منذ أن دخلت القصة القصيرة درب التجريب، بدأت بذور الشك والانحلال تينع وتزداد وتتراكم على ضفافها، إن لم نقل على ضفاف قضايا النوع الادبي والتجنيس والصفاء الأجناسي، لقد فقد التصنيف الاجناسي ما كان يتمتع به من يقين وحسم لإدراك العالم، بل لم يعد له أي معنى، خصوصا بالنسبة للقصة القصيرة. دون أن نردد مع كروتشه وبلانشو ورولان بارث وغيرهم، بأن الأجناس الادبية لا وجود لها أصلا، وأن الحدود الفاصلة التي ما انفك النقاد يقيمونها بين الاجناس هي مجرد أوهام.
وبغض النظر عن هذا التداخل والتفاعل بين الرواية والقصة والمسرح والسينما والشعر، وحتى الفلسفة، فقد عاش الادب العربي بالخصوص ظواهر اختفاء أو اندثار كثير من النماذج القصصية والتجارب الكبيرة، كنا نقرأ لها ألف حساب، أقربها إلينا تجارب محمود تيمور وتوفيق الحكيم وطه حسين ويحيى حقي ويوسف السباعي والطيب صالح ونجيب محفوظ ويوسف ادريس وغسان كنفاني وعبد الكريم غلاب. وحتى زكريا تامر وغيرهم، أين هي الآن؟؟
إن الكتابة عموما والقصة القصيرة خصوصا،لا تنفك تخترق نفسها وثوابتها وقواعدها التأسيسية، التي أصبحت بالنسبة لها مجرد ذكريات طيبة أو ملامح أولى دون ان نتناسى ما عرفه الجندر المرتبط أصلا بالخصائص الثقافية والاجتماعية للجنس البشري، من تحولات ومسوخ انعكست على الواقع والتاريخ منذ أواسط القرن الماضي على الأقل
1 – أطياف القصة القصيرة
لم نعد اليوم نسمع ما يرويه رواة القصص القصيرة من قضايا وأفكار، فقط، بل أصبحنا نراها، كما ترى كل المجازات والاستعارات، التي تشكل حاستنا البصرية وتصحح رؤيتنا الفعلية لأنفسنا وللعالم. صارت بنيات السرود القصصية أكثر جمالا بمفارقاتها وانزياحاتها. لقد أصبحت اليوم بحلة جديدة، كاملة الدلال والدلالة:
أ – اصبحت تجافي الحكاية أو بالأحرى نقصها الى أقصى درجة ممكنة.
ب – صار ما كان يعرف بمنطق التشويق والإثارة تقليدا باليا أو نوعا من الخداع والتلاعب التقني.
ج – لم تعد هناك أهمية للتتابع الخطي للزمن، ولا لمفهوم التماسك في القصية، بعد أن فقد الزمن وحدته، واضمحلت مقولات أرسطو الشكلية: البداية – العقدة والتأزيم – الحل
د – لم يعد للشخصية القصصية ذلك الحضور المبئر، الواضح، أصبحت مجرد علامة سيميائية.
ه – أصبحت قصة اليوم تتحلى، وبشكل متزايد برؤى وحساسيات الشعراء والسينمائيين والفنانين التشكيليين والصحافة وتقنيات الارشيف وعين الكاميرامان المحايدة والمتواطئة أيضا.
و – حتى الجمال القصصي لم يعد هو نفسه، كما كان سابقا اصبح الجمال هو ذلك الشيء الباهر، الناتج عن الممارسة الفعلية التفاعلية بين اللغة والابداع والتلقي، وجمال نسبي، فرداني محض.
إن القصة، كما رأى بورخيس، كتابة، مجرد كتابة ماسة، صافية، لا تحتمل أي زيادة أو ترهل.. كتابة فنية لحكاية ذهنية مأسطرة ومخاتلة، وكامنة بين كلمات تتسرب من بين أصابع القراء، كرمل على صفحات كتاب موجود وغير موجود، مراوغة وهجينة، متعددة، لا أساس لها ولا قاعدة. ويكفي أن نستشهد بقصة الكاتب الغواتيمالي أوغوستو مونتيروسو: (عندما استيقظ، كان الديناصور لايزال هناك)، قصة تتألف
من سبع كلمات فقط، اعتبرت أجمل وأقصر قصة قصيرة.
أو قصة الكاتب «جيروم سالنجير»، والتي يقال أيضا، بانها تلخص جميع القصص القصيرة، عنوانها فمي جميل وعيناي خضراوان.
يدخل الزوج متعبا، يكتشف أن زوجته غير موجودة بالبيت… ينتظر قليلا. ثم يتصل هاتفيا بأعز أصدقائه وأقربهم الى قلبه. يخبره أنه لم يجد زوجته بالمنزل وأنه مشغول على غيابها… طبعا دون أن يشك أن زوجته توجد، في هذه اللحظة، في سرير الصديق الأعز. يخفف صديقه من توتره بكلمات جافة. يزداد توتر الزوج لما سببه لصديقه المخلص الطيب من ازعاج، وكذا من طريقة اعترافه غير اللبق والمتسرع… يفكر، ثم يعود للاتصال بصديقه.
اسمح لي أخي العزيز على الازعاج، لقد عادت زوجتي الى المنزل توا. رغم أنها كانت لاتزال في سرير أعز الاصدقاء..
والخلاصة أن القصة القصيرة مثلها مثل غيرها من أجناس استجابت لسيرورة التغيير، وهو ما جعلها تعيش حالة تماه وتجاور والتباس الحدود. إنها في صلب المتاهة، وخضم الخروج من رحم النوع وطمأنينة التجنيس، إنها الآن فرحة بالانعتاق من القفص وبالتيه في الخلاء السينمائي.
2 – الكاتب العاشق
يذكرني السيناريست عندنا، بكوكبة القصاصين المغاربة، سواء منهم الذين مازالوا يحلقون في ذاكرتنا أو الذين ظلوا طي النسيان، كعبد المجيد بنجلون وعبد السلام البقالي ومحمد بيدي ورفيقة الطبيعة وعبد الجبار السحيمي ومحمد الصباغ ومحمد زنيبر ومحمد زفزاف ومحمد شكري ومليكة مستظرف ومليكة نجيب.. ظلوا عشاقا للكتابة والقصة، خجولين عازفين على وعن المجهول، الى أن جرفتهم مياه النسيان تحت جسورنا.
نظريا وفعليا، السيناريست هو الصرح والأساس والمهندس الاول بالنسبة للسينما العالمية، وهو الأمر الذي دفع بالكثير من النقاد الى مراجعة موقفهم السابق من السيناريو، بالدعوة الى اعتباره نصا أدبيا يشبه في بنائه ووظيفته وجماليته النص المسرحي، بل غامر أشهر كتاب السيناريو في العالم بنشر سيناريوهاتهم في كتب ومجلات ومنشورات متداولة. أما السيناريست عندنا، إن لم يكن شبحا، فهو كاتب.
عاشق، قنوع، يلعب دور عالم بناء، جيء به من البادية ليقيم سقالات (يلوح الضالة) لتشييد منزل أو فيلا لن يحلم أبدا بالسكن فيها. يستعير موضوعه من رواية أو قصة أو من واقع أو تاريخ قديم.. ثم ينصرف لحال سبيله، تاركا لهم سيناريو على المقاس، نصا لغويا يحدد البناء العام لفيلم من المفروض أن ينجز بالصوت والصورة والحركة، بدون حاجة لحضور السيناريست.. أما سيناريست الفيلم القصير، فقصته قصيرة جدا، لا وقت له ولا مجال لبناء حبكة مفصلة لفيلمه، محكوم عليه بتجاهل الزمن والاكتفاء بالتركيز على موقف ما لشخصية فيلمه، وأن يتجنب الحوار أيضا. وبالتالي ليس أمامه سوى استعارة قصة قصيرة أو قصيدة تلائم هوية فكرته. مهمة سيناريست الفيلم القصير هي أن يجعل من الواقع سحرا، أن يقبض على لقطة واحدة شاردة من شريط الحياة الممل، وأن يخاطب متلقيا جديدا، من المفروض أن يكون أكثر فطنة وذكاء وحداثة واستعدادا لمشاركة مخرج الفيلم في إخراج العمل وإبداعه وتأويله.
بشكل عام نسجل التقارب الفرداني والشبحي بالاضافة إلى التداخل المفاهيمي والتقني الواضح، الذي يجمع بين سكريبت (خطاطة) الفيلم القصير والقصة القصيرة، إلى درجة التماهي والتناسخ.
3 – القصة السيناريو
تجاوزا، سوف نتعمد استعمال مصطلح السيناريو مكان السكريبت، انسجاما فقط مع العنوان الذي وضعناه لهذه الورقة، يتوخى مصطلح، »القصة السيناريو« الاشارة إلى جنس أدبي، كتابي، فني، سري، غير معروف، تتمازج فيه خصائص القصة القصيرة وخصائص السيناريو، تتداخل فيه الأزمنة النحوية السردية (الماضي والحاضر والمستقبل)، مما يحتم عليه استقطاب آليات الكتابة القصصية وآليات كتابة سيناريو الفيلم القصير. إنه حلبة صغيرة وقصيرة، مفتوحة على التعدد الدلالي والتمازج الأجناسي. القصة السيناريو هي، باختصار، كتابة قصة قصيرة على أساس أنها سيناريو فيلم قصير أو كتابة سيناريو فيلم قصير على أساس أنه قصة قصيرة. وحتى نقترب منها أكثر سأتخذ نموذجا لها، القصة السيناريو »”آخر أيام سقراط«”للقاص السيناريست أحمد بوزفور، وهي من القصص الغابرة داخل مجموعته »”الغابر الظاهر”«.
إذا كان متلقي القصة القصيرة يستمتع بانتباه، أو بعدمه، إلى ما يحكيه راويها، فإنه مع القصة السيناريو، يجب أن يكون بصيرا، يرى مباشرة ما يراه الكاميرامان المفترض. القصة السيناريو، ترى ولا تسمع، نرى حكايتها ولا نسمعها:
أ – الرؤية الأولى، »آخر أيام سقراط«:
1 – السيناريست:
من أهم خصائص القصة السيناريو أن يسند القاص دور الراوي الحكاء، لسيناريست تخييلي يكتب بالصورة واللقطة، يهندس المكان، يحدد اللقطات وأحجامها، يختار زوايا التصوير الساعية إلى التأثير المباشر على المِشاهد، وإلى تشكيل موقفه ووجهة نظره، يرتب المشاهد، يبئر ما يحتاج لتبئير، ويهمش مالا تستسيغه رؤيته. مهمته الأولية أن يحول قصة قصيرة إلى مادة أولية »حكاية«، وبالتالي يقوم نص السيناريو بوظيفة »الخطاب السردي«.
2 – المشهد: قسم سيناريست »”آخر أيام سقراط» قصته إلى ثلاثة مشاهد:
– المشهد الأول:
يدخل الرجل بحقيبته من الشارع إلى غرفته الشاسعة، الخالية (إلا من منضدة خشبية وكرسي ورفوف من الخشب الأسود، تحتوي على كتب، أوراق، أقمشة ملونة، مناديل، كؤوس، جرائد، صور بدون إطارات، مسامير، وحفنة تراب أحمر، ثم صورة فوتوغرافية كبيرة على الحائط لامرأة مستأنسة بالمكان). يفتح حقيبته ويخرج منها أدوات مختلفة (سكاكين، مقصات، مبارد، مسطرات…) يخلع ملابسه كلها باستثناء سروال قصير، ينزل محتويات الرفوف فوق المنضدة ثم يشرع في تقطيعها وتمزيقها وقصها وسحقها وتكسيرها، بالاضافة إلى حفنة تراب أحمر، ورمي كل شيء أرضا.
– المشهد الثاني
يتوارى الرجل خلف باب الغرفة، تدخل المرأة المعلقة صورتها على الحائط، لا تهتم بوجوده، وتنهمك في تنظيف الغرفة، وإعادة الأشياء التي بعثرها الرجل إلى سطح المنضدة، تخلطها بحفنة التراب وتعجنها، وتكورها، ثم تنحت منها جسدا لرجل يشبه الرجل الأول. تلبسه الثياب التي خلعها، ثم تغادر الغرفة متأبطة ذراع الرجل الثاني الذي صنعته بيديها، وتترك للرجل الأول كأسا خشبية على المنضدة، بعد أن صبت فيه سائلا من قنينة صغيرة.
