العديد من الشرائع حكمت بقطع يد السارق و قد أقرت آخر شريعة سماوية هذا الحكم . والحرب الأهلية القائمة اليوم في أكثر من بلد عربي من أجل إقامة هذه الشريعة . إنه حكم أنزله الله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم : الكافرون / الفاسقون / الظالمون . لكن وما أسوأ "لكن" في كل منحى من مناحي حياتنا على مر الزمان والمكان . لمساندة هذا الحكم مساندة مطلقة من غير أي تحفظ مهما كان طفيفا لا بد من إرفاقه بحديث نبوي شريف . كل الفقهاء يجمعون على أن أحكام الشريعة لا تستند إلى نص واحد بل إلى عدة نصوص ، بعضها يفسر بعضا ، بعضها يتمم بعضا ، وبعضها يزيل شبهات في بعض ... النص الذي يجب وجوبا مطلقا مصاحبة الحكم الذي نزل في القرآن في قطع يد السارق من السنة النبوية ، وللسنة النبوية مكانة في التشريع الإسلامي لا ينكره أحد ، الحديث المعني : جاء في كتب الحديث هذا الخبر :عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمّهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت . فقالوا : من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد ، حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلّمه أسامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أتشفع في حد من حدود الله ؟) .ثم قام فاختطب ، ثم قال : (إنما أهلك الذين قبلكم ، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه أقاموا عليه الحد ، وأيم الله لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها) – رواه البخاري ومسلم . لم نأت بشيء من عندنا ، إنما هي نصوص عليها ترتكز الشريعة الإسلامية ، القرآن الكريم ، والسنة النبوية قولا وفعلا . لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها . ضموا هذا إلى ذاك وقولوا : هذه شريعة الله في السارق . إخفاء نصف الحقيقة وإظهار نصفها تجنّ على الحقيقة . تحليل الظواهر حتى ولو كانت من مشمولات العلوم الإنسانية فهي حتما تخضع لنفس منهج تحليل الظواهر في العلوم الصحيحة أي في السيانس بجميع فروعها . تحليل ظاهرة قطع يد السارق تتطلب دراسة الحالات التي قطعت فيها الأيدي على مر التاريخ سواء لدى المسلمين أو غير المسلمين . وهذا محال ، لأن الذين قطعت أيديهم من العامة من السوقة ومن الرعاع ومن رجل الشارع حسب التعبير العصري الذي من المفترض أي يكون لائقا ، والحال أن نعت أي مواطن من المواطنين الذين لا صلة لهم بالبلاط برجل شارع هو حط من قيمة هذا المواطن ، فالمواطن العادي ليس رجل شارع بل هو رجل عائلة له أم وأب وجد وجدة وأخوال وأعمام ... والله من المحزن أن نجد مطابع اليوم تطبع كتبا في الأنساب ، وأن نجد أقلاما يشتغل أصحابها بالأنساب ، وأن نجد دراسات في الجامعات موضوعها الأنساب . هل لعربي من العرب الأقحاح أن يصدق نفسه قبل أن يصدقه الغير بأن نسبه صحيح . حتى ولو لم يخالط السفاح النكاح في سلسلة نسبه ، أليس لدور الأم الحظ الأكبر في هذا النسب ، جل الخلفاء على مر التاريخ زوجاتهم ليست عربيات ، منهن الروميات والصقلبيات والفارسيات وغيرهن كثير ، منهن من وصلن لسرير الخليفة من سوق النخاسة ، ومنهن من وصلن عن طريق السبي ، فيهن من تم تقديمهن هدية للخليفة طمعا في منصب أو جاه أو مكان في البلاط ... هذا من غير ذكر ما يحدث في الحريم . وهو من المسكوت عنه وكل من نبس بنفس واحد في الموضوع كان مصيره الإعدام أو الاغتيال . العامة والسوقة والرعاع ورجل الشارع لا تشملهم الإحصائيات إلا في مجالين لا ثالث لهما ، دفع الجباية بكل أنواعها والتجنيد ، وقتها يحصون أفرادا أما ما عدا ذلك فهم جمع على الدوام . وما داموا رعاعا وعامة وسوقة ورجل شارع فلا يهم إن قطعت منهم رأس خطأ أو بشبهة ثبت بطلانها بعد النفاذ وكل شيء عندنا جاهز فالمنظومة تحمي نفسها بنفسها ، المثل السائر "سبق السيف العذل" كفيل بالإجابة عن التساؤل ، وهو مقنع كأنه قدر محتوم ما دام مبرمج لدى طلابنا من الابتدائي إلى العالي . حتى النديم لم يسلم من القتل لمجرد القتل ، ونفس السيستام المثل "رب كلمة قالت لصاحبها دعني" تجعل المقتول تعسفا هو الظالم والقاتل المتعسف له ما يبرر فعله . فقد جاء في أكثر من كتاب والنص من مجمع الأمثال للميداني : رب كلمة تقول لصاحبها دعني . يضرب في النهي عن الإكثار مخافة الإهجار . ذكروا أن ملكا من ملوك حمير خرج متصيّدا ومعه نديم له كان يقربه ويكرمه ، فأشرف على صخرة ملساء ووقف عليها فقال له النديم : لو أن إنسانا ذبح على هذه الصخرة إلى أن كان يبلغ دمه ؟ فقال الملك : اذبحوه عليها ليرى دمه أين يبلغ . فذبح عليها . فقال الملك : رب كلمة تقول لصاحبها دعني . هذا نص يكتب في كتب الملح والطرائف العربية كي يستمتع بها القارئ . تبا لفكاهة هذه ! تبا لطرائف هذه ! ترك المقتول حيث هو وواصل الملك الحميري صيده وأنسه وطربه وضحكه ، وربما قضى وطرا من زوجة أو جارية . هذا المقتول له أم تكثلت لا حديث عنها ، له زوجة ترملت ، لا يهم ، له أولاد وبنات تيتموا لا يذكر عنهم شيء . كأني أتمثل مجلس أنس لخليفة أو ملك أو وزير ، وكان الأدباء والمتأدبين يتبارون في من يُضحِك أكثر بما لديه من ملح وطرائف ، وكأني أتخيل أحدهم سرد هذا الخبر فضحك الخليفة أو الملك أو الوزير حتى فحص بقدميه ، واستلقى على قفاه ، فضج المجلس بالضحك والقهقهة لكن لا أحد يفحص بقدميه ولا أحد يستلقي على قفاه ، فهي ميزة لسيد المجلس دون سواه . ولماذا الاسترسال في التخيل إذا كان نفس خبر هذا النديم قد ورد في كتاب أبي حيان التوحيدي البصائر والذخائر ، وهو ألف بالأساس للإمتاع على غرار الإمتاع والمؤانسة ، كجلّ الكتب التي ألفها التوحيدي لرجال متنفذين في الدولة .
هؤلاء الذين قطعت أيديهم عبر التاريخ نكرات فلا يمكن إخضاعهم فردا فردا وحالة حالة في التحليل لفهم هذه الظاهرة ، لكن السراق واللصوص الذين لم تقطع أيديهم ، فعلى كثرتهم زمانا ومكانا يمكن حصرهم وتحليل الحالات المتعلقة بهم حالة حالة . لكن ما دام هذا العمل يتطلب مساحة أكبر قد تبلغ مجلدات فيكون الاقتصار على بعضها دون سواها .
من أكبر السراق الذين لم تقطع أيديهم : الخليفة العباسي المهدي ، ابنه هارون زبيدة زوجة هاون ، ابنهما المأمون . سلسلة من السراق نهبوا الأموال ، أنفقوها إسرافا وبذارا كما سيتم بيانه بالدليل والبرهان . أما الخليفة المهدي فهو زيادة على أنه سارق فهو سفيه ، والله سبحانه وتعالى قال : "وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا (5)" – سورة النساء – ما أجمع عليه الفقهاء والمفسرون باختزال شديد أن السفيه هو من يبذر المال فيما لا ينفع . جاء في كتاب الديارات لعلي بن محمد الشابشتي ، أبوالحسن (توفي 388 هـ / 998 م) النسخة التي تيسر الاطلاع عليها حققها : كوكيس عوّاد الطبعة الثالثة – دار الرائد العربي بيروت لبنان 1406 هـ / 1987 – الصفحات : 156 / 157 / 158 : وكان الناس يستكثرون ما أنفقه الحسن بن سهل في عرس ابنته بوران، حتى أرخ ذلك في الكتب، وسميت دعوة الاسلام. ثم أتى من دعوة المتوكل ما أنسى ذلك.
