إصرار الأطباء على التنظير الهضمي يوحي بأمرٍ جلل ..وتمّ كل شيء على عجل ...و لابدّ أن تستكين وتستسلم وتسترخي وتغمض المُقل ..وتستعد للمفاجآت فلن يطول الأجل .
وهل هي بمعزل عن كل تلك الأمراض التي تسمع عنها ؟..
ها هو السرطان الذي سيقضم حياتها سريعاً..قف مكانك ..لا تتقدّم ..سأطلق النار ..ولا يخاف السرطان من الموت ..لأنه الموت بذاته !
مازال الطب عاجزاً إزاءه..فالوسيلة الوحيدة لقتل السرطان حتى الآن هي قتل المريض نفسه ..فيموت سرطانه معه
تنظيرٌ وخزعة وتشخيصٌ مكتوبٌ بلغةٍ أجنبية ..لم تفهمْ شيئاً سوى أنه من الدرجة الثالثة
وكان لابد من الخضوع للجراحة الاسعافية
ولابد من الجلسات الشعاعية المستعجلة
ولابد من الجرعات الكيماوية المتلاحقة
ولابد ممّا ليس منه بد ...والوقت يمرُّ سريعاً
وتابعت جمع معلوماتها من المرضى في قسم العلاج الكيماوي ..وحصلت على الكثير من القصص الدرامية للمرضى ..البعض ظنّها باحثة اجتماعية فرفض التعاون معها مبدئياً ..ولكنهم مالبثوا أن انفتحوا لها عندما أكدت لهم لهم أنها منهم وليست عليهم
فاجأتها النسبة الكبيرة لمرضى السرطان في محيطها ..لم تقم بإحصاء رسمي فهو موجود في وزارة الصحة ..بل قامت باستجوابات نفسية لم يسبقها إليها أحد كطبيب نفسي مسجون ويسمع إرهاصات السجناء ...أما من يكلف بهذا العمل من قبل الوزارة فيكون طبيباً أو مرشداً نفسياً ويسمع للمرضى كمحقق من النيابة العامة فيكذبون عليه لأنه عليهم وليس منهم
السرطان ..تلك البشرى قد تسبّب انهيار المرء فتنطفئ شمعته قبل وقتها ..وأحياناً يحدث العكس ..ثورةٌ وتمرّدٌ ليس على السرطان نفسه ..وليس على خالق الحياة والموت ..إنها ثورةٌ وندمٌ على ما فات ..ومحاولة لامتلاك الوقت القادم كاملا ً ..
قبل السرطان كان نظم حياتها بطيئاً كأي انسان يعتقد أنّ حياتَه طويلة ..ويمكن تأجيل النجاح وردّ الحقوق وتحصيل الديون لاحقاً..
إن الإعتقاد بطول العمر هو الذي جعل العشاق يلعبون على أوتار الحب على مهل ويستعذبون عذابه ..ويسهرون وينتظرون استجابة المحبوب ويعدّون النجوم ..
هذا النفَس الطويل للحياة هو الذي جعل الزواج مملّاً ..تخيّل لو قيل لك أن حياتك الزوجية مدتها سنتان فقط ..إذن لتحمّلتَ كلَّ شيء وعِشتَ سعيداً بنصيبك ..لا وقت للتبديل أو التثنية أو التثليث ..إنه يومك ..استفد منه كاملاً ..لأنه لن يعود ..والوقت يمر سريعاً..
وحتى علاقتك مع الديّان ..ستكون أفضل عندما تعلم أنه ..(لا يُمهل ولا يُهمل )!..فتستغفر ربك بعد زلاتك مباشرة ..وقد لا تعود إليها .
إن الحياة القصيرة جداً ..تلغي من مفردات المرأة عبارة (سن اليأس) ..وعبارة (أرذل العمر) عند الرجل ..ويصبح الدُّعاء للأمير بعبارة (يا طويل العمر )..مضحكاً .
في حياة ما بعد السرطان ..يشعر بعض من ابتُلي بهذا الداء أنه من البطولة بمكان أن يموت بغير هذا المرض ..يشعر بأنه سيقهر هذا المُبشّر بالموت لو مات مثلاً بجلطةٍ قلبية ..أو بحادثِ سير ..أو بطلقاتٍ طائشة ..أي باعتباره ميتاً ولا مناص من ذلك .. فلمَ لا يموت بطريقة سريعة وغير مؤلمة ..لذلك يكتسب المريض أحياناً شجاعة قريبة من التهور !
كلّ ما سبق أحسّت به بعد أن أفاقت من صدمة الخبر الصاعق ..أفكار جعلتها امرأة أخرى .. بقي لها ثلاثة أعوام من العيوشة في أحسن الحالات كما قال الأطباء ..ألف يوم ونيّف ..قررت أن تقضيها على هواها ..
كأنها ألفُ ليلةٍ وليلة ..فعمر شهرزاد نظرياً هو ليلة واحدة فقط ..وتربح يوماً آخر إن سمعت صياح الديك !
لا معنى لكل ما تحتفظ به من مال ..وتحف ..وذكريات ..وصداقات ..كله صار في مهبّ الريح
الشباب والصحة يتسرّبان منها كُرْهاً ..والموتُ قريب ..والعمرُ يفرّ سريعاً .
وضعت مخططاً لثلاثِ سنواتٍ مليئة بكلّ متاهات العيش وتكاليفه ..كصورةٍ مصغّرةٍ عن حياةٍ كاملة وحافلة ..
لن تَحرِم نفسَها من شيئ ..ولن تُحرِّم شيئاً على نفسها .