– المشهد الثالث: يبقى الرجل الأول حائرا مترددا، يدور حول المنضدة قبل أن يقصد الكأس الخشبية ويتجرعها، ثم يسقط أرضا (النهاية).
إذن، ثلاثة مشاهد قصيرة جدا قد تكون كافية لبناء القصة السيناريو.
3 الشخصية:
تشترك القصة السيناريو مع القصص القصيرة عموما في اقتصارها على شخصية رئيسية واحدة، وقد قدمها السيناريست هنا بصفة »الرجل« وبالتالي، فالحوار منعدم وفي نفس الوقت غير منعدم، لأنه حوار سينمائي تقني، استعاري، بين الشخصية الرئيسية وعين الكاميرا: (الاقتراب – الابتعاد – تكبير – تصغير – زواية النظر – الارتفاع – الانخفاض – الأعلى – الأسفل).
4 – الزمن
إذا كان من المفترض أن زمن القصة القصيرة هو زمن الحكاية، الزمن الماضي، فإن القصة السيناريو تتبنى زمن الحاضر/المضارع الذي هو – عادة – زمن السيناريو. وضمير المتكلم يسجل حضور السيناريست داخل النص، بالاضافة إلى تقمصه دور الكاميرامان. والسرد بضمير المتكلم، يسعى، خلاف ضمير الغائب، إلى إضفاء المزيد من المصداقية على الأفعال والأقوال الصادرة عن الراوي أو السيناريست.
5 – النهاية
القصة السيناريو مثلها مثل القصة القصيرة الجيدة البناء، تنتهي بمفارقة أو مفاجأة أو صدمة للقارئ، وكل نهاية تحدد، وبشكل كبير مقصدية الكاتب وتوجه، في نفس الوقت، مقصدية المتلقي. ينتهي النص بالجملة التالية (… ويرفع الكوب إلى فمه، يتجرعه دفعة واحدة ثم يسقط).
6 – الرمز:
رغم أن من خصائص كتابة السيناريو أن تكون لغته خالية من التعابير المجازية والاستعارات والرموز، فإن القصة السيناريو تسمح للسيناريست بأن يستعين بتعابير مجازية ورموز لأنها في الأصل قصة قصيرة أمثلة:
(على الحائط صورة كبيرة لامرأة… كأنما تقلد الموناليزا)
(تنتقل الكاميرا إلى الداخل (داخل الشخصية) الهادئ، كأنما إلى شمس غاربة في أفق بعيد).
(تنطلق من عيني الرجل خطوط ملونة دقيقة تتبعها الكاميرا إلى فضاء خال إلا من هذه الخطوط: حمراء، خضراء، زرقاء، صفراء، بين بين، ثم هذه الخطوط الملونة تتحرك في صمت، بطيئة أولا ثم متسارعة…. دقيقة ولكنها صلبة كأسلاك معدنية…).
7 – المتلقي أو القارئ الرائي:
من الخصائص أو الآثار المترتبة عن قراءة القصة السيناريو، أن التعامل مع سيناريستها يفرض على المتلقي أن يتحول، من قارئ إلى متفرج، بصير، إلى مخرج مفترض للفيلم المفترض، يتحرك مع الكاميرا ويتصور الدلالات ويوجه ويرتب اللقطات ويختبرها ويهندس في ذهنه بنية فيلمه القصير:
(الكاميرا تنتقل في الغرفة تدريجيا… تعود الكاميرا إلى الوسط… ،تنتقل الكاميرا مراوحة ولعدة ثوان، بين عينيه “»المنظرتين« “وعيني المرأة في الصورة فوقه…).
في نفس الوقت يجد القارئ / المتفرج/المخرج نفسه مضطرا، لاستحضار مجموعة من المقاطع الموسيقية المواكبة للمشاهد، والموجهة للدلالة: (توشيات أندلسية مختلفة – موسيقى مواكبة لحركات الرجل الأول – أصوات كلاكسونات، وأجراس الأبواب والتلفونات، سيرينات المطافئ والشرطة والاسعاف – أناشيد – أغاني الحاجة الحمداوية – صوت ناس الغيوان).
فهو بقدر ما يشارك في تحقيق الافعال والحركات والاشياء ، يستعين بمقاطع صوتية موسيقية من اختيار السيناريست لتركيب المعنى الكلي للفيلم.
ب – الرؤية الثانية لـ آخر أيام سقراط«
كل ما يوجد على الأرض وكل ما يوجد على السماء (اسمحوا لي إن فضلت هنا على السماء عوض في السماء) يتخذ شكلا مجازيا إنه مجاز وأكاد أقول إن كل الاشياء الثابتة والزاحفة والمحلقة مجازات ،إنها أشياء لانراها بأعيننا المجردة التي لا تستوعب العالم أصلا، إننا لا يمكن أن نرى إلا بشكل مجازي، كما يرى الباحث على احمد الديري.
إننا لا يمكن أن نفكر إلا على نحو مجازي لأن المجازات تشكل الاطارات التي من خلالها نتلقى الاشياء ونفهمها ونحن عبر التفكير المجسد أو التفكير المجازي نتخيل ونتوقع ونستتنتج ونقرر ونفهم ونقنع ونقتنع ونحاجج، وأننا نستعين بحواس أخرى كي نرى العالم. قد تكون هذه الحواس قصصا أو كتبا أو حكايات أو أفلاما..« لذلك يمكن اعتبار المجاز حاسة أخرى> بل هي أم الحواس« فالمجاز هو أن ترى بغير عيونك البيولوجية… أن ترى بسمعك، بأنفك، بلسانك، بيديك، برأسك، بجسدك، بامرأة، بزهرة، بسماء، بقصة، بقصيدة، بنكتة. المجاز بنكتة.. المجاز هو أن ترى شيئا آخر من خلال منظار بعدسة بلورية تعكس عددا من الصور المتقابلة والمتماسة. يسمي الباحث هذا المنظار بـ(1) المشكال (الذي عندما تتغير أوضاعه يعكس مجموعة لا نهائية من الاشكال الهندسية). وحتى لا نذهب بعيدا، من منا لا يحمل بين ثنايا تفكيره، بوعي أو بدونه، شيئا من أسطورة سرير بروكست«؟
إن الكائن البشري، لا يمكنه أن يعيش بدون أن يرى، وهذه طبعا، إحدى مغازي السينما حتى الاعمى لا يعيش بدون أن ينير الظلام، وذلك بأن يتخيل الاشياء في هيئة أشياء أخرى (أبو جعفر الرودكي، رائد الشعر الفارسي، وأول من اصدر ديوانا باللغة الفارسية، بالاضافة الى براعته في الموسيقى والانشاد والترجمة، وهو من أوائل من اخترعوا القصائد الرباعية (القرن الرابع للهجرة) من رباعياته المترجمة للعربية.
