لماذا السواة مخيفة إلى هذا الحد، ومن الذي أوحى إلى ذلك، وتبعاً لأي منطق فضائلي ؟
في حساب التاريخ، يأتي اللباس بعد أن تكون البشرية قد قطعت مراحل متقدمة في وعي الزمان والمكان والاستقرار في الأرض، ولكن حكاية الخليقة تشير إلى وجود اللباس، إلى أن آدم وحواء بالذات كانا يرتديان لباساً. كيف كانا قبل ذلك؟ هل المعرفة تسبق اللباس ارتداءً أم تليهما؟ في الحالة هذه، كيف نموضع قضية " السؤاة " المفصلية في تاريخنا الديني ؟
مما لا شك فيه أن العري، بالمفهوم الطبيعي، يشغل مكانة مفصلية في التاريخ الثقافي والقيمي للبشرية، حيث إنه صار موضوعاً شديد الاختلاف عليه بين تنسيبه الديبي مثلاً، وتناوله فنياً.
إلا أن أصل المشكل، وهو غير مؤرَّخ له، يتجذر في بنية الخليقة المرسومة.
نلاحظ هنا، مثلاً، أن تناول الثمرة المحرَّمة، كما هو مقرّر في " سفر التكوين " ومنه تتالت هذه " المأثرة الدينية الطابع"، ترافقت مباشرة مع " كشف السوأة ". ما علاقة الطعام بكشف السوأة؟
إن تحدثنا عن اللباس وما يكون عليه وظيفة وقيمة، فهذا يعني أن آدم بذاته لا يعدو أن يكون مخلوقاً متقدماً جداً على أجيال كثيرة من البشرية، مخلوقاً في سلسلة المخلوقات التي شغلت البشريات المتعددة وليس الواحدة، كما يوهَم بذلك، وأن هذا العرف الإلهي المتعالي يستند إلى تقعيد أخلاقي – اجتماعي بشكل مباشر. وليس لأن الله يكره رؤية الجسد عارياً، فطالما أنه خالقه، لماذا ينفر مما خلقه وهو يريد ستْره؟ إألى هذه الدرجة أراد المصنَّع من قبله مستوراً، وما العبرة/ الحكمة في ذلك؟ ثمة أكثر من حلقة مفقودة تستوجب مساءلة كل ما يمس ذلك .
وإذا افترضنا جدلاً، وهو افتراض صعب ، أن آدم وحواء كانا يسرحان ويمرحان في جنة خالقهما، فأي حكمة في أن يكونا غريبين عما في جسديهما؟ وكيف كانا يتعاشران، وهما لا يعرفان ما يجب عليهما معرفته؟ أي ما يقيم فصلاً بين الاثنين من خلال المكاشفة البصرية !
ماذا يعني وجودهما في الجنة وهما بعيدان عن تلك القوى أو الدوافع المحرّكة لهما؟
إذا كان كشف السوأة يرتبط بالمعرفة، وهو ما ينبغي التشديد عليه، فعلينا التشديد على نقطة رئيسة، وهي أن كل معرفة جديدة تعني انكشاف السوأة، تعني وجود أكثر من " شجرة محرمة " وما هذه الانعطافات التاريخية، وخرق القواعد، والقيام بثورات معرفية إلا تعبيراً عن هذا البعد العميق في التاريخ البشري. فالسوأة ليست مكروهة إذ تُرى، وإنما عليها أن تعرَض على العين بصورة دورية أو محددة، لضرورتها. إنها التعبير الأتم عما يسرّع في وتيرة التاريخ وحيويته!
بالطريقة هذه، ألا يكون كشف السوأة، كما يقال، هو المخطط الإلهي المسبق، بغية إحداث تحول نوعي لا يتكرر في التاريخ البشري، وليس لأن السوأة مذمومة رؤيتها .
المباني ألبسة الجسد، والمعاني عوراتها المكشوفة، وكل جديد ترسيم لسوأة مغايرة ومؤثّرة .
إزاء ذلك نجد أن التعرية مخيفة، وهي كذلك لأنها تعرية، والتعرية لا تبقي عتمة إلا وتضيئها، لا تبقي سراً إلا وتجهر بسياسته ومغزاه، كما لو أن كل مجابهة، كل عصيان، كل تمرد، كل خروج على القواعد والنواهي تجديد عقد سوأتي، أي إعادة اعتبار للتعرية بالذات .
