إن كنت تبحث عن كتاب نادرٍ يصعب العثور عليه، أو طبعة قديمة لم تطلها يد التنقيح، أو كنت تسعى وراء عنوان حديث لا توفره المكتبات؛ سيقودك البحث في النهاية إلى تقاطع شارعي "القصر" و"البرلمان" في قلب الخرطوم، حيث يفرش كمال وداعة في شُرفة مبنى أثري، عدداً من الكتب فوق قطع من الكرتون.
كمال ليس بائع كتب مثل وراقين كثر ينتشرون في أزقّة الخرطوم. فما أن تطلب حاجتك منه، حتى يبدأ بسرد معلوماته عن طلبك؛ الطبعات وسنواتها وجودتها ومحتواها. وقد يُجري معك حواراً نقدياً رفيعاً حول موضوع الكتاب، قبل أن يضرب لك موعداً لإحضاره. فالرجل ذو الخمسين عاماً "يسهم في تكوين أجيال من الكتاب والمثقفين" بتعبير القاص علي عيسى.
سيرة ورّاق
في حزيران/ يونيو 1989 وصل الإسلاميون إلى السلطة في السودان. وبعد عامين فُصل كمال من عمله في "مصلحة الاتصالات السلكية واللاسلكية"، مثل كثيرين غيره تم إبعادهم وقتها تحت ذريعة "المصلحة العام"، لاستبدالهم في الواقع بالموالين للنظام الجديد، في ما عرف أيامها بسياسة "التمكين". فقرر كمال العمل ورّاقاً في سوق الكتب المستعملة، شمال جامع الخرطوم الكبير، وهو السوق الذي كان من رواده الدائمين من قبل.
وبمساعدة اثنين من أصدقائه الوراقين، أسامة نصر الدين وعبد الحميد مالك، بدأ كمال عمله الجديد مستفيداً من مكتبته الخاصة، ليستمر في هذا العمل حتى اليوم ويصبح أحد أعمدته.
يصف كمال بداياته لـ"العربي الجديد" بقوله: "كانت هناك حرب ضد الكتاب في تلك السنوات. واجهنا حملات البلدية ضدنا، ومطاردة شرطة النظام العام. تعرضنا للمضايقة المستمرة، وفي عام 1993، أوقفنا تحت تهديد السلاح رافعي الأيدي على سور الجامع للتفتيش ومصادرة الكتب، قبل اقتيادنا إلى مركز الشرطة. كانوا يعاملوننا كمجرمين، ويطاردوننا جرياً في شوارع الخرطوم مُتّهمين إيانا ببيع السلاح والمخدرات".
ويضيف كمال: "بعدها بفترة مُنع عرض الكتب في الخرطوم كنوع من تضييق الخناق علينا، فصرنا نحمل في جيوبنا قوائم الكتب ونريها للزبائن ليختاروا منها، ثم نتفق على مكان التسليم ووقته".
يتناول القاص جمال طه غلاب تلك السنوات المحفورة في ذاكرة المثقفين السودانيين كمثال للمعاناة والتضييق، فيقول لنا: "في تلك الفترة كانت حمّى التأصيل في أوجها. اختفت معارض الكتاب السنوية، وتوقفت مجلات مثل "الخرطوم" و"الثقافة السودانية"، وتم تجفيف الصحف اليومية من الملفات الثقافية التي كانت تتميز بها. بدا واضحاً أن هناك اتجاهاً قوياً من السلطة لقطع الطريق على كل إنتاج فكري أو أدبي أو فني لا يتماشى مع مشروعها". يوافقه كمال بالقول إن السلطة أيامها "كانت ضد فعل القراءة من الأساس، خصوصاً القراءات التنويرية".
ثقافة سرية
في ذلك الوقت اشتهر كمال وزملاؤه بتوفيرهم الكتب الممنوعة والنادرة، رغم الواقع المعادي للقراءات "غير المستحبة" من السلطة، كما يذهب إلى ذلك القاص غلاب الذي يرى أن كمال والورّاقين الآخرين "ربطوا القارئ السوداني بالحراك المعرفي في العالم عبر إدخالهم الكتب التي كانت الجهات الرقابية ترى أنها لا تصلح للتداول".
وعن كيفية حصولهم عليها آنذاك، يقول كمال: "عندما صادرت السلطات "دار الوعي للكتب" التي يملكها عثمان إدريس بحجة أنها مخالفة للمشروع الإسلامي، ظلت لديه كتب في مخازن لم تكتشف وجودها السلطات، وكانت المصدر الأساسي لنا. ولأن عثمان كان وكيلاً لعدد من دور النشر في بيروت، كنتَ تجد عنده كتب أركون، ونصر حامد أبو زيد، والجابري، وكتب الفلسفة الحديثة والقديمة، شتراوس، وكانت، وسبينوزا، ولوكاش، ومدرسة فرانكفورت وغيرها".
"بعدها تعددت المصادر"، يقول كمال، "وأصبحنا نتعامل مع التجار القادمين من الخارج ونعطيهم قوائم كتب ليهربوها لنا". وبعد صمت يضيف: "تحولت المسألة لفعل مقاومة ضد التجهيل الرسمي أكثر من كونها عملاً للربح المادي، فصرنا نهتم بتسريب الكتب غير المتوافقة مع التوجه الأيديولوجي للسلطة".
منتدى على الرصيف
في عام 1993، ابتكر كمال وزملاؤه معرض "مفروش" الذي صار في ما بعد مكان اجتماع المثقفين والكتّاب، ومتنفسهم في ظل التضييق عليهم آنذاك. وكانت البداية باستئجار المطاعم والكافتيريات التي تغلق في شهر رمضان، لتحتضن المعرض، قبل أن يصبح الاسم دالاً على كامل المكان الذي يستخدمه الورّاقون لعرض بضاعتهم في كل وقت.
يصف القاص غلاب "مفروش" بأنه "مؤسسة ثقافية شعبية التف حولها عدد كبير من المبدعين"، ويضيف: "كان المعرض بمثابة منتدى في الهواء الطلق، وليس بالضرورة أن تذهب إلى هناك لتشتري كتاباً أو اثنين، بل يمكنك أن توزع نصوصك التي تكتبها ولا تجد من يقرأها، على الأصدقاء. بالمقابل فإنك لن تعود أدراجك إلا وقد سمعت شعراً مدهشاً، أو خبراً عن مخطوطة رواية في طريقها إلى القاهرة أو دمشق. ولم يتردد كمال ورفاقه داخل هذا الفضاء في عرض لوحات تشكيلية لطلاب كلية الفنون وغيرهم من الفنانين".
ويتفق غلاب مع علي عيسى في أن "كمال وداعة ورفاقه ليسوا باعة كتب فحسب، بل هم مثقفون أرادوا أن يربطوا المشهد المحلي بما يدور حوله في العالم، فتجد عندهم الكتب الملعونة التي كانت جهات الرقابة في كل الدول العربية تحرص على الحد من انتشارها"؛ قبل أن يشير إلى أن كمال هو "مثقف يحرص على الكفاح للحفاظ على ازدهار سوق الكتاب داخل واقع كل ما فيه كان حرباً معلنة على التفكير والثقافة والنقد".
كمال ليس بائع كتب مثل وراقين كثر ينتشرون في أزقّة الخرطوم. فما أن تطلب حاجتك منه، حتى يبدأ بسرد معلوماته عن طلبك؛ الطبعات وسنواتها وجودتها ومحتواها. وقد يُجري معك حواراً نقدياً رفيعاً حول موضوع الكتاب، قبل أن يضرب لك موعداً لإحضاره. فالرجل ذو الخمسين عاماً "يسهم في تكوين أجيال من الكتاب والمثقفين" بتعبير القاص علي عيسى.
سيرة ورّاق
في حزيران/ يونيو 1989 وصل الإسلاميون إلى السلطة في السودان. وبعد عامين فُصل كمال من عمله في "مصلحة الاتصالات السلكية واللاسلكية"، مثل كثيرين غيره تم إبعادهم وقتها تحت ذريعة "المصلحة العام"، لاستبدالهم في الواقع بالموالين للنظام الجديد، في ما عرف أيامها بسياسة "التمكين". فقرر كمال العمل ورّاقاً في سوق الكتب المستعملة، شمال جامع الخرطوم الكبير، وهو السوق الذي كان من رواده الدائمين من قبل.
وبمساعدة اثنين من أصدقائه الوراقين، أسامة نصر الدين وعبد الحميد مالك، بدأ كمال عمله الجديد مستفيداً من مكتبته الخاصة، ليستمر في هذا العمل حتى اليوم ويصبح أحد أعمدته.
يصف كمال بداياته لـ"العربي الجديد" بقوله: "كانت هناك حرب ضد الكتاب في تلك السنوات. واجهنا حملات البلدية ضدنا، ومطاردة شرطة النظام العام. تعرضنا للمضايقة المستمرة، وفي عام 1993، أوقفنا تحت تهديد السلاح رافعي الأيدي على سور الجامع للتفتيش ومصادرة الكتب، قبل اقتيادنا إلى مركز الشرطة. كانوا يعاملوننا كمجرمين، ويطاردوننا جرياً في شوارع الخرطوم مُتّهمين إيانا ببيع السلاح والمخدرات".
ويضيف كمال: "بعدها بفترة مُنع عرض الكتب في الخرطوم كنوع من تضييق الخناق علينا، فصرنا نحمل في جيوبنا قوائم الكتب ونريها للزبائن ليختاروا منها، ثم نتفق على مكان التسليم ووقته".
يتناول القاص جمال طه غلاب تلك السنوات المحفورة في ذاكرة المثقفين السودانيين كمثال للمعاناة والتضييق، فيقول لنا: "في تلك الفترة كانت حمّى التأصيل في أوجها. اختفت معارض الكتاب السنوية، وتوقفت مجلات مثل "الخرطوم" و"الثقافة السودانية"، وتم تجفيف الصحف اليومية من الملفات الثقافية التي كانت تتميز بها. بدا واضحاً أن هناك اتجاهاً قوياً من السلطة لقطع الطريق على كل إنتاج فكري أو أدبي أو فني لا يتماشى مع مشروعها". يوافقه كمال بالقول إن السلطة أيامها "كانت ضد فعل القراءة من الأساس، خصوصاً القراءات التنويرية".
ثقافة سرية
في ذلك الوقت اشتهر كمال وزملاؤه بتوفيرهم الكتب الممنوعة والنادرة، رغم الواقع المعادي للقراءات "غير المستحبة" من السلطة، كما يذهب إلى ذلك القاص غلاب الذي يرى أن كمال والورّاقين الآخرين "ربطوا القارئ السوداني بالحراك المعرفي في العالم عبر إدخالهم الكتب التي كانت الجهات الرقابية ترى أنها لا تصلح للتداول".
وعن كيفية حصولهم عليها آنذاك، يقول كمال: "عندما صادرت السلطات "دار الوعي للكتب" التي يملكها عثمان إدريس بحجة أنها مخالفة للمشروع الإسلامي، ظلت لديه كتب في مخازن لم تكتشف وجودها السلطات، وكانت المصدر الأساسي لنا. ولأن عثمان كان وكيلاً لعدد من دور النشر في بيروت، كنتَ تجد عنده كتب أركون، ونصر حامد أبو زيد، والجابري، وكتب الفلسفة الحديثة والقديمة، شتراوس، وكانت، وسبينوزا، ولوكاش، ومدرسة فرانكفورت وغيرها".
"بعدها تعددت المصادر"، يقول كمال، "وأصبحنا نتعامل مع التجار القادمين من الخارج ونعطيهم قوائم كتب ليهربوها لنا". وبعد صمت يضيف: "تحولت المسألة لفعل مقاومة ضد التجهيل الرسمي أكثر من كونها عملاً للربح المادي، فصرنا نهتم بتسريب الكتب غير المتوافقة مع التوجه الأيديولوجي للسلطة".
منتدى على الرصيف
في عام 1993، ابتكر كمال وزملاؤه معرض "مفروش" الذي صار في ما بعد مكان اجتماع المثقفين والكتّاب، ومتنفسهم في ظل التضييق عليهم آنذاك. وكانت البداية باستئجار المطاعم والكافتيريات التي تغلق في شهر رمضان، لتحتضن المعرض، قبل أن يصبح الاسم دالاً على كامل المكان الذي يستخدمه الورّاقون لعرض بضاعتهم في كل وقت.
يصف القاص غلاب "مفروش" بأنه "مؤسسة ثقافية شعبية التف حولها عدد كبير من المبدعين"، ويضيف: "كان المعرض بمثابة منتدى في الهواء الطلق، وليس بالضرورة أن تذهب إلى هناك لتشتري كتاباً أو اثنين، بل يمكنك أن توزع نصوصك التي تكتبها ولا تجد من يقرأها، على الأصدقاء. بالمقابل فإنك لن تعود أدراجك إلا وقد سمعت شعراً مدهشاً، أو خبراً عن مخطوطة رواية في طريقها إلى القاهرة أو دمشق. ولم يتردد كمال ورفاقه داخل هذا الفضاء في عرض لوحات تشكيلية لطلاب كلية الفنون وغيرهم من الفنانين".
ويتفق غلاب مع علي عيسى في أن "كمال وداعة ورفاقه ليسوا باعة كتب فحسب، بل هم مثقفون أرادوا أن يربطوا المشهد المحلي بما يدور حوله في العالم، فتجد عندهم الكتب الملعونة التي كانت جهات الرقابة في كل الدول العربية تحرص على الحد من انتشارها"؛ قبل أن يشير إلى أن كمال هو "مثقف يحرص على الكفاح للحفاظ على ازدهار سوق الكتاب داخل واقع كل ما فيه كان حرباً معلنة على التفكير والثقافة والنقد".