أنت يا من سلبت الوردة اللون والعبير
اللون لوجهك والعبير لشعرك
تغسل وجهك فيصبح الجدول مزهرا.
وترخي شعرك فيصبح الممر برائحة المسك.
هذا الشاعر كان أكمه. سئل كيف ترى الألوان ؟ فقال: الألوان تشبه عندي الجمل اللغوية).
إنه لا ينظر من خلال شبكة العين، بل من خلال شبكة رمزية ثقافية، وهذا هو المجاز. يحتاج الانسان لهذه الشبكة وهو يفكر وهو يعبر عن مشاعره، و هو يتواصل مع غيره، وهو يفسر ما يحدث، وهو يقرر، وهو يتوقع، وهو يعترض. إنها شبكة تمكنه من التخييل والاتساع والرؤية.
بهذه الشبكة سنشاهد قصة “آخر أيام سقراط”، من خلال عين أو عدسة السينارست التخييلي الذي اختاره المؤلف لسرد مشاهد قصته وعلاماتها المتنوعة.
أول ما نراه في آخر أيام سقراط هو العنوان:
وكل عناوين القصص القصيرة هي استعارات.. تحيل دلالتها على المعنى المركزي المحتمل، والمؤطر للقصة ولعالمها التخييلي. وسواء كان العنوان قريبا او مضللا، فهو كما يقول: غريماس قصة متقدمة تمهد الطريق للنص القصصي الذي تحمل اسمه وتعطينا فكرة عنه.
(الخبز الحافي – لعبةالنسيان – الغابر الظاهر – النظر في الوجه العزيز – سيرة حمار – المغاربة – أوراق – بيوت واطئة – قبور في الماء – الترانت سيس…)
أبرز علامة تصادفنا “في آخر أيام سقراط” الاستعارية، هي سقراط، وأول سؤال يفرض نفسه، هو لماذا لا نعثر داخل القصة على هذا السقراط؟ فالسيناريست لم يعط اسما محددا لأي شخصية في النص، اكتفى فقط بالاشارة الى الشخصية الرئيسية بالرجل ويشير للشخصية الثانية ب »الرجل الثاني« ،ولا وجود في النص لشخص باسم سقراط. فمن هو سقراط هذا وعلاقته بسقراط ذاك؟ بذلك الفيلسوف اليوناني المشهور، الذي كان فنانا نحاتا يعيش مما ينحته من أجساد بشرية جميلة، قبل أن يهجر حرفة نحت الاجساد الميتة الصامتة> ليختار الانسان الحي الناطق، من خلال ممارسة الجدل والتأمل الفلسفي، الذي أدى به مباشرة الى الحكم عليه بالموت، بشرب كأس السم؟ في قصة الفيلسوف سقراط هذا، نلتمس العلامات التالية: (النحت – كأس السم – آخر الايام قبل الموت – وطبعا لا يمكن أن نذكر سقراط دون أن نذكر زوجته، تلك المرأة الجميلة التي قاست الأمرين من جراء كسل سقراط ولامبالاته وذمامة خلقته…) وكما سنرى، فهذه العلامات شبيهة الى ابعد الحدود، بالعلامات التي نصادفها في “«آخر ايام سقراط« “لبوزفور.
كانت هذه هي قصة العنوان التي من المفروض أن نقرأها قبل الدخول الى قصة النص. لكننا مع ذلك لم نجب عن السؤال، ما دلالة علامة سقراط؟ وما علاقتها بقصة آخر أيام سقراط؟
يقول السيميائيون: إن العلاقة بين العلامة ودلالتها (أي ما تمثله وترمز إليه)، هي التي تحدد مضمون العلامة. فالنص القصصي »آخر أيام سقراط«، مثله مثل كل القصص القصيرة هو أيضا، بالضرورة استعارة، وكل استعارة »هي”رمز وفكرة وأنموذج أصلي وحلم ورغبة وهذيان وطقس وأسطورة وسحر وإبداع ومثال وأيقونة وتمثيل ولغة وعلامة ومدلول ومعنى”، كما يقول ” ايكو – لقد اكتسحت الاستعارة مجالات لا حصر لها. وعليه فإن فهم أي استعارة يتطلب الرجوع الى محتويات التعابير المشكلة لها، أي الرجوع الى المؤولات المختزنة في الموسوعة الثقافية، للقارئ وقبله للكاتب، أي للشبكة التي ذكرناها سابقا.
وأبرز المؤولات لدلالة علامة سقراط هي »الفلسفة« التي مثلها سقراط والتي ميزته عن الفلاسفة قبله وبعده، إنها فلسفة التساؤل والبحث عن الانسان، وليس التساؤل عن مبدأ الوجود وأصل الكون. شعارها الخالد »”اعرف نفسك« “يقول سقراط إن كرامة الانسان الحقيقية تنبثق من اهتمامه بالعلم والمعرفة. وهي فلسفة نزلت من السماء الى الاسواق وتجولت في الشارع والازقة، وترددت على الملاعب، تعلم الناس وتجادلهم وتنورهم. والنتيجة كانت هي الحكم على سقراط بتجرع كأس السم، بالموت، بتهمة إفساد أخلاق الشباب – رغم أن أرسطو هو مؤسس فلسفة الاخلاق – وبتهمة الإساءة للتقاليد الدينية، رغم أن أرسطو كان بمثابة نبي.
هذا ما أوحى إلينا به سيناريست أحمد بوزفور، من خلال اخر أيام الرجل الاول الذي ليس سوى سقراط أو بالاحرى فلسفة سقراط الانسانية الشعبية. بينما المرأة هنا. هي المرادف للسلطة الرافضة لأي تواصل بين الفلسفة والناس، لما يشكله ذلك من خطر على وجودها. لذلك ستعدمه لتخلق فلسفتها الارستقراطية الخاصة، التي سيمثلها ويمثلها دائما الرجل الثاني، المصطنع، المزور، من أجل إرجاع الفلسفة الى السماء.
