قسطاني بن محمد - ريشة على القبر

بدأ النهار حارا، كنت ما زلت تحت تأثير السمفونية الأولى لبرامس، واختلط لدي السمع بالبصر؛ ولم أعد أدري هل أنا في النهار أم في سفر الحركات والسكونات المتناوبة التي تحيل اللحن إيقاعا ليتوقف العقل ويدع الروح وحدها تسبح في تموجات عظم المادة اللطيفة والغليظة.
وكتدرج اللحن تدرج النهار.
عند التاسعة صباحا كانت الأمواج الطفلة للساقية تعزف كمانا مبحوحا شرق من الرشفة الأولى، وكانت الموجة الصبية الأولى طينا اعتقدناه منذ الأزل مباركا، جرينا أنا وصديقتي لنخضب النواصي، وطلبت مني أن أخضب على ما خضبت لكوني ذكر ومن سلالة وهبوها شرف سبق الحرث في الخريف، والحلق الأول لرؤوس الأطفال.
وحملت الطين الذبالي وخضبت الناصية القهوية لصاحبتي، بعده ركض غزال نحيف في الساقية حافي القدمين، وأثار النط الماء والطين على وجهي وعيني، وأقسمت أن أقبض عليه وأنا الثخن.
جرينا نلاحق الموجة الطفلة، وتجلى أمامي جسد يعزف على بيانو فقاعات الماء البلورية.
لا شك أن الملائكة هبطوا إلى السماء الدنيا ذلك الصباح البهيج وباركوا لهونا.
لحقت بها بباب بالبستان القديم، طلبت مني عنقود عنب وتينتين. أحضرت جريدة نخل ونزعت عنها السعف كله إلا اثنين في آخر العصى عقدتهما لأصطاد بهما تينتي عين الحجل. حلفت ألا أهديها التي تسقط على الحاشية المتربة أو وسط الماء الممزوج بالقش، لن تأكل الأميرة حافية القدمين سوى تينتين سقطتا في كف فارس دون حصان ودون مزراق. وهبتها العنقود الأبيض والتينتين في ورق عنب أسود. أكلت تينة وأهدتني الثانية، وقضمت حبات من العنقود وتركت ما بقي يسقط في الساقية يسمد أرض اليتامى قالت.
ضحكت الأميرة واستلقت على الأرض، وأذن المؤذن صلاة الظهر. وقالت اجري وجريت حتى دون أن أسأل، كانت الروح هي المشتغلة ولا قيمة للسؤال. في منعرج المقبرة لقينا صاحب قطيع الكلاب، لم نكلمه، وسرنا في المقبرة نغني أغنيتنا المفضلة: ما عساه البكاء يعيد، ثم ضحكنا.
بدأت الريح تصهل، كما في السمفونية تماما بدأت الريح تصهل، وصعد صوت مطرقات على طبول، لن نتوقف حتى عين الماء وكهف الجنيات قالت.
الريح الآن تعصف، أنا لا أحب الريح لكن صاحبتي تعشقه وتسخر مني، الريح تعين الفلاح في البيدر، وتسقط الواهن من الثمار ليبقى السكر لمن يستحقه قالت. وجرينا ثانية بين القبور ننافس الريح التي غارت منها الآت النفخ ليسود المقبرة عزف مزمار قوي منفرد. لو تحضر لي مصدر الريح هذه وسلالتكم تدجن الشياطين. عملت تعزيمة وطلسما بلغة غير موجودة ونفخت في كفي وأحضرت لها قربة ريح خبأتها في قشابتها الزاهية بالأقاحي. "القشابة" التي أفضل والتي لا تنزعها إكراما لي. أنت تحبها لن أنزعها، أغسلها وأتركها حتى تجف وأعيد لبسها، وأنت كل ما تلبسه رائع لكني أحب "دجينك" الرخيص، من يومها ما نزعت ا"لدجين" الرخيص.
ثم بدأ المطر يسقط، سأصبح الآن غولة، ولعبت الريح وحبات المطر بالشعر القهوي، وضحكت حتى سقطت على الشاهدة العلوية لقبر أنثى، وسقطت الصاحبة بجانبي، وتبلل الدجين والقشابة. وصمتنا نسمع أنين سعف النخيل.
ثم حل ظلام دامس يلف الدنيا ظنناه الليل، غير أن شمسا وهاجة خرجت فجأة من بين غيوم داكنة، وامتطت عشرات الفراشات قوس قزح عملاق، وانتشر الدود الأسود اللامع والنمل من بين الأخاديد.
وسرى عطر التراب يذكر بالمادة الأولى التي منها صنع ذلك الذي سجدت له الملائكة وخلق أول حسد اسمه ابليس.
ثم تكلم الصمت، وسمعنا لحن الموتى يقترب، إنه مجنون القرية انتهت حصته من الأيام قالت عجوز مليحة وقدمت لنا سلة تمر وطبق خبز بدون ملح.
- وزعوا طعام الموتى على كل من تعثرون عليه في المزرعة.
بكينا على المجنون وعدنا إلى القرية. هي إلى السطح لتعد العشاء، وأنا إلى مصطبات المسجد أسرد الحكايات.
صوت الكمان المبحوح لا يبرح الفضاء.

قسطاني بن محمد



فسطاني بن محمد.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى