إبراهيم محمود - مجازاتنا

ليس هناك من واقعة حقيقية، ليس هناك من حقيقة واقعية، ليس هناك تاريخ، ليس هناك جغرافيا، ليس هناك سماء، ليس هناك قوى خفية، ليس هناك عواطف.. كلها مجازات !
سنكون خادعين لأنفسنا، ومخدوعين مضاعفاً، إن تابعنا تأكيداً على وجود ما هو حقيقي وما هو مجازي، كما هو معهود كثيرأ، إذ إن الأسماء ذاتها مجازات، وما هو مصطلح لا يعدو أن يكون حيلة على المجاز نفسه، جرّاء الاختلاف عليه، إلى درجة التطاحن أحياناً.
إذ بدءاً من مقولة " الحقيقة الواقعية " نرتكب خطأ التسمية والتسوية، وهو أننا نضفي طابعاً إيمانياً على الحقيقة، ومن ثم نجعل للحقيقة اعتباراً حسياً، بمقدار ما نحدّد في مفهوم " البدء " ما لا يتحدد، إلا بوصفه هو الآخر افتراض مؤمَّن عليه، أي إيماني هو الآخر... وهكذا!
وليست كلماتنا، مهما كان جنسها أو نوعها إلا مجازات، أي ما أجيزَ لاسم ما أن يرتبط بشيء، كما هو الربط بين الدال والمدلول، وهي علاقة غير مستقرة، ولكم تكون متعبة للدليل.
أي حين يلتقي الدال بالمدلول وبينهما الوسيط غير المحسود عليه في مفهوم المجاز، وليس من تفاوت بين الثلاثة إلا ما هو معتقَد به، أي بغية وقعنة الطمأنة وإمكان البقاء في الوجود .
وربما أمكن القول أن النظر في مفردة " المجاز " كان سعياً إلى الدخول في عقد لغوي بين معنيين بشأن اللغة، لتسهيل العلاقات وتمرير مؤثراتها بين الداخلين في مضمارها، سوى أنه لا اللغويون، ولا النحاة، استقروا نفسياً، واعتصموا " بحبل " اتفاق فعلي فيما بينهم، شعوراً باطنياً منهم، أن ثمة غفلة في الموضوع، أن وهماً تم تحبيذه حسّن معتمده، ليتعمق الإشكال أكثر.
في معترك القول، تغدو كل الحقيقة مجازاً، وليس من حقيقة إلا وتكون كذلك، فما سقناه أو نسوقه من حقائق إنما هي أسماؤنا التي منحناها رصيداً إيمانياً، فلا يعود من فرق بين ما يعتبره أحدهم " كبرى اليقينيات الكونية "، وما يؤكده أحدهم في " الحقائق المشخصة "، لأن الاسم بطابعه الاصطلاحي لم يسلَم من الطعن وإعادة الطعن فيه، وأن نفكر فيما عشناه مذ كنا وكنّاه إلى الآن نجد مثل هذه المغالطات دونما استثناء، فلا المنطق التقليدي كان مسلّماً أهله من وهم المقايسات، ولا المنطق اللاتقليدي، من النوع الآينشتايني سلَّم أهله من شكوك مستبطنَة.
وكل ما هو قائم في التاريخ يحتفظ بسلسلة من الأوهام تصل بين الداخل والخارج، وعلى سبيل المثال يلتقي مفهوم " التفاحة " وهي في اليد، بمفهوم " الحرية " وهي مفكَّر فيها، فالاسم في الحالة الأولى يدفع بي إلى معاينة جوهر التفاحة، وهكذا شجرتها، ومن الشجرة المعتبَرة " فعلية " إلى " شجرة الخطيئة – لاحظوا المفارقة " إلى " شجرة الكون " فـ" شجرة الحرية ".
وإن كان ديكارت أطلق كوجيتوه في ساحة التاريخ الفلسفي لتأكيد أناه، فهو أودعه الشك، وليكون الشك نفسه مشكوكاً في أمره عبر " أفكر، إذن أنا موجود " فمات حتف شكه، فإن لاكان نفسه وبعد قرابة أربعة عقود جعل القول متاهة على أنها حقيقة أخرى " أفكّر حيثما لا أوجد، إذن أوجد حيثما لا أفكر:
Ji pense où je ne suis pas, donc ji suis où je ne pense pas
وما أثاره جان بودريار عبر مقولته الفلتة " حرب الخليج لم تقع " إنما كانت حرب التسميات، حرب البردايغمات، جرّاء الضخ الهائل من " الحقائق " المتطاحنة "، لنمثّل الآن ربما ما لم يكن في الحسبان وهو أننا حيوانات إعلامية، أي نمارس تجييراً مستمراً لكل ما نعتبره مقلقاً لنا .
لاحظ مثلاً في مقولة " الحقيقة ما قبل جبال البيرنيه خطأ ما بعدها " فثمة خلل فظيع في أصل المتشكَّل، إذ يقول من يأتي في " بعد ": الحقيقة ما بعد جبال البيرنيه خطأ ما قبلها "
في المنحى ذاته وعبره لا يختلف الملحد عن المؤمن، فكلاهما مجازيان فيما يقولانه، كلاهما في البنية مجازيان فيما هما عليه، وهذا هو الوجه الأعمق والرهيب في التخبط النسَبي: الجينالوجي!
وربما من باب التوضيح، فإن المؤمن لم يدَّخر جهداً لإعمال سيفه أو عنفه الدموي في من اعتبرهم ويعتبرهم خصومه، بزعم أن ما ينطلق منه حقيقة، ولا المدرج في خانة الإلحاد، أو ما يكون علمانياً لم يدخر جهداً في افتعال الحروب الكونية ضد بني البشر من المنطلق ذاته .
ضمناً، هل يمكن أن نسمّي أهم عضوين عاملين رئيسين في عملية مقاربة النصوص، ومن ثم إنارتها، شغلا التاريخ الديني فالأدبي والفلسفي إلى يومنا هذا، وهما: التفسير والتأويل؟
أليس هذا التفريق الحدّي بينهما ينطوي على مفارقة مريعة، حين شُدَّ في أزر التفسير، ونحّي التأويل جانباً وهو في عداد " المغضوب " عليه ؟ أي استبداد باسم التفسير وأي تجريم لبّس به التأويل، في محاولة رسم الحدود بين الجاري التحقق منه وما هو خارج متناول اليد؟
تم ذلك بإقرار سلطوي، لضمان حقوق ملكية القيّمين على المعتبَر بضبط النصوص والتمييز فيما بينها، بإيجاد من سيقوا بأسمائهم استثنائيين في نسق " الرواة الثقاة "، وما في ذلك من تصدعات في الموقع المسند إلى كل منهم، حيث يحيل التفسير على ماض يؤمّن الزمن ويؤبّده فلا يعود ماضياً إلا تجاوزاً، طالما أن الحدث الديني يؤرَّخ بما كان، لكنه يحوز ما يتقدمه دفعة واحدة كما هو مبدأ كرونوس في ابتلاع أبنائه، في إعادة إنتاج القيم التي تبقي رموزه أحياء.
بينما التأويل فهو مطالبة بملكية تخضع لسلطة الزمن، وتخرج التفسير من قمقمه، وبالتالي، فإن اللغة وكل ما ينتمي إليها عبارة عن سلسلة لامتناهية من التأويل، وهو أقصى المجاز .
سيردّد أحدهم ما يذكّرنا بالحكمة الإلهية، سيشير أحدهم " برج بابل "، سيثير أحدهم موضوعة العنف البشري وما في كل ذلك من انقسام واحتدام واصطدام، حيث يتم إشعار حريق يصل الأرض بالسماء أو بالأرض، ليكون هناك من يرون ولا يُرون، من لديهم خزّان الحقائق، ومن يبحثون عنها، والعملية كلها مأخوذة بالتاريخ الذي لم يكن واحداً، أي ما يجعل مجازاتنا في كل ما نقوله ونتفكره ونقوم به هي المبتدأ والخبر، هي الأول والآخر الافتراضيان.
وأن يلتزم أحدنا الحد الأدنى من المرونة العقلية وهو يتوقف عند أي كلمة، وكيف يُختلَف عليها في التصريف والتقييم والتقدير زماناً ومكاناً، لا بد أنه سيعترف بالقوة المطلقة لهذه المجازات.
في المنحى ذاته لم تكن القواعد الموضوعة وكذلك القوانين والنظريات مواليد ما يشغلنا لا بل ويؤرقنا ليل ونهار، ونحن غير عابئين به، أو لا نريد أن نوليه أهمية، أو ننهم به لبعض الوقت اعترافاً لا شعورياً منا أن ثمة ما لا يسر في انتظارنا، فنخاتل أو نسوّف أو نزخرف القول ضمان أمن لنا، حتى نتجنب الاقتراب من هذا المشغول المهيب بـ " التوتر العالي " وهو في بنيته وما يُستدرَج إليه مجازات تتوالد أو يكون المجاز الواحد ذاته تعميقاً وتنويعاً لصوره وأطيافه.
وقد أكون على يقين وهو أنه لو تحرَّر مختص فعلي بأمر اللغة قليلاً ونوعية القرابة بينها والعالم الذي يضمنا إليه، لأمكنه أن يفيدنا كثيراً بهذه المأثرة غير المقبوض عليها: المجازات.
إن ما يحز في النفس، أن الغالبية العظمى من ذوي الاتجاه الثقافي: الفكري- الفلسفي، والنقد الأدبي يستشعرون متعة غير واعية في ظل استبداد التنوع الكبير لا بل والهائل للمجازات، وهم يمنحون مكانة للمعتبَر: الحقيقة/ الحقائق، ليكون أكثر تهدئة نفس ومقام تفكير، وقد يكون في هذا الانصياع الباهظ الثمن تأكيد على محدودية قوى النفس، والمغامرات المميتة فيما لو رفِع السقف اللغوي مجازاتياً، أو جرى ضم الحقيقي إلى المجازي ووضِع المجاز عموماً في موقعه الفعلي، إذ إن ذلك سيكون انعطافة تاريخية غير مسبوقة، تستدعي تسخير طاقات مختلفة وجبّارة بغية استدراك ما فات وما أطوله وأعرضه وأعمقه، وممارسة الترميم في تلك المجالات الغفل من الاسم والتي تخص موضوعنا هذا، الأمر الذي قد يعِدُنا نحن المنتمين إلى الألفية الثالثة بما لم يكن في الحسبان: أكثر قرباً من أنفسنا ومعرفة لما نحن علينا واعترافاً متبادلاً بنا كذوات لا يمكن التوحيد فيما بينها أو صهرها في بوتقة قطيعية، كما هو الجاري هنا وهناك بمعان ٍ شتى !


إبراهيم محمود

تعليقات

أعلى