د. أحمد الحطاب - انتظارٌ طالَ أكثر من نصفِ قرنٍ!

انقضى أكثر من نصف قرنٍ منذ أن نالت البلادُ استقلالَها. عديدةٌ هي الحكومات التي تعاقبت على تدبير الشأن العام!

عديدةٌ هي الأحزاب السياسية، قديمة أو حديثة العهد، منبثقة من الشعب أو مفروضةٌ عليه، التي أثَّتث هذه الحكومات! عديدون هم الوزراء، مُحزَّبون أو تقنوقراط الذين شغلوا مختلفَ الحقائب.

عديدون هم مُمثِّلو الأحزاب السياسية الذين، بنبرات أصواتهم المختلفة، زعزعوا جُدرانَ البرلمان بغرفتيه صارخين، مُجلجلين، صاخبين، متنابزين بالألقاب أو مُتبادلين الشتائم!

عديدةٌ هي القوانين التي جادت بها غرفتا البرلمان وعديدةٌ هي الأسئلة الشفوية والكتابية وعديدةٌ هي الأجوبة التي أدلى بها سيلٌ هائلٌ من الوزراء!

عديدةٌ هي المؤسسات الدستورية، التقريرية والاستشارية، التي أصدرت التَّشخصيات وقيَّمت الأوضاعَ ونشرت التقارير والمواثيق… وعديدة هي اللجان الدائمة والمناسباتية ad hoc التي أصدرت آراءً وتوصياتٍ وخرائط طريقٍ واستراتيجيات ومخطَّطات وبرامج عملٍ قصيرة أو بعيدة المدى…

وعديدةٌ هي البنيات التَّحتية الضخمة التي أُنجِزت : ميناء المتوسط، القطار السريع، الطرق السيارة، الموانيء، المطارات، الطاقات الشمسية، الريحية، الضوئية، السدود… وعديدةٌ هي القوانين المالية التي تمَّ التصويتُ عليها وأُنجِزت كليا أو جزئياً…

سؤالٌ عامٌّ يفرض نفسَه : "في هذا العدد الهائل من"عديدة"، أين يوجد بناء المواطنِ المغربي، المُحبُّ لوطنه، المشبَّع باحترام الواجبات والمتمتِّع بالحقوق، الخالِق للقيمات المُضافة والحامل لعوامل التَّغيرات السوسيواقتصادية؟

بل هناك أسئلةٌ فرعية أخرى لا تقلُّ أهمِّيةً عن السؤال العام :

لماذا، إلى حد الآن، غابت أو غُيِّبت الكرامة الإنسانية؟

لماذا لا يزال توزيع الثروات التي تُنتِجها البلاد غير عادلٍ؟

لماذا لا تزال الأمية منتشرةً بالبلاد؟

لماذا لا يزال الفقرُ والهشاشةُ والإقصاءُ ملازمين لشريحةٍ عريضةٍ من المواطنين؟

لماذا لا يزال الاقتصاد غير المُهيكل ضاربا في أعماق البلاد؟

لماذا لا تزال منظومتُنا التربوية مستمرةً في الفشل رغم خضوعِها لإصلاحات متتالية؟

هناك "لماذات" أخرى لكن، بالنسبة لي، ا"لماذات" الستة السابقة الذكر تكتسي أهمِّيةً بالغة، مصيرية، حاسمة و أساسية.

فأين يوجد الخللُ إذن؟ الخللُ، في نظري، يكمُن في أمرين اثنين لا ثالثَ لهما :

1.غياب الإرادة السياسية القوية التي ترى في المواطن والمواطنة قيمةً مضافة وعاملا من عواملِ التغيير الاجتماعي والاقتصادي.

2.لم يكن بناء المواطن بناءً يتماشى مع الصالح العام هو مِحورُ السياسات العمومية. بل إن هذه الأخيرة كانت ولا تزال تُركِّز على النُّمو الاقتصادي في غيابٍ مقلقٍ للتنمية البشرية. والدليل على إهمال العنصر البشري في السياسات العمومية هو تصنيف بلادنا في المراتب المتأخِّرة فيما يخصُّ التنمية البشرية. ودليلٌ آخر على إهمال العنصر البشري في السياسات العمومية، هو هزالةُ وضُعف أداء المنظومة التربوية.

فهل هناك، في جميع بلدان العالم، شيءٌ أغلى وأسمى وأثمن من الرأسمال البشري؟

لا توجد بلادٌ في العالم تقدَّمت وتطوَّرت وازدهرت دون أن توليَ، في سياساتِها العمومية، أهمِّيةً وعنايةً بالغتين للعنصر البشري. وهذه البلدان المتقدِّمة، المتطوِّرة والمُزدهرة هي التي تحتل الصدارةَ في التصنيفات العالمية سواءً تعلق الأمرُ بالتنمية البشرية أو الاقتصاد أو الإنتاج العلمي والتكنولوجي والصناعي...

وباختصارٍ شديدٍ، غيابُ الإرادة السياسية من أجل النهوض بالعنصر البشري يُفرغ السياسات العمومية من جدواها إذا كانت تكتسي طابعا اقتصاديا محضاً وكيفما كانت جودتُها. والإرادة السياسية تنبع أولا وقبل كل شيءٍ من الأحزاب السياسية التي تُدير الشأنَ العام برلماناً وحكومةً. لكن أحزاب سياسية لها سيادة اتخاذ القرار طبقا لمقتضيات الدستور.

وفي نظري أنا شخصيا، لا يتوفَّر مشهدُنا السياسي على هذا النوع من الأحزاب. كل الأحزاب السياسية، بدون استثناء وبما فيها الأحزاب المنعوتة بالوطنية، تخلَّت عن استقلالية اتخاذ القرار وأصبح لها مبدأٌ واحدٌ تدافع عنه بشراسةٍ فائقة : الوصول إلى السلطة.

فهل سننتظر نصفَ قرنٍ آخر لتتوفَّرَ الإرادةُ السياسية لتحقيق ما يتطلَّع له الشعبُ من طموحاتٍ أشارت إليها الأسئلة الستة السالفة الذكر؟

إذا كان الأمرُ هكذا، فإن المغاربةَ كانوا وسيبقون في قاعة الانتظار التي تعوَّدوا على المكوث فيها طيلةَ نصف القرن الماضي! واليوم وقد مرَّت ثلاثة و عِشرون سنةً من النصف الأول من القرن الحالي، فمتى سيأتي الخلاص؟
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

إجابة موضوعية ووجيهة عن مجموعة من الأسئلة الإشكالية الراهنة التي تساهم في تعميق الغمة المغربية المزمنة، وتتقصى عن المآل المبهم الذي يتجه اليه البلد وسط هذا الخراب والضياع العظيم، ورهن مصيره لكمشة من المرتزقة الذين لا علاقة لهم بالعمل السياسي، ولدكاكين الاحزاب الفاسدة، وتحول الحكومة لجاب مهمته استحلاب الضرائب من جيوب المواطنين
كل التقدير لقلمك اخي الرائع
 
أعلى