لا شيئَ مؤجّل ..فالفكرة التي تومِضُ في ذهنها قابلة للتنفيذ فوراً مهما كانت النتائج ..فالوقت يكرُّ سريعاً..
صارت معجبةً بنفسها ..بإقدامها وشجاعتها ..لا خجلَ ولا خوف ..ولا مشاريعَ بعيدة المنال ..سفرٌ وسياحة ..وطعامٌ وشراب ..تعارفٌ وصداقات ..ولباسٌ وتبرّج ..وأيضاً وأيضاً ..وانفتاحٌ مفتوحٌ على الحياة ..فالحياة ما بعد السرطان مختلفة عما قبله .
لا عتابَ لأحد ولا حرجَ على أحد ..ولا وقتَ لإصلاح ذات البين مع أحد ..فالوقت يمرّ سريعاً .
أحبّت حياتها القصيرة المفعمة بكلّ جديد ....فيلمٌ وثائقيّ قصير وغنيّ بالتطورات بدلاً عن مسلسلاتٍ أغرقتها الأحداث المحشوة حشواً ..وتعجبت كيف كانت تعيش برتابة وملل وانتظار ...حياتها كانت موتاً بطيئا قبل الموت !
أخذت قرضاً كبيراً من المصرف التجاري ويتوجّب سداده خلال خمسة عشر عاماً بفوائد باهظة ..سخرت من المحاسب الذي استغرب موافقتها على تلك الشروط ..ووعدته بأن ستدفع ما يريد ويبدأ الدفع بعد ثلاث سنوات ..وليكن الأخذ سريعاً والتسديدُ بطيئاً...إلحقْ بي بعد موتي إن استطعت وخذ ما تبقّى من مالك..
تعلّمت قيادة السيارة بسرعة ..وأصبحت تقود بسرعاتٍ جنونية ..وسط المشاة الذين يتقافزون خوفاً ..لا يهمّ إن تحطمت سيارتها أو اصطدمت بسيارة أخرى ..فالدفع سيتم لاحقاً..ومن يعِشْ سيدفع .
اشترت بيتاً صغيراً وبأقساط مؤجلة ..واقتنت خادمة وكلباً صغيراً ..هنيئاً لمن خَدَمَتْ فقد صارعندها خادمة !..وخبِرت ما معنى أن تكونَ آمراً ولستَ مأموراً..
تهافَتَ إليها الرّجال ..وبسرعة ..شابةٌ وجميلة وغنية ..فالمرأة تُنكح لمالها وجمالها ودينها ..وتركت الشرط الثالث للسنة الأخيرة ..فتتوب بعد أن تقضي من الحياة وطرها .. وتتحجّب وتحجّ وتستعدّ للقاء باريها ..ولكن الويل لها إن كذب أطباؤها في تنبؤاتهم وما صدقوا ..الويل لها إن عاشت طويلاً ..عندها ستخضع لمحكمة بني البشر
صادقت الجميع ووعدتهم بالزواج بعد سنتين أو ثلاثة ..ريثما تختمر علاقاتها معهم ..وصبر الجميع على امرأة لم ولن تصبر على أية رغبة من رغباتها ..صاروا كعصابةٍ تأتمر بأمرها طمعاً في حظوتها
بالتأكيد أحبّت حياتها القصيرة ..وصارت تنتقد الصابرين ..والحالمين ..والمنتظرين للفرج الآتي لاحقاً ...قد يأتي ويمرُّ بكم سريعاً ولا تلحقون به ..قد لا تعلمون أنه تجاوزكم بلا عودة ..تؤمن الآن بأنّ الحياة نوعٌ وليست كمّاً ..اتركوا الماضي ..اطردوا الخوف من الحاضر فالآتي أعظم هولاً..
ارتفع صوتها وأصبحت تجهر بآرائها حتى في المواضيع المحظورة ..وممّ تخاف؟ ..من السجن المؤبد ؟ ..هههه ..الأشغال الشاقة ؟ ..أمِنَ الإعدام ؟!..هي محكومة سلفاً وتنتظر التنفيذ ..
هي الآن مخلوقٌ خطر ..تخيلوا شخصاً محكوماً بالإعدام وارتدى الثوب الأحمر ..ووقّع فضيلة المفتي على حكمه ..لكنه هرب قبل تنفيذ الحكم وانخرط بين الناس ..ماذا سيفعل بهم ؟..فلو قتل وسرق وبطش بالخلق أجمعين سيبقى حكمه واحداً...أشبه بكلبٍ مسعور محكوم بالموت
بسبب فيروس الكلب ..ومحكوم بالموت ببنادق البشر ..ولذلك سيعضُّ أي شيئ ..وحتى الحديد والخشب والزجاج ...ليس جوعاً وإنما انتقاماً ...يهاجم الجميع لأنه يفضل القتل بالبندقية على الموت اختناقاً بفعل الفيروس القاتل !
أعجب الناس بشجاعتها ..وأصبح لها أتباعٌ وجمهور ..صوتها صار مسموعاً في الشوارع الضيقة مبدئياً..ومازال سرّياً ..بل ومُلاحقاً أيضاً..وصار يُحسب لها ألف حساب ..امرأة حديدية .. ولو كان الصدأ يأكلها من الداخل .
اكتشفت أن جُبنَ الناس مصدرهُ حبّهم للحياة ..وخوفهم على ذويهم من التنكيل والتعذيب ..ولا عذاب أكثر من السرطان ..يخضعون وينتظرون ويسكتون لأنهم يخافون ..الألم والجوع والفقر والمرض والموت ..جرّبتهم كلهم وانتصرت عليهم بزمن بسيط.
تزعّمت حزباً سياسته قائمة على معارضة كل شيئ لمجرد المعارضة ..وشعاره وضع العصي في الدواليب ..فلقي رواجاً عند من لا يملكون دولاباً ولا يعرفون إلا طعم العصي على ظهورهم ..فرحوا بتخريب كل شيئ وقلب الموائد الزاخرة بما لذ وطاب ..لماذا ينتظرون الفتات بعد أن يشبع علية القوم ؟..إن قلب المائدة يجعل الطعام على الأرض ومتاحٌ للجميع..كبداية الثورة الفرنسية ..فوضى تخريبية وتخريب فوضوي !..وجرت الأموال في أيديها دعماً للحزب الواعد من الأغنياء الموعودين بالمناصب ..وقاعدة الحزب كبيرة من الفقراء الموعودين بالجنة..
بقي عليها التحجّب والتديّن ..والالتزام بالفرائض ..وسُحِر القوم بالمرأة المشاكسة ..قنبلة السياسة الموقوتة ..والداعية الدينية مرهوبة الجانب .
عندما عادت من الحج المبرور ..تناقلت صورها كلّ وسائل الإعلام وتصوّرت معها كل العمائم ...وخطبت عمامة بجمهور المؤمنين :
-إنّ روحاً جديدة حلّت على هذه المرأة ..فأصبحت مبدعة ..خلوقة ..خلاقة ..نجمة سطعت بسرعة البرق ..نور الإيمان يشعُّ من وجهها ...نزلت إلينا لنعرف قيمة الوقت وأنه يفرُّ سريعاً ..ولذلك نادت بالتوبة والاستغفار سريعاً.
وخطب أحد السياسيين من صيادي الفرص ..كان غارقاً في القاع ورأى موجة تتصاعد فامتطاها لعله ينال حقيبة في وزارة ..قال مفسراً إيديولوجية الثورة الجديدة :
-إن وضع العصي في الدواليب ليس المقصود به عرقلة مسيرة التطور ..هي فرملة مؤقتة لإصلاح العيوب في الدواليب ..ثم نسحب العصا ونضرب بها على يد من أبطأ المسيرة ..وبعدها ننطلق بسرعة البرق ..فالوقت يمر سريعاً .
كان موعد الانتخابات الرئاسية متزامناً مع موعد رحيلها ..لابأس إن خسرت فستكون بطلة من عامة الشعب ..تشي غيفارا يُبعث من جديد يحمل روحه على كفه ..ويقاوم في كل الجبهات لمجرّد المقاومة ..انظروا إليه الآن ..إنه رمزٌ محمول على الرايات بالرغم من حياته القصيرة
ولابأس إن نجحت فستلفظ أنفاسها كرئيسة للقوم ويحملون جثمانها على مدفع ويلفونه بالعلم الوطني ..وتمشي جنازتها ببطء لتجميع أكبر كمية من الدموع ..
الله أكبر ..ماهذا السرطان ؟...إنه معجزة إلهية ..عصاة تعرقل دولاب الحياة الذي يدور ببطء .. يسمونه خبيثاً لأن ركاب العربة عنه غافلون ويظنون الرحلة طويلة ...آه لو يمنح الله بطاقة لكل مخلوق مكتوبٌ فيها كم سيعيش ..إذن لكان الناس استغلوا أوقاتهم ...واعتبروا أن النوم أيضاً مضيعة للوقت ..ولله في خلقه شؤون .
أقسمت في مجلس الشعب اليمينَ كرئيسةٍ منتخبة بأرجحيةٍ كاسحة ....قالت للجموع الغفيرة دائماً والغفورة إلى الأبد:
-عندما بشّرني السرطان بالموت القريب ..أصبحتُ امرأة منفتحة على الحياة ..جائعة أقضم الأيام بنهم ..فالوقت يمر سريعاً
كعانسٍ عذراء مارست الحبَّ العذري حتى الثمالة .. وعندما فُضَّت بكارتها على حين غرّة ..اغتصَبَتْ جميع رجال الأرض ..فلم يعد لديها ما تخشى عليه
وصفق الشعب الذي (يقدّس غشاء البكارة) للتشبيه المثير..وحاول أحدهم أن يهلل ببيتين من الشعر الحماسيّ ..ليُثبت فيه أنها ضحّت ببكارتها فداء للوطن وأن ترابه الطاهر اختلط بدماء حيضها الطاهر! ..لكنها أومأت إليه أن يهمد كشاعرٍ كاذب يصيد بالماء العكر ..أو كمذيعٍ في الإذاعة الرسمية يهلل للمطر ويعتبره من إنجازات الثورة ..وتابعت :
-سياستي قائمة على مبدأ المحاسبة اليومية ..فوزارة التخطيط ذات الخطط الخمسية بعيدة المدى لا معنى لها..والراتب الشهري مُلغى ..أصبح يومياً يعطى للعامل قبل أن يجفَّ عرقه ..
عمركم سيقاس بالأيام وليس بالسنوات ..
دورة النساء الشهرية أصبحت يومية ..
اختتنوا من جديد بدءاً من شفاهكم فتصبح ألسنتكم ظاهرة ولا تخفونها ..حتى أسنانكم بحاجة للختان لتظهر ألسنتكم ..ألسنتكم التي تخاف أن يضيع الحق إن قالت الحقيقة ..
اقتلوا الخوف الذي تُرضِعه لكم أمهاتكم ..
فالأم تخاف على الرّضيع وعلى الحليب وعلى ثديها بحد ذاته .
