عبد الرحيم نعيم - المرأة وشهوة الكتابة: قراءة في المنجزالإبداعي" بلا أبواب ولا نوافذ " للكاتبة خيرة جليل

تروم هذه الدراسة مقاربة المنجز الإبداعي الموسوم ب " بلا أبواب ولا نوافذ " للكاتبة المغربية " خيرة جليل"، والعمل على كشف مسالكه ومتوالياته السردية التي تحتفي بالأنوثة والحكي والكتابة والسياسة والحياة والاخر...، وغير ذلك مما يحتفل به هذا الحرف الأنثوي في مقابل ذاكرة الكتابة المثقلة بالهيمنة الذكورية وامتداد انشغالاتها إلى مساحات مهمة داخل الكتابة الإبداعية العربية والمغربية خاصة.

لقد حاولت الكاتبة والتشكيلية " خيرة جليل " بنفس إبداعي رائق أن تشيد عوالمها السردية داخل هذا المنجز الإبداعي وفق بنية حكائية مستلهمة للنسق الحكائي العربي القديم، تعكس ذلك اختياراتها الفنية وكيفية توزيعها للمتواليات السردية التي لا تبعد كثيرا عن هندسة حكايات "شهرزاد" ولياليها الممتدة في حضرة "شهريار"، إلى جانب تداخل الأصوات السردية المتنوعة بين صوت السارد المحايد الموجه لمسارات الحكي وصوت البطلة " راوية" روح الحكاية وامتداد " شهرزاد" في الزمان والمكان ..

وعلى الرغم من هذا التماثل الفني بين الأثر الإبداعي الذي بين أيدينا وليالي الحكايات التراثية فإننا نلمس تمايزا لائحا في بناء الشخصية المحورية "راوية "، وتشكيل أبعادها النفسية والاجتماعية وفق مقاسات جديدة تكشفها المسارات السردية المتعددة بحسب ما تمليه المواقف والقناعات، وما تعكسه الكاتبة من رؤى وجودية وفلسفية..

فإذا كانت الحكاية المتوارثة تحتفظ للأنثى من خلال " شهرزاد" بالحضور المسلي للرجل ( شهريار) الذي تنتعش رجولته على أعتاب السرد الذي لا يوقفه غير صياح الديك حين يعلن انتهاء الحكاية ومعها ينتهي استقلال الأنثى وتستمر تبعيتها المطلقة للرجل، وتنفرد فيها الذكورة بالموقف والرأي والقوة في مقابل المرأة الملبية للرغبات والمغيبة الرأي والحضور والحياة مع مبايعتها المطلقة للسلطة رغم بشاعتها ..، فإن الكاتبة "خيرة خليل" حاولت أن تلملم أطراف الصورة، وسعت لإعادة سبك تفاصيلها وملامحها وفق قناعات جديدة تحتفي احتفاء مغايرا بالمرأة في عالم متغير ومتجدد..

من هنا راهنت الكاتبة على اختيارات جديدة هندست وفقها ملامح شخصيتها البطلة " راوية" بصدق إبداعي طافح نابع من عمق التجربة على حساب الاهتمام المبالغ فيه بالقوالب الفنية وسجال النوعية والتجنيس ، وهذا ما يعريه تصريح عابر لبطلة المنجز المحتفى به : " ..سموه ما شئتم لا يهمني جنس المولود ولا نوعه لأني علمتها أن تبوح بصدق عن كل ما تحسه وتشعره أو ترفضه " 1.

فتحرير الكتابة والإبداع من القالب الجاهز اختيار يكشف حدة التمرد الذي يسبق ولادة جديدة لأنثى مؤمنة بصدق الإحساس الذي يضمن وجودا حقيقيا للكينونة، ويحقق لها حياة كاملة ووجودا حقا بالكتابة والحكاية باعتبارها طقسا وجوديا خالدا لا حضرة للتسلية ومبايعة الاخر" علي أن أكتب وأكتب حتى لا يشرد قارئي فيفكر بقتلي حين يرمي بكتابي جانبا دون اكتراث" 2.

وبهذا يصدح صوت أنثوي متفرد يعانق جدائل الحكي والكتابة التي تترفع أن تكون بوحا عابرا أو طقسا احتفاليا أو أنسا مغريا..، ولكنها تنزع أن تكون جسرا بين الذات والعالم، ومضمارا وجوديا لتشييد كينونة أنثوية مؤمنة على امتداد الحكاية بالرقي والسمو بعيدا عن الابتذال والخنوع الذي يعجل بموت أنوثتها حين تتوقف الكتابة وتتراخى خيوط السرد ويمل معها "شهريار" ويشرد القارئ كما يكشف ذلك هذا النبض السردي :" كلما أوغل هذا الليل في سفره تصبح " راوية" أكثر نباهة ويقظة وكائنا يفترس الكتب " 3.

ولعل القارئ يلمس انتشالا مستميثا لصورة الأنثى من براثين النمطية التي اقترنت بها وهي بين يدي "شهريار"، وداخل صالونات التجميل ومحلات الاستهلاك التي استنزفت أنوثتها، وهذا ما قاومته "راوية" بنبل وحماس زائد محتمية بالكتابة كملجأ ومنجاة لها " ... لا أريد لأفكاري أن تكون مجرد غازية تتقن الاستدارة وفن الإثارة حين كان العشاق ينحتون جسدها بقبلات المتعة ... أريد لهذه الكتابة أن تصبح رئتي حين يختنق الكل ..."4، وفي هذا اختيار جديد لوضع الأنثى بين أن تجعل من نفسها موطن الشهوة واللذة العابرة وبين أن تتخذ " قرار الرحيل من عالم الأصباغ لتسكن عالم الأحرف والكلمات " 5.

فهذا الانسلاخ عن الزائد والعرضي ومعانقة الجوهر والحرف والمعنى ينذر بميلاد وعي أنثوي عميق يؤمن بالكتابة باعتبارها تحررا وفرصة للبوح والاختيار وانفلاتا من قبضة الاستيلاب والتبعية والاقصاء الذي يطاردها خارج أسوار الحكاية ، جاء على لسان " راوية" : " ... كتبت بعضها على مقاه منحتني المنفى الاختياري الذي كنت أشتهيه لحظة الاختناق، وفوق بقعة أرض سكانها يلبسون الهرولة كل يوم دون أن يمنحوا أنفسهم فرصة وقفة تأمل ..." 6.

إن هذا الحضور الجميل للأنثى يحتفي بكينونة على غير العادة، متفردة منتقدة متأملة في تفاصيل الحياة بسعي دؤوب نحو تشكيلها من جديد وفق قناعة مستقلة عن الاخر الذي يشتهي لحظة اختناقها وموتها بشهوة " شهريار" وقبح حضوره في هذا العالم..، من دون أن تجردها هذه الاختيارات الذاتية عن واقع الناس وهموم الناس، ورهان البناء بحماس " شهرزاد" ودهائها وهي تنشد الخلاص بالحرف والحكاية أمام جنون " شهريار" مع ظلام كل ليلة ، محطمة بذلك قلاع الموت وحدود الصمت التي حدت جموح الأنثى زمنا طويلا ، جاء على لسان "راوية": ".. الصمت موت سريري غير رحيم، وكتاباتي شريط حياة ..." 7.

فالحكاية سحر، والكتابة غواية، والبوح امتداد لشريط حياة " راوية"، واحتفاء مستمر ودائم بآلام المهمومين وأوجاع المستضعفين في مختلف البقاع والأصقاع كما جاء على لسان بطلة هذا المنجز:" .. إني كاتبة كونية أضمد جروح الجرحى في عالم أخطبوطي يلتهم كل ما هو جميل بدون رحمة أو شفقة، أسعى جاهدا لأكون صوتكم وروايتكم التي لا يكتم صوتها ..." 8.

هكذا يمتد صوت الأنثى ويصدح عاليا خارج أسوار النمطية والعادة، وبه تهندس الكاتبة " خيرة جليل " لموقع جديد للمرأة داخل خريطة الواقع، وتزكي إمكاناتها في التعبير عن الاخر بدل الاشتغال داخل حدود الذات، وجعل الكتابة مرآة عاكسة لتحولات المجتمع وواقع الناس (9) من دون قيد أو شرط، وبذلك يصير الحرف تمردا مشروعا تقوده الأنثى على كل التقاليد والأعراف التي لم تؤمن يوما بحظوظها واغتالت حقها في الحياة " .. أعشق أن أكتب و أتحدى و أتمرد، أرصد وأسجل حتى النهاية " 10.

إن الضمير الأنثوي المفرد داخل ثنايا هذا الأثر الإبداعي لم يكن ليعلن انفصاله الكلي عن العالم والجماعة، ولكنه تفاعل مستمر مع قضايا الواقع، ومشاركة فاعلة في جميع الرهانات، وتعبير حر عن جوانبه المظلمة من دون تبعية مشروطة، ورفض لأشكال الغربة والاغتراب التي تضبط أنفاس الأنثى في عالم بلغ ذروة الخنوع والابتذال والاسفاف، " فالغربة بالنسبة لها ( راوية) ليس بالضبط أن تهجر وطنك وأهلك وتعبر البحار إلى ضفاف أخرى، ولكن قمة الاغتراب الحقيقي الموحش هو حين تعيش بين قومك بالدرب والشارع والعمل ولا تجمعك بهم أية علاقة فكرية أو روحية ..."11.

هكذا تعيد " راوية " الحياة للأنثى، وتخرجها من نفق الموت والشهوة الذي أغرقت فيه مع "شهرزاد" الجسد والمتعة والتسلية..، وبذلك ترقى الأنوثة في معراج الفكر والرأي والموقف الحر والوجود الموازي للآخر الرجل على امتداد ليالي " راوية " التي سعت أن ترسم ملامح الجنس الاخر كما تأمل أن تتقاسم معه الحياة، وتناضل إلى جانبه لتشكيل عالم يتسع لهما معا.

ومن منطلق الايمان بالذات الأنثوية التي تترفع بكينونتها عن القوالب المستلبة والتي لا تزيدها الا ثقة وتحررا " .. كتاباتي فتاة هوى تستمد ثقتها من فرط خطيئتها.." 12..، كشفت الكاتبة عن رفضها الصادق للحضور الذكوري في حياتها ما لم يؤمن بحياة تتسع للجميع، ولم يتجرع صدق الرجولة في عالم لا تستقيم فيه الحياة الا بالاستثنائي من الرجال والنساء معا " أرض الله واحدة مهما اتسعت وفصيلة الرجال متشابهة مهما اختلفت إلا من رحم ربي .." 12.

فهذا التشابه في صور الرجال منبوذ في حياة " راوية " ، قاتل لحياة الأنوثة الجامحة ، ينسف الاعتراف بحق المرأة ويكرس منطق الاقصاء، في مقابل الرجل المؤمن بكفاءتها والمعترف بها، كصنيع صديق العمل واعترافه الذي دبت به الحياة في عروق الأنوثة " .. إني أصدقك القول إن قلت لك : إنك من قامة الكاتبات المتمكنات، لكن تواضعك قاتل" 13.

وبهذا تكون الكاتبة " خيرة جليل" قد نجحت في بناء صورة جديدة للأنثى على عكس المتوارث والمألوف، وجعلت من الحرف والكتابة مساحة للهدم وإعادة البناء، مبشرة بموقع جديد للأنثى تعبر فيه بحرية عن اختياراتها ومواقفها من واقع الناس ووقائعهم، من دون أن تتموقع في الحياد القاتل من السلطة والسياسة على النقيض من " شهرزاد " " الزوجة المسلية والجارية والعاشقة التي دللت زوجها لتزيد من مرضه السلطوي " 14، بل امتد حضورها المتمرد ليذم السلطة والسياسة ويكشف قبحها وبشاعتها.



الهـــــــــــــــــــــــــوامش :

1 ـ خيرة جليل، " بلا أبواب ولا نوافذ" الطبعة الاولى:2021

جامعة المبدعين المغاربة، الصفحة : 10.

2 ـ المرجع نفسه: ص.: 13.

3ـ نفسه، ص: 10.

4ـ نفسه ص.:13.

5ـ نفسه ص.: 07.

6ـ نفسه:ص.:12.

7ـ نفسه ص.:13.

8ـ نفسه. ص.: 20

9ـ ينظر احتفاء "جورج لوكاتش" بالأدب في كتابه ( نظرية الرواية) حيث يرى أن الأديب ابن بيئته، وأن الاثار الإبداعية الناجحة هي التي تكون مرآة عاكسة للبنيات الاجتماعية وتحولاتها المختلفة...

10ـ " بلا أبواب ولا نوافذ " ص.: 07.

11ـ نفسه، ص.: 09.

12ـ نفسه،ص.: 12.

13ـ نفسه،ص.: 19.

14ـ ينظر قراءة " نوال السعداوي" لصورة " شهرزاد" ، الحوار المتمدن بتاريخ: 2019ـ 12ـ30
  • Like
التفاعلات: خيرة جليل

تعليقات

شكرا ايها الاديب والاعلامي الجاد وكانك كنت بمحرابي وتحاور خلجاتي وبنات افكاري ممتنة لقراءتك المستفيضة ودام نبضك وانحني لكم احتراما على الوقت الذي كرسته لهذه القراءة المتأنية .....شكرا مرة اخرا
 
أعلى