهاب شعور السياب بالوحدة والحرمان
فالشاعر قد تعطش للمرأة ، للحب ، وللحنان منذ بداية حياته فكان الحب هو الكلمة الاولى التي افتتح بها الشاعر عهده الشعري ، فأول بيت انشده من الشعر هو :
على الشاطئ احلامي
طواها الموج يا حب
وفي حلكة أيامي
غدا نجم الهوى يحبو (7)
فالشاعر لا يتلقى الحب كما قلنا سابقا وانما يكون في تقابل معه لان الشاعر منذ بداية حياته تعطش للحب ، ومن ثم بدأ مشوار البحث عن المرأة التي يراها الشاعر مناسبة له وبالتالي تسد له ظمأه وتشاركه المعاناة وظروف البيئة التي كان يعيشها الشاعر .
فالشاعر قد دخل مرحلة لا تقل اهمية عن الاولى ، وربما ان هذه المرحلة هي الاصعب ( البحث عن امرأة … ) واي امرأة تلك التي تسد له ظمأه من الحب والحنان اضافة الى الغريزة وربما كان البحث لدى الشاعر عن امرأة قد يكون بحثا عشوائيا يتركه للايام و للزمن وللصدفة حتى .
ولسنا نشك ان تلك الفتاة القروية الجاهلة التي كانت اول امراة عرفها الشاعر في حياته لم تكن ما يتمناه الشاعر في حبيبته المنشودة وأيا كان نوع ومدى العلاقة بينهما فان معرفتنا بظروف تلك المرحلة واخلاقها الاجتماعية تبيح لنا ان نفترض انها كانت علاقة حبيبة عابرة لا تتجاوز اللقاءات الخاطفة الحذرة التي لا تشبع ظمأ الشاعر اللاهب الى امرأة تغدق عليه من عطفها وحنانها ما يعوضه عن حنان الام :
(( كانت حياتي وما تزال بحثا ممن سد هذا الفراغ وكان عمري انتظارا للمرأة المنشودة )) (8)
هذا الانتظار المنشود من قبل الشاعر قد يدفعه الى ان ينظر الى المرأة من جوانب عدة وذلك يضيف صبغة عصرية جديدة على قصائده قد لا نجدها في الشعر العربي القديم ولو قابلنا شعراء او مواقف الشعراء من الحب او من المرأة لوجدنا الشاعر بدر شاكر السياب الذي غنى للحب كثيرا واختلفت النظرة بالنسبة اليه للمرأة بجوانبها المتعددة قد تميز كثيرا عن الشعراء الآخرين لما نجده من الحرقة اللاذعة التي المت به طوال عمره ، وقد تمثل الدافع والحافز والمحرك لاشعاره في المرأة والحب فلاسباب متعددة لم يتيح للسياب ان يعرف الحب على حقيقته ، ولم يكن من الوسامة ما يغري به الجنس الآخر ، اما مركزه الاجتماعي والاقتصادي فكان ادنى ما ان تطمع فتاة بالاقتران به ، ولعله الحب في تلك الاثناء كان مبنيا اساسا على الرغبة في الزواج وتكوين اسرة وما عداه فشيء عابر يمكن ان يعثر عليه لدى بائعة هوى ( 9 )
فها هو السياب قد دخل عالم المرأة ، انه يدخل في عالم ادغال ، ليس يدري ما اذا كان سيخرج منها سالما ، وهنا يبدأ بالتساؤل