إبراهيم عطية - القص الشعبي ومتعة التجديد عند القاص " يوسف القط "

كأني أعرف صاحب هذا الصوت الهامس منذ زمن بعيد ، هكذا انتابتني حالة من الحزن ، ومرارة الأسى من قسوة الزمن ، الذي دائما ما ينسينا أناس عشنا معهم أو قابلناهم في الحياة ، ومررنا عليهم مرور العابرين في عالم الأدب والإبداع والقراءة ، والإطلاع المستمر على إنتاج المبدعين ، خاصة الذين طواهم النسيان لظروف ما ، خارجة عن إرادتهم أحيانا ،أو لتجاهل مقصود من وسائل النشر والإعلام .!

وعندما حاولت الدخول إلي عالم القاص الراحل " يوسف القط " من خلال الكتاب الذي يحمل عنوان " تحت السقف عالم يوسف القط القصصي " تذكرت الاسم الذي مررت عليه منذ زمن بعيد في مجلة " أدب ونقد " العدد 22-يونيو 1986ضمن ملف الحركة الأدبية في دمياط - قرأت له قصة " الحجرة " ولم أتوقف عندها أيضا ، بل ومر على الاسم كغيره من الكتاب المغمورين ، الذين لا نلتفت إليهم إلا بعد أن يرحلوا عن عالمنا ، ونعدد مآثرهم ، وبصماتهم الإبداعية المتجددة في عالم الإبداع ، نتجاهلهم في حياتهم ونكرمهم في مماتهم – يا لها من مأساة حقا - وأخذتني الحياة في مشاغلها الكثيرة إلي أن قرأت قصة " الصيد " في كتاب القصة القصيرة قي دمياط – إصدارات الرواد العدد25-يناير 1990. ومع الولوج إلى عالمه القصصي ، من خلال كتاب " تحت السقف عالم يوسف القط القصصي " استوقفتني مقدمة الناقد " محمد علوش " الذي يعرفنا بهذا المبدع الإنسان ( ويوسف القط نفسه شخصية تراجيدية ، عاشت المأساة مضاعفة ، والمتأمل لنصوصه يلمح ذلك الحس المرهق المشحون بالفجيعة .

كان يوسف القط صامتا على الدوام ، لكنه ذلك الصمت الذي أفضي إلي فصاحة في الكتابة قلما نجد لها نظيرا ) (1) ، ويكشف "محمد علوش" عن بواطن شخصية " يوسف القط " وتجربته الإبداعية التي جاءت ، نتيجة انعزاله وانقطاعه عن العالم المحيط به ، وتردي حالته النفسية ، وعدم تواصله مع الآخرين مما أدي إلي ضياع أصول قصصه القصيرة ، بالإضافة إلي الشهادات التي أضاءت بعض الجوانب الحياتية من خلال رفقاء رحلة الإبداع في مدينة دمياط ، ولا أعرف لماذا تذكرت الأديب الشرقاوي الراحل " نبيه الصعيدي " (2) ولاحظت مدي التماس مع ظروفه الحياتية والنفسية ، وعزلته التي فرضها على نفسه ، وكذلك الحال بالنسبة لعالمه الإبداعي في القصة القصيرة خاصة .


السرد الو صفى :

اقتربت من عالم " يوسف القط " القصصي ، محاولا كشف بواطن النصوص ، ودلالاتها الفنية ، وكشفت لغته البسيطة المكثفة عن منابع التجربة الإبداعية ، والرؤى الجمالية ، وشممت رائحة القص الشعبي الممزوج بمتعة التجديد ، مما يؤكد على أن الذاكرة الإبداعية تشكلت من محصلات إدراكه ووعيه عن طريق الحواس المدربة ، واهتمامه بالوصف التفصيلي للمشهد القصصي ، فعندما يتحدث عن الإسكندرية في قصة " مايو قبل يوليو " يصف الترام الأزرق المتجه إلى محطة مصر ، يئن من حمله البشر ، كما لو كان كائن حي يستغيث بحمله الثقيل ، وكانت الساعة تقترب من الثالثة – وقت الذروة والزحام الشديد – والرجل الملتحي الذي قفز إلي الترام وحشر نفسه بين جموع البشر ، وحرارة الجوى الشديدة في شهر مايو ، في الوقت الذي يقف شاب ذو الشعر المدهون وحذائه اللامع وراء امرأة ، ومع سحبة الترام المفاجئة تطوح كل الواقفين ، ودخل الشاب في المرأة وكأنهما التحما ، ليزعق الرجل الملتحي :

جهنم وبئس المصير ..!

جملة حوارية مكثفة ، محملة بالدلالات الموحية ، والمفسرة للموقف .

لقد اعتمد " يوسف القط " في القصة القصيرة على أسلوب السرد الوصفي للتعبير عن الموقف ، حيث استخدم الحوار القصير ، الموجز الذي يلعب دورا رئيسيا في عملية الخلق النفسي والانسجام ، ( انتفضت المرأة .. وتقلص وجه الشاب غيظا .. التفت المرأة برأسها ومصمصت بشفتيها .. عندما التفت الشاب ذو الشعر المدهون إلي الواقف وراءه وقال في حدة :

ما تحسب يابني آدم .. أنت أعمي !

فقال الأخر في هدوء :

الله يسامحك ..

الله يخدك .. ثور صحيح ..

رفع الأخر صندوق بضاعته من سجائر وحلويات وأمشاط .. بينما اهتزت عضلة وجهه الهضيم :

أما أفندي ما يختشيش ..

ورفع يده ولكمه في صدره .. ) (3)

وقد لجأت القصة القصيرة في تطورها إلى الاستفادة من جميع الفنون الإبداعية ، بما يتناسب مع طبيعتها الحيوية ، ونزوعها نحو التجدد والتجريب ، ولكن يظل الوصف السردي ، يغلب على بنائها حتى يتاح للقاص إمكانية التخيل ، وارتياد عوالم أخري ، والكشف عما في داخل الإنسان وما وراء الطبيعة ، وتجسيد المشاعر ( وحينما تستفيد من الفن التشكيلي ، تظل هي القصة القصيرة بمسمي القصة التشكيلية بما تمنحه من تشكيلات بصرية ثابتة أو متحركة وكذا النص القصصي بما عرف من انفتاح أبعاده بحيث تتجاوز القصة التقليدية المعروف عنها البعد الواحد أو الدلالة الواحدة الواضحة ...) (4)

وفي قصة " تحت السقف " يعتمد على لغة السرد الوصفي من خلال لوحات تشكيلية متداخلة للتعبير عن الفكرة ، حيث يعيد صياغة المشهد ، وإبراز التفاصيل الدقيقة ( اقتربت منه وهو ينظف ثنية بنطلونه ، وسألته في صوت كتكوتي عما إذا كان يعرف الطريق إلي قرية " الشعرا " كررت السؤال . نظر .. كانت في طول عقب السيجارة أو يزيد .. تعصب رأسها – القصير الشعر – في منديل كالح ) قالت وهي تشير بذراعها : أمشي في الشارع ده .. وبعدين .. أخيرا قال مقاطعا : تعالي معي ..) (5)

ونراه يعتمد على التكرار كظاهرة فنية للتأكيد على الرؤية الكلية من وراء كتابته للقصة في مقاطع متتالية ، لوصف ما يجري تحت السقف من متناقضات في عبارات موجزة ، ذات دلالات بلاغية مثل ( إلا أن محراث الزمن قد دار عليه دورات كثيرة .. وانبت شيئا كالقطن الأبيض على فوديه – نظر حواليه في حيرة ، فم فتح جريدة صباحية ودفن وجهه فيها – كسر في جدار الهدوء الساكن - ولما لمس أعصابه النغم المنغم- ضاعت ألفاظ الأغنية بين الصياح والضجيج وتشلفط اللحن المموج ) ونلاحظ هنا ما أحدثته لفظة " تشلفط " في بناء الجملة ، للتعبير عن اثر الضوضاء والضجيج على النفس المنسجمة مع موسيقي اللحن وضياع مفردات الأغنية .

