مقدمة
لقد كانت بداية النظرة الفلسفية تتمثل في محاولة الإنسان اكتناه سر العالم مستلهما أدواته المعرفية من نظر عقلي وملاحظة علمية ؛ لكنها مازالت مرتبطة بالنظرة الاسطورية بكل طابعها الديني مما جعلها النظرة التأملية في الفلسفة اليونانية القائمة على تقديم العقل على الحواس لهذا كانت ترى أن لا علم إلا بالكليات وكان أول من لمس لب نظرية المعرفة من الفلاسفة اليونان بارمنيدس ( ) فقد جعل من التأمل الفلسفي تأملا في الوجود . قال: إن هناك "وجوداً" يتعدى كل ما تعرفه التجربة العادية، وهو يربط من خلال تأمله بين العقل وذلك الوجود وعلى حين اللاوجود يقوم على النظر والسمع وعلى اللغة التي يستعملها عامة الناس ( ) فالوجود هو (ما نفكر فيه ومن اجله يوجد التفكير)( ) فهو هنا يشك بالمعرفة التي تتكون عبر الحواس وينتقد اللغة اليومية وما فيها من استخدامات هي وليدة البيئة الاجتماعية للإنسان العادي مختلطة بتصوراته ومعتقداته. ثم عبر ابادوقليس( ) عن وجهة نظره في أن الشبيه يدرك الشبيه ( ). اما ديمقريطس ( ) فقد ميز بين الموجود وبين ما هو محض فكر وظن ولا يستطيع ان يدرك "الذرات " الا الإدراك "الألطف" وحس اما الحواس الخمس فانها تقف عند حدود المتنوع إلى ما لانهاية والنسبي من الوان واصوات وروائح وغير ذلك ( )وقد وجد ديمقريطس بين نوعين من المعرفة الأول مشروع والثاني غير مشروع، وينتمي كل من البصر والسمع والشم والمذاق واللمس إلى المعرفة غير المشروعة، ولكن العرفة المشروعة تنفصل عن هذه والسبب في تميز ديمقريطس المعرفة غير المشروعة لا تستطيع طويلاً أن ترى الأشياء الأصغر فالأصغر، ولا أن نسمع او ان تشم او أن تتذوق أو أن تدرك باللمس ،فان المعرفة المشروعة تأتي للمعاونة في هذا بطريقة أكثر دقة واتقانا للفحص فنحن لا نعرف - الذرات والخلاء –بالحواس ولكن نعرفها بالعقل.
فطريق الحواس عرضة للخطأ رنه يعالج التباين والتغيير الماديين اللذين ينتجان إحساساتنا ولكن طريق العقل الذي يعالج الحقائق القصوى هو الطريق المشروع فهو الآلة الماهرة التي تقودنا إلى الحقيقة ومن هنا فالعقل كمدعم لحقيقة الفكر أمام دليل الحواس. ( )
المبحث الأول
المعرفة عند سقراط
لقد اثيرت شكوك حول شخصية سقراط (469 ـ 399 ق.م) )ونكران حقيقتها من قبل بعض المؤرخين الذين يرون فيها –أي شخصيى سقراط –إبداع أفلاطوني لا أكثر، والسبب في هذا الاستنتاج ان سقراط لم يخلف كتبا ولم يعرف عنه أنه ترك آثارا مكتوبة مثل غيره من الفلاسفة السابقين أو المعاصرين له ،لكن هناك اثار غير افلاطون يتحدثون عن سقراط وهم : أرسطوفان، وأفلاطون، و أكزينوفون، و شذرات من مخلفات أرسطو ،و فيدون وإيشين تلميذي أفلاطون ،و روايات شعبية شفوية.( )
نجد ان الحديث عن المعرفة له اثر في مجمل حياة سقراط ومنهجه الفلسفي، مما يلايظهر أي انفصال بينهما وعلى هذا الاساس يمكن ملاحظة موقفه من المعرفة في النقاط التالية :
الأولى :" التهكم " من خلال طرحه الأسئلة وادعاء الجهل.
الثانية :"التوليد" أي استخراج المعارف عبر نظرية التذكر.
الثالثة :المعرفة ليس بالجزئيات بل بالكليات (الطبيعة / وعالمها الجزئي) يقابلها الماهيات وعتمادها العقل بدل الحواس.
الرابعة :المعرفة ليس فردية بل جماعية وليس حسية متغيرة بل عقلية عامة / نقد السفسطائية.
الخامسة : فهي تتناول المعرفة بوصفها تنوير وهي عكس الجهل فالمعرفة تقود إلى الفضيلة.
فيما يتعلق بالنقطة الأولى والثانية نجد أنهما وليدتان المنهج الذي اعتمده سقراط ومن هذا المنهج حاولنا أن نستنتجهما. والملاحظ أن المنهج بحسب المتعارف انه استنتجه من خلال من خلال ما كان يخوضه من جدل مع خصومه من السفسطائين وغيرهم وهو يعتمد آليّتين هما التهكم والتوليد.