وكانت الدعوات المشهورة في الاسلام، ثلاثاً لم يكن مثلها. فمنها: دعوة المعتز هذه المذكورة. ومنها عرس زبيدة بن جعفر بن أبي جعفر. فإن المهدي، زوج ابنه الرشيد بأم جعفر ابنة أخيه، فاستعد لها ما لم يستعد لامرأة قبلها من الآلة وصناديق الجوهر والحلي والتيجان والأكاليل وقباب الفضة والذهب والطيب والكسوة. وأعطاها بدنة عبدة ابنة عبد الله بن يزيد بن معاوية امرأة هشام، ولم ير في الاسلام مثلها ومثل الحب الذي كان فيها. وكان في ظهرها وصدرها خطان ياقوت أحمر وباقيها من الدر الكبار الذي ليس مثله. ودخل بها الرشيد في المحرم سنة خمس وستين ومائة، في قصره المعروف بالخلد. وحشر الناس من الآفاق وفرق فيهم من الأموال أمر عظيم. فكانت الدنانير تجعل في جامات فضة، والدراهم في جامعات ذهب، ونوافج المسك وجماجم العنبر والغالية في بواطي زجاج، ويفرق ذلك على الناس، ويخلع عليهم خلع الوشي المنسوجة، وأوقد بين يديه في تلك الليلة شمع العنبر في أتوار الذهب. وأحضر نساء بني هاشم، وكان يدفع إلى كل واحدة منهن كيس فيه دنانير وكيس فيه دراهم وصينية كبيرة وفضة فيها طيب، ويخلع عليها خلعة وشي مثقل. فلم ير في الاسلام مثلها. وبلغت النفقة في هذا العرس من بيت مال الخاصة، سوى ما أنفقه الرشيد من ماله، خمسين ألف ألف درهم (26500000 دولار أمريكي بنقدنا الحالي) . واسم زبيدة أمة العزيز. وزبيدة لقب. وكان أبو جعفر يرقصها وهي صغيرة، وكانت سمينة، ويقول: ما أنت إلا زبيدة، ما أنت إلا زبيدة. فمضى عليها هذا الاسم. ومنها عرس المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل، بفم الصلح. وكانت النفقة عليه أمراً عظيماً. وسأل المأمون زبيدة عن تقدير النفقة في العرس، فقالت: ما بين خمسة وثلاثين ألف ألف إلى سبعة وثلاثين ألف ألف. فبلغ الحسن بن سهل، فقال: كأن النفقة على يد زبيدة! أنفقنا خمسة وثلاثين ألف ألف .
وحتى لا يكون القول كالماء بلا طعم ولا لون ولا رائحة ، فهذا إكساب القول طعما ولونا ورائحة . الخمسة وثلاثين ألف ألف إذا كانت بالدينارفهي ما قيمة
6162712500 دولارا أي 6 مليارات دولار أمريكي و 162 مليون دولار و712 ألف دولار أمريكي و500 دولار أمريكي والكل بقيمة عصرنا الحاضر وهذا المقدار حولي نصف ميزانية تونس لسنة 2018 .
وإذا كان بالدرهم فهو 7487250 دولار أمريكي أي 7 مليون دولار و 487 ألف دولار و250 دولار أمريكي .
لا بد أن يقرأ تاريخنا بمعايير اليوم ، ليس إسقاطا ، وإنما لتتضح الصورة كما هي ، ليس تنكيلا بمن ماتوا وصاروا ترابا ، فهذا بلاهة ، وليس تحقيرا لمن جُعلوا أبطالا ورجالات الإسلام ، وهم إن كانوا أبطالا وإن كانوا رجالات فليسوا أبطال الإسلام ، ولا رجالات الإسلام ، وإنما أبطال دولة المسلمين ورجالات دولة المسلمين ، والفرق بين المعنيين جد شاسع .
بالمرور على زواج بوران كان تخامر الذهن فكرة مستهجنة ، ما نوع هذه البضاعة عند بوران حتى تستوجبت كل هذا الإنفاق ؟ فإذا امرأة أميرة ابنة أمير شاعرة ذات شاعرية حقيقية وحس مرهف وذوق راق ، إنها ولادة بنت المستكفي تعبر عما كان يخالج الفكر بتصريح وليس بتلميح ، ومن يورد قول ولادة امرأة أيضا ، زينب فواز في كتاب ألفته عنوانه : الدر المنثور في طبقات ربات الخدور ، النسخة التي تيسر الاطلاع عليها صادرة عن مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة - مصر – 2012 الكتاب في 881 صفحة . ورد في ص . 877 وكان لها – أي لولادة – مداعبات مع الأدباء ، ومنهم الأصبحي المشهور ، فقالت تهجوه :
يا أصبحي اهنأ فكم نعمـــــة = جاءتك من ذي العرش رب المنن
قد نلت بإست ابنك ما لم ينل = بفَرْج بُوران أبوها الحســــــــــن
في كتب التراث كم هائل من سرقة بيت مال المسلمين . جرد هذه السرقات يحتاج مجهودات تتجاوز الفرد ، وتتطلب مجلدات لتفصيلها . الاختيار شمل عينة غريبة جدا في هذه السرقات ، تتعلق العينة بنوع غريب وهو شراء الجواري والمبالغة في بذل أثمانها :
اشترى المتوكل جارية بمائة ألف درهم أي بـ 53000 دولار أمريكي بنقد عصر كتابة هذا المقال (ماي 2018) وتنسحب القيمة على كل المقادير المالية التي ستلي .
حدثنا أبو الحسن الأسدي قال حدثني أبو هفان قال حدثني سعيد ابن هريم : قال اشترى سليمان بن المنصور جارية يقال لها ضعيفة بخمسة آلاف دينار (207150 دولار أمريكي) ، فبلغ المهدي خبرها فوجه إليه: يا أخي بحقي عليك إلا أخذت هذه العشرة الألف الدينار (414300 دولار أمريكي) ، وآثرتني بضعيفة عزمة مني عليك فأنفذها إليه . كتاب : أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم – أبو بكر الصولي
في سند بلغ حمادا بن إسحاق قال : كان أبي يحدث أن الرشيد اشترى جارية بستة وثلاثين ألف دينار (14191480 دولار أمريكي) – للخبر بقية نستغني عن ذكره – من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني .
وذكر ابن خردانية : أن المهدي اشترى هذه الجارية – يقصد بصبص جارية ابن نفيس – بسبعة عشر ألف دينار (704310 دولار أمريكي) فولدت له علية بنت المهدي . من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني .
وحكى ابن خلكان : أن جعفرا – المقصود جعفر البرمكي - اشترى جارية من رجل بأربعين ألف دينار (1657200 دولار أمريكي) من كتاب البداية والنهاية لابن كثير .
بيت المال مستباحة للخليفة وعائلة الخليفة مقفلة دونهم ، جاء في كتاب الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي لابن طرار (303 / 390 هـ - 916 / 1000 م) : كان على بيت المال في زمن المعتصم رجل يكنى أبا حاتم اشترى ابنه جارية تسمى القاسم بستين ألف درهم (31800 دولار أمريكي) ... فلما علم المعتصم قال : من أين لولد المملق هذا المال وأبوه ولي منذ سنتين فعزل أبا حاتم وأغرمه مائتي ألف درهم (106000 دولار أمريكي)
هكذا كانت تتلف الأموال من أجل شراء الجواري من قبل الخلفاء وأبنائهم وعامة الناس من يشتغل منهم يدفعون من عرقهم ليبذر الخلفاء هذا العرق في ملذات ما تحت السرة . هذا من التاريخ ، أما لو فتح هذا الملف في عصرنا فأحصينا كم مليارات من الدولارات أنفقت من قبل الحكام في بلدنا العربي الإسلامي على صدور الغواني في مواخير العالم لوجدنا ما يبني آلاف المستشفيات وآلاف المدارس والمعاهد والجامعات ، ولأنفقنا الكثير في البحث العلمي فكان لنا مكان في هذا العالم في مرتبة الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا واليابان وغيرها من الدول التي تحصد جوائز نوبل ، وما كنا عالة على غيرنا ، نقترض من البنك العالمي ومن صندوق النقد الدولي ، فنرهن البلاد والعباد ، ونفتقد أية سلطة في بلداننا وكذلك نفتقد أية قدرة للمشاركة في القرارات العالمية ، ثم نتباكى قائلين : إنها المؤامرة ، إنها الصهيونية العالمية ، إنها الامبريالية العالمية ، إنها العولمة ، إنه النظام العالمي أحادي القطب ... كلها مغالطات نغالط بها أنفسنا لنداري فشلنا ، لنداري عجزنا ، لنداري ظلمنا ونحن منا من قال : الظلم مؤذن بخراب العمران . في ديننا قول ربنا في الحديث القدسي : عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال : يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادي ، كلكم ضال إلا من هديته ، فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ، فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي ، إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا ، فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي ، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) أخرجه مسلم في صحيحه. ( وأي ظلم أكبر من قطع يد جاش امتدت لرغيف والتغاضي عمن ينهب المليارات ويهبر من المال العام هبرا .
إلى جانب أهدار المال العام في شراء الجواري ، إهدار آخر هدايا لأصحاب الحظوة لدى الخلفاء والأمراء منه هذا المثال : اشترى الرشيد لطبيبه جبريل بن بختيشوع ضياعا غلتها ألف ألف درهم (530000 دولار أمريكي) من كتاب الفرج بعد الشدة للتوخي (327 / 384 هـ - 939 / 994 م) . وأمثلة أخرى عديدة مبثوثة في كتب التراث .
حبذا أن نطبق قانونا شرعيا قطع يد السارق ، لكن نبدأ بأعلى الهرم ، لنرى ملوكا ورؤساء وأمراء ووزراء وولاة ومديرين عامين ومديرين وصيارفة ورجال أعمال أيديهم مقطوعة جزاء ما اقترفوه من سرقة المال العام بالمليارات ، فإذا بلغنا العامة وجدناهم يتمتعون بثرواتهم فلا يحاجون لمد أيديهم لأرغفة سرقةً ما داموا يملكون ثمنه . أموال بالمليارات هبرها القروش الكبيرة والحيتان السمينة من البنوك لم يرجعوا منها فلسا واحدا ، وهم نواب في البرلمانات ، وزراء في الحكومات ، رؤساء جمعيات رياضية وغير رياضية ، ينزلون في أفخم فنادق العالم ، يعالجون في أرقى مصحات العالم ، يملكون السيارات الفاخرة ، والقصور العامرة ، والبساتين الشاسعة ، يأخذون ويعطون ، لأن معاجمهم فيها كل ما اشتق من مادة (أ خ ذ) وكل مرادفاتها ، وليس فيها المادة المعجمية (ع ط ي) وكل مرادفاتها . تحالف على البلاد والعباد ساسة ورجال نهب يسندهم الكهنوت ، لذلك يحكم الكهنوت بقطع يد جائع امتدت لرغيف ، وتقبل يد سارق هبر من المال العام المليارات .
عبد الوهاب الفقيه رمضان
كاتب تونسي
هؤلاء الذين قطعت أيديهم عبر التاريخ نكرات فلا يمكن إخضاعهم فردا فردا وحالة حالة في التحليل لفهم هذه الظاهرة ، لكن السراق واللصوص الذين لم تقطع أيديهم ، فعلى كثرتهم زمانا ومكانا يمكن حصرهم وتحليل الحالات المتعلقة بهم حالة حالة . لكن ما دام هذا العمل يتطلب مساحة أكبر قد تبلغ مجلدات فيكون الاقتصار على بعضها دون سواها .
من أكبر السراق الذين لم تقطع أيديهم : الخليفة العباسي المهدي ، ابنه هارون زبيدة زوجة هاون ، ابنهما المأمون . سلسلة من السراق نهبوا الأموال ، أنفقوها إسرافا وبذارا كما سيتم بيانه بالدليل والبرهان . أما الخليفة المهدي فهو زيادة على أنه سارق فهو سفيه ، والله سبحانه وتعالى قال : "وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا (5)" – سورة النساء – ما أجمع عليه الفقهاء والمفسرون باختزال شديد أن السفيه هو من يبذر المال فيما لا ينفع . جاء في كتاب الديارات لعلي بن محمد الشابشتي ، أبوالحسن (توفي 388 هـ / 998 م) النسخة التي تيسر الاطلاع عليها حققها : كوكيس عوّاد الطبعة الثالثة – دار الرائد العربي بيروت لبنان 1406 هـ / 1987 – الصفحات : 156 / 157 / 158 : وكان الناس يستكثرون ما أنفقه الحسن بن سهل في عرس ابنته بوران، حتى أرخ ذلك في الكتب، وسميت دعوة الاسلام. ثم أتى من دعوة المتوكل ما أنسى ذلك.
وكانت الدعوات المشهورة في الاسلام، ثلاثاً لم يكن مثلها. فمنها: دعوة المعتز هذه المذكورة. ومنها عرس زبيدة بن جعفر بن أبي جعفر. فإن المهدي، زوج ابنه الرشيد بأم جعفر ابنة أخيه، فاستعد لها ما لم يستعد لامرأة قبلها من الآلة وصناديق الجوهر والحلي والتيجان والأكاليل وقباب الفضة والذهب والطيب والكسوة. وأعطاها بدنة عبدة ابنة عبد الله بن يزيد بن معاوية امرأة هشام، ولم ير في الاسلام مثلها ومثل الحب الذي كان فيها. وكان في ظهرها وصدرها خطان ياقوت أحمر وباقيها من الدر الكبار الذي ليس مثله. ودخل بها الرشيد في المحرم سنة خمس وستين ومائة، في قصره المعروف بالخلد. وحشر الناس من الآفاق وفرق فيهم من الأموال أمر عظيم. فكانت الدنانير تجعل في جامات فضة، والدراهم في جامعات ذهب، ونوافج المسك وجماجم العنبر والغالية في بواطي زجاج، ويفرق ذلك على الناس، ويخلع عليهم خلع الوشي المنسوجة، وأوقد بين يديه في تلك الليلة شمع العنبر في أتوار الذهب. وأحضر نساء بني هاشم، وكان يدفع إلى كل واحدة منهن كيس فيه دنانير وكيس فيه دراهم وصينية كبيرة وفضة فيها طيب، ويخلع عليها خلعة وشي مثقل. فلم ير في الاسلام مثلها. وبلغت النفقة في هذا العرس من بيت مال الخاصة، سوى ما أنفقه الرشيد من ماله، خمسين ألف ألف درهم (26500000 دولار أمريكي بنقدنا الحالي) . واسم زبيدة أمة العزيز. وزبيدة لقب. وكان أبو جعفر يرقصها وهي صغيرة، وكانت سمينة، ويقول: ما أنت إلا زبيدة، ما أنت إلا زبيدة. فمضى عليها هذا الاسم. ومنها عرس المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل، بفم الصلح. وكانت النفقة عليه أمراً عظيماً. وسأل المأمون زبيدة عن تقدير النفقة في العرس، فقالت: ما بين خمسة وثلاثين ألف ألف إلى سبعة وثلاثين ألف ألف. فبلغ الحسن بن سهل، فقال: كأن النفقة على يد زبيدة! أنفقنا خمسة وثلاثين ألف ألف .
وحتى لا يكون القول كالماء بلا طعم ولا لون ولا رائحة ، فهذا إكساب القول طعما ولونا ورائحة . الخمسة وثلاثين ألف ألف إذا كانت بالدينارفهي ما قيمة
6162712500 دولارا أي 6 مليارات دولار أمريكي و 162 مليون دولار و712 ألف دولار أمريكي و500 دولار أمريكي والكل بقيمة عصرنا الحاضر وهذا المقدار حولي نصف ميزانية تونس لسنة 2018 .
وإذا كان بالدرهم فهو 7487250 دولار أمريكي أي 7 مليون دولار و 487 ألف دولار و250 دولار أمريكي .
لا بد أن يقرأ تاريخنا بمعايير اليوم ، ليس إسقاطا ، وإنما لتتضح الصورة كما هي ، ليس تنكيلا بمن ماتوا وصاروا ترابا ، فهذا بلاهة ، وليس تحقيرا لمن جُعلوا أبطالا ورجالات الإسلام ، وهم إن كانوا أبطالا وإن كانوا رجالات فليسوا أبطال الإسلام ، ولا رجالات الإسلام ، وإنما أبطال دولة المسلمين ورجالات دولة المسلمين ، والفرق بين المعنيين جد شاسع .
بالمرور على زواج بوران كان تخامر الذهن فكرة مستهجنة ، ما نوع هذه البضاعة عند بوران حتى تستوجبت كل هذا الإنفاق ؟ فإذا امرأة أميرة ابنة أمير شاعرة ذات شاعرية حقيقية وحس مرهف وذوق راق ، إنها ولادة بنت المستكفي تعبر عما كان يخالج الفكر بتصريح وليس بتلميح ، ومن يورد قول ولادة امرأة أيضا ، زينب فواز في كتاب ألفته عنوانه : الدر المنثور في طبقات ربات الخدور ، النسخة التي تيسر الاطلاع عليها صادرة عن مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة - مصر – 2012 الكتاب في 881 صفحة . ورد في ص . 877 وكان لها – أي لولادة – مداعبات مع الأدباء ، ومنهم الأصبحي المشهور ، فقالت تهجوه :
يا أصبحي اهنأ فكم نعمـــــة = جاءتك من ذي العرش رب المنن
قد نلت بإست ابنك ما لم ينل = بفَرْج بُوران أبوها الحســــــــــن
في كتب التراث كم هائل من سرقة بيت مال المسلمين . جرد هذه السرقات يحتاج مجهودات تتجاوز الفرد ، وتتطلب مجلدات لتفصيلها . الاختيار شمل عينة غريبة جدا في هذه السرقات ، تتعلق العينة بنوع غريب وهو شراء الجواري والمبالغة في بذل أثمانها :
اشترى المتوكل جارية بمائة ألف درهم أي بـ 53000 دولار أمريكي بنقد عصر كتابة هذا المقال (ماي 2018) وتنسحب القيمة على كل المقادير المالية التي ستلي .
حدثنا أبو الحسن الأسدي قال حدثني أبو هفان قال حدثني سعيد ابن هريم : قال اشترى سليمان بن المنصور جارية يقال لها ضعيفة بخمسة آلاف دينار (207150 دولار أمريكي) ، فبلغ المهدي خبرها فوجه إليه: يا أخي بحقي عليك إلا أخذت هذه العشرة الألف الدينار (414300 دولار أمريكي) ، وآثرتني بضعيفة عزمة مني عليك فأنفذها إليه . كتاب : أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم – أبو بكر الصولي
في سند بلغ حمادا بن إسحاق قال : كان أبي يحدث أن الرشيد اشترى جارية بستة وثلاثين ألف دينار (14191480 دولار أمريكي) – للخبر بقية نستغني عن ذكره – من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني .
وذكر ابن خردانية : أن المهدي اشترى هذه الجارية – يقصد بصبص جارية ابن نفيس – بسبعة عشر ألف دينار (704310 دولار أمريكي) فولدت له علية بنت المهدي . من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني .
وحكى ابن خلكان : أن جعفرا – المقصود جعفر البرمكي - اشترى جارية من رجل بأربعين ألف دينار (1657200 دولار أمريكي) من كتاب البداية والنهاية لابن كثير .
بيت المال مستباحة للخليفة وعائلة الخليفة مقفلة دونهم ، جاء في كتاب الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي لابن طرار (303 / 390 هـ - 916 / 1000 م) : كان على بيت المال في زمن المعتصم رجل يكنى أبا حاتم اشترى ابنه جارية تسمى القاسم بستين ألف درهم (31800 دولار أمريكي) ... فلما علم المعتصم قال : من أين لولد المملق هذا المال وأبوه ولي منذ سنتين فعزل أبا حاتم وأغرمه مائتي ألف درهم (106000 دولار أمريكي)
هكذا كانت تتلف الأموال من أجل شراء الجواري من قبل الخلفاء وأبنائهم وعامة الناس من يشتغل منهم يدفعون من عرقهم ليبذر الخلفاء هذا العرق في ملذات ما تحت السرة . هذا من التاريخ ، أما لو فتح هذا الملف في عصرنا فأحصينا كم مليارات من الدولارات أنفقت من قبل الحكام في بلدنا العربي الإسلامي على صدور الغواني في مواخير العالم لوجدنا ما يبني آلاف المستشفيات وآلاف المدارس والمعاهد والجامعات ، ولأنفقنا الكثير في البحث العلمي فكان لنا مكان في هذا العالم في مرتبة الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا واليابان وغيرها من الدول التي تحصد جوائز نوبل ، وما كنا عالة على غيرنا ، نقترض من البنك العالمي ومن صندوق النقد الدولي ، فنرهن البلاد والعباد ، ونفتقد أية سلطة في بلداننا وكذلك نفتقد أية قدرة للمشاركة في القرارات العالمية ، ثم نتباكى قائلين : إنها المؤامرة ، إنها الصهيونية العالمية ، إنها الامبريالية العالمية ، إنها العولمة ، إنه النظام العالمي أحادي القطب ... كلها مغالطات نغالط بها أنفسنا لنداري فشلنا ، لنداري عجزنا ، لنداري ظلمنا ونحن منا من قال : الظلم مؤذن بخراب العمران . في ديننا قول ربنا في الحديث القدسي : عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال : يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادي ، كلكم ضال إلا من هديته ، فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ، فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي ، إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا ، فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي ، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) أخرجه مسلم في صحيحه. ( وأي ظلم أكبر من قطع يد جاش امتدت لرغيف والتغاضي عمن ينهب المليارات ويهبر من المال العام هبرا .
إلى جانب أهدار المال العام في شراء الجواري ، إهدار آخر هدايا لأصحاب الحظوة لدى الخلفاء والأمراء منه هذا المثال : اشترى الرشيد لطبيبه جبريل بن بختيشوع ضياعا غلتها ألف ألف درهم (530000 دولار أمريكي) من كتاب الفرج بعد الشدة للتوخي (327 / 384 هـ - 939 / 994 م) . وأمثلة أخرى عديدة مبثوثة في كتب التراث .
حبذا أن نطبق قانونا شرعيا قطع يد السارق ، لكن نبدأ بأعلى الهرم ، لنرى ملوكا ورؤساء وأمراء ووزراء وولاة ومديرين عامين ومديرين وصيارفة ورجال أعمال أيديهم مقطوعة جزاء ما اقترفوه من سرقة المال العام بالمليارات ، فإذا بلغنا العامة وجدناهم يتمتعون بثرواتهم فلا يحاجون لمد أيديهم لأرغفة سرقةً ما داموا يملكون ثمنه . أموال بالمليارات هبرها القروش الكبيرة والحيتان السمينة من البنوك لم يرجعوا منها فلسا واحدا ، وهم نواب في البرلمانات ، وزراء في الحكومات ، رؤساء جمعيات رياضية وغير رياضية ، ينزلون في أفخم فنادق العالم ، يعالجون في أرقى مصحات العالم ، يملكون السيارات الفاخرة ، والقصور العامرة ، والبساتين الشاسعة ، يأخذون ويعطون ، لأن معاجمهم فيها كل ما اشتق من مادة (أ خ ذ) وكل مرادفاتها ، وليس فيها المادة المعجمية (ع ط ي) وكل مرادفاتها . تحالف على البلاد والعباد ساسة ورجال نهب يسندهم الكهنوت ، لذلك يحكم الكهنوت بقطع يد جائع امتدت لرغيف ، وتقبل يد سارق هبر من المال العام المليارات .
عبد الوهاب الفقيه رمضان
كاتب تونسي