وكذلك الحال في قصة " عابد الثلاثة " التي بدأت بعبارة ( كان هناك صوت ...) (6) للدلالة على أن هناك حدث سابق ، إشارة إلي لحظة الميلاد ، حيث يصور رحلة إنسان ولد عام1948، يعيش حياته اليومية على نمط واحد ، يتأثر بما يدور حوله من متغيرات اجتماعية ، يلجأ إلي الغناء كوسيلة إلى التغلب على رتابة الحياة اليومية المتكررة " وأنا نازل أقفز .. وأصفر .. وأغني لحنا شائعا هذه الأيام .. نسمعه علي جميع الموجات . وعلي جميع الأسطوانات ...الخ " ويؤكد على مدي تغلغل هذا اللحن وسطوته على كل شيء ، وكأن " يوسف القط " كان يتنبأ إلى ما نحن فيه الآن من حالة التردي والانحدار التي وصلت إليها الأغنية المصرية – ليظهر حالة الفراغ والملل ورتابة الحياة التي نعيشها..!

ونلاحظ رؤيته لإعادة اكتشاف متناقضات الحياة التي يحبها ، حيث كانت الظلمة هامسة " أنا أحب الظلام والنور .. الأسود والأبيض . الأحمر والأزرق ..الصرصار والعقرب ، القنفذ والثعبان . أحب القط والفأر ، الكلب والثعلب ، الجمل وكل شيء حي .. الشرق والغرب ، الشمال والجنوب ، قمة السلم وأسفله .. الصيف والشتاء ..الدفء والبرودة ، الربيع والخريف.. الخ " صـ55 -56

واعتماده على وصف المشهد الذي يتخذه متكئ أو تمهيد للحدث القصصي ، والتعبير عن الوحدة والوحشة التي يعانيها البطل أثناء سقوط المطر وصفير الرياح ، وشدتها لتدفعه إلى الخلف ، وتزداد قطرات المطر ، بينما يجري وحيدا ، محتميا بشرفات المنازل ، ليبدأ رحلة جديدة عبر التاريخ الفرعوني عند دخوله من شارع إلي شارع ، وتتداخل المشاهد أمامه لحظة تهليل الناس " يحيا الملك " .

وفي قصة " عين الكاميرا " يلجأ إلى نفس الأسلوب في السرد " الشمس مازالت تتمطي وعندما تثاءبت سال من فمها شيء أصفر لزج .. افترش أسطح المنازل ....الخ "(7)

ونراه يعيد تكرار تلك الجمل في عدة مناطق على مدار القصة ، وفقا لتنوع المواقف ، وكأنه يعزف سيمفونية للحياة ، نراها عبر عين الكاميرا الراصدة يعبر عن مدي ما تمثله الشمس من بعث للكائنات ، والخلق المتجدد وحالة الناس في الشوارع والميادين والبنايات العالية ، وكبير العائلة الذي نزل الأسواق يتجول ، وعين الكاميرا ترصد أدق الأشياء ، ولا شيء يلفت النظر ، غير الشمس الواقفة تضحك في السماء .

لقد اتسعت الرؤى بتغير المفاهيم السائدة في المجتمع ، ( فالبطل المدافع أو المسحوق أصبح يقدم كما هو بحياد تام ، وهذا الحياد بدوره منح الفن حضورا أعمق وجنب الكاتب والمتلقي عنت الانحياز المسبق دون فهم الدوافع والضغوط ، أي مفاجأة ومواجهة الفن للمتلقي ، مباغتة له ، أو بمعني آخر محاصرة الفن جماليا للواقع ..) (8)

وكذلك الحال في قصة " الثعبان والصرصار " التي نري البطل يقص علي المتلقي ليشاركه إحساسه بالوحدة والحزن ، واللجؤ إلى حالة اللاوعي والتغييب المتعمد عن الحياة ، وكأن ما يشعر به من وحده ، يعتبره متعة ، لكونه يتكلم بحرية ، لا يتناقش في السياسة ، مؤدب ، مشهود له بذلك ، في حالة سكر ، يبوح لنفسه وللمتلقي ، يقص علينا مشكلاته الحياتية ، على نهج قصة تشيكوف " لمن أشكو أحزاني " أو قصة يوسف إدريس " أليس كذلك "

جدلية السرد بين الأنا والآخر :

لقد نهج "يوسف القط " في القصة القصيرة إلي التنوع في الأساليب ، نتيجة لما لحق بالمجتمع من متغيرات اجتماعية وسياسية ، غيرت من بعض المفاهيم القديمة ، كمحاولة منه إلى إعادة صياغة العالم في قالب فني معبرا عن أبناء الطبقة الوسطي ، وإجراء ثنائية جدلية بين الآنا والآخر ، لخلق تجانس بين أبطاله وعناصر المكان والزمان في صور تشكيلية متآلفة مع بعضها ، لتعطي وهجا فنيا ، يتواءم مع الحبكة الدرامية للحدث ، والرصد المحايد ، ومن الحقائق الثابتة ( إن لكل أمة ولكل شعب رؤية خاصة للعالم وللذات تترك أثارها على معجمها ، ورموزها اللغوية ، الأمر الذي يجعل فهم السياقات الاجتماعية والتاريخية والجمالية للغة بشكل عام وللكلمة بوجه خاص ضرورة من ضرورات هذه الدقة الفنية ) (9)

في قصة " الولد والشيخ " نري حضور الوصف للحديث عن الآخر ، يتراوح السرد بين اللغة الشعرية والحكائية ، موظفا أدواته الفنية للحديث عن الولد وعلاقته بالشيخ أو الآخر الذي يراه وحده دون الآخرين في المنزل ، للتعبير عن الحيرة والقلق الدائم " الولد يري الحيرة في عيني أمه .. الولد يري أمه تحني جذعها تبحث تحت المنضدة .. الولد يري الشيخ يتحرك .. واقف أمام باب الحجرة ..الولد يري أمه تنظر إلى أبيه الجالس على الكرسي ...الخ "ص68

وأحيانا يقيم جدلية بين المكان والزمان ، ويتوحدا معا حول الرؤية الكلية للحدث الدرامي ، الذي يقوم عليه النص القصصي ، يلتقط المشهد ويصيغه بلاغيا ، ثم يعيد تفكيكه وبناءه من جديد ، ليؤكد على معني ما يريد توصيله للقارئ .

وفي قصة " أديب " تظهر مقدرته اللغوية في الصياغة والتصوير لرصد الواقع الاجتماعي والمتغيرات السياسية بتناول فني مغاير للسائد والمألوف ، معتمدا على بساطة السرد " رجل مات وشبع موتا " ، نجده يمهد للحدث المتخيل / الحلم .. لإبراز الصراع بين الآنا / الآخر ، يصف علاقة أديب شاب يكتب القصة القصيرة مع ذاته التي انفصلت عنه على هيئة رجل عجوز ، ولجأ إلى الحوار كأداة فنية للكشف عما في داخل البطل من رفض للعالم المحيط به ، وحالة الحيرة المستمرة " لكن من أنت ؟ أنا سؤال عويص أبحث له عن إجابة ترضيني من زمن بعيد - أعرف أنك أديب ناشئ ولك محاولات في القصة القصيرة – اسمع أنا لا أحب كلمة ناشئ هذه . كيف أكون ناشئا وعمر القصة في مجتمعنا أصغر من عمري ..؟!"ويستمر الحوار في مشهد متوالي بين الأديب والشيخ للإجابة عن بعض التساؤلات الجدلية عن حقيقة الكون ، وحيرته الدائمة حول الأشياء " سألني فجأة وفي عينيه تعبير غريب :

قل لي .. ما هو الأدب ؟

الأدب .. الأدب .. انتظر سأقول لك .

أعرف أنه من الصعب أن تعطيني إجابة شافية في الوقت الحاضر .

وسكت برهة ثم قال في تساؤل ، وكأنه وطن نفسه على تعريتي :

طيب ما هي غاية الأدب .. أيها الخادم ؟

انتفضت انتفاضة قوية هزتني من الرأس إلي القدم قبل أن أصيح منذرا :

أنا لست خادما .. قلت لك اضبط لسانك في حلقك ! ثم أليس كل منا خادما لرسالة معينة في الحياة .. لكن الفرق بينك وبين الشخص العادي أنك لابد أن تفهم الرسالة التي تخدمها حق الفهم .. هه .. أيها الأديب .. ثم من هو الأديب .. أيها الأدباتي ؟

وسكت ينتظر مني إجابة .. وأسعفتني الذاكرة هذه المرة فبلعت سخريته :

إنسان .. لكنه خالق . "(10)

توالي الحوار ، يكشف عما يدور في أعماق الشخصية / البطل من حيرة ، ونجده يوظف مفردات لغوية محددة ودالة ، وجمل سريعة الإيقاع ، تنتقل للداخل والخارج ، لتعكس ما يدور داخله ، ويسترسل السرد للكشف عن أغوار النفس في حالاتها المختلفة بين اليأس والإحباط ومحاولة التفلسف عن طريق تداعي الجمل من منطقة اللاشعور ، أملاً في التغير ، فتتدفق اللغة في كل مشهد وفق طبيعة كل لحظة لخلق اتزان وتناغم بين الحوار والإيقاع العام للسرد القصصي ، لتتسق مع الرؤية الرافضة للآخر " واعتمدت راسي بين راحتي .. ورحت أفكر .. ووقعت المرآة من أمامي ، فاختفي وجهه الأسمر .. العجوز .. وطويت الكتاب ..

- لكنه سيعود .. حتما سيعود ."(11)


الملامح الشعبية والرؤى الجمالية :

استطاع الإنسان أن ينظم علاقاته الاجتماعية بالآخرين الذين يشاركونه الحياة ، وبلورة مكوناته الثقافية بخبراته ومعرفته التي أكتسبها عن طريق ممارساته اليومية ، وصاغت تجاربه وتصوراته وتخيلاته النابعة من قدراته الإبداعية ، التي انعكست أثارها على سلوكياته وعاداته ، وتذوقه الجمالي لطبيعة الفنون ، واللغة التي يستخدمها كوسيلة للاتصال مع الآخرين ، ونقل تراثه الشعبي عن طريق الرواة الذين قصوا السير والملاحم على الناس ، فشكلت وجدانهم .

وتتجلي الملامح الشعبية في قصص " يوسف القط " واضحة وجلية في لغة السرد البسيطة ، الخالية من التعقيدات ، ذات الخلفية الشعبية التراثية ، التي شكل منها عالمه القصصي ، ونلاحظ في قصة " شفته " يستهلها بجملة افتتاحية " مولد سيدي عبد الرحيم القنائي لا يختلف عن أي مولد آخر .." هذه الجملة التي تعد بمثابة تأهيل نفسي للقارئ عن الموالد الأخرى في مصر ، وما يجري فيها من طقوس ، لكي يعيش معه هذه الأجواء ، المتعلقة بالخلفية الثقافية عن الموالد وما يدور فيها من " حلقات للذكر ، وموكب الخليفة ، والدراويش أتباع صاحب المقام ، وغرز الشاي وغيرها من المشاهد التي ألفناها في الموالد " ويصف مشاهداته للموكب " موكب النقيب ممتطيا صهوة جواده بفوانيسه ومشاعله .. وزمره وطبله ومجاذيبه .. يخرج كل ليله من منزله في أقصي البلد في زفة من الزغاريد .. يخترق شوارع البلده وهو يحيي الفلاحين المقفطنين يالجديد والأهالي علي الجانبين .. ولا تنزل يده من جانب عمامته الخضراء إلي أن يختفي في الضريح ."(12)