فالنقطة الأولى جاءت من التهكم الذي يعرف بوصفه سمة من سمات الأسلوب الجدلي كما قلنا لطريقة سقراط في التحاور وفي البحث عن التعريفات حتى قال أرسطو عن سقراط (مأثرتان تعزوان إلى سقراط : وسيلة الاستدلال والتعريف المنطقي وهما اللذان بني عليهم العلم).ومن هذا القول انه كان يعتمد السخرية في وجه من يزعمون القول بجدية معارفهم وما يدعون أنه الحقيقة فيما يقولون، أي أولئك السوفسطائيين من أمثال تراسيماخوس، أوطيفرون، بروتاغوراس، غورجياس، فهم في زعمهم العلم و المعرفة و المهارة يزعمون أيضا الجدة ولذلك يقابلهم سقراط بالتهكم أو بالسخرية الجادة تماما مثلما أن جهله أو اذا صح القول ادعاء الجهل عارف، لان معرفته تلاحق الزعم السوفسطائي بامتلاك العلم من أجل إظهار زيف وتناقض ما يدعون ( ) فالتهكم هنا أن يبادر سقراط بتوجيه سؤال إلى محدثه، وهو يختار الشخصيات التي يناقشها تبعا للموضوع الذي يدور حوله الحوار، وهكذا فعندما يتناول موضوع العدالة يتجه إلى القضاة وإذا أراد مناقشة الدين والتقوى يختار الكهنة ثم يشرع في مناقشة هذا الشخص في فنه ( ) إذ نجد التهكم بوصفه جزء من منهج سقراط في أسلوب جدله مع السفسطائيين من خلال التهكم والاستفهام من موقع ادعاء الجهل وذلك بغرض تحرير العقل وتهيئته للحقائق الموضوعية. إذ أقام الدليل على أن المعرفة عبارة عن مدركات عقلية لأنها تتكون في مجموعها من حقائق كلية استخلصها العقل لا الحواس من الجزئيات، ولما كان العقل عنصرا مشتركا لزم أن تكون الحقيقة عند شخص معين هي نفسها عند شخص آخر ( ) ومن اجل هذا كانت بداية منهجه في الشك الذي اعتمده من خلال سخريته مما هو سائد ويدعي الإمساك بالحقيقة، الذي يعد نفسه صاحب الريادة من خلال ما يدعيه من معرفة ودراية فيأتي منهج سقراط بوصفه باحث عن الحقيقة التي يجهلها يعتمد في البدء على التظاهر بالتسليم بالأقوال التي يقدمها الطرف الآخر من خلال إعلان سقراط انه جاهل بالحقيقة تلك ويريد أن يتعلم من محاورة، من هنا يشرع بطرح الأسئلة التي تبدأ مما هو هين حتى تشمل القواعد الأساسية التي يقوم عليها تفسير تلك المدرسة في موقفها من الوجود وهنا تظهر جمله من الشكوك والريبة بهذا التأول السائد ومن هنا يأخذ منهجه سقراط الساخر وهو عبارة عن طريق ناعم وهادئ في خداع الآخرين متوخيا النقد والتفتيت لما هو متماسك وصلب يبدو ينتابه الوهن والتفكك حتى تبدو سلبيات الآخر خاضعة إلى لموضوعية سقراط المزعومة وهو يعتمد المراوغة اللغوية والفكرية جامعا بين المديح بصيغة الذم والذم بصيغة المديح مما يترك أثرا نفسي وفكري في الطرف المحاور وهذه الطريقة في التسلل إلى أفكار الآخر تقوم على دربة عالية لدى المحاور يعتمد على معرفة عميقة بالنقطة التي تنطلق منها، فهذه السخرية تنتمي إلى أشكال عديدة من الفن الساخر لكنها تتنوع بتنوع البيئة الثقافة. فهي عند سقراط شأن من يطلب العلم, ينتقل من أقوال المحاورين إلى أقوال تلزم عنها. فإذا لم يسلموا بها. ويأخذوا بأسبابها ومقتضياتها يوقعهم في النقاش. ويحملهم على الإقرار بالجهل.( ) وهي تضمر قصدية عميقة وليس تداعي حر بل تقوم على تصنع الجهل بقصدية قد تثير ريبة الآخر إلا أنّ موضوعية سقراط المتولدة من جديته وطريقته في التعامل الخطابي مع أهدافه التي قوامها محاربة الجهل من الأباطيل من اجل بلوغ الحق( ) وهي رؤية لم تفارق طبيعة البنية الخطابية التي اعتمدها السوفسطائية إلا أنها تعتمد على جمله من الأفكار الثابتة التي سوف نحللها هنا في مجال اهتمامنا أي المعرفة، فهذه المعاير المعتمدة في معرفة الحقيقة تقوم على اعتماد طريقة التوليد فهو يستخرج الحقيقة من نفوس تلاميذه كما تستخرج أمه الأطفال من بطون أمهاتهم.( ) فالتهكم هنا بمثابة آلية أولى أداة عقلية تهدف لتنقية الجو الفكري عند اليونان مما أذاعه فيه السفسطائية من اضطراب وشك وهدم للعقائد والقيم وهو خطوة ضرورية لتطهير النفس وإماطة لثام السفسطة عنها، هنا تبدأ عملية التوليد أي توليد الأفكار واستنباطها.
إما النقطة الثانية فهي التوليد وهي تبدو مرحلة أخرى بعد قيام سقراط بالتهكم، فالتوليد آلية أخرى مكملة لآلية التهكم، وفقها يشرع في بناء المعرفة على أسس جديدة من الطبيعي لإقامة بناء جديد على أنقاض آخر قديم لابد من إزالة ما هو موجود، وهو يصف حاله بالقول: ولكن كانت لي قدرة على توليد الحقيقة في النفوس الحبلى بها".( ) وهي بحسب توصيف أرسطو تجمع بين تعريف المعاني والاستقراء ويبدو نظر هيجل مجرد تكنيك، إلا أننا نجده يأخذ بُعدًا أكثر جذريةً وهو يمضي من الالتباس في المفاهيم إلى وضوحها، مما يمكنه أن يحقق الاستنباط والتوليد، فهو يجد أن عليه واجب الفعل بين الشباب من أجل تطهير عقولهم من أوهام التعليم السفسطائي وكانت تلك هي المسؤولية التي أناط نفسه من أجل القيام بها اتجاه مجتمعه من أجل تغيير نمط من السلوك يقوم على جملة من الأفكار كانت نقطة الارتكاز هي الشك بها ومن هنا كانت تهمة سقراط بأنه يشوه أفكار الشبيية التي اتخذت منه معلما لكنه يرى في نفسه منقذًا لهم وتلك هي وظيفته.
إلا أنَّ التوليد آلية مختلفة عن التهكم، فهي مرتبطة برؤية ميتافيزيقية قوامها وجود عالم المثل في مكان وزمان مفارقين، إذ كانت النفس هناك فهي قد شاهدت عالم المثل وأدركت الحقيقة إلا أنها في حلولها في الجسد تناست ما كانت تعرفه وحّلت الأوهام الحسية، وهنا يكون دور التهكم في محاربة تلك الأوهام وإحلال محلها حقائق عبر نظرية التذكر أي المعرفة التذكرية، لان الناس يولدون وفي نفوسهم العلم الفطري. والعلم عنده مثلما هو عند تلميذه أفلاطون سابق على التجربة Apriori، وما التعلم والجدل إلا وسائل تساعد النفس على استرجاع المعاني الفطرية، فتوقظها من سباتها وتذكرها بتلك المعاني التي عرفتها قبل حلولها بالعالم الأرضي ومن هنا فالعلم ليس إلا تذكرا وهذا هو معنى توليد للأفكار( )
أما النقطة الثالثة فهي تخوض بما يكمل النقاط السابقة في تأكيدها على أن المعرفة تكون من خلال معرفة الكليات أي الماهيات وليس الجزئيات كما كانت لدى الطبيعيين من خلال اعتمادهم المنهج الجزئي في معرفة أصل الأشياء والسوفسطاية في اعتمادهم على المنهج الجزئي في بناء شكِّهم.
وفي هذه النقطة هناك تمايز واختلاف مع طرفين مهمين في المعارف اليونانية قبل وأثناء وجود سقراط، هما: الطبيعيون والسفسطائيون، وقد جمع بينهما سقراط على الرغم من اختلافهم الكبير في كونهما يعتمدان المنهج الجزئي القائم على الإدراك الحسي.
وفيما يتعلق بالطبيعيين: فنحن تحدثنا عن بعضهم في مفتتح هذا الفصل إلا أن الحديث هنا عن قطيعة مهمة أحدثها سقراط معهم ومع منهجهم في فهم الطبيعة وعن رؤيتهم الفلسفية التي كان سقراط قد دشّن قطيعة معها أيضا، والتي أثّرت على فهم وظيفة الفلسفة ومن يفترض تسميته فيلسوف ،فيما يتعلق بكل هذه القطيعة يكن تبيانها في كون سقراط هو أول من أعطى للفلسفة مضمونها الحقيقي لكونه أول من فرّق بين الفلسفة والمعرفة لا على أساس النوع بل على أساس الموقف، كما يرى محمد جديدي، لكن كيف؟
الإجابة تكمن في أنه أحدث قطيعة مع الرؤية السابقة التي تهتمُّ بنظام العالم ووصل العناصر المكوِّنة، أي البحث في الطبيعة من حركة وزمان وعناصر الخ وهي مبحث الطبيعيات، إلى الاهتمام بالإنسان وقيمه ونظرته إلى الوجود وهو أمر بحث فيه السوفسطائية من قبل في انتقالهم من مبحث الطبيعيات إلى مبحث القيم؛ لهذا عدَّو الإنسان مقياس الأشياء، ولكون سقراط جزءًا من السوفسطائية قبل أن يختلف معهم، فهو بنظر أرسطو لم يكن لسقراط نظام عام في الطبيعة وإنما اهتمّ فحسب بالأخلاق بمعنى الفكر الإنساني الذي ينثني على الإنسان في مواجهة العالم بمعارف متعددة، أي الفلسفة نفسها، وهي تضمن استقلالها وشموليتها وضرورتها إزاء المعارف الأكثر حظوة، التي لم تكن أثينا تعرف منها إلا الشيء القليل، فالطبيعيون كانوا ينظرون إلى العالم من زاوية معرفية تهتم بالجزئيات لكن مع غياب نظرة شمولية توحد تلك الجزئيات في نظرة تجريدية عقلية شمولية.
سقراط إذًا لم يكن مهتمًّا في كشف ألغاز الكون وليس مع النظرة التجزيئية التي تفتقر إلى التجريد والشمولية، ومن هنا كانت هناك رؤية مختلفة لدى سقراط (ان المعرفة الحقيقية هي اقتناص ماهيات الأشياء والعلم يجب أن يقوم على إدراك واضح للماهيات، وبهذا يكون سقراط قد نقل البحث في المعرفة من الجزئيات المادية المحسوسة إلى الماهيات والكليات، وبذلك تكونت معه الفلسفة التصورية الحقيقية عند اليونان حينما استطاع الكشف عن وجود آخر غير الوجود الحسي هو الوجود الذهني أي وجود التصورات)( )
وهذا التحول من الطبيعة إلى الثقافة يعني التحول إلى معرفة قوامها المفاهيم المجردة العقلية وهو ما كانت تفتقده المعرفة الشرقية الأسطورية والمعرفة الأيونية التجزيئية الحسية، فالقاعدة التي يمكن استنتاجها هنا وهي نتائج توصل إليها الكثير من الباحثين في تاريخ الأفكار عن سقراط: إن كل معرفة هي معرفة من خلال المفاهيم، لكن ما هو المفهوم ؟ الإجابة قد تدخلنا في النقطة الرابعة في صراع سقراط مع السفسطائية التي كانت تغيب الوضوح وتميل إلى الشك بكل إمكانية للمعرفة، وقد كانت محاولة سقراط تقوم على اعتبار أنَّ المعرفة كلها في المفاهيم جعل العقل أداة المعرفة وعارض السوفسطائية الذين قصروها على الإدراك الحسي وباعتبار العقل أداة المعرفة والعنصر الكلي في الإنسان فإنه سيترتب على التوحيد بين المعرفة والمفاهيم أن سقراط سوف يعيد الإيمان والثقة بالحقيقة الموضوعية الصادقة بالنسبة إلى الجميع والملزمة لهم كذلك فهو يحطم بموقفه هذا فكرة السفسطائية من أن الحقيقة تابعة للفرد. وهذا ما يتضح لنا أكثر حينما ندرك أن المفهوم هو نفسه التعريف. ( )
والقاعدة انه في تناوله المفاهيم تغدو المعرفة في المفاهيم بشكل شامل كلي عقليا لكنها معرفة موضوعية باستقلال عن الفرد.
أما النقطة الخامسة فهي تتناول المعرفة بوصفها تنوير وهي عكس الجهل فالمعرفة تقود إلى الفضيلة. إذ حاول الجمع بين أمرين الأول فكرة هي وليدة التراث الديني الشرقي قوامها تغير الذات والفكرة الأخرى تغير العالم وبين الاثنين ترابط كبير، وهنا تبدأ الفعالية المعرفية الذات وهي تأخذ أبعادًا معرفية وأخلاقية وسياسية انطلاقا من المقولة المنحوتة على جدران معبد دلفي "اعرف نفسك" انطلق سقراط من هذه الحكمة معتمدا آليات الحوار والمناقشة من أجل فهم عالم المثل. والتي يرى الطريق المُوصِل إليه يمر عبر العقل وليس أحاسيس الفرد وهي خلاصة من خلاصات الفلسفة التأملية القائمة على النظر والاستقراء العقلي الذي يقود إلى معرفة المثل أو الماهيات المجردة عقليا. فهو على هذا الأساس ينتهج منهجًا مخالفًا إلى السوفسطائية التي قادت إلى الشك المطلق فإنه عبر العقل يصل إلى إقرار حقائق مشتركة معتمدا المنهج الشكي الذي يوصل إلى اليقين لهذا يرى (أنَّ العقل أداة المعرفة، والمعرفة ليست إحساسات الفرد التي تعني كل فرد يستطيع أن يعين الحقيقة كما يريد، إنما تعني المعرفة بالأشياء كما هي نحو موضوعي، ومثل هذه المعرفة هي معرفة بمفاهيم الأشياء) ( ). وقد أدلى أرسطو برأي في الأخلاق كان له اثر جليل في العالم النظري والعالم العملي، فهو يرى أنَّ الفضيلة تنبع من المعرفة والعقل وحسن التمييز، فالعقل الذي بلا إدراك عماء يتناقض مع نفسه والفعل الذي باعثه الإدراك لابد أن غايته وينبني على ذاك أن ليس هناك شر يقع مع الإدراك أو خير غير الإدراك) إلا أن هذا على صعيد تفعيل دور الفرد على تغيير سلوكه من خلال معرفة الذات فالتغير عبر المعرفة؛ إلا أنّ التغيير قد يحدث عبر مؤسسة الأسرة أو المجتمع هنا المعرفة تقود إلى فلسفة تربوية كما سوف تظهر بوضوح عند أفلاطون في مشروعه السياسي.وقد تجلت رؤية سقراط الأفلاطوني في الجمهورية وهو ينظر نظرة ذات بعد أخلاقي يمكن أن نلمس بها موقفا مختلفا، إذ في الجمهورية يخطو سقراط خطوه ابعد عن سقراط زينوفون في ولائه للملك، ففي حين يبين هومر أنَّ اجاممنون لم يكن فاضلا، يقترح سقراط حذف هذه الفقرة رقابيا من الإلياذة ،لأنها تسيء إليه وحتى لا تختلق إحساسا بازدراء السلطة، من بين الفقرات التي يطلب سقراط حذفها بالتحديد خطبة أخيل التي انتقد فيها اجاممنون، فمهمة الأدب... هي غرس عادة ضبط النفس Sophrosyne في الرعية على مستويين الأول كي يطيعوا حكامهم والثانية لكي يتحكموا في شهوتهم الجسدية.( ) وقد كان حضور سقراط في تيارات أخرى في تصوراته للفضيلة : فعند الكلبية كانت ترى الفضيلة معرفة يمكن تعليمها، عبر التخلص من الرغبات كلها حتى يتوصل إلى السعادة, فيما القورينائية ترى أنَّ السعادة هي غاية الوجود وفهم منها أنها اللذة فكل ما يوصل إلى اللذة خير على أن لا يتحرك الإنسان لشهوته فتتحكم في نفسه، وعند الميغارية فقد عرفت الخير بأنه الكائن النقي فليس مذهبها إلا تعبيرا سقراطيا.
