إخلاص فرنسيس

يمشي بين أعمدة الهيكل، تتثاقل خطواته، أسمر، عريض المنكبين، شفة غليظة تميز بها أبناء النيل، إضافة إلى السمرة والروح الجميلة، ولكن هذا المساء كان يحمل على أكتافه أعمدة الكرنك بكل ما فيها من ثقل، وكان يجرجر خطواته نحو العتمة، وكأنّه يمشى في اللاوعي، في اللاشيء، عبير الورود اختفى، وصوت الليل وأنين...
صعدتْ على درجاتِ المركبِ، كانتْ تصارعُ كي تحفظَ اتّزانَها. الكعبُ العالي، الثوبُ الطويلُ الأزرقُ عاري الكتفين، الشالُ المرصّعُ بالوردِ الأحمرِ يقيها بردَ كانونَ القارصَ، لكنْ لا بدّ أن تعبرَ النيلَ، لا بدّ أن تملأ صدرها من رطوبته، تتّكئ على الريح، لا تريدُ أن يمسكَ أحدٌ يدَها حرّةٌ كالفراشةِ...
متثاقلة تحت حملها، وشنط السفر، شنطة حمراء على كتفها، وأخرى سوداء تشدّ كتفيها بقوة إلى الوراء، ترتدي شعرها المسدل على كتفيها كنهر على جبينها، خان المنديل الأحمر الذي يحضن شعرها، وهربت الخصلات تقبل جبينها وهي فخورة بحريتها، ومن وراء نظارته عينان تبحثان عن شيء ما، حبّتا زيتون عسليّ تتدلّيان من بين...
الساعة الرابعة أكثر وقت يستهويني للمشي أواخر أيام الخريف، وما من مرة مشيت مع لونا إلّا جنيت متعة لا توصف، إضافة إلى الرياضة الجسدية، والخروج من الحجر الذي طال أكثر من تسعة شهور، وقد مللت المكوث بين الجدران الإسمنتية بالرغم من أنّي لا أخرج كثيراً، لكن يبدو أنّه كلما أجبر الإنسان على شيء مقته،...
سأرتكبُ الكثيرَ من الحياةِ وأنا أنتظرُكَ سأكونُ أكثرَ امتلاءً وأكثرَ استرخاءً وأكثرَ اهتماماً بالأملِ فأنا نادراً ما أتطفّلُ على الحزنِ وحدَهُ يبحثُ عن وريدي يتآلفُ معَ نبضي وكأنّه الفرحُ الأسمى وأحياناً أخرى يسكنُ فوقَ جبيني وكأنّهُ قبلةُ أبي يهمسُ في أذنيّ يسكنُ عينيّ وحينَ ينضجُ الانتظارُ...
سألتُ البحرَ عنكَ فابتسمَ، ومضى يغزلُ الموجَ ويلملمُ الرّملَ يركضُ خلفَ النّوارسِ العينُ امتلأتْ من ملحِ البحرِ الليلُ مشغولٌ يوزّعُ أدوارَ الغزلِ بينَ النجومِ والقمرِ نواجهُ الفراقَ ملفّعينَ بالشّوقِ أيُّ وداعٍ لا يؤلمُ وأيُّ زمنٍ كفيلٌ أن يفصلَ بينَ جنوني وجنونِكَ كنتُ أفكّرُ باللقاءِ...
وعلى مرمى نجمةٍ يذكّرُني الريحُ حينَ يزورُني رائحةَ صوتِكَ ويعيدُني في مركبِهِ إلى ظلِّكَ نلتقي حولَ بياضِ الورقِ يشتهي حبراً وأشتهي وطناً كلانا فريسةُ العدمِ لا يعلمُ من أينَ أتيتَ ولا أعلمُ إلى أينَ يرحلُ لأطيرَ من جديدٍ قال: كوني لي صوتاً أو رؤيا عبرَ رملِ الزجاجِ أغسلُ الكسلَ المتراكمَ على...
كثرَ من حولي الليلُ رماني بحجارةِ الحنينِ تعوّدَ صدري على قصفِ الوجعِ عبثيّةُ الحروفِ تلتفُّ عابسةً تبلعني بنيتم مراكبَ النهايةِ ورميتم وجعي في مأتمِ الصبرِ شكراً، لتغلغلِ العزلةِ في المسام على ظهرِ يدي يُنقشُ شعاعُ الشمسِ الخرزُ الأزرقُ نايُ النّسيانِ لم يعدْ ثمّةَ انتظارٌ ماتَ شاحبَ الوجهِ...
هو وطنٌ جرحُه مختلفٌ كلّ مذهبٍ سيفٌ وكلّ مطلبٍ خنجرٌ لا فرحَ ولا زقزقةَ لا أغنيةَ ولا طربَ سماءٌ تنتحبُ وأرضٌ حبلى تلدُ دمًا هو وطنٌ أثخنتهُ طعناتُ الساسةِ طارتْ منهُ أحلامُ الطفولةِ وغابَت من كرومهِ خضرةُ الأملِ بكت شجرةُ التينِ وناحَ الزيزفونُ وما بينَ الوطنِ والحاكمِ يعيشُ الشعبُ موتًا زؤاما...
رئةُ الشفاهِ تحتَ وطأةِ الحدسِ تتنفّسَ الغيمَ يدي الحبلى بزائرٍ متناثرٍ كوردةٍ سجينةِ اللا شيءِ الهشِّ ولهفةٌ تتدحرجُ من رئةِ الشفةِ تكتبُ دمعتي وأغنيةٌ تحملقُ في وجعي تسبقُني تلملمُ ما ضاعَ من حبري وقصيدةٌ تكبحُ ما تاهَ من حلمي وحسٌّ أغلقتُ عليهِ ذاكرتي في غرفِ ماضٍ يأتي إخلاص فرنسيس...
من يرتّبُ لي مسائي قليلٌ من خمرةِ الأزهارِ أفتحُ نوافذَ الليلِ وفوقَ طاولتي ورقةٌ وعلى الكرسيِّ منديلٌ أحمرُ كومةٌ من الرسائلِ تجهشُ فوقَها الحروفُ تقرعُ العواصفُ نوافذي وملحُ جسدُكَ يسيلُ من دمي يرتفعُ ضوضاءُ الموجِ يلتفُّ حولَ عنقي ينامُ وجهُكَ...
أسنانُ الرّيحِ تلملمُ عناقيدَ الصّيفِ أيلولُ أعلنَ نهايةَ قصيدتهِ وتشرينُ يكتبُ سقوطَ الورقةِ الأخيرةِ لهذا العامِ النّارُ ما زالتْ تعاقرُ بحرَ بيروتَ الحجرُ أعلنَ إفلاسَهُ يتسلّلُ الصّراخُ من الأفواهِ المكمّمةِ يسرقُ منها القوتَ يخرجُ الموتُ مثلَ العقاربِ من تحتِ الأرضِ يحصدُ الماءَ من العيونِ...
هكذا تولدُ الصّلواتُ من وجعٍ يسيرُ خلفي وبصمةٍ وحيدةٍ من حنينٍ ونداءِ طفلٍ وراءَ قضبانِ القصبِ يركضُ خلفَ قطارِ الأحلامِ يقايضُ الريحَ ويصطادُه النومُ هكذا تولدُ الحكاياتُ حولَ أسوارِ المدينةِ المزيّنةِ بالشّكوى فوقَ الترابِ الشّاحبِ وارتعاشِ الأرواحِ الضّالةِ تعيدُ ترميمَ وجهٍ معفّرٍ بالصّدى...

هذا الملف

نصوص
28
آخر تحديث

كتاب الملف

أعلى