أن الحديث عن ظاهرة المولد باعتبارها طقوس شعبية ظهرت في مصر منذ عصر الإخشيد ، باعتبارها من الأعياد الدينية ، ولكن ظهرت الاحتفالات بموالد الأولياء المسلمين والقديسين المسيحيين بدخول الفاطميين مصر ، و( المواكب في حقيقتها تجمعات دينية شائعة بين أهل الطرق الصوفية ، والمقصود منها لفت الأنظار إلى بعض الشعائر الخاصة التي تؤديها الجماعات الدينية الصوفية )(13)

نجد العبارات المتداولة الشائعة بين جميع طوائف الشعب ، تطغي على السرد مثل " لولا سلامه غلب كلامه ، لظننته خفير الدرك – بندقيته الخشب كتفا سلاح –وتربع بجواري في تؤدة الشيوخ – عربي .. النبي عربي يا سيدي – بركة سيدي عبد الرحيم – أنا شفته .. يا جماله .. يا حلاوته .. يا ولد ولكزني في جنبي – تقول وتعيد لغاية ما يغلبك النوم – هيجيلك خادم .. قصير وقوي .. وشه بيشع نور يملي الكون كله – ويوم ما يخطف الركعة ، أعرف أن كل حاجة مقضية بأذن الله .. ويوم ما يزورني ويغيب في الركعة .. أعرف أنني من المحظوظين والسعادة تغمر الفؤاد .. يا سلام يا وله ..الخ " صـ82 -83

لقد استطاعت اللغة الشعبية إضفاء جو التصوف حالة من الروحانية ، والإجلال والتطهر لحظة مقابلته للدرويش الشيخ " حامد " الذي يحدثه عن رؤيته النورانية .

كما تظهر الملامح الشعبية خلال لغة السرد في الكثيرة من قصص المجموعة مثل قصة " ثلاث مراكب " والركاب من كل صنف ولون – تبع بضاعتها بأرخص الأثمان "صـ87

ثم يلجأ الكاتب إلي الأسطورة بوصفها قادرة إثارة انتباه المتلقي لتتبع الحدث " فالأسطورة قصة مخترعة يكون اختراعها وتأليفها بغرض تفسير بعض الظواهر والأحداث الطبيعية غير العادية كالزلازل مثلا أو غيرها .."(14) ، تتجسد الملامح الأسطورية في قصة " الصيد " علاقة الطائر الخرافي / الموت ، والطفل الصغير النائم في الحجرة بمفرده

( عندما هبط الليل ، حط على حافة الشباك ، طائر بشع . كان في حجم الطفل بل أكبر .. وكان أزرق الجسد ضارب إلي السواد . نظر إلي الطفل طويلا ثم استدار ، وفرد أجنحته . ثم رفرف . طائرا في الفضاء . كان الليل قد لف الكون في غلالة سوداء داكنة وكانت البلدة نائمة في ثبات عميق . لا صدي إلا صوت نباح الكلب ... حاصر الطائر الطفل بين شعاعي عينيه فازداد الطفل بكاء ..الخ ) صـ90

الجو الأسطوري الذي اختاره يوسف القط في هذه القصة شديدة العذوبة ، تجعلنا نقف متأملين أمام هذا القاص المتميز ، الذي يرصد بكل دقة الحياة بتفاصيلها الدقيقة ، التي يقوم بهدمها ثم يعيد بنائها وتشكيلها من جديد بأسلوب فني ، ولغة قادرة علي التعبير عن الفكرة العامة ، ورصد المعتقدات السائدة ، وقد أختار رمز الطائر الأسود لما له من دلالات تراثية قي تراثنا العربي ، الذي يمثل نذير السوء .

والمفردات الشعبية التي تظهر في نسيج قصصه القصيرة ، تؤكد على علاقته الحميمة مع تراثنا الشعبي ، في قصة " وراء نافذة " ( طشطش الزيت بما تبقي من السمك – ظهر الديك الصياح – أشغل نفسي - كانت تقف ساكنة ، صامته ، كأنها خلو من الحمام ، مربعة الشكل ، مبنية من الطوب الأحمر . طوبة فوق طوبة )ص94

ويلجأ إلى الحكي الشعبي في كثير من قصصه كما في قصة " الألف والهمزة " التي يشير فيها ضمنيا إلي قصة أصحاب الكهف من خلال رجل مازال يعيش في الزمن القديم ، معه خمسة قروش ذهب ليشتري لحم ، ناولها لبائع اللحم وفي صوت واهن قال له " أقة لحم يا بني .. واعطني الباقي ، إلا أن البائع أعطاه إياها ساخرا منه ، وذهب إلى بائع الخضروات وطلب أقة بطاطس إيطالي بنصف قرش ، مصمص البائع ورفع صوته قائلا " فوق " وهو يضع قطعة النقود الفضية في يده ، وذهب إلي بائع الحلوي وقال له اعطني بثلاث مليمات هريسة ، ارتفع صوت البائع غاضبا والقي بقطعة النقود في الأرض ، وتناولها وهو يزمجر " أنا مجنون .. أنتم المجانين "

وفي قصص " صوت قي المقدمة ، سلمي ، الحجرة ، حزمة النور ، إطار الليل ، والدودة " نراه يكثف مفرداته وجمله للكشف عن مساحات جديدة داخل النصوص ، وتظهر ملامح الكتابة عبر النوعية أو القصة القصيدة ، التي يحشد فيها المشاهد المعبرة ، ويهتم باللغة المكثفة ، القادرة على التجدد والرقي بوجدان المتلقي / القارئ للكشف عن الرؤية الجمالية للفن ، وإثارة مشاعره ، وخلق تحاور فني ، وتفاعل خلاق يتزامن مع القضايا المطروحة بمفرداتها ، ولغة محتفظة بسخونتها وتدفقها ، مشحونة بحرارة الحدث ، تتناسب مع الحالة الشعورية للموقف القصصي ، تقوم برسم وتشكيل لوحات جمالية ، استلهمها من ثقافته وقراءاته ، وموروثة الشعبي ، كونت تجربته الإبداعية الخلاقة ، لتشكل مفرداته على هيئة دفقات شعرية ، عندما يحدثنا عن محبوبته في قصة " سلمي " التي يهيم بحبها عشقا في البلاد ، فيحدث الناس عنها

( سلمي يا نقطة من نور ، يا صبحا تبلج – يا أخضر الزرع في وقت الربيع ، يا سنبلة قمح ، تتماوج مع هبات النسيم ، سلمي هل تذكرين ؟) صـ99

وهو هنا يتماس مع تراثه العربي ليذكرنا بقصص العشق ، وقصة مجنون ليلي " قيس بن الملوح " الذي هام على وجهه في البرية ، يحدث الكائنات عن حبيبته " ليلي العامرية " ، فنجد " يوسف القط " يهيم بـ " سلمي " ويناجيها ( سلمي يا سلمي يا حلما في منامي .. يا حلما في صحوي لم يزل )صـ101

لقد امتازت قصص " يوسف القط "بارتباطها الشديد بالواقع ، وحركية المشهد الذي يفضي برؤى جمالية استوحاها من بنية روح القص الشعبي ، وتجليات التجربة الإبداعية ، وفلسفة الحياة التي شكلتها شخصيته المشحونة بالمأساة ، إلا أن الحس المرهف جعله ، يحشد قواه الإبداعية ، وقدراته على إعادة خلق وصياغة العالم من جديد في نصوص قصصية ، تتماس مع واقعه المعاش ، وتراثه القصصي الشعبي الذي شرب من روافده ، وترك بصمات واضحة على تجربته الإبداعية ، لتنبئنا عن طبيعة هذه الشخصية التي كانت تعاني القهر ، والانسحاق تحت عجلات الحياة التي لا ترحم .

ومما لا شك فيه أن هذا المبدع جدير بالاهتمام بنتاجه القصصي القليل ، الذي تركه بعد رحلة عناء ومكابدة مع الأدب ، راحلا عن عالمنا في صمت كما كان صامتا في حياته .


هوامش ومصادر :


1ـ محمد علوش – تحت السقف – عالم يوسف القط القصصي - ثقافة دمياط – رواد 2001.

2ـ نبيه الصعيدي كاتب شرقاوي " شاعر وقاص وروائي " ولد عام 1948 وتوفي عام 1997 " انظر مجلة رؤى – نشرة أدبية – العدد3مارس1998-ثقافة الشرقية ".

3ـ محمد علوش – تحت السقف – عالم يوسف القط القصصي- ثقافة دمياط – رواد 2001- ص49

4ـ ربيع الصبروت – اللغة والتراث في القصة والرواية الهيئة العامة للكتاب – 2003صـ11

5ـ محمد علوش – تحت السقف – عالم يوسف القط القصصي- ثقافة دمياط – رواد 2001- ص50

6ـ السابق ص55

7ـ السابق ص59

8ـ ربيع الصبروت – اللغة والتراث في القصة والرواية الهيئة العامة للكتاب – 2003صـ27

9ـ د/ مدحت الجيار – علم النص دراسة جمالية نقدية ط1-القاهرة- 2005

10ـ محمد علوش – تحت السقف – عالم يوسف القط القصصي- ثقافة دمياط – رواد 2001- ص77

11ـ السابق ص78

12ـ السابق ص79

13ـ د/ فاروق أحمد مصطفي – الموالد " دراسة للعادات والتقاليد الشعبية – سلسلة الدراسات الشعبية – العدد96- الهيئة العامة لقصور الثقافة نوفمبر2004

14ـ السابق ص 175-176.


* من أبحاث المؤتمر الأدبي السادس لإقليم شرق الدلتا الثقافي

المنعقد في دمياط في الفترة من 1 إبريل إلى 3 إبريل 2007

تعليقات

الصيد
قصة بقلم القاص الراحل :
يوسف القط


قبل أن تقرأ النص :
في أوائل الستينات جاء شاب أسمر طويل بشارب كثيف ونظرة صقر لا يمكن أن تحيد ، وجلس وسط التجمع الأدبي العتيد بدمياط ، قرأ عليهم نصوصه ، فبهرهم ، ونشر أغلب قصصه في الدوريات العربية والمصرية كقاص طليعي مجدد ، كان اسمه الحقيقي على ما أتذكر يوسف علي حسن ، لكن نظرته الثاقبة النفاذة ، وتسلله الحثيث خلف الظلال جعل الجميع يطلق عليه اسم " يوسف القط " ، وهو اسمه الأدبي على كل حال، حين نشر في " جاليري 68" ، " سنابل " ، " الأداب " ، " العمال " ، " المساء " .

. مع سنوات الضغط النفسي ، والهزيمة العسكرية ، والمضايقات المباحثية تزلزل كيان الرجل . جاءه هاجس أنه مطارد ، ومحاصر ، وداخله يقين أنه مستهدف ، فتعرض للوحدة ، والانزواء ،ومشى في الطرقات يكلم نفسه ، وكان على شفا الجنون فعلا . حاول الأدباء إنقاذه دون جدوى . لقد رفض باصرار اعتبار نفسه مجنون . بل رفع سبابته في وجوه الشعراء وكتاب القصة : أنتم مذلولون ومجنونون .

مضت الأيام ويغيب الرجل عن المنتديات الأدبية ، وفي يوم شديد البرد ، وجدوه ممددا في الحديقة العامة ، المطلة على النيل ، وقد قتله البرد والهواجس والوحدة . جاءت أخته من مدينة بعيدة وتسلمت الجثة ودفنته .
في ذكرى مرور 19 عاما على وفاة هذا الكاتب المجيد ، أعيد نشر هذه القصةمن تأليف الأديب العظيم الذي لم يتحمل سقوط وطن ، وهزيمة أمة . فهرب من السقوط بالجنون ثم الموت .. تذكروا الأسم جيدا : يوسف القط . فسوف يطويه النسيان ما لم نتذكر بالعزة رموزنا العظيمة في الكتابة السامقة .


سمير الفيل
 
أعلى