محمود محمد شاكر - نبوّة المتنبي أيضا.. -2 -

اللهمّ إنا نعوذ بك من فتنة الرأي والهوى، كما نعوذُ بك من سوء الاقتداء والتقليد.

4 - يقول الأستاذ سعيد الأفغاني في العدد (171) من (الرسالة) بعقب حديثه عن رأينا في ردّ رواية اللاذقي - الذي كان قد آمنَ بنبوّة المتنبي أبي الطيب، وأسلمَ له، وبايعه بيعة الإقرار بصدق نبوّته، وزاد أن أخذ البيعة لأهله كذلك: (وقد رددتُ أنا قسماً كبيراً من رواية اللاذقيّ هذا لشيءٍ غير ما ذهب إليه الأستاذ الكريم، وسأبينه قريباً). وقد وفى الأستاذ بعدَته فأبان خيرَ الإبانة عن (الشيء) الذي من أجله (ردّ قسماً كبيراً) من رواية (اللاذقيّ هذا). وهذا بيانه بعد كلامٍ كثير، يقول: (وقد عجبتُ كل العجب من الأستاذ - وهو الناقد الأصوليّ الفنّان (أستغفر الله يا سعيد) - حين لم يدر لم اختصرتُ حديث اللاذقيّ؟ إذ أن الأمر ظاهر، فأن الزيادات التي أهملتها يرفضها العقل ويكذبها الواقع، ولم تكن ثمة حاجة لأدُلّ القراء على سبب إهمالها لأن تهافُتها بيّنٌ. وكثيرٌ أن تجردَ عليها حملةٌ كالتي نزل بها الأستاذ الميدان!! فخصَّص لها صفحتين من كتابه القيم، وهو يعلمُ حفظه الله أن من أدلة الوضع عند المحدّثين مخالفة الواقع والمعقول كما هو مستوفي بكتب مصطلح الحديث) اهـ.

عونكَ اللهمّ! فلستُ أدري من أين أبدأ في بيانِ تهافتِ هذا القول وتناقضه! هذا رجُلٌ سماهُ أبوهُ معاذاً فكان عند الذين قرءوا حديثه (أبا عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقيّ)، وهو في الرواة مجهول غيرُ معروف بصدق ولا بكذبٍ؛ وقد جاءَنا هذا الرَّجُل ينبئنا عن أبي الطيب خبر قدومه اللاذقية سنة نيفٍ وعشرين وثلاثمائة، فيأنى بحديث طويل ممتدٍّ،

(1) يذكر فيه حلية أبي الطيب وصفته وسمته وحسن أدبه، (2) ثم يذكر حديثاً جرى بينه وبين أبي الطيب، فيقول له اللاذقي: (والله إنك لشابٌ خطير، تصلح لمنادمة ملكٍ كبير!) فيكون جواب أبي الطيب: (ويحك! أتدري ما تقول؟ أنا نبيٌ مرسل) (3) ثم يذكر رسالة أبي الطيب إلى أمته الضالة المُضِلة! وغرض رسالته؛ (4) ثم ما سمع من قرآن أبي الطيب الذي وصفه بقوله: (فأتاني بكلامٍ ما مرّ بمسمعيّ أحسنُ منه) (5) ثم يذكُرُ عدد آ هذا القرآن، (6) ثم يخرجُ إلى ذكر معجزة هذا المتنبي في حبس المدرار (المطر)، لقطع أرزاق العصاةِ والفجار، (7) ثم يقول إنه خرج مع غلام أبي الطيب ليرى المعجزة، فلمّا استيقنها واطمأن بها قلبُهُ انفلت إلى أبي الطيب وهو يقول: (أبسُط يدك. . . أشهدُ أنك رسولُ الله) فبسط يدهُ فبايعه بيعة الإقرار بنبوّته، (8) ثم لم يَنِ هذا اللاذقيّ حتى أخذ بيعته لأهله، (9) ثم يقول بعد: (ثم (صَحَّ) أن البيعة عمّت كل مدينة بالشام) (يا سبحان الله)، (10) ثم يعقِّبُ على ذلك أن معجزةَ أبي الطيب كانت (بأصغر حيلةٍ تعلمها من بعض العرب وهي (صدحة المطر)، (11) ثم يزعُم أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي رضي الله عنه! (أنه رأي أهل السُّكون وحضرموت والسكاسك من اليمن يفعلون ذلك ولا يتعاظمونه، حتى إن أحدهم ليصدح عن غنمه وإبله وعن القرية التي هو فيها فلا يصيبها شيء من المطر، (12) ثم يقول إنه سأل أبا الطيب هل دخلت السكون، فيقول له: نعم! أما سمعت قولي:

مُلِثَّ القطرِ، أَعْطِشْها ربوعا ... وإلاَّ فاسقِها السَّمَّ النقيعا

أُمنْسِيَّ السَّكونَ وحضرموتاً ... ووالدتي وكندةَ والسَّبيعَا

ثم يقول هذا اللاذقي بعقب ذلك: (فمن ثمَّ استفادَ (أبو الطيب) ما جوّزه على طغام أهل الشام)، (13) ثم يختم حديثه بما كان يُمَخرقُ به أبو الطيب على أهل البادية بإيهامهم أن الأرض تُطْوى له وكيف كان ذلك؛ (14) ثم يزعمُ أن أبا الطيب سئلَ في تلك الأيام عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أخبر بنبوَّتي حيث قال: (لا نبيّ بعدي)، وأنا أسمى في السماء (لا)).

هذا مختصر حديث هذا اللاذقيّ، وأنت إذا قرأته بتمامه رأيته أحمق قولٍ يعجزُ عن الإتيان بمثله أحمق معتوهٍ لما فيه من الاضطراب والسخف والتلفيق والكذب، وقلة مبالاة هذا الرجل بنسبة الكفر إلى نفسه حين زعم أنه قال لأبي الطيب: (ابسط يدك، أشهد أنك رسول الله) ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فهذه أغراضٌ في كلام اللاذقي قد بينا لك عددها (14) تناول منها الأخ سعيد ثلاثة أغراض هي الثلاثة المتتابعة في تعدادنا، وقذف بالباقيات وردها وأهملها لأنها مما (يرفضه العقل، ويكذبه الواقع) كما قال في كلمته الأخيرة، ومن قبل ما قال في كلمته التي نشرها في (الرسالة - العدد 161): (وسأعفي نفسي من أشياء كثيرة، وردت في (الصبح المنبي) لا يقبلها عقلٌ ولا تؤيدها قرائن) ويعني هذه الرواية عن اللاذقيّ.

وأنا أسأل الأستاذ سعيد أن ينصف نفسه وينصفنا، وأن يعفينا من التأويل وطلب الحجة فيما لا تأتي منه الحجة إلا متكلفة على أبعد وجه وأضل سبيل. فانظر أيها الأستاذ سعيد إما جاءك رجل بحديث قد استيقنت أن نصفه كذب قد مزج بقول غير معقول، أفأنت مصدقه في سائر الذي جاءك به من الحديث؟ فإن قلت: لا أصدقه في سائر حديثه فقد بطل ما جاء به هذا اللاذقي كله، لأن أربعة أخماس من حديثه مما (يرفضها العقل ويكذبها الواقع) كما قلت أخيراً: ومما لا يقبلها عقل؛ ولا تؤيدها قرائن كما قلت أولاً. وإن شئت أن تتطلب الجدل فقلت أصدق بعضه، وأكذب بعضه، فأنت غير قادر على أن تنشئ لهذا الرأي حجة يلجأ إليها أو دعامة يعتمد عليها، فإن هذا اللاذقي رجُلٌ مجهول في الرواة لا يعلم حاله في صدق أو كذب، ومن كان كذلك نُظر في قوله، فإن كان الذي يأتي به من الرواية صدقاً كان ذلك مانعاً من اتهامه بالكذب إلا ببينة أخرى، وإن كان كذباً لم تجد بُدّاَ من وسمِه بالكذبِ وإسقاط روايته كلها، وجملةً واحدةً؛ ويصبحُ ما أتى به كله كأن لم يُرْوَ ولم يعرفْ، فلا ينظرُ إليه في رواية أو تاريخ؛ فإن قلت أقبل المعقول وأردُّ غير المعقول، فلا بُدّ من أن نقول لك إنك قد اعتمدت في بعض قولك على مذهب أهل الحديث في علم الرواية، فقلت: (إن من أدلة الوضع عند المحدثين مخالفة الواقع والمعقول)، ونعم، فإن رواية ما يستحيل أن يقع، وما لا يأتي على وجهٍ يرتضيه العقل، ساقط عند المحدثين، وهم يتهمون صاحبه بالكذب لوضع فلا تقبل له روايةٌ أبداً، ولو كانت صادقة، ولو كان في قول غيره من الصادقين ما يقع عليها حرفاً حرفاً وكلمة كلمة. فهذا مذهب القوم بتمامه، ومذهب عقلاءِ الناس في أمر دينهم ودنياهم. واعلم أيها الأستاذ سعيد أن القول يُردّ ويُرفض ويكذب صاحبه لأنه غير معقول ويستحيل وقوعه، ولا يمكن في العقل أن يطرد عكسُ هذه القضية: فليس يقبل القولُ ويرتضي صاحبه لأنه معقول وجائزٌ وقوعه وحدوثه، ولست أشكُّ في موافقتك لي على هذا؛ إذن فليس من الحكمة ولا من الصواب ولا من العدل ولا من العلم أن تختصر حديث اللاذقيّ فتأخذ منه المعقول الجائز الحدوث، وأنت تردّ سائر حديثه بل أكثره، ثم تقول عنه في عدد الرسالة (161): (وقد حفظ لنا (التاريخُ) مشهداً من مشاهد هذه الدعوة (النبوّة) في اللاذقية). فليس شيء من كلام الوضاعين والكذابين مما يصحُّ أن يعتمد عليه في تاريخ أو غيره.

ثم لو نظر الأستاذ سعيد إلى هذا الحديث الذي عدّه (مما حفظ التاريخ من مشاهد دعوة أبي الطيب إلى نبوته) لوجدَ يقيناً أن هذا المختصر من حديث اللاذقيّ هو أيضاً (مما يرفضُه العقل، ويكذبه الواقع) و (مما لا يقبله عقل، ولا تؤيده قرائن)، فأن فيه من الوهن والضعف والتخالف والتناقض ما لو تدبره الأستاذ - وهو يدرس شعر أبي الطيب، ويصوِّر منه نفسه وطبائعها وغرائزها - لعلم أنه موضوعٌ متكلفٌ ليس فيه من الصدق شيء؛ ولم أردك بسوءٍ أيها الأخ إذ قلت في كلمتي السابقة إنك تأخذ من الكلام ما تشاءُ، وتدع ما تشاء، فتزول بذلك شبهاتك.

إن للرواية أصولاً لا يأتي لأحد أن يخرج عنها إلا بحجة لا تسقط عند النقد والنفض؛ ومن أصول الرواية ألا تُقبل رواية من كذَب في أحاديث أو وضعها، وإن كان سائر الذي يرويه مما يعضده فيه رواية غيره من الصادقين، فكيف بمن يكون أمرهُ في الحديث الواحد: أربعة أخماس كذبٌ غير معقول، والخمس الباقي تختلفُ عليه الآراء في وصفه بأنه صدق أو كذبٌ، أو معقول وغير معقول، أو تؤيده قرينة أو لا تؤيده قرينة؟ ألا إن هذا أولى بالإسقاط والرفض والنبذ حيثما ثُقِف، وكذلك هو حديث هذا اللاذقيّ المجهول.

5 - وقد أراد أستاذنا سعيد أن يوهم قارئ كلامه أننا اتخذنا رأينا - في نسبة أبي الطيب إلى الشجرة العلوية المباركة - (برهاناً) على رد رواية هذا اللاذقيّ المجهول لقولنا في ص 48 (أما اللاذقي فمجهولٌ ولا يتيسر لنا نقد سنده، ولكن مما شك فيه أن اللاذقية التي نسب إليها، كانت لوقت أبي الطيب موطناً لفئة من العلويين ومحطاً لكثير من كبار الدعاة العلويين الذين أحدثوا أحداثاً عظيمة في التاريخ العربي كلّه). فلذلك لم يتورع عن بتر بقية كلامنا، فقد قلنا بعقب هذا وبغير فصل (فلا بأس من أن تجعل هذا ذكراً مذكوراً وأنت تتبّصر في أصل الرواية على وهنها وتضاربها، وتهالك معانيها التي يفسدُ بعضها بعضاً كما سترى). فلو كنا قد اتخذنا هذا (برهاناً) لقلنا مكان (فلا بأس) (فلابد) ليستقيم المعنى الذي أراده لنا الأستاذ الجليل. ويخيل إليّ أن الأستاذ سعيد سيحاول أن يقع في هذا الكلام بالتأويل. فأنا أضرب له المثل على الفرق بين هذا وذاك، ليدع هذا الذي يعمد إليه من أفانين الكلام. فإنك لو أردت أن تعلم جاهلاً دين الإسلام بعد إيمانه بصدق القرآن وأنه وحيٌ من العزيز الحكيم، ثم أخذت تفهمه أن الصلاة عمود الدين وأن الله أمرَ بها عباده، والبرهان والدليل على ذلك قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة)، فلست تقول له بعقب ذلك (فلا بأس) من الصلاة، وإنما تقول: (فلا بد من الصلاة).

ولو تدبر الأستاذ قليلاً كما سألناه في كلمتنا الأولى (عدد الرسالة 167) لعلم أن الإشارة في هذا الموضع هي إلى الذي قلناهُ في كتابنا ص17 - 19 من أنه كان بينه وبين العلويين عداءٌ وحفيظة بلغ من أمرهما أنهم ارصدوا له قوماً من السودان عبيدهم في طريقه بكفر عاقب ليقتلوه - وذلك مُنصرفَه من طبرية سنة 336 - حتى إن أبا الطيب لم يُحجم عن التعريض بهم، وهو يمدح كبيراً من أولاد عليّ رضي الله عنه بالرمْلة هو أبو القاسم طاهر بن الحسن بن طاهر العلوي فقال في مديحه:

أتاني وعيدُ (الأدعياءِ) وأنهم ... أعدُّوا لي السودان في كفر عاقب

ولو صدقوا في جدِّهم لحذرتهم ... فهل فيّ وحدي قولهم غير كاذب

وقال في مدح الأمير ابن طغج، وقد صحبه أبو القاسم العلوي وأقام معه في الرملة يحضر مجالسه.

وفارقت شرَّ الأرض أهلاً وتربة ... بها (علويٌّ) جدُّه غير هاشم

فلهذا ولغيره من آثار العداوة والبغضاء بين أبي الطيب والعلويين (مذهباً أو نسباً) قلنا في ص17 (إن عندنا في أقوال العلويين المعاصرين عن أبي الطيب سبباً للتوقف دون التسليم).

هذا على أن عندنا من الأسباب ما يحملنا على رد رواية العلويين في أخبار أبي الطيب، وقد ذكرنا بعضها متفرِّقاً في كتابنا، وبعضٌ آخر لم نذكره لضيق الوقتِ، ورغبة في اختصار القول، واعتماداً على فطنة القارئ إذ كان في وضع كلامنا ما يُشيرُ إلى أطرافه.

6 - قلت في كلمتي التي نشرتها الرسالة (العدد 167) إن الأخ سعيد قد لا يجد دليلاً على صحة هذه الروايات التي رويتْ في نبوّة أبي الطيب، فيما يزعم، إلا أنه قد رواها فلانٌ وفلانٌ ورواها المعري - وهو الحجة الثبتُ - وقلنا إن الحكم - بأن رواية المعري أو غيره من العلماء - هذه الأخبارَ مما يصححها أو يرجّح الصدق فيها - حكم خطأ لا يصح لأحد أن يتابع عليه، ولم أقل ذلك إلا لقول الأستاذ في عدد الرسالة (161)، (وسأعتمد في قص الحادث (يعني النبوّة) على أبي العلاء خاصة، لفضله وتحريه وقرب زمانه)، وهذه الكلمة الأخيرة وحدها تدل على أن الأستاذ يَعُد ما يرويه أبو العلاءِ عن أبي الطيب مما ترجحُ فيه كفة الصدق على كفة الكذب، ولكن الأستاذ لم يرض قولنا هذا، فعادَ يقولُ في كلمته الأخيرة: (هذا وقد حمل الأستاذ أقوالي ما ليس تحمل: فأنا لم أدّع للمعرّي تنزُّها عن الخطأ، ولم أقل بأن (ورود خبر في كتب العلماء هو الدليل الذي لا دليل غيره، وما جعلت قرب الزمن دليلاً على الصحة بل هو مما ييسر للمحقق وسائله) اهـ. وأنا لا أحبّ أن أكثر القول على أستاذنا في نقد كلامه هذا بل أقول: إن كان في يدك دليل على صحة هذه الروايات والأخبار فأظهرهُ ولا تكتمهُ، فمن قبلُ ما قلنا لك في مقالنا بعدد الرسالة (167) إن (الخبر لا يستحقّ صفة الصدق إلا بالدليل الذي يدُل على صدقه، فإذا لم تجد الدليل على صدقه ذهبت عنه صفة الصدق وبقي موقوفاً. فإذا اعترضت الشبهات من قبل روايته أو درايته مالت به الشبهة إلى ترجيح الكذب فيه. . .). ولكن أستاذنا لم يرد أن يقف عند هذا القول، وزعمه من (التهويل) ويقول: (وما التهويل بمغن عن أحدنا فتيلاً)، وزعم أني (لم أجد بأساً في أن أعرفه أنّ الخبر ما يحتمل الصدق والكذب، وانّ وأن. . . الخ الخ مما يدرسه الطلاب المبتدئون). وظنّ أن في هذا القول مذهباً لهُ عن الإتيان بدليله على صدق الروايات التي يزعمُ أنها من التاريخ وأنها صحيحة. ويخرجُ من هذا ويدعه لقول: (إننا نبزنا روايات التاريخ بالبطلان والكذب، ثم لا يكون دليلنا عليها إلا أنها كذب وبطلان). وليس الأستاذ ببالغ من كلامنا مبلغاً يسقطه أو يحزّ فيه إلا أن يثبت لنا أوّلاً صحة هذه الروايات، ومن أين لأحد أن يسلم بصحتها ويقتنع بأنها خالية من الكذب والوضع وسوء القصد في الإساءة والتشهير والتسميع بأبي الطيب؟ فإذا فعل ذلك فقد بلغ أوّل الحق، وكان لهُ أن يجابهنا بما شاء من القول مصرّحاً ومعرّضاً. فالدليل أيها الأستاذ سعيد.

7 - ومن أعجب أمر الأستاذ سعيد أنه ينشئ من الكلمة الواحدة تردُ في الكلام جملة لها معنى يوجهه هو كيف أراد على ما خيّلتْ، ويضَعها حيث شاء من الحديث غير متهيب ولا متلفت عن يمين وشمال، ولو خرج بالكلام الذي أمامه من العربية. . . كما مرّ بك في كلمتنا السابقة. فمن ذلك أنه وقف عند قولنا في الكلمة الأولى (الرسالة عدد 167): (وتركُ المعرّي الشكّ (في تلك الأخبار) أو تكذيبها ليس يقومُ أيضاً دليلاً على صحتها، وليس المعرّي بمنزه عن الخطأ والغفلة، وهو من هو، فذهاب وجه النقد عن المعرّي ليس يكون طعناً فيه، ولا يوجب نسبة الكذب إليه، ولا ينفي صفة الصدق عنه). وليس يذهب عن أحد من القراء أننا أردنا بهذا الكلام أن ندفع ظنَّ من يظنَّ - أي الناس كان - أن توقفنا دون التسليم بما رواه المعري في خبر نبوة أبي الطيب، أو نقدنا له، أو تكذيبنا أو إسقاطنا لما روي - يكون طعناً فيه، أو يعد مما يوجب نسبة الكذب إلى أبي العلاء. ولكن الأستاذ سعيداً ترك هذا، وأراد أن يبالغ وينشئ حول كلامه (خطا من النار)، فأخذ كلمتنا: (وليس المعري بمنزّه عن الخطأ والغفلة) وردّها بقوله: (وأنا لم أدّع للمعري تنزهاً عن الخطأ)، فكيف - أيهذا الأستاذ سعيد - تزعم أننا قلنا إنك ادعيت للمعرّي تنزهاً عن الخطأ وكيف تخرّج هذا الذي ذهبت إليه من كلامنا؟

ليعلم الأستاذ أني لا أحفلُ بمثل هذا، ولا أنظر إليه، ولا أقف عنده، ولكني أبينه له ولغيره، ليعلم أن كل أحد يستطيع أن يقول ما يشاء فيما يشاء على أي وجه يشاء. . . ولكن ذلك لا يجوز على أحد، ولا يغفل عنه من قرأ الأول والآخر، ونظر وفهم وجمع وعرف معاني الكلام، وكيف خرج وإلى أين ينتهي؛ وليعلم أيضاً أن كل أحد يستطيع أن يفهم من الكلام ما يشاء على غير قاعدة من منطق أو عربية، ولكن فهمه لا يكون حجة يأتي بها الناس ويظهر بها عليهم، ويحاول أن يسقط أقوالهم بها. لابد للكلام من منطق عقل وفقه عربية حتى يفهم، وإلا أصبحت المعاني فوضى لا ضابط لها ولا وكيل عليها ولا حفيظ.

وللقارئ أن ينظر إلى فعلات الأخ سعيد هذه فقد قلنا في كلمتنا الأولى (الرسالة عدد 167) عند رد اعتراضه: (إن هذا الخجل الذي يزعمونه إنما هو من أباطيل (الرواية)، وقد أتى به القوم ليعضدوا قولهم في خرافة النبوة. . . الخ) فجاء ينقل هذا في كلامه مرتين هكذا (إن هذا الخجل الذي يزعمونه إنما هو من أباطيل (الرواة)) فنحن نقول: (الرواية)، وهو يقول على لساننا (الرواة) وبين اللفظين فرق (كبير) في عربيتهما وفي موقعهما من الكلام. ولو أردنا الذي أراده الأخ سعيد لكلامنا لقلنا (من أكاذيب الرواة). ولو رجع الأخ إلى كلامنا الذي أعقب هذه الكلمة لعلم لم قلنا (أباطيل الرواية) ولم نقل (أكاذيب الرواة). هذا على أني أقول أيضاً إن الذي زعموه من خجل أبي الطيب حين كان يسأل عن أمر لقب المتنبي - هو من أكاذيب الرواة. فإذا أراد الأستاذ أن يعرف من هم هؤلاء الرواة، فليرجع إلى الكتاب الذي نقل عنه هذا الكلام، فينظرَ من هم؛ ومع ذلك فليسَ تغني معرفة الرواة شيئاً في هذا الأمر. وتعب أن أمضي على هذا الوجه في تعريف الأستاذ سعيد بوجوه بطلان كلام هؤلاء الناس الذين نقل كلامهم، فعليه أن يريحنا قليلاً بتدبره في كلام هؤلاء الناس، والنظر في معاني رواياتهم بالذي توجبه العربية، مع المقارنة بين هذه المعاني المختلفة المتباينة فعند ذلك يعرفُ كيف كان التناقُضُ في الرواية، وكيف هدَمتْ الرواياتُ بعضها بعضاً في خبر نبوة أبي الطيب.

وبعد. . . فأن في كلام الأستاذ من وجوه التهافت ما لا تطيعني (الرسالة) على الإفاضة فيه، ولا يواتيني الزمنُ على إزهاقه من أجله، ولكني أنصح للأخ ألا يلجأ إلى ضروب القول التي يخرج بها الكلامُ عن حده إلى مجاهل من المغالطة والاعتراض، وإرادة الغلبة، واتباع الظن، وفتنة الرأي، والإصرار على خطرات النفس. وليعلم الأستاذ أني لست ممن يغفل عن مواضع التحريف في القول، أو الإحالة في الحجة، أو الفساد في التأويل، فإن أراد أن يعود إلى الحديث والكتابة، فليعد على مذهب مرضيٍّ متبع معروف غير منكر. فإن فعل فما أنا بالذي يسوءه أو يغضبه، وما أريد من شيء إلا أن أهتدي إلى الحق على يديّ من كان له فضلُ السبق، وحسنُ الحديث، وكمالُ الغلبة بالحق. . . هذا وقد أعفينا الأستاذ من كثير قولٍ في الذي جاء في مقاله الأخير - لو أردنا أن نكيل له من جرّائه بمثل كيله لفعلنا فأشوينا. . . ولكن.

عبَأت لهُ حِلمي لأُكرمَ غيره ... وأعرضت عنه، وهو باد مقاتله

محمود محمد شاكر

مجلة الرسالة - العدد 172
بتاريخ: 19 - 10 - 1936

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى