محمد عبد العزيز الكفراوي - أبو العتاهية

انتهينا من بيان الأسباب الرئيسية التي أدت إلى ما حدث من انقلاب في حياة شاعرنا سنة ثمانين ومائة للهجرة، وعرفنا أن أهمها هو شعوره بالضعة لما كان من وضاعة آبائه وأجداده، وما استتبع ذلك من حقد على ذوي الجاه والنفوذ في عصره، وسخط على الحياة والأحياء عامة. وثانيهما نقمته على هارون وبغضة له. وثالث تلك الأسباب هو تدخل الفضل بن الربيع وزبيدة وتشجيعهما للشاعر على الثورة ضد الخليفة.

واليوم تبدأ المرحلة الثانية في دراستنا وهي الثيام بجولة في شعره لنرى مدى انطباق ما قدمنه من نظريات على تلك الأشعار، ولنبدأ بما كان من شعر الشاعر خاصا بهارون. ولعل القارئ الكريم يتوقع مما ذكرناه آنفا أن يرى لأبي العتاهية في هارون نوعين مختلفين من الشعر: شعر ينبعث من نفس مليئة حقدا على الخليفة لما كان من تثاقله في أمر عتبة ثم ما كان من حبسه للشاعر في غير جريرة اللهم إلا استعماله لحقه الطبيعي من الامتناع عن الغزل. وشعر من نوع آخر لا ينفس به الشاعر عن نفس مغيظة أو عواطف مكبوتة، ولكن يحاول فيه أن يفي للفضل وزبيدة بما أخذه على نفسه من تسخير ملكته الشعرية لخدمتها.

وقد كان النوع الأول يتمثل في تأليب الناس على الخليفة أملا في تقويض ملكة وزوال سلطانه، ويتمثل أيضاً في تلك الأشعار الكثيرة التي كان يرجو فيها للخليفة موتا عاجلا يريحه ويريح منه، فمن ذلك تلك الأبيات التي أرسلها الشاعر إلى خزيمة بن خازم أحد قواد الرشيد الأكفاء والتي يقول فيها:

ألا أن تقوى الله أفضل نسبة ... تسامى بها عند الفخار كريم

إذا ما اجتنبت النفس إلا على التقى ... خرجت من الدنيا وأنت سليم

أراك أمرأ ترجو من الله عفوه ... وأنت على مالا يحب مقيم

تدل على التقوى وأنت مقصر ... أيا من يداوي الناس وهو سقيم

وأذللت نفسي اليوم كيما أعزها ... غدا حيث يبقى العز لي ويدوم

والأبيات كما هي الآن مجردة من تعليق الرواة لا توحي بان وراءها معنى خاصا، وما هي إلا كغيرها من القصائد الكثيرة التي يمر بها القارئ في ديوان أبي العتاهية ويأخذها على أنها نوع من الوعظ لم تقصد به شخص بذاته ولا يهدف إلى غرض بعينه حتى أن جامع الديوان قدم لها بقوله (وقال في تقوى الله وحسن منافعها وحميد عاقبتها) والآن انظر المناسبة التي قيلت فيها حتى تعرف بالتحديد قصد الشاعر بها: وإليك ما يرويه الأغاني في بيان تلك المناسبة: (حدث حبيب بن عبد الرحمن عن بعض أصحابه قال: كنت في مجلس خزيمة فجرى حديث ما يسفك من الدماء فقال: والله عذر ولا حجة إلا رجاء عفوه ومغفرته. ولولا عز السلطان وكراهة الذلة وأن أصير بعد الرياسة سوقة وتابعا بعد ما كنت متبوعا ما كان في الأرض ازهد ولا أعبد مني. فإذا هو بالحاجب قد دخل برقعة من أبي العتاهية مكتوب فيها الأبيات السالفة فغضب خزيمة وقال: ولله ما المعروف عند هذا المعتوه الملحف من كنوز البر فيرغب فيه حر. فقيل له. وكيف ذلك؟ فقال: لأنه من الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله)

يظهر أن خزيمة كان يجلس إلى نفر من الشيعة أو غيرهم من الطوائف التي كانت تنقم من هارون ميله لسفك الدماء، ويظهر أنهم لاموا خزيمة في تعاونه مع هارون لما يرتكبه الأخير من مظالم. والأبيات واضحة في معناها وفيها يثبط الشاعر خزيمة عن مناصرة الرشيد ويذكره بآخرته ويبين له أن الفخر إنما هو في التقوى والعز الحقيقي إنما هو عز الآخرة لا الدنيا.

وإليك أبيات أخرى من قصيدة قالها الشاعر وهو في سجن الخليفة وفيها يقول.

أما والله أن الظلم لؤم ... وما زال المسيء هو الظلوم

إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم

ستعلم في الحساب إذا التقينا ... غدا عند الإله من الملوم

سينقطع التروح عن أناس ... من الدنيا وتنقطع الغموم

تنام ولم تنم عنك المنايا ... تنبه للمنية يا نؤوم

تموت غدا وأنت قرير عين ... من الغفلات في لجج تعوم

ومع أن القصيدة تسعة عشر بيتاً فنحن نعتقد أن الشاعر إنما أرسل منها إلى الرشيد الأبيات الأخيرة فقط واحتفظ بالباقي لنفسه، لا كما يذكر الرواة من أنه أرسل القصيدة بتمامها إلى هارون، ولو أنه فعل لأستوجب سفك دمه. الأبيات الأخيرة التي أرسلها تروي هكذا: ألا يا أيها الملك المرجى ... عليه نواهض الدنيا تحوم

أقلني زلة لم أجر منها ... إلى لوم وما مثلي ملوم

وخلصني تخلص يوم بعث ... إذا للناس برزت الجحيم

وشبيه بذلك تلك الأبيات التي يقوم فيها الشاعر:

أراك لست بوقاف ولا حذر ... كالحاطب الخابط الأعواد في الغلس

أنى لك الصحو من سكر وأنت متى ... تصح من سكرة يغشاك في نكس

ما بال دينك ترضى أن تدنسه ... الدنيا وثوبك مغسول من الدنس

ويروي أبو الفرج أن أبا العتاهية أنشد الرشيد بعض أبيات هذه القصيدة حين قال به الأخير: عظني فقال الشاعر. أخافك فقال له أنت آمن فأنشد:

لا تأمن الموت في طرف ولا نفس ... إذا تسترت بالأبواب والحرس

واعلم بان سهام الموت قاصدة ... لكل مدرع منها ومترس

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس

ووجه الشبه بين القصيدتين أن كلا منهما تحتوي على أبيات فيها اعتدال، ولذا أمكن إنشادها للرشيد وأخرى لم ينشدها الشاعر لما فيها من المظاهر الحقد والضغينة ولكنها في الوقت نفسه تبين لنا رأي الشاعر في الخليفة وعواطفه نحوه، وإننا لنرجح أن الشاعر قد قال في هارون مقطوعات شعرية غير التي أسلفنا عبر فيها عن بغضه له وحقده عليه، ولكن الرواة لم يهتدوا إلى غرض الشاعر منها حيث أنها لم تقترن بما يميزها من ظروف وملابسات على نحو ما حدث في الأمثلة السابقة، فنحن مثلا لا نشك في أن أبا العتاهية كان يقصد الرشيد حين قال:

حتى متى تصبو ورأسك أشمط ... أحسبت أن الموت في اسمك يغلط

أم لست تحسبه عليك مسلطا ... وبلى وربك أنه لمسلط

ولقد رأيت الموت يضرس تارة ... جثث الملوك وتارة يتخبط

إلى آخر ما قاله في تلك المقطوعة، وإنما ذهبنا هذا المذهب لأن هارون الرشيد كان إذ ذاك الشخص الوحيد الذي له من السلطان والسطوة ما يمكن معه أن يشك في تسلط الموت عليه إن الحق لشخص ما أن يشك في تلك القضية، كما ذكر الملوك في البيت الثالث يرجح أنه كان يعني بما يقول واحداً منهم، على أن الشاعر يبدي لنا رأيه في الرشيد بصراحة وذلك في أبيات يبدؤها بقوله:

إن الملوك بلاء حيثما حلوا ... فلا يكن لك في عيش لهم ظل

ومما يحمل على الاعتقاد بان أبا العتاهية إنما كان يعني بما يقول هارون ما أخذه الشاعر على الملوك من الملل حين يتحدث إليهم متحدث، واتهامهم الناصح بالغش وذلك يمثل حال الشاعر مع الرشيد بالذات، لأنه الخليفة الوحيد الذي كانت علاقته بالشاعر تسمح بمسامحة أحدهما للآخر، ومن ثم تعطي فرصة لحديث معاد مملول أو نصيحة غير مقبولة.

والآن وقد وقف القارئ الكريم على طبيعة ما كان بين أبي العتاهية والرشيد من علاقة يسرنا أن نشركه معنا في تدبر القصة التالية: يروي أبو الفرج أن رسول ملك الروم قدم إلى الرشيد فسأل عن أبي العتاهية وأنشد شيئا من شعره وكان يحسن العربية، فمضى إلى ملك الروم وذكره له فكتب ملك الروم إليه ورد رسوله يسأل الرشيد أن يوجه بأبي العتاهية يأخذ فيه رهائن من أراد وألح في ذلك، فكلم الرشيد أبا العتاهية في أمر سفره فأباه، واتصل بالرشيد أن ملك الروم أمر أن يكتب بيتان من شعر أبي العتاهية على أبواب مجالسه وباب مدينته وهما:

ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك

ألا لنقل السلطان عن ملك ... قد انقضى ملكه إلى ملك

ألا توافقنا على أن في هذه القصيدة شيئا من الغرابة؟ فإذا صح أن سفير الروم كان يعرف العربية وكان لذلك يتذوق شعر أبي العتاهية فما بال ملك الروم يتطلع إلى سماع شعر أبي العتاهية هو الآخر؟ فهل كان يعرف العربية أيضا؟

ومهما يكن من شيء فنحن نشك في أنه كان متحمسا لشعر أبي العتاهية تحمسا يدعوه إلى أن يلح في طلبه ذلك الإلحاح، وأكبر ظني أنه كان يريد استغلال الشاعر استغلالا سياسيا على نحو ما تفعل الدول اليوم من اجتذاب أحد أبناء الشعوب المشتبكة في حرب معها إليها، وتسخيره للدعاية ضد الحكومة القائمة في وطنه. فما من شك في أن جواسيس كثيرة كانت تعمل إذ ذاك لصالح الروم وكانت تتخذ من بغداد مركزا لنشاطها، وما من شك في أن الروم كانوا على علم تام بأساليب تلك الدعاية وآثارها، ألا ترى أنهم استغلوا رجلا آخر قبل أبي العتاهية وهو يونس بن أبي فروة الذي كتب لهم كتابا فيما أخذه الإسلام من معايب بزعمه. فما الذي يمنعهم حين علموا ما علموا عن بغض أبي العتاهية للرشيد من استقدامه إليهم وإعطائه فرصة كاملة لتسجيل ما كان يأخذه على الرشيد من ميل إلى اللهو وعكوف على الملذات واستهتار بالدين. وليس هناك أدنى شك فيما كان يمكن أن تحدثه تلك الأشعار من أثر شيء في روح جيش الرشيد المعنوية، فقد كان كثيرا من أولئك الجنود يذهبون إلى حرب الروم والحماسة الدينية تملأ صدورهم لما يعتقدونه من عدالة القضية التي يدافعون عنها، ولكن حين يتضح لهم أن حليفة المسلمين وحامي حمى الإسلام وقائد تلك الحملات ما هو ألا رجل خليع مستهتر وليس له من مظاهر الدين إلا احتراف الحروب ضد الروم فستخبو حماستهم وتضعف عزائمهم وتتفرق كلمتهم. ونحن لا نستبعد أن يكون ملك الروم إنما أعجب بالبيتين اللذين ذكرا فيما سبق لما يبشران به من موت الرشيد، ذلك الخصم العنيد الذي فشلت جيوش الروم في صد غاراته أو وقف حملاته. هذا ويذهب البروفيسور جيوم إلى أن ما أورده الأغاني خاصا بما كان بين ملك الروم وأبي العتاهية من مكاتبات وما كان من إعجاب الأول بشعر الأخير ليس إلا محض اختلاق أراد به مختلقة أن يبرهن على أنه كان من بين ملوك المسيحيين من هو أشد حرصا على سماع الموعظة الحسنة من ملوك الإسلام.

وإنا إذ نترك الكلمة الأخيرة في تلك المسالة إلى القارئ الكريم ليسرنا أن نعود معه إلى تلك القصائد والمقطوعات التي كان الشاعر يهدف فيها إلى تنفير الرشيد من اللهو والعبث وفاء بما قطعه على نفسه للفضل وزبيدة من عهود. وأول ما يلاحضه الباحث على تلك المقطوعات هو كثرتها وتنوعها، وقد أدى إلى كثرتها وتنوعها على تلك الصورة ما كان من ميل الشاعر الطبيعي إلى ذلك النوع من الشعر الوعظي، فقد كان ذلك اللون من الشعر يستهوي العامة فيجمعهم حول الشاعر ويزيد في حبهم واحترمهم له، وفي ذلك تعويض لما يحسه من ضعة نتيجة لضعة آبائه وأجداده.

وقد كانت طريقة الشاعر في وعظ الرشيد تختلف من وقت لآخر تبعا للمناسبات، فهو حينا ينهاه عن اللهو نهيا مباشرا وحينا يذكره بما أصابه من شيب وأحيانا يبصره بما لا بد أنه ملاقيه من موت. وهكذا تعتقد أن الشاعر كان يخاطب الرشيد بكثير من المقطوعات التي تنهي عن اللهو واللعب كتلك التي تبدأ:

أنلهو وأيامنا تذهب ... ونلعب والموت لا يلعب

أسلك بني مناهج السادات ... وتخلقن بأشراف العادات

على أنه إذا كان هينا لينا في المقطوعتين السابقتين فقد يصل أحيانا إلى حد الإزعاج كما في قوله:

أيامن بين باطيه ودن ... وعود في يدي غاو مغن

إذا لم تنه نفسك عن هواها ... وتحسن صوتها فإليك عني

فإن اللهو والملهي جنون ... ولست من الجنون وليس مني

وأي قبيح اقبح من لبيب ... يرى متطرباً في مثل سني

إذا ما لم يتب كهل لشيب ... فليس بتائب ما عاش ظني

ولعلنا لا نكون قد ذهبنا بعيدا إذا ادعينا أن بعض تلك المقطوعات كان ينشد بصورة جمعية، ومن يدري لعل زبيدة كان لديها من الجواري من يقوم بإنشاد تلك الأشعار في جانب من جوانب قصر الخلاقة لترد بذلك على ما كان ينشد في الجانب الآخر من أناشيد الحب والغزل، ألا توحي موسيقى المقطوعتين التاليتين أنهما إنما أنشئتا لذلك الغرض

أنظر لنفسك يا شقي ... حتى متى لا تتقي

أو ما ترى الأيام ... تختلس النفوس وتنتفي

خير الرجال رفيقها ... ونصيحها وشقيقها

والخير موعده الجنا ... ن وظلها ورحيقها

والشر موعده لظى ... وزفيرها وشهيقها

وليس ذلك بغريب على زبيدة، ألا ترى أنها عهدت إلى مائة من جواريها بقراءة القرآن في قصرها ليلا ونهارا، وما نظن أن ذلك العمل كان خالصا لوجه الله تعالى وإنما كان للغرض الذي أشرنا إليه في السطور السابقة.

وقد أعتمد الشاعر في تنفيره من الملاهي والملذات على مخالفتها للدين ومجانبتها للآداب العامة، وكان ينظر إليها في بعض الأوقات نظرته إلى ضرب من ضروب الجنون الذي لا يليق بالعقلاء من أمثاله! فكيف بخليفة رسول الله وابن عمه وولي أمر المسلمين من بعده.

وأخيرا ينتهي عنها لما تعقبه من حسرات أو تصيب به من فساد وتحطيم.

أما شيب الرشيد المبكر فقد أعطى الشاعر فرصة كاملة لوعظه والإلحاح عليه في ذلك إلحاحا مملا. فاللهو في رأيه من شأن الشباب؛ أما الشيوخ فالوقار والتدين أولى بهم، ألم يجعل القرآن سن الأربعين الحد الفاصل بين حياة اللهو وحياة الجد إذ يقول (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن اشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه) ولم لا والشيب نذير الموت بل هو الموت بعينه:

الشيب إحدى الميتتين تقدمت ... إحداهما وتأخرت إحداهما

ويزعم الشاعر أن المرء بالذات في شيخوخته كما كان يشعر بها في شبابه، ففيم إذن يرتكب الآثام وينتهك الآداب:

وإذا كبرت فهل لنفسك لذة ... ما للكبير بلذة متمتع

ونحن لا نشك فيما كان يصيب هارون من ضيق وارتباك عند سماع تلك الأشعار؛ ألا ترى ما فعله بأحد المغنين حين غناه:

وأرى الغواني لا يواصلن امرأ ... فقد الشباب وقد يصلن الأمردا

وقد أمر الخليفة به فسحب على وجهه وأخرج من المجلس وقال له: يا ابن الفاعلة أتعرض بي في عنائك؟

وإنا إذ نختتم هذا المقال لنرجو أن نعود إلى استئناف الكتابة في هذا البحث بعد أسابيع قلائل أن شاء الله تعالى

محمد عبد العزيز الكفراوي


مجلة الرسالة - العدد 990
بتاريخ: 23 - 06 - 1952

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى