ظهر الإسلام وقد تحكم في حياة العرب جاهلية قاسية وعقلية جافية وعصبية مفرقة، فكان الشعر مظهر هذه الصفات وباعثها؛ فلما أعلن الرسول الحرب على هذه الأخلاق تمهيداً لألفة القلوب ووحدة العرب، كان من الطبيعي أن ينغض رأسه إليه، وألا يشجع الناس عليه، ففي القرآن: (والشعراء يتَّبعهم الغاوُون. وما علمناه...
ولد أبو الطيب في ذرور القرن الرابع عظيما بالاستعداد، قويا بالنشأة، طموحا بالفطرة؛ فلا تحاول أن ترجع هذه الصفات فيه إلى أحوال داعية وأسباب موجبة، فأن إعجاز القدرة أن يولد الملك في حجر السوقية، ويدرج العبقري في عش الفدم، ويظهر النبي في بيت المشرك؛ إنما العظمة خلقةٌ في العظيم، تقويها عوامل وتضعفها...
في مثل هذا الأسبوع من سنة أربع وخمسين وثلاثمائة للهجرة طل في سواد بغداد دم الرجل الطموح.
والبطل الشاعر أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي، فهمدت بهموده نفس دائبة الشبوب وعزيمة دائمة الوثوب وهمة رفيعة المصعد! وكان المأمول أن يكون هذا العدد من الرسالة ديواناً لما يلقيه أساتذة الجامعة المصرية من...
يسأل فرنسوا مورياك عن ثلاثة أسئلة عن أدب المجون، أولها عن نتائجه، وثانيها وثالثها عن أسبابه. فأما سؤاله عن نتائجه فما أظن جوابنا عنه يختلف عن جواب زملائنا الأوربيين في شيء؛ لأن خطر الأدب الماجن على الفرد والجماعة وعلى الأدب نفسه لا يماري أحد فيه لا منا ولا منهم.
وهل يماري أحد في أن البهيم الذي...
أدب المجون يجوز إذن أن يقال، ولكن لا يجوز أبداً أن يعلن. والرقيب على هذا الأدب ضمير المنشئ وكرامة القارئ. فمادام للمنشئ ضمير يحييه الدين القويم والخلق الكريم فإنه يتكرم عن الهبوط إلى حضيض القوادين الذين يزينون الفحش، والمطاردين الذين يروجون الحشيش. وما دام للقارئ كرامة يقويها الحس اللطيف الشريف،...
أدب المجون يختلف عن أدب اللذة في الدواعي التي تدعو إليه، وفي الدواهي التي تنجم عنه. فمن دواعي أدب اللذة عامية الذهن، أو سطحية الفكر، أو سآمة الجد؛ وهي أعراض طارئة مصيرها إلى الزوال، وانحراف عن الطبيعة مآله إلى الاعتدال. ومن دواهيه أنه يلفظ أهله على ساحل الحياة فلا يخوضون العباب ولا يغوصون في...
أما الأسباب التي دفعتهم إلى سلوك هذا النهج في نقد الشعر، فمن السهل تلخيصها في خمسة أمور لا يصعب عليك استنتاجها مما تقدم:
الأمر الأول ما ذكرناه من أن علماء اللغة والنحو لم يروا الفضل في الشعر إلا فيما يمكن الاحتجاج به، وحسبهم من ذلك البيت والبيتان.
الأمر الثاني - وهو من قبيل الأول - أن علماء...
فأنت ترى أن الموازنة التي قام بها الآمدي إنما كانت بين أبيات مفرده اختارها من مطالع أبي تمام في الوقوف على الديار ونحوه واختار ما يقابلها من مطالع البحتري، ثم علق على هذه الأبيات تعليقا موجزا لا يتصل بموضوع القصيدة ولا وحدتها ولا غرضها ولا سياقها، كأنها لم تكن عضوا في جسم ولا جزءا من كل ولذلك...
ذكرنا في ختام المقالة الأولى أن حظ العرب من تاريخ الأدب قد ضؤل لأنه فرع من التاريخ العام؛ وفن التاريخ العام بمعناه الصحيح لم يكن في طوقهم لعجزهم عن وسائله وجهلهم بعلومه. ثم أضفنا في المقالة الثانية في بسط العوامل المؤثرة في الأدب لنوضح العلاقة الوثيقة بين التاريخ السياسي والتاريخ الأدبي.
وفي...
غربت الشمس في الرمال اللوبية المرمضة ومن ورائها في الجو والأرض وهيج كزفير جهنم. وكان القاهريون قد احتشدوا فوق الجسور وعلى الشواطئ وفي الحدائق يَنْسمون نَفَس الماء ونفح المساء وأرج الزهر، فكأنما لم يبق في البيوت والقهوات والطرقات أحد. وكنت أنا في زحمة الناس أسير هَوناً على جسر إسماعيل والذكريات...
1
بمناسبة ذكراه الثالثة عشر
كان في مستهل هذا العصر نفر من الأيفاع الخلصاء ينتقلون بين حلق الأزهر كما تنتقل النحل بين قطع الروض، لا يتشممون غير الزهر، ولا يتذوقون إلا الرحيق؛ وكانوا كالفراش رقاق الجسوم خفاف الأجنحة يتهافتون على أضواء النوابغ المعاصرين أينما تشع؛ وكانت الومضات الروحية الأخيرة...
فجيعة الشعر العربي في حافظ وشوقي يعز عليها الصبر، ويُعْوز منها العوض، ويصرف أساها الناقدين عن تقويم الميراث العزيز إلى تعظيم الموروث الأعز. وليس مما يزكو بالمنصف أن يجشم نظره رؤية الحق من خلال الدموع، فأن في ذلك اعتداء على العقل أو إساءة إلى العاطفة. وهذه الكلمة إنما نستجيز ذكرها اليوم لأنها إلى...
في مصر تسعمائة وتسعون في كل ألف لا يقرأون، وتسعة من العشرة الباقية ينتفون الأخبار من الصحف اليومية، ويقطفون النكت من المجلات الخفيفة؛ وواحد هو الذي يقرأ الكتاب المثقِّف ويطالع المجلة المهذِّبة؛ وهذا الواحد الأحد يدركه في أكثر العام فتور الطبع أو عدوى البيئة أو فوضى النظام فيعاف الكتاب، ويجتوي...
تصدر الرسالة والأسى لا يزال يرمض القلوب على حافظ وشوقي. ولئن رمت المنون لسانيهما الذليقين بالصمت الأبدي، فقد تركت حظيهما يتنازعان الذكر على ألسن الناس. وكان حظ شوقي في مماته كما كان في حياته شديد السطوع قوي البهر فكسف حظ أخيه! وكاد حافظ البائس يضيع في شوقي المجدود كما ضاع موت المنفلوطي في موت...
شرب عبد الواحد وسقانا ثلاثة أقداح من الشاي المعطر. ثم أطلق من حنجرته القوية جشأة طويلة عريضة كخوار العجل، ثم حضأ النار بأنامله وشيع ضرمها في بقية الفحم؛ ثم أشعل منها (سيكارته) العربية وأرسل في رفق دخانها الرقيق الأدكن. وبانت على معارف وجهه شهوة الكلام. وكان كلبي الصغير قد لاذ من قرص البرد بجانب...