فالقاعدة : إن هذه النقطة تربط بين المعرفة والنظرية الأخلاقية والفلسفة التربوية، فعلى الصعيد الأول كما مر ذكره المعرفة هنا طاقة تنوير يقبلها الجهل فالمعرفة تقود إلى تغير السلوك الفردي أخلاقيا ،(فالمعرفة الحقيقية للإنسان يجب أن تكون شيئا يجعل الناس فضلاء بصفتهم ناسا) ( )
لقد كانت بداية النظرة الفلسفية تتمثل في محاولة الإنسان اكتناه سر العالم مستلهما أدواته المعرفية من نظر عقلي وملاحظة علمية ؛ لكنها مازالت مرتبطة بالنظرة الاسطورية بكل طابعها الديني مما جعلها النظرة التأملية في الفلسفة اليونانية القائمة على تقديم العقل على الحواس لهذا كانت ترى أن لا علم إلا بالكليات وكان أول من لمس لب نظرية المعرفة من الفلاسفة اليونان بارمنيدس ( ) فقد جعل من التأمل الفلسفي تأملا في الوجود . قال: إن هناك "وجوداً" يتعدى كل ما تعرفه التجربة العادية، وهو يربط من خلال تأمله بين العقل وذلك الوجود وعلى حين اللاوجود يقوم على النظر والسمع وعلى اللغة التي يستعملها عامة الناس ( ) فالوجود هو (ما نفكر فيه ومن اجله يوجد التفكير)( ) فهو هنا يشك بالمعرفة التي تتكون عبر الحواس وينتقد اللغة اليومية وما فيها من استخدامات هي وليدة البيئة الاجتماعية للإنسان العادي مختلطة بتصوراته ومعتقداته. ثم عبر ابادوقليس( ) عن وجهة نظره في أن الشبيه يدرك الشبيه ( ). اما ديمقريطس ( ) فقد ميز بين الموجود وبين ما هو محض فكر وظن ولا يستطيع ان يدرك "الذرات " الا الإدراك "الألطف" وحس اما الحواس الخمس فانها تقف عند حدود المتنوع إلى ما لانهاية والنسبي من الوان واصوات وروائح وغير ذلك ( )وقد وجد ديمقريطس بين نوعين من المعرفة الأول مشروع والثاني غير مشروع، وينتمي كل من البصر والسمع والشم والمذاق واللمس إلى المعرفة غير المشروعة، ولكن العرفة المشروعة تنفصل عن هذه والسبب في تميز ديمقريطس المعرفة غير المشروعة لا تستطيع طويلاً أن ترى الأشياء الأصغر فالأصغر، ولا أن نسمع او ان تشم او أن تتذوق أو أن تدرك باللمس ،فان المعرفة المشروعة تأتي للمعاونة في هذا بطريقة أكثر دقة واتقانا للفحص فنحن لا نعرف - الذرات والخلاء –بالحواس ولكن نعرفها بالعقل.
فطريق الحواس عرضة للخطأ رنه يعالج التباين والتغيير الماديين اللذين ينتجان إحساساتنا ولكن طريق العقل الذي يعالج الحقائق القصوى هو الطريق المشروع فهو الآلة الماهرة التي تقودنا إلى الحقيقة ومن هنا فالعقل كمدعم لحقيقة الفكر أمام دليل الحواس. ( )
المبحث الأول
المعرفة عند سقراط
لقد اثيرت شكوك حول شخصية سقراط (469 ـ 399 ق.م) )ونكران حقيقتها من قبل بعض المؤرخين الذين يرون فيها –أي شخصيى سقراط –إبداع أفلاطوني لا أكثر، والسبب في هذا الاستنتاج ان سقراط لم يخلف كتبا ولم يعرف عنه أنه ترك آثارا مكتوبة مثل غيره من الفلاسفة السابقين أو المعاصرين له ،لكن هناك اثار غير افلاطون يتحدثون عن سقراط وهم : أرسطوفان، وأفلاطون، و أكزينوفون، و شذرات من مخلفات أرسطو ،و فيدون وإيشين تلميذي أفلاطون ،و روايات شعبية شفوية.( )
نجد ان الحديث عن المعرفة له اثر في مجمل حياة سقراط ومنهجه الفلسفي، مما يلايظهر أي انفصال بينهما وعلى هذا الاساس يمكن ملاحظة موقفه من المعرفة في النقاط التالية :
الأولى :" التهكم " من خلال طرحه الأسئلة وادعاء الجهل.
الثانية :"التوليد" أي استخراج المعارف عبر نظرية التذكر.
الثالثة :المعرفة ليس بالجزئيات بل بالكليات (الطبيعة / وعالمها الجزئي) يقابلها الماهيات وعتمادها العقل بدل الحواس.
الرابعة :المعرفة ليس فردية بل جماعية وليس حسية متغيرة بل عقلية عامة / نقد السفسطائية.
الخامسة : فهي تتناول المعرفة بوصفها تنوير وهي عكس الجهل فالمعرفة تقود إلى الفضيلة.
فيما يتعلق بالنقطة الأولى والثانية نجد أنهما وليدتان المنهج الذي اعتمده سقراط ومن هذا المنهج حاولنا أن نستنتجهما. والملاحظ أن المنهج بحسب المتعارف انه استنتجه من خلال من خلال ما كان يخوضه من جدل مع خصومه من السفسطائين وغيرهم وهو يعتمد آليّتين هما التهكم والتوليد.
فالنقطة الأولى جاءت من التهكم الذي يعرف بوصفه سمة من سمات الأسلوب الجدلي كما قلنا لطريقة سقراط في التحاور وفي البحث عن التعريفات حتى قال أرسطو عن سقراط (مأثرتان تعزوان إلى سقراط : وسيلة الاستدلال والتعريف المنطقي وهما اللذان بني عليهم العلم).ومن هذا القول انه كان يعتمد السخرية في وجه من يزعمون القول بجدية معارفهم وما يدعون أنه الحقيقة فيما يقولون، أي أولئك السوفسطائيين من أمثال تراسيماخوس، أوطيفرون، بروتاغوراس، غورجياس، فهم في زعمهم العلم و المعرفة و المهارة يزعمون أيضا الجدة ولذلك يقابلهم سقراط بالتهكم أو بالسخرية الجادة تماما مثلما أن جهله أو اذا صح القول ادعاء الجهل عارف، لان معرفته تلاحق الزعم السوفسطائي بامتلاك العلم من أجل إظهار زيف وتناقض ما يدعون ( ) فالتهكم هنا أن يبادر سقراط بتوجيه سؤال إلى محدثه، وهو يختار الشخصيات التي يناقشها تبعا للموضوع الذي يدور حوله الحوار، وهكذا فعندما يتناول موضوع العدالة يتجه إلى القضاة وإذا أراد مناقشة الدين والتقوى يختار الكهنة ثم يشرع في مناقشة هذا الشخص في فنه ( ) إذ نجد التهكم بوصفه جزء من منهج سقراط في أسلوب جدله مع السفسطائيين من خلال التهكم والاستفهام من موقع ادعاء الجهل وذلك بغرض تحرير العقل وتهيئته للحقائق الموضوعية. إذ أقام الدليل على أن المعرفة عبارة عن مدركات عقلية لأنها تتكون في مجموعها من حقائق كلية استخلصها العقل لا الحواس من الجزئيات، ولما كان العقل عنصرا مشتركا لزم أن تكون الحقيقة عند شخص معين هي نفسها عند شخص آخر ( ) ومن اجل هذا كانت بداية منهجه في الشك الذي اعتمده من خلال سخريته مما هو سائد ويدعي الإمساك بالحقيقة، الذي يعد نفسه صاحب الريادة من خلال ما يدعيه من معرفة ودراية فيأتي منهج سقراط بوصفه باحث عن الحقيقة التي يجهلها يعتمد في البدء على التظاهر بالتسليم بالأقوال التي يقدمها الطرف الآخر من خلال إعلان سقراط انه جاهل بالحقيقة تلك ويريد أن يتعلم من محاورة، من هنا يشرع بطرح الأسئلة التي تبدأ مما هو هين حتى تشمل القواعد الأساسية التي يقوم عليها تفسير تلك المدرسة في موقفها من الوجود وهنا تظهر جمله من الشكوك والريبة بهذا التأول السائد ومن هنا يأخذ منهجه سقراط الساخر وهو عبارة عن طريق ناعم وهادئ في خداع الآخرين متوخيا النقد والتفتيت لما هو متماسك وصلب يبدو ينتابه الوهن والتفكك حتى تبدو سلبيات الآخر خاضعة إلى لموضوعية سقراط المزعومة وهو يعتمد المراوغة اللغوية والفكرية جامعا بين المديح بصيغة الذم والذم بصيغة المديح مما يترك أثرا نفسي وفكري في الطرف المحاور وهذه الطريقة في التسلل إلى أفكار الآخر تقوم على دربة عالية لدى المحاور يعتمد على معرفة عميقة بالنقطة التي تنطلق منها، فهذه السخرية تنتمي إلى أشكال عديدة من الفن الساخر لكنها تتنوع بتنوع البيئة الثقافة. فهي عند سقراط شأن من يطلب العلم, ينتقل من أقوال المحاورين إلى أقوال تلزم عنها. فإذا لم يسلموا بها. ويأخذوا بأسبابها ومقتضياتها يوقعهم في النقاش. ويحملهم على الإقرار بالجهل.( ) وهي تضمر قصدية عميقة وليس تداعي حر بل تقوم على تصنع الجهل بقصدية قد تثير ريبة الآخر إلا أنّ موضوعية سقراط المتولدة من جديته وطريقته في التعامل الخطابي مع أهدافه التي قوامها محاربة الجهل من الأباطيل من اجل بلوغ الحق( ) وهي رؤية لم تفارق طبيعة البنية الخطابية التي اعتمدها السوفسطائية إلا أنها تعتمد على جمله من الأفكار الثابتة التي سوف نحللها هنا في مجال اهتمامنا أي المعرفة، فهذه المعاير المعتمدة في معرفة الحقيقة تقوم على اعتماد طريقة التوليد فهو يستخرج الحقيقة من نفوس تلاميذه كما تستخرج أمه الأطفال من بطون أمهاتهم.( ) فالتهكم هنا بمثابة آلية أولى أداة عقلية تهدف لتنقية الجو الفكري عند اليونان مما أذاعه فيه السفسطائية من اضطراب وشك وهدم للعقائد والقيم وهو خطوة ضرورية لتطهير النفس وإماطة لثام السفسطة عنها، هنا تبدأ عملية التوليد أي توليد الأفكار واستنباطها.
إما النقطة الثانية فهي التوليد وهي تبدو مرحلة أخرى بعد قيام سقراط بالتهكم، فالتوليد آلية أخرى مكملة لآلية التهكم، وفقها يشرع في بناء المعرفة على أسس جديدة من الطبيعي لإقامة بناء جديد على أنقاض آخر قديم لابد من إزالة ما هو موجود، وهو يصف حاله بالقول: ولكن كانت لي قدرة على توليد الحقيقة في النفوس الحبلى بها".( ) وهي بحسب توصيف أرسطو تجمع بين تعريف المعاني والاستقراء ويبدو نظر هيجل مجرد تكنيك، إلا أننا نجده يأخذ بُعدًا أكثر جذريةً وهو يمضي من الالتباس في المفاهيم إلى وضوحها، مما يمكنه أن يحقق الاستنباط والتوليد، فهو يجد أن عليه واجب الفعل بين الشباب من أجل تطهير عقولهم من أوهام التعليم السفسطائي وكانت تلك هي المسؤولية التي أناط نفسه من أجل القيام بها اتجاه مجتمعه من أجل تغيير نمط من السلوك يقوم على جملة من الأفكار كانت نقطة الارتكاز هي الشك بها ومن هنا كانت تهمة سقراط بأنه يشوه أفكار الشبيية التي اتخذت منه معلما لكنه يرى في نفسه منقذًا لهم وتلك هي وظيفته.
إلا أنَّ التوليد آلية مختلفة عن التهكم، فهي مرتبطة برؤية ميتافيزيقية قوامها وجود عالم المثل في مكان وزمان مفارقين، إذ كانت النفس هناك فهي قد شاهدت عالم المثل وأدركت الحقيقة إلا أنها في حلولها في الجسد تناست ما كانت تعرفه وحّلت الأوهام الحسية، وهنا يكون دور التهكم في محاربة تلك الأوهام وإحلال محلها حقائق عبر نظرية التذكر أي المعرفة التذكرية، لان الناس يولدون وفي نفوسهم العلم الفطري. والعلم عنده مثلما هو عند تلميذه أفلاطون سابق على التجربة Apriori، وما التعلم والجدل إلا وسائل تساعد النفس على استرجاع المعاني الفطرية، فتوقظها من سباتها وتذكرها بتلك المعاني التي عرفتها قبل حلولها بالعالم الأرضي ومن هنا فالعلم ليس إلا تذكرا وهذا هو معنى توليد للأفكار( )
أما النقطة الثالثة فهي تخوض بما يكمل النقاط السابقة في تأكيدها على أن المعرفة تكون من خلال معرفة الكليات أي الماهيات وليس الجزئيات كما كانت لدى الطبيعيين من خلال اعتمادهم المنهج الجزئي في معرفة أصل الأشياء والسوفسطاية في اعتمادهم على المنهج الجزئي في بناء شكِّهم.
وفي هذه النقطة هناك تمايز واختلاف مع طرفين مهمين في المعارف اليونانية قبل وأثناء وجود سقراط، هما: الطبيعيون والسفسطائيون، وقد جمع بينهما سقراط على الرغم من اختلافهم الكبير في كونهما يعتمدان المنهج الجزئي القائم على الإدراك الحسي.
وفيما يتعلق بالطبيعيين: فنحن تحدثنا عن بعضهم في مفتتح هذا الفصل إلا أن الحديث هنا عن قطيعة مهمة أحدثها سقراط معهم ومع منهجهم في فهم الطبيعة وعن رؤيتهم الفلسفية التي كان سقراط قد دشّن قطيعة معها أيضا، والتي أثّرت على فهم وظيفة الفلسفة ومن يفترض تسميته فيلسوف ،فيما يتعلق بكل هذه القطيعة يكن تبيانها في كون سقراط هو أول من أعطى للفلسفة مضمونها الحقيقي لكونه أول من فرّق بين الفلسفة والمعرفة لا على أساس النوع بل على أساس الموقف، كما يرى محمد جديدي، لكن كيف؟
الإجابة تكمن في أنه أحدث قطيعة مع الرؤية السابقة التي تهتمُّ بنظام العالم ووصل العناصر المكوِّنة، أي البحث في الطبيعة من حركة وزمان وعناصر الخ وهي مبحث الطبيعيات، إلى الاهتمام بالإنسان وقيمه ونظرته إلى الوجود وهو أمر بحث فيه السوفسطائية من قبل في انتقالهم من مبحث الطبيعيات إلى مبحث القيم؛ لهذا عدَّو الإنسان مقياس الأشياء، ولكون سقراط جزءًا من السوفسطائية قبل أن يختلف معهم، فهو بنظر أرسطو لم يكن لسقراط نظام عام في الطبيعة وإنما اهتمّ فحسب بالأخلاق بمعنى الفكر الإنساني الذي ينثني على الإنسان في مواجهة العالم بمعارف متعددة، أي الفلسفة نفسها، وهي تضمن استقلالها وشموليتها وضرورتها إزاء المعارف الأكثر حظوة، التي لم تكن أثينا تعرف منها إلا الشيء القليل، فالطبيعيون كانوا ينظرون إلى العالم من زاوية معرفية تهتم بالجزئيات لكن مع غياب نظرة شمولية توحد تلك الجزئيات في نظرة تجريدية عقلية شمولية.
سقراط إذًا لم يكن مهتمًّا في كشف ألغاز الكون وليس مع النظرة التجزيئية التي تفتقر إلى التجريد والشمولية، ومن هنا كانت هناك رؤية مختلفة لدى سقراط (ان المعرفة الحقيقية هي اقتناص ماهيات الأشياء والعلم يجب أن يقوم على إدراك واضح للماهيات، وبهذا يكون سقراط قد نقل البحث في المعرفة من الجزئيات المادية المحسوسة إلى الماهيات والكليات، وبذلك تكونت معه الفلسفة التصورية الحقيقية عند اليونان حينما استطاع الكشف عن وجود آخر غير الوجود الحسي هو الوجود الذهني أي وجود التصورات)( )
وهذا التحول من الطبيعة إلى الثقافة يعني التحول إلى معرفة قوامها المفاهيم المجردة العقلية وهو ما كانت تفتقده المعرفة الشرقية الأسطورية والمعرفة الأيونية التجزيئية الحسية، فالقاعدة التي يمكن استنتاجها هنا وهي نتائج توصل إليها الكثير من الباحثين في تاريخ الأفكار عن سقراط: إن كل معرفة هي معرفة من خلال المفاهيم، لكن ما هو المفهوم ؟ الإجابة قد تدخلنا في النقطة الرابعة في صراع سقراط مع السفسطائية التي كانت تغيب الوضوح وتميل إلى الشك بكل إمكانية للمعرفة، وقد كانت محاولة سقراط تقوم على اعتبار أنَّ المعرفة كلها في المفاهيم جعل العقل أداة المعرفة وعارض السوفسطائية الذين قصروها على الإدراك الحسي وباعتبار العقل أداة المعرفة والعنصر الكلي في الإنسان فإنه سيترتب على التوحيد بين المعرفة والمفاهيم أن سقراط سوف يعيد الإيمان والثقة بالحقيقة الموضوعية الصادقة بالنسبة إلى الجميع والملزمة لهم كذلك فهو يحطم بموقفه هذا فكرة السفسطائية من أن الحقيقة تابعة للفرد. وهذا ما يتضح لنا أكثر حينما ندرك أن المفهوم هو نفسه التعريف. ( )
والقاعدة انه في تناوله المفاهيم تغدو المعرفة في المفاهيم بشكل شامل كلي عقليا لكنها معرفة موضوعية باستقلال عن الفرد.
أما النقطة الخامسة فهي تتناول المعرفة بوصفها تنوير وهي عكس الجهل فالمعرفة تقود إلى الفضيلة. إذ حاول الجمع بين أمرين الأول فكرة هي وليدة التراث الديني الشرقي قوامها تغير الذات والفكرة الأخرى تغير العالم وبين الاثنين ترابط كبير، وهنا تبدأ الفعالية المعرفية الذات وهي تأخذ أبعادًا معرفية وأخلاقية وسياسية انطلاقا من المقولة المنحوتة على جدران معبد دلفي "اعرف نفسك" انطلق سقراط من هذه الحكمة معتمدا آليات الحوار والمناقشة من أجل فهم عالم المثل. والتي يرى الطريق المُوصِل إليه يمر عبر العقل وليس أحاسيس الفرد وهي خلاصة من خلاصات الفلسفة التأملية القائمة على النظر والاستقراء العقلي الذي يقود إلى معرفة المثل أو الماهيات المجردة عقليا. فهو على هذا الأساس ينتهج منهجًا مخالفًا إلى السوفسطائية التي قادت إلى الشك المطلق فإنه عبر العقل يصل إلى إقرار حقائق مشتركة معتمدا المنهج الشكي الذي يوصل إلى اليقين لهذا يرى (أنَّ العقل أداة المعرفة، والمعرفة ليست إحساسات الفرد التي تعني كل فرد يستطيع أن يعين الحقيقة كما يريد، إنما تعني المعرفة بالأشياء كما هي نحو موضوعي، ومثل هذه المعرفة هي معرفة بمفاهيم الأشياء) ( ). وقد أدلى أرسطو برأي في الأخلاق كان له اثر جليل في العالم النظري والعالم العملي، فهو يرى أنَّ الفضيلة تنبع من المعرفة والعقل وحسن التمييز، فالعقل الذي بلا إدراك عماء يتناقض مع نفسه والفعل الذي باعثه الإدراك لابد أن غايته وينبني على ذاك أن ليس هناك شر يقع مع الإدراك أو خير غير الإدراك) إلا أن هذا على صعيد تفعيل دور الفرد على تغيير سلوكه من خلال معرفة الذات فالتغير عبر المعرفة؛ إلا أنّ التغيير قد يحدث عبر مؤسسة الأسرة أو المجتمع هنا المعرفة تقود إلى فلسفة تربوية كما سوف تظهر بوضوح عند أفلاطون في مشروعه السياسي.وقد تجلت رؤية سقراط الأفلاطوني في الجمهورية وهو ينظر نظرة ذات بعد أخلاقي يمكن أن نلمس بها موقفا مختلفا، إذ في الجمهورية يخطو سقراط خطوه ابعد عن سقراط زينوفون في ولائه للملك، ففي حين يبين هومر أنَّ اجاممنون لم يكن فاضلا، يقترح سقراط حذف هذه الفقرة رقابيا من الإلياذة ،لأنها تسيء إليه وحتى لا تختلق إحساسا بازدراء السلطة، من بين الفقرات التي يطلب سقراط حذفها بالتحديد خطبة أخيل التي انتقد فيها اجاممنون، فمهمة الأدب... هي غرس عادة ضبط النفس Sophrosyne في الرعية على مستويين الأول كي يطيعوا حكامهم والثانية لكي يتحكموا في شهوتهم الجسدية.( ) وقد كان حضور سقراط في تيارات أخرى في تصوراته للفضيلة : فعند الكلبية كانت ترى الفضيلة معرفة يمكن تعليمها، عبر التخلص من الرغبات كلها حتى يتوصل إلى السعادة, فيما القورينائية ترى أنَّ السعادة هي غاية الوجود وفهم منها أنها اللذة فكل ما يوصل إلى اللذة خير على أن لا يتحرك الإنسان لشهوته فتتحكم في نفسه، وعند الميغارية فقد عرفت الخير بأنه الكائن النقي فليس مذهبها إلا تعبيرا سقراطيا.
فالقاعدة : إن هذه النقطة تربط بين المعرفة والنظرية الأخلاقية والفلسفة التربوية، فعلى الصعيد الأول كما مر ذكره المعرفة هنا طاقة تنوير يقبلها الجهل فالمعرفة تقود إلى تغير السلوك الفردي أخلاقيا ،(فالمعرفة الحقيقية للإنسان يجب أن تكون شيئا يجعل الناس فضلاء بصفتهم ناسا) ( )