القصة السيناريو إذن، نص سينمائي تخييلي، قابل لأن يتحول الى شريط فيلمي قصير، على يد مخرج مبدع، فنان، وقابل لأن يتحول الى قصة قصيرة، على يد قاص مبدع، فنان.
محمد عزيز المصباحي
* عن الاتحاد الاشتراكي
وبغض النظر عن هذا التداخل والتفاعل بين الرواية والقصة والمسرح والسينما والشعر، وحتى الفلسفة، فقد عاش الادب العربي بالخصوص ظواهر اختفاء أو اندثار كثير من النماذج القصصية والتجارب الكبيرة، كنا نقرأ لها ألف حساب، أقربها إلينا تجارب محمود تيمور وتوفيق الحكيم وطه حسين ويحيى حقي ويوسف السباعي والطيب صالح ونجيب محفوظ ويوسف ادريس وغسان كنفاني وعبد الكريم غلاب. وحتى زكريا تامر وغيرهم، أين هي الآن؟؟
إن الكتابة عموما والقصة القصيرة خصوصا،لا تنفك تخترق نفسها وثوابتها وقواعدها التأسيسية، التي أصبحت بالنسبة لها مجرد ذكريات طيبة أو ملامح أولى دون ان نتناسى ما عرفه الجندر المرتبط أصلا بالخصائص الثقافية والاجتماعية للجنس البشري، من تحولات ومسوخ انعكست على الواقع والتاريخ منذ أواسط القرن الماضي على الأقل
1 – أطياف القصة القصيرة
لم نعد اليوم نسمع ما يرويه رواة القصص القصيرة من قضايا وأفكار، فقط، بل أصبحنا نراها، كما ترى كل المجازات والاستعارات، التي تشكل حاستنا البصرية وتصحح رؤيتنا الفعلية لأنفسنا وللعالم. صارت بنيات السرود القصصية أكثر جمالا بمفارقاتها وانزياحاتها. لقد أصبحت اليوم بحلة جديدة، كاملة الدلال والدلالة:
أ – اصبحت تجافي الحكاية أو بالأحرى نقصها الى أقصى درجة ممكنة.
ب – صار ما كان يعرف بمنطق التشويق والإثارة تقليدا باليا أو نوعا من الخداع والتلاعب التقني.
ج – لم تعد هناك أهمية للتتابع الخطي للزمن، ولا لمفهوم التماسك في القصية، بعد أن فقد الزمن وحدته، واضمحلت مقولات أرسطو الشكلية: البداية – العقدة والتأزيم – الحل
د – لم يعد للشخصية القصصية ذلك الحضور المبئر، الواضح، أصبحت مجرد علامة سيميائية.
ه – أصبحت قصة اليوم تتحلى، وبشكل متزايد برؤى وحساسيات الشعراء والسينمائيين والفنانين التشكيليين والصحافة وتقنيات الارشيف وعين الكاميرامان المحايدة والمتواطئة أيضا.
و – حتى الجمال القصصي لم يعد هو نفسه، كما كان سابقا اصبح الجمال هو ذلك الشيء الباهر، الناتج عن الممارسة الفعلية التفاعلية بين اللغة والابداع والتلقي، وجمال نسبي، فرداني محض.
إن القصة، كما رأى بورخيس، كتابة، مجرد كتابة ماسة، صافية، لا تحتمل أي زيادة أو ترهل.. كتابة فنية لحكاية ذهنية مأسطرة ومخاتلة، وكامنة بين كلمات تتسرب من بين أصابع القراء، كرمل على صفحات كتاب موجود وغير موجود، مراوغة وهجينة، متعددة، لا أساس لها ولا قاعدة. ويكفي أن نستشهد بقصة الكاتب الغواتيمالي أوغوستو مونتيروسو: (عندما استيقظ، كان الديناصور لايزال هناك)، قصة تتألف
من سبع كلمات فقط، اعتبرت أجمل وأقصر قصة قصيرة.
أو قصة الكاتب «جيروم سالنجير»، والتي يقال أيضا، بانها تلخص جميع القصص القصيرة، عنوانها فمي جميل وعيناي خضراوان.
يدخل الزوج متعبا، يكتشف أن زوجته غير موجودة بالبيت… ينتظر قليلا. ثم يتصل هاتفيا بأعز أصدقائه وأقربهم الى قلبه. يخبره أنه لم يجد زوجته بالمنزل وأنه مشغول على غيابها… طبعا دون أن يشك أن زوجته توجد، في هذه اللحظة، في سرير الصديق الأعز. يخفف صديقه من توتره بكلمات جافة. يزداد توتر الزوج لما سببه لصديقه المخلص الطيب من ازعاج، وكذا من طريقة اعترافه غير اللبق والمتسرع… يفكر، ثم يعود للاتصال بصديقه.
اسمح لي أخي العزيز على الازعاج، لقد عادت زوجتي الى المنزل توا. رغم أنها كانت لاتزال في سرير أعز الاصدقاء..
والخلاصة أن القصة القصيرة مثلها مثل غيرها من أجناس استجابت لسيرورة التغيير، وهو ما جعلها تعيش حالة تماه وتجاور والتباس الحدود. إنها في صلب المتاهة، وخضم الخروج من رحم النوع وطمأنينة التجنيس، إنها الآن فرحة بالانعتاق من القفص وبالتيه في الخلاء السينمائي.
2 – الكاتب العاشق
يذكرني السيناريست عندنا، بكوكبة القصاصين المغاربة، سواء منهم الذين مازالوا يحلقون في ذاكرتنا أو الذين ظلوا طي النسيان، كعبد المجيد بنجلون وعبد السلام البقالي ومحمد بيدي ورفيقة الطبيعة وعبد الجبار السحيمي ومحمد الصباغ ومحمد زنيبر ومحمد زفزاف ومحمد شكري ومليكة مستظرف ومليكة نجيب.. ظلوا عشاقا للكتابة والقصة، خجولين عازفين على وعن المجهول، الى أن جرفتهم مياه النسيان تحت جسورنا.
نظريا وفعليا، السيناريست هو الصرح والأساس والمهندس الاول بالنسبة للسينما العالمية، وهو الأمر الذي دفع بالكثير من النقاد الى مراجعة موقفهم السابق من السيناريو، بالدعوة الى اعتباره نصا أدبيا يشبه في بنائه ووظيفته وجماليته النص المسرحي، بل غامر أشهر كتاب السيناريو في العالم بنشر سيناريوهاتهم في كتب ومجلات ومنشورات متداولة. أما السيناريست عندنا، إن لم يكن شبحا، فهو كاتب.
عاشق، قنوع، يلعب دور عالم بناء، جيء به من البادية ليقيم سقالات (يلوح الضالة) لتشييد منزل أو فيلا لن يحلم أبدا بالسكن فيها. يستعير موضوعه من رواية أو قصة أو من واقع أو تاريخ قديم.. ثم ينصرف لحال سبيله، تاركا لهم سيناريو على المقاس، نصا لغويا يحدد البناء العام لفيلم من المفروض أن ينجز بالصوت والصورة والحركة، بدون حاجة لحضور السيناريست.. أما سيناريست الفيلم القصير، فقصته قصيرة جدا، لا وقت له ولا مجال لبناء حبكة مفصلة لفيلمه، محكوم عليه بتجاهل الزمن والاكتفاء بالتركيز على موقف ما لشخصية فيلمه، وأن يتجنب الحوار أيضا. وبالتالي ليس أمامه سوى استعارة قصة قصيرة أو قصيدة تلائم هوية فكرته. مهمة سيناريست الفيلم القصير هي أن يجعل من الواقع سحرا، أن يقبض على لقطة واحدة شاردة من شريط الحياة الممل، وأن يخاطب متلقيا جديدا، من المفروض أن يكون أكثر فطنة وذكاء وحداثة واستعدادا لمشاركة مخرج الفيلم في إخراج العمل وإبداعه وتأويله.
بشكل عام نسجل التقارب الفرداني والشبحي بالاضافة إلى التداخل المفاهيمي والتقني الواضح، الذي يجمع بين سكريبت (خطاطة) الفيلم القصير والقصة القصيرة، إلى درجة التماهي والتناسخ.
3 – القصة السيناريو
تجاوزا، سوف نتعمد استعمال مصطلح السيناريو مكان السكريبت، انسجاما فقط مع العنوان الذي وضعناه لهذه الورقة، يتوخى مصطلح، »القصة السيناريو« الاشارة إلى جنس أدبي، كتابي، فني، سري، غير معروف، تتمازج فيه خصائص القصة القصيرة وخصائص السيناريو، تتداخل فيه الأزمنة النحوية السردية (الماضي والحاضر والمستقبل)، مما يحتم عليه استقطاب آليات الكتابة القصصية وآليات كتابة سيناريو الفيلم القصير. إنه حلبة صغيرة وقصيرة، مفتوحة على التعدد الدلالي والتمازج الأجناسي. القصة السيناريو هي، باختصار، كتابة قصة قصيرة على أساس أنها سيناريو فيلم قصير أو كتابة سيناريو فيلم قصير على أساس أنه قصة قصيرة. وحتى نقترب منها أكثر سأتخذ نموذجا لها، القصة السيناريو »”آخر أيام سقراط«”للقاص السيناريست أحمد بوزفور، وهي من القصص الغابرة داخل مجموعته »”الغابر الظاهر”«.
إذا كان متلقي القصة القصيرة يستمتع بانتباه، أو بعدمه، إلى ما يحكيه راويها، فإنه مع القصة السيناريو، يجب أن يكون بصيرا، يرى مباشرة ما يراه الكاميرامان المفترض. القصة السيناريو، ترى ولا تسمع، نرى حكايتها ولا نسمعها:
أ – الرؤية الأولى، »آخر أيام سقراط«:
1 – السيناريست:
من أهم خصائص القصة السيناريو أن يسند القاص دور الراوي الحكاء، لسيناريست تخييلي يكتب بالصورة واللقطة، يهندس المكان، يحدد اللقطات وأحجامها، يختار زوايا التصوير الساعية إلى التأثير المباشر على المِشاهد، وإلى تشكيل موقفه ووجهة نظره، يرتب المشاهد، يبئر ما يحتاج لتبئير، ويهمش مالا تستسيغه رؤيته. مهمته الأولية أن يحول قصة قصيرة إلى مادة أولية »حكاية«، وبالتالي يقوم نص السيناريو بوظيفة »الخطاب السردي«.
2 – المشهد: قسم سيناريست »”آخر أيام سقراط» قصته إلى ثلاثة مشاهد:
– المشهد الأول:
يدخل الرجل بحقيبته من الشارع إلى غرفته الشاسعة، الخالية (إلا من منضدة خشبية وكرسي ورفوف من الخشب الأسود، تحتوي على كتب، أوراق، أقمشة ملونة، مناديل، كؤوس، جرائد، صور بدون إطارات، مسامير، وحفنة تراب أحمر، ثم صورة فوتوغرافية كبيرة على الحائط لامرأة مستأنسة بالمكان). يفتح حقيبته ويخرج منها أدوات مختلفة (سكاكين، مقصات، مبارد، مسطرات…) يخلع ملابسه كلها باستثناء سروال قصير، ينزل محتويات الرفوف فوق المنضدة ثم يشرع في تقطيعها وتمزيقها وقصها وسحقها وتكسيرها، بالاضافة إلى حفنة تراب أحمر، ورمي كل شيء أرضا.
– المشهد الثاني
يتوارى الرجل خلف باب الغرفة، تدخل المرأة المعلقة صورتها على الحائط، لا تهتم بوجوده، وتنهمك في تنظيف الغرفة، وإعادة الأشياء التي بعثرها الرجل إلى سطح المنضدة، تخلطها بحفنة التراب وتعجنها، وتكورها، ثم تنحت منها جسدا لرجل يشبه الرجل الأول. تلبسه الثياب التي خلعها، ثم تغادر الغرفة متأبطة ذراع الرجل الثاني الذي صنعته بيديها، وتترك للرجل الأول كأسا خشبية على المنضدة، بعد أن صبت فيه سائلا من قنينة صغيرة.
– المشهد الثالث: يبقى الرجل الأول حائرا مترددا، يدور حول المنضدة قبل أن يقصد الكأس الخشبية ويتجرعها، ثم يسقط أرضا (النهاية).
إذن، ثلاثة مشاهد قصيرة جدا قد تكون كافية لبناء القصة السيناريو.
3 الشخصية:
تشترك القصة السيناريو مع القصص القصيرة عموما في اقتصارها على شخصية رئيسية واحدة، وقد قدمها السيناريست هنا بصفة »الرجل« وبالتالي، فالحوار منعدم وفي نفس الوقت غير منعدم، لأنه حوار سينمائي تقني، استعاري، بين الشخصية الرئيسية وعين الكاميرا: (الاقتراب – الابتعاد – تكبير – تصغير – زواية النظر – الارتفاع – الانخفاض – الأعلى – الأسفل).
4 – الزمن
إذا كان من المفترض أن زمن القصة القصيرة هو زمن الحكاية، الزمن الماضي، فإن القصة السيناريو تتبنى زمن الحاضر/المضارع الذي هو – عادة – زمن السيناريو. وضمير المتكلم يسجل حضور السيناريست داخل النص، بالاضافة إلى تقمصه دور الكاميرامان. والسرد بضمير المتكلم، يسعى، خلاف ضمير الغائب، إلى إضفاء المزيد من المصداقية على الأفعال والأقوال الصادرة عن الراوي أو السيناريست.
5 – النهاية
القصة السيناريو مثلها مثل القصة القصيرة الجيدة البناء، تنتهي بمفارقة أو مفاجأة أو صدمة للقارئ، وكل نهاية تحدد، وبشكل كبير مقصدية الكاتب وتوجه، في نفس الوقت، مقصدية المتلقي. ينتهي النص بالجملة التالية (… ويرفع الكوب إلى فمه، يتجرعه دفعة واحدة ثم يسقط).
6 – الرمز:
رغم أن من خصائص كتابة السيناريو أن تكون لغته خالية من التعابير المجازية والاستعارات والرموز، فإن القصة السيناريو تسمح للسيناريست بأن يستعين بتعابير مجازية ورموز لأنها في الأصل قصة قصيرة أمثلة:
(على الحائط صورة كبيرة لامرأة… كأنما تقلد الموناليزا)
(تنتقل الكاميرا إلى الداخل (داخل الشخصية) الهادئ، كأنما إلى شمس غاربة في أفق بعيد).
(تنطلق من عيني الرجل خطوط ملونة دقيقة تتبعها الكاميرا إلى فضاء خال إلا من هذه الخطوط: حمراء، خضراء، زرقاء، صفراء، بين بين، ثم هذه الخطوط الملونة تتحرك في صمت، بطيئة أولا ثم متسارعة…. دقيقة ولكنها صلبة كأسلاك معدنية…).
7 – المتلقي أو القارئ الرائي:
من الخصائص أو الآثار المترتبة عن قراءة القصة السيناريو، أن التعامل مع سيناريستها يفرض على المتلقي أن يتحول، من قارئ إلى متفرج، بصير، إلى مخرج مفترض للفيلم المفترض، يتحرك مع الكاميرا ويتصور الدلالات ويوجه ويرتب اللقطات ويختبرها ويهندس في ذهنه بنية فيلمه القصير:
(الكاميرا تنتقل في الغرفة تدريجيا… تعود الكاميرا إلى الوسط… ،تنتقل الكاميرا مراوحة ولعدة ثوان، بين عينيه “»المنظرتين« “وعيني المرأة في الصورة فوقه…).
في نفس الوقت يجد القارئ / المتفرج/المخرج نفسه مضطرا، لاستحضار مجموعة من المقاطع الموسيقية المواكبة للمشاهد، والموجهة للدلالة: (توشيات أندلسية مختلفة – موسيقى مواكبة لحركات الرجل الأول – أصوات كلاكسونات، وأجراس الأبواب والتلفونات، سيرينات المطافئ والشرطة والاسعاف – أناشيد – أغاني الحاجة الحمداوية – صوت ناس الغيوان).
فهو بقدر ما يشارك في تحقيق الافعال والحركات والاشياء ، يستعين بمقاطع صوتية موسيقية من اختيار السيناريست لتركيب المعنى الكلي للفيلم.
ب – الرؤية الثانية لـ آخر أيام سقراط«
كل ما يوجد على الأرض وكل ما يوجد على السماء (اسمحوا لي إن فضلت هنا على السماء عوض في السماء) يتخذ شكلا مجازيا إنه مجاز وأكاد أقول إن كل الاشياء الثابتة والزاحفة والمحلقة مجازات ،إنها أشياء لانراها بأعيننا المجردة التي لا تستوعب العالم أصلا، إننا لا يمكن أن نرى إلا بشكل مجازي، كما يرى الباحث على احمد الديري.
إننا لا يمكن أن نفكر إلا على نحو مجازي لأن المجازات تشكل الاطارات التي من خلالها نتلقى الاشياء ونفهمها ونحن عبر التفكير المجسد أو التفكير المجازي نتخيل ونتوقع ونستتنتج ونقرر ونفهم ونقنع ونقتنع ونحاجج، وأننا نستعين بحواس أخرى كي نرى العالم. قد تكون هذه الحواس قصصا أو كتبا أو حكايات أو أفلاما..« لذلك يمكن اعتبار المجاز حاسة أخرى> بل هي أم الحواس« فالمجاز هو أن ترى بغير عيونك البيولوجية… أن ترى بسمعك، بأنفك، بلسانك، بيديك، برأسك، بجسدك، بامرأة، بزهرة، بسماء، بقصة، بقصيدة، بنكتة. المجاز بنكتة.. المجاز هو أن ترى شيئا آخر من خلال منظار بعدسة بلورية تعكس عددا من الصور المتقابلة والمتماسة. يسمي الباحث هذا المنظار بـ(1) المشكال (الذي عندما تتغير أوضاعه يعكس مجموعة لا نهائية من الاشكال الهندسية). وحتى لا نذهب بعيدا، من منا لا يحمل بين ثنايا تفكيره، بوعي أو بدونه، شيئا من أسطورة سرير بروكست«؟
إن الكائن البشري، لا يمكنه أن يعيش بدون أن يرى، وهذه طبعا، إحدى مغازي السينما حتى الاعمى لا يعيش بدون أن ينير الظلام، وذلك بأن يتخيل الاشياء في هيئة أشياء أخرى (أبو جعفر الرودكي، رائد الشعر الفارسي، وأول من اصدر ديوانا باللغة الفارسية، بالاضافة الى براعته في الموسيقى والانشاد والترجمة، وهو من أوائل من اخترعوا القصائد الرباعية (القرن الرابع للهجرة) من رباعياته المترجمة للعربية.