اكشفوا أثداءكنّ للريح ..الثدي ليس عضواً جنسياً ..أرضعوا بعضكم بعضاً فتتآخون وتتخاوون ...والثدي المختبئ قد يداهمه السرطان من تحت الثياب ..فيكشفونه رغماً عنكن ..ويستأصله الجرّاح ويرميه في القمامة !
اعملوا لآخرتكم كأنكم تموتون غداً.. واعملوا لدنياكم كأنكم تموتون غداً ..فالوقت يمر ويفر ويكر سريعاً ..
لا للتريّث ..لا للانتظار
لا للصبر على البلوى والقهر ..فالصبر قد أضاع مفتاح الفرج
يجب قهر الأعداء اليوم وليس غداً
تحرير القدس اليوم وليس غداً
قالت الكثير ..بجمل غير مترابطة ..هاجمت كل شيئ ..كمقاتل يائس لديه آلاف الطلقات فوجّه نيرانه الحاقدة على الأصدقاء والأعداء على حدّ سواء ... كالسرطان المنتشر وأفلت من عقاله وسيضرب كل أعضاء البدن ..هي قائدة لثورة كلامية انفعالية لا كتب لها ولا نظام داخلي ..ولا ايديوجيا ..
كأي ثورة تكتب مبادئها وأهدافها بعد أن يموت قائدها ...بشرط أن تنتصر أولاً ..وهكذا ظلوا يكتبون عن لينين حتى البيروسترويكا ..أوأي دين جديد تكتب كتبه المقدسة بعد مئات السنين من انتشاره !!!!
وصفق لها الشعب الذي افترش الساحات ولا يسمع الخطاب ..لكنه كان يصفق للتصفيق الذي ينتقل بالعدوى ..
ذلك الشعب الذي أحس بالتعب من الوقوف الطويل في الساحات والميادين وبدأ يتكئ على بعضه ..بعضهم أحس بالجوع فانتظر أن يوزعوا عليهم طعاما ً وشراباً ..يجب أن تكون الثورة غنية ..يجب أن ترش الوقود على حطبها الذي سيحترق !
ذلك الشعب خبير بالتبدلات والأزمات.. يعرف كيف يصبرعلى الصبر ..ويخاف من الخوف..ويمرض لمجرد ذكر المرض ..ويعتاش كالقطيع ..يجب أن يكون خائفاً من شيء ما ..وإن لم يصنعوا له عدواً يرهبه سيحذرونه من انفلونزا الخنازير والدجاج ..والإيبولا
ذلك الشعب يبرد إن شاهد الثلج في التلفاز ..ويصلي صلاة الاستسقاء دائماً لأن المطر قد ينقطع إن انقطعت الكهرباء..وينام على كتب التاريخ الذي ادعى أنّ أجدادنا هم أول من صعد إلى المريخ !
عندما ماتت ..كتبوا على شاهدتها أنها عاشت ألف يومٍ ونيف ..لكن على هواها ..فهجاها من هجاها ..والبقرة الميتة تكثر سكاكينها
ومنهم شاعرنا ذو المياه العكرة ..مبيناً أن ثورتها كانت زوبعة في فنجان..وأنها كمت الأفواه وأسكتت الشعراء الأحرار ..وهو منهم !
وقال الشيخ بعد أن حذف صورته معها بطريقة (الفوتوشوب ):
-إنها ثورة شيطانية ..قادتها كافرة مغضوب عليها بالسرطان ..وفاسدة مسكونة بروح شريرة ..إذ نادت بالتعري وارتكبت الكبائر الكبرى والصغرى في زمن قياسي ..وجعلت بكارتها شعاراً لثورتها .
أما المعلق في الإذاعة الرسمية ..فقال:
-لقد دعت إلى نبذ الصبر والتريث وطول الأناة وهي صفات الشعوب الناجحة ..نادت بوضع العصي في الدواليب وهذا تخريب وتخريب ..قامت بقلب الموائد و البنية التحتية وهي ملك الشعب ..
وقال السياسي الذي تخلى عن الموجة التي حاول امتطاءها :
-لقد نصحتها بأن تقرأ التاريخ أولاً ..وتتعلم من دروسه ..فالشعب الذي نذرت حياتي من أجله هو الذي سينتصر
وقال وزير التخطيط المعزول بعد أن عاد إلى وظيفته:
- تلك كانت محاولة يائسة لخلخلة نظام الكون ...فمهما حاولت حرق الزمن لن تستطيع أن تجعل الحمل أقل من تسعة أشهر..ولن تسرّع المد أو الجذر إلا إذا أسرع القمر ..لقد نسيَتْ أنّ الإنجازات العظيمة للشعوب تحتاج أجيالاً وتضحياتٍ جسيمة ..فلن تبني هرماً في أيام ولن تفتح قناة السويس إلا بالتضحيات والصبر ..ولن تستطيع التغلب على الأعداء إلا بالكر والفر والصبر على البلوى ...كل ذلك يحتاج زمناً وخططاً خمسية وعشرية ..وعدة وزارات للتخطيط والاستشعار عن بعد .
لم يحملوها على مدفع ولم يلفوها بالعلم الوطني ...بل واروها الثرى كأي قطعة متسرطنة تسـتأصل من جسم الإنسان وتلقى في القمامة !
لقد كانت ثورة سرطانية فاشلة ومجنونة .. انتهت باستئصالها جذرياً من المجتمع حتى لا ينتشر ذلك المرض الفتاك ...ومنذ ذلك اليوم وضعت الحكومات برامج دقيقة للكشف المبكر عن السرطان...لأن السرطان ثورة تهدّد أمن المُبتلى به..وقد تهدد الأمن العام !
