كان البص السياحي في ذلك الصباح الجميل على اهبة الاستعداد للإنطلاق الى وجهته بعد ان اكتظت مقاعده الوثيرة بالركاب... كانت ستائره السميكة السوداء قد اُسدلت على جانبيه بإحكام، فأضحى شبه مظلم لولا بصيص الضوء المنبعث من مصابيحه المعلقة على سقفه... حركة نزول وركوب على بابه الأمامي من قبل الركاب...
ام درمان .. بورتسودان .. بغداد .. طنجة .. نيامي .. فينيكس/ اريزونا , مدن جميلة بينها قواسم مشتركة قد تتطابق احيانا وقد تختلف بعض الشئ بيد انها سحرتني واسرتني لأبعد الحدود وانطبعت ذكرياتها الفريدة في اعماق وجداني.
فعندما تكون في نيامي مثلا تشعر وكأنك في ام درمان الثمانينات ببيوتها الطينينة و...
صديقي العزيز ....
هل يا تُرى يعتريك نفس هذا الشعور الذي ظل يجتاحني بلا استئذان ، مقتحماً دواخلي واوصالي منذ ان اطل علينا هذا الضيف الثقيل (كورونا) بوجهه الكالح القبيح، ومنذ ان ارخى سدوله علينا وناء بكلكله القمييء على كل ذرة من تفاصيل حياتنا؟؟
حتما ستجيبني بنعم، رغم انفك، حيث كلنا في الهم (شر)...
ارتال الصحون في ازدياد مضطرد مع ميلاد كل دقيقة وعلي القيام بغسلها جميعا، وقبل ذلك كله لا بد من تلميع الملاعق والاشواك والسكاكين وتوزيعها بعناية فائقة على طاولات المطعم تمهيدا لوجبة العشاء. صندوق الطماطم وكيس الخيار ينتظرانني بلهفة. ومن اجل اعداد الخبز العربي، فإن العجانة تصدر انينا كأنه موسيقى...
في احدى صباحات دينفر/كلورادو الشتوية, اكتست الارض والاشجار واسقف المنازل والسيارات بذرات الثلوج المتساقطة منذ الساعات الاولى لذلك الصباح. اما في الجانب الغربي من المدينة, فقد ارتدت قمم جبال الروكي الشامخة حلةً زاهيةً من البياض, وعانقت في شوق حميم سماء المدينة التي ابت والا ان تشارك الجميع هذا...
مع آخر لقمة استقبلتها معدته شبه الفارغة , قفزت الى ذهنه عبارة فوكنر : ( لو تجنب الكاتب الجوع والتشرد و وجد سقفاً يؤويه, فإنه لن يحتاج سوى قلم و ورق ليعمل)!!!
وضع هذه العبارة في كفة وفي كفة اخرى عبارة ( المعاناة تولد الابداع) ثم اطرق برأسه لبرهة مفكرا ومحاولاً ما استطاع ان يرجح كفةً على اخرى...
كان عصام , يتابع بدهشة طفولية , أعمدة دخان سيجارته , وهي تصّاعد في خطوط عمودية نحو الأٌفق , ثم تتلوى في حركات حلزونية راقصة لتختفي تدريجياً في فضاء شرفته المطلة على الشارع . كان يقارن ذلك بواقع حاله وأفكاره التي سرعان ما تذروها الرياح كلما شرع في تنفيذها على أرض الواقع . كانت سيجارته في رمقها...
بزغت الشمس في مدينة الثغر بورتسودان معلنةً عن ميلاد يومٍ جديد. خيوط أشعتها الفضية تطرق بلطف ودلال بوابة سجن بورتسودان العمومي مستأذنةً في الاحتفاء بأبكر صفارة الخارج للتو الى بر الحرية والانطلاقة بعد سنتين شاقتين قضّاهما ما بين الزنازين و الملاحات .
بخطواتٍ مطمئنة وئيدة يغادر بوابة السجن بعد أن...
كانت قصيدة قد بلغت حد كمالها , ايقاعاً ومضموناً وقافيةً وموسيقى , في اواخر العشرينات , سمراء , ممتشقة القوام , غجرية الشعر , ذات جمال يعلن عن نفسه دونما تكلف او ضجيج، مرغمةً كل من ينظر اليها من أول وهلة ان يردف النظرة بنظرات أُخر دونما توقف . لم تكن تبدي اكتراثاً لجمالها رغم نظرات الاعجاب...
عندما أفاق في ذلك الصباح الرمادي كاد بؤبؤا عينيه أن يخرجا من محجريهما عندما التفت يمنة ثم يسرة فلم يجد زوجته ولا واحداً من اولاده الثلاث. شعر بفجيعةٍ مباغتة أعقبها احساس بالقهر والحزن والذوبان. قرأت الممرضة تساؤلاته الحيرى فأجابته والدموع تغالب عينيها: إنهم لم يكرروا المجيئ الى هنا منذ أن احضروك...
بخطوات منهكة وصدر لاهث يعود الى البيت بعد يوم حافل بالجهد والحركة . دقات قلبه المتسارعة تتزامن مع دقات عقارب الساعة وتسابقها حيناً آخر كدقات درويش على دفٍ ممزق . تساءل في حيرة عن سبب ذلك . فتذكر بعد مشقة بالغة بأنه في آخر ليالي السنة ؛ سنة الفين وثلاث في ولاية كولورادو!
مدينة دينفر تشهد برداً...