أنت يا من سلبت الوردة اللون والعبير
اللون لوجهك والعبير لشعرك
تغسل وجهك فيصبح الجدول مزهرا.
وترخي شعرك فيصبح الممر برائحة المسك.
هذا الشاعر كان أكمه. سئل كيف ترى الألوان ؟ فقال: الألوان تشبه عندي الجمل اللغوية).
إنه لا ينظر من خلال شبكة العين، بل من خلال شبكة رمزية ثقافية، وهذا هو المجاز. يحتاج الانسان لهذه الشبكة وهو يفكر وهو يعبر عن مشاعره، و هو يتواصل مع غيره، وهو يفسر ما يحدث، وهو يقرر، وهو يتوقع، وهو يعترض. إنها شبكة تمكنه من التخييل والاتساع والرؤية.
بهذه الشبكة سنشاهد قصة “آخر أيام سقراط”، من خلال عين أو عدسة السينارست التخييلي الذي اختاره المؤلف لسرد مشاهد قصته وعلاماتها المتنوعة.
أول ما نراه في آخر أيام سقراط هو العنوان:
وكل عناوين القصص القصيرة هي استعارات.. تحيل دلالتها على المعنى المركزي المحتمل، والمؤطر للقصة ولعالمها التخييلي. وسواء كان العنوان قريبا او مضللا، فهو كما يقول: غريماس قصة متقدمة تمهد الطريق للنص القصصي الذي تحمل اسمه وتعطينا فكرة عنه.
(الخبز الحافي – لعبةالنسيان – الغابر الظاهر – النظر في الوجه العزيز – سيرة حمار – المغاربة – أوراق – بيوت واطئة – قبور في الماء – الترانت سيس…)
أبرز علامة تصادفنا “في آخر أيام سقراط” الاستعارية، هي سقراط، وأول سؤال يفرض نفسه، هو لماذا لا نعثر داخل القصة على هذا السقراط؟ فالسيناريست لم يعط اسما محددا لأي شخصية في النص، اكتفى فقط بالاشارة الى الشخصية الرئيسية بالرجل ويشير للشخصية الثانية ب »الرجل الثاني« ،ولا وجود في النص لشخص باسم سقراط. فمن هو سقراط هذا وعلاقته بسقراط ذاك؟ بذلك الفيلسوف اليوناني المشهور، الذي كان فنانا نحاتا يعيش مما ينحته من أجساد بشرية جميلة، قبل أن يهجر حرفة نحت الاجساد الميتة الصامتة> ليختار الانسان الحي الناطق، من خلال ممارسة الجدل والتأمل الفلسفي، الذي أدى به مباشرة الى الحكم عليه بالموت، بشرب كأس السم؟ في قصة الفيلسوف سقراط هذا، نلتمس العلامات التالية: (النحت – كأس السم – آخر الايام قبل الموت – وطبعا لا يمكن أن نذكر سقراط دون أن نذكر زوجته، تلك المرأة الجميلة التي قاست الأمرين من جراء كسل سقراط ولامبالاته وذمامة خلقته…) وكما سنرى، فهذه العلامات شبيهة الى ابعد الحدود، بالعلامات التي نصادفها في “«آخر ايام سقراط« “لبوزفور.
كانت هذه هي قصة العنوان التي من المفروض أن نقرأها قبل الدخول الى قصة النص. لكننا مع ذلك لم نجب عن السؤال، ما دلالة علامة سقراط؟ وما علاقتها بقصة آخر أيام سقراط؟
يقول السيميائيون: إن العلاقة بين العلامة ودلالتها (أي ما تمثله وترمز إليه)، هي التي تحدد مضمون العلامة. فالنص القصصي »آخر أيام سقراط«، مثله مثل كل القصص القصيرة هو أيضا، بالضرورة استعارة، وكل استعارة »هي”رمز وفكرة وأنموذج أصلي وحلم ورغبة وهذيان وطقس وأسطورة وسحر وإبداع ومثال وأيقونة وتمثيل ولغة وعلامة ومدلول ومعنى”، كما يقول ” ايكو – لقد اكتسحت الاستعارة مجالات لا حصر لها. وعليه فإن فهم أي استعارة يتطلب الرجوع الى محتويات التعابير المشكلة لها، أي الرجوع الى المؤولات المختزنة في الموسوعة الثقافية، للقارئ وقبله للكاتب، أي للشبكة التي ذكرناها سابقا.
وأبرز المؤولات لدلالة علامة سقراط هي »الفلسفة« التي مثلها سقراط والتي ميزته عن الفلاسفة قبله وبعده، إنها فلسفة التساؤل والبحث عن الانسان، وليس التساؤل عن مبدأ الوجود وأصل الكون. شعارها الخالد »”اعرف نفسك« “يقول سقراط إن كرامة الانسان الحقيقية تنبثق من اهتمامه بالعلم والمعرفة. وهي فلسفة نزلت من السماء الى الاسواق وتجولت في الشارع والازقة، وترددت على الملاعب، تعلم الناس وتجادلهم وتنورهم. والنتيجة كانت هي الحكم على سقراط بتجرع كأس السم، بالموت، بتهمة إفساد أخلاق الشباب – رغم أن أرسطو هو مؤسس فلسفة الاخلاق – وبتهمة الإساءة للتقاليد الدينية، رغم أن أرسطو كان بمثابة نبي.
هذا ما أوحى إلينا به سيناريست أحمد بوزفور، من خلال اخر أيام الرجل الاول الذي ليس سوى سقراط أو بالاحرى فلسفة سقراط الانسانية الشعبية. بينما المرأة هنا. هي المرادف للسلطة الرافضة لأي تواصل بين الفلسفة والناس، لما يشكله ذلك من خطر على وجودها. لذلك ستعدمه لتخلق فلسفتها الارستقراطية الخاصة، التي سيمثلها ويمثلها دائما الرجل الثاني، المصطنع، المزور، من أجل إرجاع الفلسفة الى السماء.
القصة السيناريو إذن، نص سينمائي تخييلي، قابل لأن يتحول الى شريط فيلمي قصير، على يد مخرج مبدع، فنان، وقابل لأن يتحول الى قصة قصيرة، على يد قاص مبدع، فنان.
محمد عزيز المصباحي
* عن الاتحاد الاشتراكي