د. جورج سلوم
******************
وهل هي بمعزل عن كل تلك الأمراض التي تسمع عنها ؟..
ها هو السرطان الذي سيقضم حياتها سريعاً..قف مكانك ..لا تتقدّم ..سأطلق النار ..ولا يخاف السرطان من الموت ..لأنه الموت بذاته !
مازال الطب عاجزاً إزاءه..فالوسيلة الوحيدة لقتل السرطان حتى الآن هي قتل المريض نفسه ..فيموت سرطانه معه
تنظيرٌ وخزعة وتشخيصٌ مكتوبٌ بلغةٍ أجنبية ..لم تفهمْ شيئاً سوى أنه من الدرجة الثالثة
وكان لابد من الخضوع للجراحة الاسعافية
ولابد من الجلسات الشعاعية المستعجلة
ولابد من الجرعات الكيماوية المتلاحقة
ولابد ممّا ليس منه بد ...والوقت يمرُّ سريعاً
وتابعت جمع معلوماتها من المرضى في قسم العلاج الكيماوي ..وحصلت على الكثير من القصص الدرامية للمرضى ..البعض ظنّها باحثة اجتماعية فرفض التعاون معها مبدئياً ..ولكنهم مالبثوا أن انفتحوا لها عندما أكدت لهم لهم أنها منهم وليست عليهم
فاجأتها النسبة الكبيرة لمرضى السرطان في محيطها ..لم تقم بإحصاء رسمي فهو موجود في وزارة الصحة ..بل قامت باستجوابات نفسية لم يسبقها إليها أحد كطبيب نفسي مسجون ويسمع إرهاصات السجناء ...أما من يكلف بهذا العمل من قبل الوزارة فيكون طبيباً أو مرشداً نفسياً ويسمع للمرضى كمحقق من النيابة العامة فيكذبون عليه لأنه عليهم وليس منهم
السرطان ..تلك البشرى قد تسبّب انهيار المرء فتنطفئ شمعته قبل وقتها ..وأحياناً يحدث العكس ..ثورةٌ وتمرّدٌ ليس على السرطان نفسه ..وليس على خالق الحياة والموت ..إنها ثورةٌ وندمٌ على ما فات ..ومحاولة لامتلاك الوقت القادم كاملا ً ..
قبل السرطان كان نظم حياتها بطيئاً كأي انسان يعتقد أنّ حياتَه طويلة ..ويمكن تأجيل النجاح وردّ الحقوق وتحصيل الديون لاحقاً..
إن الإعتقاد بطول العمر هو الذي جعل العشاق يلعبون على أوتار الحب على مهل ويستعذبون عذابه ..ويسهرون وينتظرون استجابة المحبوب ويعدّون النجوم ..
هذا النفَس الطويل للحياة هو الذي جعل الزواج مملّاً ..تخيّل لو قيل لك أن حياتك الزوجية مدتها سنتان فقط ..إذن لتحمّلتَ كلَّ شيء وعِشتَ سعيداً بنصيبك ..لا وقت للتبديل أو التثنية أو التثليث ..إنه يومك ..استفد منه كاملاً ..لأنه لن يعود ..والوقت يمر سريعاً..
وحتى علاقتك مع الديّان ..ستكون أفضل عندما تعلم أنه ..(لا يُمهل ولا يُهمل )!..فتستغفر ربك بعد زلاتك مباشرة ..وقد لا تعود إليها .
إن الحياة القصيرة جداً ..تلغي من مفردات المرأة عبارة (سن اليأس) ..وعبارة (أرذل العمر) عند الرجل ..ويصبح الدُّعاء للأمير بعبارة (يا طويل العمر )..مضحكاً .
في حياة ما بعد السرطان ..يشعر بعض من ابتُلي بهذا الداء أنه من البطولة بمكان أن يموت بغير هذا المرض ..يشعر بأنه سيقهر هذا المُبشّر بالموت لو مات مثلاً بجلطةٍ قلبية ..أو بحادثِ سير ..أو بطلقاتٍ طائشة ..أي باعتباره ميتاً ولا مناص من ذلك .. فلمَ لا يموت بطريقة سريعة وغير مؤلمة ..لذلك يكتسب المريض أحياناً شجاعة قريبة من التهور !
كلّ ما سبق أحسّت به بعد أن أفاقت من صدمة الخبر الصاعق ..أفكار جعلتها امرأة أخرى .. بقي لها ثلاثة أعوام من العيوشة في أحسن الحالات كما قال الأطباء ..ألف يوم ونيّف ..قررت أن تقضيها على هواها ..
كأنها ألفُ ليلةٍ وليلة ..فعمر شهرزاد نظرياً هو ليلة واحدة فقط ..وتربح يوماً آخر إن سمعت صياح الديك !
لا معنى لكل ما تحتفظ به من مال ..وتحف ..وذكريات ..وصداقات ..كله صار في مهبّ الريح
الشباب والصحة يتسرّبان منها كُرْهاً ..والموتُ قريب ..والعمرُ يفرّ سريعاً .
وضعت مخططاً لثلاثِ سنواتٍ مليئة بكلّ متاهات العيش وتكاليفه ..كصورةٍ مصغّرةٍ عن حياةٍ كاملة وحافلة ..
لن تَحرِم نفسَها من شيئ ..ولن تُحرِّم شيئاً على نفسها .
لا شيئَ مؤجّل ..فالفكرة التي تومِضُ في ذهنها قابلة للتنفيذ فوراً مهما كانت النتائج ..فالوقت يكرُّ سريعاً..