يخاف الناس أن يتعروا، كأنهم لا يريدون أن ينكشفوا على حقيقتهم، أي هي أجسامهم، وكأن الحقيقة تقوم في التغليف، وليس تصريف الجسد عارياً معرىً. التعرية تمارس توحيداً بين الكائنات، ولهذا يسعى الذين يراهنون على التعرية، بمنعها، إلى إبراز ما يريدونه في التغطية المقرَّرة. هنا، لا يكون الستر " هذه الكلمة التي نسمعها هنا وهناك، من نوع: يا رب سترك- استرونا الله يستركم "، إلا وصلاً لما كان. بذلك، لا تكون عروض الأزياء إلا رهانات على كيفية تخيل المخفي، أي ما هو عار، لكأن الانتشاء لا يعلِن عن نفسه إلا من وراء حجاب .
إن قولة من نوع " ما ليس فيه خفية، ليس فيه جمال " تجانب الصواب إن أمعِن في بنيتها التاريخية، لأن الخفية هذه ترتد إلى أخلاقية اللباس، وليس صدمة المرئي المباشر: العاري .
وأن تكون المعرفة وليدة العري لهي الحقيقة الأقرب إلى الأخذ بها، وتحديداً، إذا أخذنا بعين الاعتبار ما سعت تلك العقائد الأكثر تزمتاً إلى تبنّيه، وهو في كيفية تصريف مفهوم " التعرية " في سياق التخاصم، أو النيل من الآخر، أي إدراكاً منها أن التعرية هي عودة إلى البراءة الطبيعية، حيث لم يكن في الوسع الحديث عن حدود النظر، وقواعد الذوق الوضعية وغيرها.
إزاء ذلك، يمكن اعتبار مفردة حاضرة بكل ثقَلها، وهي " الالتباس- اللّبس- التلبيس .." صنيعة تاريخ مستحدث على تاريخ جرت إزاحته، إنما دون المقدرة على التحرر من لاوعيه.
فالملتبَس يقابل ما هو عار، ما هو في حالته الطبيعية، ومن يخشى تعرية، إنما يتخوف مما يعنيه، في حالته الطبيعية. فاللباس تمويه، ومكر، وخداع، ومخاتلة وتزييف للذات في آن، وأن ينتقل الملتبس إلى ما هو مجرد، كالمفاهيم الفلسفية، مثل: الحرية، الموت، الحياة، الأخلاق...فلأن هناك أصلاً يمكن الاحتكام إليه لمن يريد طمئنة فعلية لروحه " العارية ".
ثمة من يخفي سوأته، ويدافع عنها، ليس لحرصه على ما هو أخلاقي، لأن الأخلاق لا تعني المواظبة على التحجُّب الكلي أو الجزئي وتداعياته، إنما تلي ما هو مصنَّع وموجه: اللباس، ولهذا يأتي الدفاع عن تغطية السوأة، لأنه يريد الإيحاء أن لديه ما ليس لدى غيره، ويحاول جاهداً التلاعب بالعقول، وربما كانت العبرة في السؤأة وكيفية إدارتها كمفهوم، ليعيش الناس ما ليس فيهم، كأن الحقيقة مجدداً هي في المستنسخ عن أصل مفترض بداية .
يمكن أن نتحرى خفاء الموضوع أكثر، من خلال الإشارة إلى " الجسد " وما يجسّد، أو " الجسم " وخاصية التجسيم، عبر إبراز ما هو ظاهر فيه بدقة. في اللغات الأجنبية، ومنها الانكليزية تكون كلمة " person" مقابل للشخص، وأحياناً " القناع "، وحتى في العربية تحضر الشاخصة وهي شارة إعلامية، أو توجيهية محمّلة بعبارة معينة، ومن هنا يأتي التشخيص، وهو البحث عما هو خفي. كما لو أن الشخص هو حقيقته وليس كذلك، ومن هنا يحضر القناع بالتوازي، وهو إخفاء لعري، وقد يكون متعدداً. فثمة قناع للوجه، وقناع للجسج/ الجسم عموماً، والنص نفسه ملبَّس، أي مثقَل بالأقنعة أحياناً، من خلال زخارفه وبهارجه، وأهمية أي مقاربة نقدية تكمن في كيفية " إماطة اللثام " عنه، أي تعريته، أي تبيّن ما هو عليه لا ما يظهر.
وفي هذا السياق، وفي إطار النسق الثقافي الأكثر إرهابَ دلالة، تتجلى مفردة " العورة " من خلال تمثيلاتها، ولا بد أن المرأة من خلال جسدها وكل ما يخرج منه " الصوت خاصة "، هي المعرَّف بها في الأدبيات الدينية: الفقهية وغيرها بـ" العورة "، أكثر من الرجل، كما لو أن ذلك توجيه النظر إلى الماورائي إلى علاقة الثمرة المحرمة ومن البادىء بقطفها، إلى أن تكون المرأة نفسها شجرة، وأن يكون فرجها ثمرة على مستوى الإنجاب ومصاعب الوجود .
و" العورة " كاسم، لا تعني العمى، إنما ثمة خطأ حسابي في الموضوع، ثمة النظر من جهة واحدة، ولكم تبرز صفة " الأعور- العوراء " مشينة في سردية الحياة اليومية، كما لو أن ذلك إرجاع إلى بداية غير معلومة، لكنها مخيفة. هل البدء عورة، وكل بدء كشف سوأة/ عورة ؟
أنكون مبالغين إن رددنا بالتالي، على أننا نتكلم من وراء ألبستنا " عفواً: أقنعتنا "، أن كلامنا نفسه جسد مغطى بأكثر من طية لباس، كما في بلاغته ودلالتها؟ أوليس الكلام كمعنى: جرح الجسد: مأساته، وربطاً له بما كان عليه في البداية المرسومة والصادمة ؟
إن الاحتفاء بالعري، أو ما يجب التعرف عليه عارياً هو الحد الأمثل من الفنون: في الرسم والنحت، وهو ما يسهل علينا تتبعه في تاريخ الفن، أو الجسد العاري " ينظَر حول ذلك، ما أثرته حول هذا الموضوع في كتابي: الشبق المحرم، الطبعة القاهرية، دار رؤية، 2016، صص 511-539 ".
يا لها مفارقات كبرى أن نحمل عرينا الطبيعي، ونتهرب من مواجهته، ومنها تتشكل هويتنا وهي أننا نلوذ بها، في الوقت الذي تشكّل فيه شاهدة على أكثر من تغطية للجسد الفعلي، لما يُسميه. إنها ترسيمة حدودية افتئاتية للجسد العمومي.
إننا بالكاد نتناول شيئاً دون أن نتذوقه وهو في عريه، لنختبر نكهته، أو طعمه، بالكاد، بالكاد نقدّر شيئاً إلا وهو مجرَّد من كل ما يخفيه سلعياً، وعلى مستوى العلاقات، كقولة: لنتكلم بطبيعتنا تأكيداً على وجوب التخلص مما يغيّب عن النظر.
إن كل ما صنعناه ليس أكثر من إخفاءات،. إن بيوتنا ألبستنا خارجاً، عوراتنا داخلاً، وكذلك مقتنياتنا فهي في هذا السياق تخفي ما لا نريد التعرُّف به، أي : الخوف من كشف السوأة...
إننا لن نعرف ما نحن عليه، وحقيقة ما وصلنا إليه، إلا لحظة المصادقة الكلّية على السوأة وجمالية السوأة بوصفها بداية البشرية الحقيقية، بداية المعرفة الدائمة، وحقيقة الذات .
أليس من الجائز القول، أن جل الأصبغة أو ما يُسمى بالمكياجات، وما أكثرها وأغزرها، وما أكثر مراتبها تفاوتاً، تقوم على ما هو صادم، وهو: نسيان العاري، نسيان أن وراء هذا التنويع، وراء هذه الموضات " فاشينز "، مظاهر الزينة التي تشكّل طيات، ثمة أنواع العطور، ثمة جسد من لحم ودم، ومسكون بسلطة الزمن، محكوم بنظام حياوة نافذ؟ أليس التعبير المفخَّم ومن ثم المبالغ فيه من الألبسة إضفاء شرعية أولى عليها، وكأنها الأصل، وما في ذلك من طبقاتية تمحق بمفهوم الجسد؟ ألا يعود الجسد عيناً عوراء خلف نظارة سميكة مذهَّبة الإطار ؟
إن جوهر الحرّية يستند إلى تعزيز إرادة التعرية، ليس بمعنى أن نخرج عراة، وإنما ألا نقيم وزناً لعبارة : من يحتشم في اللباس هو المقدَّر. إن تاريخ الفضائح البشرية الأكبر يتمثل في ضروب المقاومات المثلى التي تستهدف تعرية من يخفون أنفسهم، ولعل حديث " نزع ورقة التوت " بالذات، اكتمال نصاب هذه الحقيقة المتخوَّف منها: فضيلة التعرية في جمالية السوأة !
إبراهيم محمود
في حساب التاريخ، يأتي اللباس بعد أن تكون البشرية قد قطعت مراحل متقدمة في وعي الزمان والمكان والاستقرار في الأرض، ولكن حكاية الخليقة تشير إلى وجود اللباس، إلى أن آدم وحواء بالذات كانا يرتديان لباساً. كيف كانا قبل ذلك؟ هل المعرفة تسبق اللباس ارتداءً أم تليهما؟ في الحالة هذه، كيف نموضع قضية " السؤاة " المفصلية في تاريخنا الديني ؟
مما لا شك فيه أن العري، بالمفهوم الطبيعي، يشغل مكانة مفصلية في التاريخ الثقافي والقيمي للبشرية، حيث إنه صار موضوعاً شديد الاختلاف عليه بين تنسيبه الديبي مثلاً، وتناوله فنياً.
إلا أن أصل المشكل، وهو غير مؤرَّخ له، يتجذر في بنية الخليقة المرسومة.
نلاحظ هنا، مثلاً، أن تناول الثمرة المحرَّمة، كما هو مقرّر في " سفر التكوين " ومنه تتالت هذه " المأثرة الدينية الطابع"، ترافقت مباشرة مع " كشف السوأة ". ما علاقة الطعام بكشف السوأة؟
إن تحدثنا عن اللباس وما يكون عليه وظيفة وقيمة، فهذا يعني أن آدم بذاته لا يعدو أن يكون مخلوقاً متقدماً جداً على أجيال كثيرة من البشرية، مخلوقاً في سلسلة المخلوقات التي شغلت البشريات المتعددة وليس الواحدة، كما يوهَم بذلك، وأن هذا العرف الإلهي المتعالي يستند إلى تقعيد أخلاقي – اجتماعي بشكل مباشر. وليس لأن الله يكره رؤية الجسد عارياً، فطالما أنه خالقه، لماذا ينفر مما خلقه وهو يريد ستْره؟ إألى هذه الدرجة أراد المصنَّع من قبله مستوراً، وما العبرة/ الحكمة في ذلك؟ ثمة أكثر من حلقة مفقودة تستوجب مساءلة كل ما يمس ذلك .
وإذا افترضنا جدلاً، وهو افتراض صعب ، أن آدم وحواء كانا يسرحان ويمرحان في جنة خالقهما، فأي حكمة في أن يكونا غريبين عما في جسديهما؟ وكيف كانا يتعاشران، وهما لا يعرفان ما يجب عليهما معرفته؟ أي ما يقيم فصلاً بين الاثنين من خلال المكاشفة البصرية !
ماذا يعني وجودهما في الجنة وهما بعيدان عن تلك القوى أو الدوافع المحرّكة لهما؟
إذا كان كشف السوأة يرتبط بالمعرفة، وهو ما ينبغي التشديد عليه، فعلينا التشديد على نقطة رئيسة، وهي أن كل معرفة جديدة تعني انكشاف السوأة، تعني وجود أكثر من " شجرة محرمة " وما هذه الانعطافات التاريخية، وخرق القواعد، والقيام بثورات معرفية إلا تعبيراً عن هذا البعد العميق في التاريخ البشري. فالسوأة ليست مكروهة إذ تُرى، وإنما عليها أن تعرَض على العين بصورة دورية أو محددة، لضرورتها. إنها التعبير الأتم عما يسرّع في وتيرة التاريخ وحيويته!
بالطريقة هذه، ألا يكون كشف السوأة، كما يقال، هو المخطط الإلهي المسبق، بغية إحداث تحول نوعي لا يتكرر في التاريخ البشري، وليس لأن السوأة مذمومة رؤيتها .
المباني ألبسة الجسد، والمعاني عوراتها المكشوفة، وكل جديد ترسيم لسوأة مغايرة ومؤثّرة .
إزاء ذلك نجد أن التعرية مخيفة، وهي كذلك لأنها تعرية، والتعرية لا تبقي عتمة إلا وتضيئها، لا تبقي سراً إلا وتجهر بسياسته ومغزاه، كما لو أن كل مجابهة، كل عصيان، كل تمرد، كل خروج على القواعد والنواهي تجديد عقد سوأتي، أي إعادة اعتبار للتعرية بالذات .
يخاف الناس أن يتعروا، كأنهم لا يريدون أن ينكشفوا على حقيقتهم، أي هي أجسامهم، وكأن الحقيقة تقوم في التغليف، وليس تصريف الجسد عارياً معرىً. التعرية تمارس توحيداً بين الكائنات، ولهذا يسعى الذين يراهنون على التعرية، بمنعها، إلى إبراز ما يريدونه في التغطية المقرَّرة. هنا، لا يكون الستر " هذه الكلمة التي نسمعها هنا وهناك، من نوع: يا رب سترك- استرونا الله يستركم "، إلا وصلاً لما كان. بذلك، لا تكون عروض الأزياء إلا رهانات على كيفية تخيل المخفي، أي ما هو عار، لكأن الانتشاء لا يعلِن عن نفسه إلا من وراء حجاب .
إن قولة من نوع " ما ليس فيه خفية، ليس فيه جمال " تجانب الصواب إن أمعِن في بنيتها التاريخية، لأن الخفية هذه ترتد إلى أخلاقية اللباس، وليس صدمة المرئي المباشر: العاري .
وأن تكون المعرفة وليدة العري لهي الحقيقة الأقرب إلى الأخذ بها، وتحديداً، إذا أخذنا بعين الاعتبار ما سعت تلك العقائد الأكثر تزمتاً إلى تبنّيه، وهو في كيفية تصريف مفهوم " التعرية " في سياق التخاصم، أو النيل من الآخر، أي إدراكاً منها أن التعرية هي عودة إلى البراءة الطبيعية، حيث لم يكن في الوسع الحديث عن حدود النظر، وقواعد الذوق الوضعية وغيرها.
إزاء ذلك، يمكن اعتبار مفردة حاضرة بكل ثقَلها، وهي " الالتباس- اللّبس- التلبيس .." صنيعة تاريخ مستحدث على تاريخ جرت إزاحته، إنما دون المقدرة على التحرر من لاوعيه.
فالملتبَس يقابل ما هو عار، ما هو في حالته الطبيعية، ومن يخشى تعرية، إنما يتخوف مما يعنيه، في حالته الطبيعية. فاللباس تمويه، ومكر، وخداع، ومخاتلة وتزييف للذات في آن، وأن ينتقل الملتبس إلى ما هو مجرد، كالمفاهيم الفلسفية، مثل: الحرية، الموت، الحياة، الأخلاق...فلأن هناك أصلاً يمكن الاحتكام إليه لمن يريد طمئنة فعلية لروحه " العارية ".
ثمة من يخفي سوأته، ويدافع عنها، ليس لحرصه على ما هو أخلاقي، لأن الأخلاق لا تعني المواظبة على التحجُّب الكلي أو الجزئي وتداعياته، إنما تلي ما هو مصنَّع وموجه: اللباس، ولهذا يأتي الدفاع عن تغطية السوأة، لأنه يريد الإيحاء أن لديه ما ليس لدى غيره، ويحاول جاهداً التلاعب بالعقول، وربما كانت العبرة في السؤأة وكيفية إدارتها كمفهوم، ليعيش الناس ما ليس فيهم، كأن الحقيقة مجدداً هي في المستنسخ عن أصل مفترض بداية .
يمكن أن نتحرى خفاء الموضوع أكثر، من خلال الإشارة إلى " الجسد " وما يجسّد، أو " الجسم " وخاصية التجسيم، عبر إبراز ما هو ظاهر فيه بدقة. في اللغات الأجنبية، ومنها الانكليزية تكون كلمة " person" مقابل للشخص، وأحياناً " القناع "، وحتى في العربية تحضر الشاخصة وهي شارة إعلامية، أو توجيهية محمّلة بعبارة معينة، ومن هنا يأتي التشخيص، وهو البحث عما هو خفي. كما لو أن الشخص هو حقيقته وليس كذلك، ومن هنا يحضر القناع بالتوازي، وهو إخفاء لعري، وقد يكون متعدداً. فثمة قناع للوجه، وقناع للجسج/ الجسم عموماً، والنص نفسه ملبَّس، أي مثقَل بالأقنعة أحياناً، من خلال زخارفه وبهارجه، وأهمية أي مقاربة نقدية تكمن في كيفية " إماطة اللثام " عنه، أي تعريته، أي تبيّن ما هو عليه لا ما يظهر.
وفي هذا السياق، وفي إطار النسق الثقافي الأكثر إرهابَ دلالة، تتجلى مفردة " العورة " من خلال تمثيلاتها، ولا بد أن المرأة من خلال جسدها وكل ما يخرج منه " الصوت خاصة "، هي المعرَّف بها في الأدبيات الدينية: الفقهية وغيرها بـ" العورة "، أكثر من الرجل، كما لو أن ذلك توجيه النظر إلى الماورائي إلى علاقة الثمرة المحرمة ومن البادىء بقطفها، إلى أن تكون المرأة نفسها شجرة، وأن يكون فرجها ثمرة على مستوى الإنجاب ومصاعب الوجود .
و" العورة " كاسم، لا تعني العمى، إنما ثمة خطأ حسابي في الموضوع، ثمة النظر من جهة واحدة، ولكم تبرز صفة " الأعور- العوراء " مشينة في سردية الحياة اليومية، كما لو أن ذلك إرجاع إلى بداية غير معلومة، لكنها مخيفة. هل البدء عورة، وكل بدء كشف سوأة/ عورة ؟
أنكون مبالغين إن رددنا بالتالي، على أننا نتكلم من وراء ألبستنا " عفواً: أقنعتنا "، أن كلامنا نفسه جسد مغطى بأكثر من طية لباس، كما في بلاغته ودلالتها؟ أوليس الكلام كمعنى: جرح الجسد: مأساته، وربطاً له بما كان عليه في البداية المرسومة والصادمة ؟
إن الاحتفاء بالعري، أو ما يجب التعرف عليه عارياً هو الحد الأمثل من الفنون: في الرسم والنحت، وهو ما يسهل علينا تتبعه في تاريخ الفن، أو الجسد العاري " ينظَر حول ذلك، ما أثرته حول هذا الموضوع في كتابي: الشبق المحرم، الطبعة القاهرية، دار رؤية، 2016، صص 511-539 ".
يا لها مفارقات كبرى أن نحمل عرينا الطبيعي، ونتهرب من مواجهته، ومنها تتشكل هويتنا وهي أننا نلوذ بها، في الوقت الذي تشكّل فيه شاهدة على أكثر من تغطية للجسد الفعلي، لما يُسميه. إنها ترسيمة حدودية افتئاتية للجسد العمومي.
إننا بالكاد نتناول شيئاً دون أن نتذوقه وهو في عريه، لنختبر نكهته، أو طعمه، بالكاد، بالكاد نقدّر شيئاً إلا وهو مجرَّد من كل ما يخفيه سلعياً، وعلى مستوى العلاقات، كقولة: لنتكلم بطبيعتنا تأكيداً على وجوب التخلص مما يغيّب عن النظر.
إن كل ما صنعناه ليس أكثر من إخفاءات،. إن بيوتنا ألبستنا خارجاً، عوراتنا داخلاً، وكذلك مقتنياتنا فهي في هذا السياق تخفي ما لا نريد التعرُّف به، أي : الخوف من كشف السوأة...
إننا لن نعرف ما نحن عليه، وحقيقة ما وصلنا إليه، إلا لحظة المصادقة الكلّية على السوأة وجمالية السوأة بوصفها بداية البشرية الحقيقية، بداية المعرفة الدائمة، وحقيقة الذات .
أليس من الجائز القول، أن جل الأصبغة أو ما يُسمى بالمكياجات، وما أكثرها وأغزرها، وما أكثر مراتبها تفاوتاً، تقوم على ما هو صادم، وهو: نسيان العاري، نسيان أن وراء هذا التنويع، وراء هذه الموضات " فاشينز "، مظاهر الزينة التي تشكّل طيات، ثمة أنواع العطور، ثمة جسد من لحم ودم، ومسكون بسلطة الزمن، محكوم بنظام حياوة نافذ؟ أليس التعبير المفخَّم ومن ثم المبالغ فيه من الألبسة إضفاء شرعية أولى عليها، وكأنها الأصل، وما في ذلك من طبقاتية تمحق بمفهوم الجسد؟ ألا يعود الجسد عيناً عوراء خلف نظارة سميكة مذهَّبة الإطار ؟
إن جوهر الحرّية يستند إلى تعزيز إرادة التعرية، ليس بمعنى أن نخرج عراة، وإنما ألا نقيم وزناً لعبارة : من يحتشم في اللباس هو المقدَّر. إن تاريخ الفضائح البشرية الأكبر يتمثل في ضروب المقاومات المثلى التي تستهدف تعرية من يخفون أنفسهم، ولعل حديث " نزع ورقة التوت " بالذات، اكتمال نصاب هذه الحقيقة المتخوَّف منها: فضيلة التعرية في جمالية السوأة !
إبراهيم محمود