انتهى النهار وخيم الليل على المزرعة، وبدأ القمر يصعد. صوت الصرار وحده مؤنس. حصدنا مربعا من حقل القمح ثم كنسنا المكان وفرشنا حصيرا من سعف النخيل، وضعنا ثوبا بيننا وضوء القمر ونمنا.
في عز النوم أيقظتني، وقلت إنكاشتهيت عنبا. في البداية حنقت لكن شغلك طول النهار الحار وجرحك لأصبعك جعلني أفكر. ومن أين...
كنت أكتب الشعر خلسة بالصمغ الأسود فوق اللوح الحجري اللون، وبأقلام قصبية، حتى سمعت الزغاريد، فأقسمت أن أعود. هزني حنين غريب إلى البلد؛ وأهل البلد؛ والأحباب؛ والأشجار؛ والأحجار؛ والحيطان، الحيطان خاصة.
جمعت متاعي وتوجهت إلى الأستاذ أستأذن منه بالانصراف.
_ كان بودي أن تكمل دروسك في فاس لتصبح...
في المدرسة ذات السور؛ والزليج البلدي الأزرق؛ والنافورة والصفصافة العملاقة؛ ومطعم التلاميذ الفقراء، علمنا في الصف الرابع معلما العربية والفرنسية كيف نلاحظ ونصف تحولات الفصول؛ وأشجار الساحة؛ وبعض المهن من الصور المعلقة في جدار الفصل، وأن نتقن ذكر الحفلات. وحتى نفعل كل ذلك لا بد من أن نتقن الإنشاء...
ما زلتُ ممدّداً في فراشي الفاسي الصوفي الوثير، سمعتُ صوت مغنٍّ في أسفل الوادي تحمله الصبا فانتشيت وفتحت عيني. هؤلاء الرعاة لا يعكّر صفو حياتهم شيء، تمتمت وحملت الفوط نحو الزليج الرخامي. مراكش تلك تدلّلنا قمحاً وصوفاً وزليجاً وأشياء كثيرة أخرى، لن أبقى حياتي كلّها في هذا الوادي سأسافر لأرى فاس...
لم أكن أعير اهتماماً للألحان ولا للموسيقى حتى حلّ ذلك اليوم. كان يوم عيد لكني ومنذ ليلته شعرت أنه سيكون مشؤوماً، منذ الفجر صعد من الجنوب حرّ غباري خانق لم يتركني أنام. وبقيت أتقلّب في الفراش حتى سمعت لغطاً قوياً يأتي من خارج الدار.
خرجت أستطلع الأمر، كانت الشمس كأنها استأجرت غرَفاً فوق السطوح...
كان يحمل المعول على كتف يبدو عاريا من قميص ممزق، وكان حافي القدمين يمشي مسرعا بين جدار البستان والساقية، يهرول لأن دور الماء كاد ينتهي. ثم صدح بموال حزين فصفقت أجنحة اليمام من النخلة، وسقط خلخال من رجل الغجرية.
سقط الخلخال وخنق مهرج الجماعة القزم ضحكة نزقة، كان يخاف أن تغضب الراقصة لكنها ابتسمت...
قسطاني بن محمد
الليل لم ينته بعد
وخلت المدينة إلا من الكلاب، وشيء ما يحثك على المسير. لم تكن تجري رغم شعورك أن شيئا ما هناك قد انقضى ولم تصدقه الكلاب. وفي الأفق البعيد كأن هناك حريق. لابد أن هناك حريق.
وكما في الأحلام أحيانا لست أنت الذي تسير، العمارات والأرصفة والأشجار تطوى لك. وصوت أغنية...
بدأ النهار حارا، كنت ما زلت تحت تأثير السمفونية الأولى لبرامس، واختلط لدي السمع بالبصر؛ ولم أعد أدري هل أنا في النهار أم في سفر الحركات والسكونات المتناوبة التي تحيل اللحن إيقاعا ليتوقف العقل ويدع الروح وحدها تسبح في تموجات عظم المادة اللطيفة والغليظة.
وكتدرج اللحن تدرج النهار.
عند التاسعة...
إذا نطقت صبا عقلي إليها... وإن بسمت إليَّ صبا جناني
أحمد شوقي في حق مي
كان اليوم يوم جمعة، في مثل هذا النهار أحب سماع آذان المصريين، وأتساءل دوما لماذا ينسى الناس علاقة الدين بالغناء والموسيقى والترتيل؟ ما زلت أذكر ذلك كأنه الأمس، انتهيت من حصة البلاغة المتعبة بشد الانتباه وسرد القواعد...
سبع بنات بضفائرهن يصخبن تحت الزيزفون والصفصاف بغدير اللقالق. والإوز يسبح في البركة. نشرن الفرش وأخرجن من السلال صحون الخزف الصيني الأزرق. لكل بنت مشموم ورد بلدي ومنديل مطرز. هن الآن يتناوبن على ركوب الأرجوحة. وصوت ناي بعيد يلطف الفرح والصخب. نلهو قبل أن يأتي الصبيان ويفسدوا علينا الفرح قالت...