المازني هو ابراهيم عبدالقادر المازني, أو ابراهيم الكاتب, أو ابراهيم الثاني, أو ابراهيم التاسع عشر, والدكتور هو سعيد توفيق أستاذ علم الجمال, بالعامية علم الحلاوة, وأمين المجلس الأعلي للثقافة. طبعة ما بعد الثورة, طبعة الجنزوري, والأصغر مني ببضع سنوات, توقف بها علي حدود شبابه, وتركني أتخوف من الخطأ والخطيئة, لأنه في 1959م قامت الدار القومية للطباعة والنشر بإحياء ذكري المازني, وإعادة طبع بعض أعماله التي أصدرتها ضمن سلسلة مشروطة بصفحات لا تتجاوزها, لعلها كتب ثقافية, لذا تم استئصال شرايين المازني الطويلة, كتاب صندوق الدنيا أصبح صندوق نصف الدنيا, كتاب في الطريق أصبح في ثلاثة أرباع الطريق, الخ الخ, وصارت الطبعات الناقصة أساس الطبعات كلها, فيما عدا طبعة المجلس إذا اكتملت, نعرف أن الاكتمال في مصر وحشة وسراب, القمر ذاته لم يعد قادرا, لكن اكتمال المازني الذي لم يكن طوال حياته متأكدا من شئ كاد يتحقق بمرور خمسين سنة علي وفاته 1999م, ومنذها أصبح كاتبا بلا أجر, اختطفته وشوهته الدور المتنافسة, حتي أنني عندما أتخيله يتابع ما نكتبه عنه, أراه في قبره يتقلب ذات اليمين وذات الشمال, ويسخر منا إلي حد الضحك, فيستدعي صديقه ابن الرومي ويمشيان معا علي حافة أحد أنهار جهنم, ثم يتقلب ويسخر منا إلي حد البكاء, ويتذكر صديقه عبد الرحمن شكري, فلا يذهب إليه, إشفاقا علي شكري, وإشفاقا علي نفسه, وخوفا من النزهة معه علي حواف أنهار الجنة, أما في حال استرخائه وعدم تقلبه, وهو ميت بالطبع, فإنني أحسب أنه سيحاول أن يبلغ آخر حدود اليأس, الذي لم يستطع بلوغه في أثناء حياته, ولكنه, هكذا أجزم, سيفشل أيضا, وعندما سينظر وهو يمثل الغضب, إلي حراسه, سوف يفكر في الثأر منهم, يأمرهم بقراءة شعره, ولما يتخلص من الحراس, ويتخلص من خيالاته, يأمرني بالانصراف, فأفكر في أنه لم يشأ يوما أن يكون قطبا يحيطه مريدوه كما كان العقاد وطه حسين, ولا أن يكون المريد في حلقة غيره, إنه دائما اثنان, قطب نفسه, ومريد نفسه, لذا تركته لأستوحشه, وفكرت في اللجوء إلي الدكتور, إلي سعيد توفيق, وبعد أن لملمت مؤلفات المازني, وكومتها, آثرت أن أتريث, وقلت لنفسي: سأستدعي آبائي وأعمامي وأخوالي, وأنتقي من أظنهم يخففون آمال الدكتور, ويزيحون أعباءه, غير أنني وجدتهم بلا صلاحيات, لأنهم مثلي, قلت أتريض قرب المكان الزري الذي خصصه العلامة محمود العالم لطائفة العدميين وبينهم المازني, وأغريت سعيد بمرافقتي, في أول الطريق أنبأته في تحذير مشوب بالحرص, أنه كان يحلو لنقاد الواقعية الجديدة أيامها, أن يضعوا بعيدا عنهم أعمال الرومانسيين اليائسين, حتي آتاهم من خلفهم نجيب محفوظ وصلاح عبد الصبور واليوسفان: إدريس والشاروني, بواقعياتهم الأغرب من خيال العلامة محمود, فارتفع السور العازل بين الفريقين, قد يكون من الممتع لي, أن أهدي أربع وردات حمراء جدا للأربعة المذكورين, لولأ أنه سيكون الأكثر إمتاعا أن أهدي كل بنفسجاتي إلي المازني, حينذاك ضبطني سعيد, فانكمشت مثل حديقة مذعورة, وقلت له: إن الأجيال الأكثر معاصرة, أصلان والبساطي وعبد الحكيم قاسم, قاطعني: والغيطاني, نعم, عاشت قادرة بأفعالها علي تحويل ورود أغلب سابقيهم إلي قمامة, وقادرة أيضا, ودون قصد, علي سقاية ورود بعض سابقين بماء أرواحهم, سألني: مثل من؟ هتفت: المازني, فتلمظ, قلت له: هل تعلم أنني عثرت بالمصادفة علي بيان للشاعر أبوللينير, يوزع فيه قاذوراته علي دانتي وشكسبير وتولستوي وإدجار آلان بو ووالت ويتمان وبودلير, أما الوردة فيهديها لبيكاسو وسترافنسكي ولنفسه, تلمظ أكثر, فقلت له: ولما وجدت أبوللينير يهدي الوردة لنفسه, فكرت في وردتي, وفي بياني, وزرعتهما, لكن الخوف من المازني أربكني, وأرغمني علي تأجيل القطاف, أمسك سعيد يدي, تشجعت واتجهت به, ولم يعترض, إلي شارع محمد علي, بحثنا عن المكتبة التجارية, وأشرت بعيني, ثم بجسمي كله إلي مشية المازني غير المعتدلة علي يمين العقاد, كانا يمران أمامنا, لكن سعيد لم يبصرهما, أفلت يدي من يده, وانتقلنا إلي باب اللوق, جلسنا في مقهي الحرية, إلي جوارنا, كان المازني الشيخ ونعمان عاشور الشاب, المازني يتكلم ويصمت, ثم ينصرف فجأة, ولما يهم نعمان بالقيام, يمنعه المازني بإشارة, ويمشي, لايلتفت خلفه, علي رصيف الحرية يلتقط التاكسي ويركبه كأنه يفر, سعيد أيضا لم يبصرهما, أفلت سعيد, وانتقلت بخيالي إلي 1930م, فرأيت المازني يزور الحجاز, ويقابله يحيي حقي, ويستمع إلي حيرته, ياأخي وقعت في مشكلة, هذا المنزل أمامنا, حين فتحت النافذة, رأيته مائلا يوشك أن يقع, فلما نزلت للطريق, رفعت بصري, فوجدته معتدلا أحسن اعتدال, فعدلت عن السير, وصعدت جريا إلي نافذتي, أريد أن أضبطه علي غفلة منه, لأري صدق عبثه بي, وكأنه فطن لحيلتي, فكان أسرع مني, إذ حين فاجأته بالنظر إليه من النافذة, وجدته في خبثه, قد عاد إلي وضعه المائل, وبقيت في حيرتي حتي لاحت مني في الطريق نظرة عابرة إلي المنزل الذي أسكنه, فإذا هو المائل علي جنبه, عدت إلي سعيد وفكرت أن أصحبه إلي كرمة ابن هانئ, ولها حكاية, قلت لنفسي: إنني كلما تذكرت المازني, يكاد يغمي علي, لشدة الشبه بين أمه وأمي, ولا أدري إن كنت سأغيظه وأثير ضيقه, إذا اعتبرني أزعجه بضجيجي, لكن الذي أثق فيه, أنه سوف ينتظرني عند محطتي الأخيرة, ومعه كل بنفسجاتي, أظنه سيعلقني منها, ويسألني أين تحب أن تقيم يا بطل, في أول الجحيم أم في آخره, ثم يقول:اعلم أن أول الجحيم يدل علي الوصول بالتدريج إلي الحقائق, وأن آخره يدل علي الوصول الفوري, لكزني سعيد, فقلت له: في الدنيا كان المازني يضع تحت قدمه الأقصر فردة حذاء بكعب مرتفع, في الآخرة, لا توجد أحذية, توجد الكتب, اطبعها, وضعها تحت قدمه الأقصر,عندها سوف أتجاسر وأسر لك بأننا, المازني وأنا, ما أشبهنا بأرباب الحرف من أصحاب الدكاكين, نجلس للعمل صابرين علي الرزق, إلي أن تحين ساعة التشطيب, فنذهب ونختفي, أيها الزائر قبري, اتل ما خط أمامك.