صارت معجبةً بنفسها ..بإقدامها وشجاعتها ..لا خجلَ ولا خوف ..ولا مشاريعَ بعيدة المنال ..سفرٌ وسياحة ..وطعامٌ وشراب ..تعارفٌ وصداقات ..ولباسٌ وتبرّج ..وأيضاً وأيضاً ..وانفتاحٌ مفتوحٌ على الحياة ..فالحياة ما بعد السرطان مختلفة عما قبله .
لا عتابَ لأحد ولا حرجَ على أحد ..ولا وقتَ لإصلاح ذات البين مع أحد ..فالوقت يمرّ سريعاً .
أحبّت حياتها القصيرة المفعمة بكلّ جديد ....فيلمٌ وثائقيّ قصير وغنيّ بالتطورات بدلاً عن مسلسلاتٍ أغرقتها الأحداث المحشوة حشواً ..وتعجبت كيف كانت تعيش برتابة وملل وانتظار ...حياتها كانت موتاً بطيئا قبل الموت !
أخذت قرضاً كبيراً من المصرف التجاري ويتوجّب سداده خلال خمسة عشر عاماً بفوائد باهظة ..سخرت من المحاسب الذي استغرب موافقتها على تلك الشروط ..ووعدته بأن ستدفع ما يريد ويبدأ الدفع بعد ثلاث سنوات ..وليكن الأخذ سريعاً والتسديدُ بطيئاً...إلحقْ بي بعد موتي إن استطعت وخذ ما تبقّى من مالك..
تعلّمت قيادة السيارة بسرعة ..وأصبحت تقود بسرعاتٍ جنونية ..وسط المشاة الذين يتقافزون خوفاً ..لا يهمّ إن تحطمت سيارتها أو اصطدمت بسيارة أخرى ..فالدفع سيتم لاحقاً..ومن يعِشْ سيدفع .
اشترت بيتاً صغيراً وبأقساط مؤجلة ..واقتنت خادمة وكلباً صغيراً ..هنيئاً لمن خَدَمَتْ فقد صارعندها خادمة !..وخبِرت ما معنى أن تكونَ آمراً ولستَ مأموراً..
تهافَتَ إليها الرّجال ..وبسرعة ..شابةٌ وجميلة وغنية ..فالمرأة تُنكح لمالها وجمالها ودينها ..وتركت الشرط الثالث للسنة الأخيرة ..فتتوب بعد أن تقضي من الحياة وطرها .. وتتحجّب وتحجّ وتستعدّ للقاء باريها ..ولكن الويل لها إن كذب أطباؤها في تنبؤاتهم وما صدقوا ..الويل لها إن عاشت طويلاً ..عندها ستخضع لمحكمة بني البشر
صادقت الجميع ووعدتهم بالزواج بعد سنتين أو ثلاثة ..ريثما تختمر علاقاتها معهم ..وصبر الجميع على امرأة لم ولن تصبر على أية رغبة من رغباتها ..صاروا كعصابةٍ تأتمر بأمرها طمعاً في حظوتها
بالتأكيد أحبّت حياتها القصيرة ..وصارت تنتقد الصابرين ..والحالمين ..والمنتظرين للفرج الآتي لاحقاً ...قد يأتي ويمرُّ بكم سريعاً ولا تلحقون به ..قد لا تعلمون أنه تجاوزكم بلا عودة ..تؤمن الآن بأنّ الحياة نوعٌ وليست كمّاً ..اتركوا الماضي ..اطردوا الخوف من الحاضر فالآتي أعظم هولاً..
ارتفع صوتها وأصبحت تجهر بآرائها حتى في المواضيع المحظورة ..وممّ تخاف؟ ..من السجن المؤبد ؟ ..هههه ..الأشغال الشاقة ؟ ..أمِنَ الإعدام ؟!..هي محكومة سلفاً وتنتظر التنفيذ ..
هي الآن مخلوقٌ خطر ..تخيلوا شخصاً محكوماً بالإعدام وارتدى الثوب الأحمر ..ووقّع فضيلة المفتي على حكمه ..لكنه هرب قبل تنفيذ الحكم وانخرط بين الناس ..ماذا سيفعل بهم ؟..فلو قتل وسرق وبطش بالخلق أجمعين سيبقى حكمه واحداً...أشبه بكلبٍ مسعور محكوم بالموت
بسبب فيروس الكلب ..ومحكوم بالموت ببنادق البشر ..ولذلك سيعضُّ أي شيئ ..وحتى الحديد والخشب والزجاج ...ليس جوعاً وإنما انتقاماً ...يهاجم الجميع لأنه يفضل القتل بالبندقية على الموت اختناقاً بفعل الفيروس القاتل !
أعجب الناس بشجاعتها ..وأصبح لها أتباعٌ وجمهور ..صوتها صار مسموعاً في الشوارع الضيقة مبدئياً..ومازال سرّياً ..بل ومُلاحقاً أيضاً..وصار يُحسب لها ألف حساب ..امرأة حديدية .. ولو كان الصدأ يأكلها من الداخل .
اكتشفت أن جُبنَ الناس مصدرهُ حبّهم للحياة ..وخوفهم على ذويهم من التنكيل والتعذيب ..ولا عذاب أكثر من السرطان ..يخضعون وينتظرون ويسكتون لأنهم يخافون ..الألم والجوع والفقر والمرض والموت ..جرّبتهم كلهم وانتصرت عليهم بزمن بسيط.
تزعّمت حزباً سياسته قائمة على معارضة كل شيئ لمجرد المعارضة ..وشعاره وضع العصي في الدواليب ..فلقي رواجاً عند من لا يملكون دولاباً ولا يعرفون إلا طعم العصي على ظهورهم ..فرحوا بتخريب كل شيئ وقلب الموائد الزاخرة بما لذ وطاب ..لماذا ينتظرون الفتات بعد أن يشبع علية القوم ؟..إن قلب المائدة يجعل الطعام على الأرض ومتاحٌ للجميع..كبداية الثورة الفرنسية ..فوضى تخريبية وتخريب فوضوي !..وجرت الأموال في أيديها دعماً للحزب الواعد من الأغنياء الموعودين بالمناصب ..وقاعدة الحزب كبيرة من الفقراء الموعودين بالجنة..
بقي عليها التحجّب والتديّن ..والالتزام بالفرائض ..وسُحِر القوم بالمرأة المشاكسة ..قنبلة السياسة الموقوتة ..والداعية الدينية مرهوبة الجانب .
عندما عادت من الحج المبرور ..تناقلت صورها كلّ وسائل الإعلام وتصوّرت معها كل العمائم ...وخطبت عمامة بجمهور المؤمنين :
-إنّ روحاً جديدة حلّت على هذه المرأة ..فأصبحت مبدعة ..خلوقة ..خلاقة ..نجمة سطعت بسرعة البرق ..نور الإيمان يشعُّ من وجهها ...نزلت إلينا لنعرف قيمة الوقت وأنه يفرُّ سريعاً ..ولذلك نادت بالتوبة والاستغفار سريعاً.
وخطب أحد السياسيين من صيادي الفرص ..كان غارقاً في القاع ورأى موجة تتصاعد فامتطاها لعله ينال حقيبة في وزارة ..قال مفسراً إيديولوجية الثورة الجديدة :
-إن وضع العصي في الدواليب ليس المقصود به عرقلة مسيرة التطور ..هي فرملة مؤقتة لإصلاح العيوب في الدواليب ..ثم نسحب العصا ونضرب بها على يد من أبطأ المسيرة ..وبعدها ننطلق بسرعة البرق ..فالوقت يمر سريعاً .
كان موعد الانتخابات الرئاسية متزامناً مع موعد رحيلها ..لابأس إن خسرت فستكون بطلة من عامة الشعب ..تشي غيفارا يُبعث من جديد يحمل روحه على كفه ..ويقاوم في كل الجبهات لمجرّد المقاومة ..انظروا إليه الآن ..إنه رمزٌ محمول على الرايات بالرغم من حياته القصيرة
ولابأس إن نجحت فستلفظ أنفاسها كرئيسة للقوم ويحملون جثمانها على مدفع ويلفونه بالعلم الوطني ..وتمشي جنازتها ببطء لتجميع أكبر كمية من الدموع ..
الله أكبر ..ماهذا السرطان ؟...إنه معجزة إلهية ..عصاة تعرقل دولاب الحياة الذي يدور ببطء .. يسمونه خبيثاً لأن ركاب العربة عنه غافلون ويظنون الرحلة طويلة ...آه لو يمنح الله بطاقة لكل مخلوق مكتوبٌ فيها كم سيعيش ..إذن لكان الناس استغلوا أوقاتهم ...واعتبروا أن النوم أيضاً مضيعة للوقت ..ولله في خلقه شؤون .
أقسمت في مجلس الشعب اليمينَ كرئيسةٍ منتخبة بأرجحيةٍ كاسحة ....قالت للجموع الغفيرة دائماً والغفورة إلى الأبد:
-عندما بشّرني السرطان بالموت القريب ..أصبحتُ امرأة منفتحة على الحياة ..جائعة أقضم الأيام بنهم ..فالوقت يمر سريعاً
كعانسٍ عذراء مارست الحبَّ العذري حتى الثمالة .. وعندما فُضَّت بكارتها على حين غرّة ..اغتصَبَتْ جميع رجال الأرض ..فلم يعد لديها ما تخشى عليه
وصفق الشعب الذي (يقدّس غشاء البكارة) للتشبيه المثير..وحاول أحدهم أن يهلل ببيتين من الشعر الحماسيّ ..ليُثبت فيه أنها ضحّت ببكارتها فداء للوطن وأن ترابه الطاهر اختلط بدماء حيضها الطاهر! ..لكنها أومأت إليه أن يهمد كشاعرٍ كاذب يصيد بالماء العكر ..أو كمذيعٍ في الإذاعة الرسمية يهلل للمطر ويعتبره من إنجازات الثورة ..وتابعت :
-سياستي قائمة على مبدأ المحاسبة اليومية ..فوزارة التخطيط ذات الخطط الخمسية بعيدة المدى لا معنى لها..والراتب الشهري مُلغى ..أصبح يومياً يعطى للعامل قبل أن يجفَّ عرقه ..
عمركم سيقاس بالأيام وليس بالسنوات ..
دورة النساء الشهرية أصبحت يومية ..
اختتنوا من جديد بدءاً من شفاهكم فتصبح ألسنتكم ظاهرة ولا تخفونها ..حتى أسنانكم بحاجة للختان لتظهر ألسنتكم ..ألسنتكم التي تخاف أن يضيع الحق إن قالت الحقيقة ..
اقتلوا الخوف الذي تُرضِعه لكم أمهاتكم ..
فالأم تخاف على الرّضيع وعلى الحليب وعلى ثديها بحد ذاته .
اكشفوا أثداءكنّ للريح ..الثدي ليس عضواً جنسياً ..أرضعوا بعضكم بعضاً فتتآخون وتتخاوون ...والثدي المختبئ قد يداهمه السرطان من تحت الثياب ..فيكشفونه رغماً عنكن ..ويستأصله الجرّاح ويرميه في القمامة !
اعملوا لآخرتكم كأنكم تموتون غداً.. واعملوا لدنياكم كأنكم تموتون غداً ..فالوقت يمر ويفر ويكر سريعاً ..
لا للتريّث ..لا للانتظار
لا للصبر على البلوى والقهر ..فالصبر قد أضاع مفتاح الفرج
يجب قهر الأعداء اليوم وليس غداً
تحرير القدس اليوم وليس غداً
قالت الكثير ..بجمل غير مترابطة ..هاجمت كل شيئ ..كمقاتل يائس لديه آلاف الطلقات فوجّه نيرانه الحاقدة على الأصدقاء والأعداء على حدّ سواء ... كالسرطان المنتشر وأفلت من عقاله وسيضرب كل أعضاء البدن ..هي قائدة لثورة كلامية انفعالية لا كتب لها ولا نظام داخلي ..ولا ايديوجيا ..
كأي ثورة تكتب مبادئها وأهدافها بعد أن يموت قائدها ...بشرط أن تنتصر أولاً ..وهكذا ظلوا يكتبون عن لينين حتى البيروسترويكا ..أوأي دين جديد تكتب كتبه المقدسة بعد مئات السنين من انتشاره !!!!
وصفق لها الشعب الذي افترش الساحات ولا يسمع الخطاب ..لكنه كان يصفق للتصفيق الذي ينتقل بالعدوى ..
ذلك الشعب الذي أحس بالتعب من الوقوف الطويل في الساحات والميادين وبدأ يتكئ على بعضه ..بعضهم أحس بالجوع فانتظر أن يوزعوا عليهم طعاما ً وشراباً ..يجب أن تكون الثورة غنية ..يجب أن ترش الوقود على حطبها الذي سيحترق !
ذلك الشعب خبير بالتبدلات والأزمات.. يعرف كيف يصبرعلى الصبر ..ويخاف من الخوف..ويمرض لمجرد ذكر المرض ..ويعتاش كالقطيع ..يجب أن يكون خائفاً من شيء ما ..وإن لم يصنعوا له عدواً يرهبه سيحذرونه من انفلونزا الخنازير والدجاج ..والإيبولا
ذلك الشعب يبرد إن شاهد الثلج في التلفاز ..ويصلي صلاة الاستسقاء دائماً لأن المطر قد ينقطع إن انقطعت الكهرباء..وينام على كتب التاريخ الذي ادعى أنّ أجدادنا هم أول من صعد إلى المريخ !
عندما ماتت ..كتبوا على شاهدتها أنها عاشت ألف يومٍ ونيف ..لكن على هواها ..فهجاها من هجاها ..والبقرة الميتة تكثر سكاكينها
ومنهم شاعرنا ذو المياه العكرة ..مبيناً أن ثورتها كانت زوبعة في فنجان..وأنها كمت الأفواه وأسكتت الشعراء الأحرار ..وهو منهم !
وقال الشيخ بعد أن حذف صورته معها بطريقة (الفوتوشوب ):
-إنها ثورة شيطانية ..قادتها كافرة مغضوب عليها بالسرطان ..وفاسدة مسكونة بروح شريرة ..إذ نادت بالتعري وارتكبت الكبائر الكبرى والصغرى في زمن قياسي ..وجعلت بكارتها شعاراً لثورتها .
أما المعلق في الإذاعة الرسمية ..فقال:
-لقد دعت إلى نبذ الصبر والتريث وطول الأناة وهي صفات الشعوب الناجحة ..نادت بوضع العصي في الدواليب وهذا تخريب وتخريب ..قامت بقلب الموائد و البنية التحتية وهي ملك الشعب ..
وقال السياسي الذي تخلى عن الموجة التي حاول امتطاءها :
-لقد نصحتها بأن تقرأ التاريخ أولاً ..وتتعلم من دروسه ..فالشعب الذي نذرت حياتي من أجله هو الذي سينتصر
وقال وزير التخطيط المعزول بعد أن عاد إلى وظيفته:
- تلك كانت محاولة يائسة لخلخلة نظام الكون ...فمهما حاولت حرق الزمن لن تستطيع أن تجعل الحمل أقل من تسعة أشهر..ولن تسرّع المد أو الجذر إلا إذا أسرع القمر ..لقد نسيَتْ أنّ الإنجازات العظيمة للشعوب تحتاج أجيالاً وتضحياتٍ جسيمة ..فلن تبني هرماً في أيام ولن تفتح قناة السويس إلا بالتضحيات والصبر ..ولن تستطيع التغلب على الأعداء إلا بالكر والفر والصبر على البلوى ...كل ذلك يحتاج زمناً وخططاً خمسية وعشرية ..وعدة وزارات للتخطيط والاستشعار عن بعد .
لم يحملوها على مدفع ولم يلفوها بالعلم الوطني ...بل واروها الثرى كأي قطعة متسرطنة تسـتأصل من جسم الإنسان وتلقى في القمامة !
لقد كانت ثورة سرطانية فاشلة ومجنونة .. انتهت باستئصالها جذرياً من المجتمع حتى لا ينتشر ذلك المرض الفتاك ...ومنذ ذلك اليوم وضعت الحكومات برامج دقيقة للكشف المبكر عن السرطان...لأن السرطان ثورة تهدّد أمن المُبتلى به..وقد تهدد الأمن العام !
د. جورج سلوم
******************