الأدب هو كتابة تاريخ العاطفة في تجلياتها في الحرب وفي السلام، وليس كتابة تاريخ السلاطين أو سير قادة الحروب الطواغيت.
هما اثنان، وشما ذاكرة جيل كامل أو أكثر، عليهما ومن خلالهما نشأ تاريخ العاطفة المعاصرة في العالم العربي وفي شمال أفريقيا، في الكتابة والقراءة وفن الاستماع، إنهما: إحسان عبد القدوس على الورق، في تلك الروايات وبتلك الطبعات الشعبية الدافئة والأغلفة المثيرة، تفتح الكتاب ومع كل صفحة تُقرأ، يمارس القارئ تمزيق الأوراق من على أطرافها الملتصقة ليفصلها عن بعضها البعض، فيكون هذا الفتق متعة أخرى، حكاية الرواية وأسرارها تتقدم مع فصفصة الأوراق، متعة الاكتشاف بالفتح والتقطيع، أما الشخصية الثانية، فهي عبد الحليم حافظ في الراديو بأغانيه العاطفية المثيرة.
رمزياً، في ظل رواية أجواء "أنا حرة" لإحسان عبد القدوس المنشورة عام 1959 وأغنية "توبة" لعبد الحليم حافظ 1955، نشأ جيل من الكتّاب ومن القراء أيضاً، القراءة العينية والقراءة السماعية، حاول هذا الجيل أن يؤسس لعلاقة صادقة مع تاريخ العاطفة المحلية التي هي إسمنتُ الحياة الاجتماعية بكل خصوصياتها وبكل زخمها وأفراحها الصغيرة وأقراحها وهزائمها الكثيرة وانتصاراتها القليلة أو النادرة.
كان بناء هذا الجيل الأدبي والثقافي يتأسس ويتطور بشكل طبيعي وفي انسجام مع الهوية عربية كانت أو أمازيغية أو كردية أو غيرها، ومع الدين إسلاماً كان أو مسيحية أو يهودية، ومع الآخر ممثلاً في الإنسان الأوروبي أو الأميركي أو غيرهما، إلى أن حلّ على العالم العربي وشمال أفريقيا عاملان أفسدا إيقاع هذا التطور الطبيعي وخلقا فتنة داخله وأصاباه بعطب مركزي، وأعني بهذين العاملين: أولاً التيار الديني السلفي الذي جعل من الإسلام السياسي رأسماله لمواجهة تاريخ العاطفة الطبيعية بالعنف والتشدد، والعودة إلى نصوص ماتت، فحاول إحياءها بنفخ روح التعصب فيها، وأغرق المجتمع في بركة من الفتاوى التي تصب جلّها، إن لم أقل كلها، في فكرة التحليل والتحريم، التكفير والتخوين. وتلتقي هذه الفتاوى كلها في وضع المرأة في موقع "الرجم" و"التهمة" و"الفساد". وتفطن هذا التيار إلى المدرسة والإعلام، فوضع يده عليهما لمحاصرة الجيل الصاعد، كل ذلك لضرب مسار تاريخ العاطفة الإنسانية المعاصرة التي تمثّل فيها المرأة النصف الكامل، وهو الأمر الذي جعلنا نعثر على "تخمة" من النصوص التي أنتجها خطاب الإسلام السياسي السلفي، يدور حول المرأة ولباسها وصوتها وخروجها ودخولها وسياقتها للسيارة وزينتها وعطرها...
وأمام هذه الثقافة، تقلصت ثقافة وأدب المتوجهة نحو تفكيك عاطفة المجتمع، بل إن كثيراً من القيم التي تنتمي إليها العاطفة أصبحت محرّمة ومنبوذة وممنوعة. وبغياب ثقافة العاطفة، ساد النفاق الثقافي والأخلاقي والديني بشكل رهيب، ودخل المجتمع في حياة تخشّب عاطفي وتوجس من كل علاقة إنسانية وربطها بالرذيلة وتصنيفها في باب المس بالدين، كما يراه هذا التيار.
وصنّف هذا التيار الموسيقى في باب الحرام، وفرض حالة من البؤس العاطفي الذي تولّدت عنه أمراض نفسية كثيرة وتفشى الهوس الجنسي وازداد التحرش في المجتمع، وأصبحت الأعراس تشبه الجنائز.
وصنّف هذا التيار السلفي قراءة الرواية، مثل روايات نجيب محفوظ أو إحسان عبد القدوس أو الطيب صالح وغيرهم، في باب ضياع الوقت وإفساد الذوق.
أما العامل الثاني، فهو الأيديولوجيا الماركسية الستالينية المتطرفة التي لا تختلف عن التيار الديني السياسي السلفي كثيراً في طريقة تعاملها مع تاريخ العاطفة والمتون التي تكتبها أدبياً وموسيقياً. لقد حاولت هذه الأيديولوجيا الماركسية كما قرأها العرب والمغاربيون محاصرة المواطن والتشويش عليه في سلوكه العاطفي المحلي، بالعمل على تصنيف كل من يختلف معها على أنه ينتمي أو يدافع عن الفكر الإقطاعي أو البورجوازي، وأن كل منتمٍ للبورجوازية هو منتج لثقافة ولسلوك مناهض للعدالة والحرية وحقوق الطبقة العمالية.
بهذا المنطق، كانت الأيديولوجيا اليسارية في العالم العربي وشمال أفريقيا، أو الماركسية كما فهمتها النخب العربية والمغاربية، ترى أن الاستماع مثلاً إلى أغاني أم كلثوم أو عبد الحليم حافظ هو من باب الذوق أو التربية العاطفية البورجوازية التي يجب محاربتها، وهو موقف تكفيري لا يختلف عن الموقف التكفيري الذي تقول به نخب الإسلام السياسي السلفي، إنهما وجهان لعملة واحدة، هي عملة المنع والتكفير والاستلاب. ويتوافق منظور الماركسيين مع منظور الإسلاميين في اعتبار قراءة روايات إحسان عبد القدوس على سبيل المثال، عملية تشويه للذوق الأدبي وتجفيف للحس الثوري عند القراء، إذا كان التيار الماركسي العربي يرى في هذه القراءة إفساداً للذوق وتأثراً بالبرجوازية، فتيار الإسلام السياسي المتعصب السلفي يرى فيها تشويهاً للأخلاق وضرباً للدين وإبعاداً للشباب القارئ عن هويته.
في الهجوم الذي شنّته نخب الإسلام السياسي على تاريخ ثقافة العاطفة من خلال تحويل الأعراس إلى ما يشبه الجنائز وتحويل الحياة برمّتها إلى ما يشبه المقبرة، وبالحرب التي شنّتها النخب الماركسية على هذه الثقافة أيضاً من خلال الترويج لمجموعة من الكتابات الشعاراتية، ومجموعة من الفرق الموسيقية المحدودة الموهبة، ضاعت بوصلة المثقف في البلدان العربية وشمال أفريقيا، وانهزمت الثقافة بمفهومها المتعدد، وسادت الرداءة في الفن والأدب بحجة الدفاع عن القيم التي تدعو إليها نخب الإسلام السياسي تارة، وباسم الدفاع عن ثقافة الطبقة البروليتارية كما فهمها الماركسيون العرب الذين لا يختلفون عن الفقهاء، تارة أخرى.
هما اثنان، وشما ذاكرة جيل كامل أو أكثر، عليهما ومن خلالهما نشأ تاريخ العاطفة المعاصرة في العالم العربي وفي شمال أفريقيا، في الكتابة والقراءة وفن الاستماع، إنهما: إحسان عبد القدوس على الورق، في تلك الروايات وبتلك الطبعات الشعبية الدافئة والأغلفة المثيرة، تفتح الكتاب ومع كل صفحة تُقرأ، يمارس القارئ تمزيق الأوراق من على أطرافها الملتصقة ليفصلها عن بعضها البعض، فيكون هذا الفتق متعة أخرى، حكاية الرواية وأسرارها تتقدم مع فصفصة الأوراق، متعة الاكتشاف بالفتح والتقطيع، أما الشخصية الثانية، فهي عبد الحليم حافظ في الراديو بأغانيه العاطفية المثيرة.
رمزياً، في ظل رواية أجواء "أنا حرة" لإحسان عبد القدوس المنشورة عام 1959 وأغنية "توبة" لعبد الحليم حافظ 1955، نشأ جيل من الكتّاب ومن القراء أيضاً، القراءة العينية والقراءة السماعية، حاول هذا الجيل أن يؤسس لعلاقة صادقة مع تاريخ العاطفة المحلية التي هي إسمنتُ الحياة الاجتماعية بكل خصوصياتها وبكل زخمها وأفراحها الصغيرة وأقراحها وهزائمها الكثيرة وانتصاراتها القليلة أو النادرة.
كان بناء هذا الجيل الأدبي والثقافي يتأسس ويتطور بشكل طبيعي وفي انسجام مع الهوية عربية كانت أو أمازيغية أو كردية أو غيرها، ومع الدين إسلاماً كان أو مسيحية أو يهودية، ومع الآخر ممثلاً في الإنسان الأوروبي أو الأميركي أو غيرهما، إلى أن حلّ على العالم العربي وشمال أفريقيا عاملان أفسدا إيقاع هذا التطور الطبيعي وخلقا فتنة داخله وأصاباه بعطب مركزي، وأعني بهذين العاملين: أولاً التيار الديني السلفي الذي جعل من الإسلام السياسي رأسماله لمواجهة تاريخ العاطفة الطبيعية بالعنف والتشدد، والعودة إلى نصوص ماتت، فحاول إحياءها بنفخ روح التعصب فيها، وأغرق المجتمع في بركة من الفتاوى التي تصب جلّها، إن لم أقل كلها، في فكرة التحليل والتحريم، التكفير والتخوين. وتلتقي هذه الفتاوى كلها في وضع المرأة في موقع "الرجم" و"التهمة" و"الفساد". وتفطن هذا التيار إلى المدرسة والإعلام، فوضع يده عليهما لمحاصرة الجيل الصاعد، كل ذلك لضرب مسار تاريخ العاطفة الإنسانية المعاصرة التي تمثّل فيها المرأة النصف الكامل، وهو الأمر الذي جعلنا نعثر على "تخمة" من النصوص التي أنتجها خطاب الإسلام السياسي السلفي، يدور حول المرأة ولباسها وصوتها وخروجها ودخولها وسياقتها للسيارة وزينتها وعطرها...
وأمام هذه الثقافة، تقلصت ثقافة وأدب المتوجهة نحو تفكيك عاطفة المجتمع، بل إن كثيراً من القيم التي تنتمي إليها العاطفة أصبحت محرّمة ومنبوذة وممنوعة. وبغياب ثقافة العاطفة، ساد النفاق الثقافي والأخلاقي والديني بشكل رهيب، ودخل المجتمع في حياة تخشّب عاطفي وتوجس من كل علاقة إنسانية وربطها بالرذيلة وتصنيفها في باب المس بالدين، كما يراه هذا التيار.
وصنّف هذا التيار الموسيقى في باب الحرام، وفرض حالة من البؤس العاطفي الذي تولّدت عنه أمراض نفسية كثيرة وتفشى الهوس الجنسي وازداد التحرش في المجتمع، وأصبحت الأعراس تشبه الجنائز.
وصنّف هذا التيار السلفي قراءة الرواية، مثل روايات نجيب محفوظ أو إحسان عبد القدوس أو الطيب صالح وغيرهم، في باب ضياع الوقت وإفساد الذوق.
أما العامل الثاني، فهو الأيديولوجيا الماركسية الستالينية المتطرفة التي لا تختلف عن التيار الديني السياسي السلفي كثيراً في طريقة تعاملها مع تاريخ العاطفة والمتون التي تكتبها أدبياً وموسيقياً. لقد حاولت هذه الأيديولوجيا الماركسية كما قرأها العرب والمغاربيون محاصرة المواطن والتشويش عليه في سلوكه العاطفي المحلي، بالعمل على تصنيف كل من يختلف معها على أنه ينتمي أو يدافع عن الفكر الإقطاعي أو البورجوازي، وأن كل منتمٍ للبورجوازية هو منتج لثقافة ولسلوك مناهض للعدالة والحرية وحقوق الطبقة العمالية.
بهذا المنطق، كانت الأيديولوجيا اليسارية في العالم العربي وشمال أفريقيا، أو الماركسية كما فهمتها النخب العربية والمغاربية، ترى أن الاستماع مثلاً إلى أغاني أم كلثوم أو عبد الحليم حافظ هو من باب الذوق أو التربية العاطفية البورجوازية التي يجب محاربتها، وهو موقف تكفيري لا يختلف عن الموقف التكفيري الذي تقول به نخب الإسلام السياسي السلفي، إنهما وجهان لعملة واحدة، هي عملة المنع والتكفير والاستلاب. ويتوافق منظور الماركسيين مع منظور الإسلاميين في اعتبار قراءة روايات إحسان عبد القدوس على سبيل المثال، عملية تشويه للذوق الأدبي وتجفيف للحس الثوري عند القراء، إذا كان التيار الماركسي العربي يرى في هذه القراءة إفساداً للذوق وتأثراً بالبرجوازية، فتيار الإسلام السياسي المتعصب السلفي يرى فيها تشويهاً للأخلاق وضرباً للدين وإبعاداً للشباب القارئ عن هويته.
في الهجوم الذي شنّته نخب الإسلام السياسي على تاريخ ثقافة العاطفة من خلال تحويل الأعراس إلى ما يشبه الجنائز وتحويل الحياة برمّتها إلى ما يشبه المقبرة، وبالحرب التي شنّتها النخب الماركسية على هذه الثقافة أيضاً من خلال الترويج لمجموعة من الكتابات الشعاراتية، ومجموعة من الفرق الموسيقية المحدودة الموهبة، ضاعت بوصلة المثقف في البلدان العربية وشمال أفريقيا، وانهزمت الثقافة بمفهومها المتعدد، وسادت الرداءة في الفن والأدب بحجة الدفاع عن القيم التي تدعو إليها نخب الإسلام السياسي تارة، وباسم الدفاع عن ثقافة الطبقة البروليتارية كما فهمها الماركسيون العرب الذين لا يختلفون عن الفقهاء، تارة أخرى.