إدوارد وليم لين - 18 - المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم في النصف الأول من القرن التاسع عشر.. للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع الفصل السادس - الحياة المنزلية

جرت العادة أن ينصرف التاجر بعد تناول الفطور مباشرة إلى حانوته أو مخزنه ولا يعود إلى المنزل قبل الأصيل. ولديه هناك الفراغ الكافي للتدخين متى شاء، وكثيراً ما يدخن حرفاؤه معه، فيقدم إلى بعضهم شبكه الخاص، والقهوة يستحضرها من أقرب مقهى. وقد يمضي أغلب يومه في التكلم مع الحرفاء أو مع جيرانه من التجار. والتاجر يقيم صلاته على العموم في دكانه، ويتناول بعد صلاة الظهر طعاماً خفيفاً مثل طبق من كباب ورغيف من الخبز يحضرهما إليه خادم صغير من المنزل أو من السوق يومياً، أو بعض الخبز مع الجبن أو المخللات، أو غير ذلك مما يشتريه من الباعة المتجولين. ويدعو التاجر دائم الحريف إلى مشاركته الطعام، وقد يلح في الدعوة. ويحتفظ في دكانه بقلة كبيرة يملأها عند اللزوم سقاء متجول، ويعود التاجر إلى منزله مساء للعشاء، وسرعان ما ينام. . .

والعادة أن ينام الرجل هو وزوجه في سرير واحد، إلا أن أفراد الطبقة الموسرة يتخذون غالباً سرراً منفصلة. ويتكون السرير عند متوسطي الحال مما يأتي: حشية طوله حوالي ست أقدام، وعرضها ثلاث أقدام أو أربع، توضع على سرير منخفض من جريد النخيل، ومخدة ليستريح عليها الرأس، وملاءة تفرش فوق الحشية والمخدة. وغطاء الصيف خفيف، ويسمى (حراما)، أما غطاء الشتاء فغليظ محشو بالقطن ويسمى (لحافا). وقد توضع الحشية على الأرض إذا لم يوجد سرير، أو توضع اثنتان معاً واحدة فوق الأخرى، وكثيراً ما يكتنفها مسندان من مساند الديوان؛ والكلة تعلق فوق السرير بأربعة خيوط تشد إلى مسامير تدق في الحائط. ويندر أن يغير المصري ملابسه عند النوم. وفي الشتاء ينام بملابسه العادية جميعها إلا الجبة والملابس الجوخية. أما في الصيف فينامون عراة أو شبه عراة. وينصب السرير شتاء في غرفة صغيرة تسمى (خزنة) وصيفاً في غرفة واسعة. ويطوي فرش السرير نهاراً ويوضع على جانب، أو في الخزنة السابق ذكرها. وعند اشتداد الحر ينام أغلب الناس على أسطح المنازل أو في (الفسحة): وهي غرفة لا سقف لها؛ ولكن تعرضهم للهواء الطلق أثناء الليل يسبب لهم الرمد وأمراضاً أخرى. وأكثر أنواع الأسرة شيوعاً ما يصنع من جريد النخل، وهو يجلب البق الذي يكثر كثرة فاحشة في مصر أثناء الصيف مثل كثرة البراغيث في الشتاء، وقد سبق ذكر هذه الحشرات والبلايا الأخرى التي يتعرض لها المصريون ليلاً ونهاراً. والقمل أكثر هذه الحشرات إثارة للاشمئزاز؛ ولكن الذي يغير ملابسه الداخلية كل يومين أو ثلاثة أيام قلما تضايقه هذه الحشرة، وأن لم يكن تجنبها سهلاً دائماً حتى مع النظافة التامة. وإذا كان القمل يضايق فأن من السهل الخلاص منه، لأنه لا يلصق بالجلد وإنما يوجد على العموم في الثياب. ومن الممكن أن ينظف المنزل من البراغيث بكثرة الغسل والكنس، وأن يمنع الذباب من الدخول بوضع الشباك على الأبواب والنوافذ، وإن كانت حلقاتها واسعة، ولكن من المستحيل أن يطهر المنزل المصري من البق إذا كان أثاثه من الخشب كما هو الحال غالباً.

وحياة الخدم الذكور كلها دعة وراحة ما خلا السائس الذي يجب عليه أن يرافق سيده وقت الركوب فيجري أمامه أو بجانبه وقد يقوم بعمله هذا في أشد الأوقات حراً ولمدة ساعات طويلة دون أن يبدو عليه التعب. ولكل ثري من أثرياء القاهرة تقريباً بواب يلازم باب المنزل، وعدة خدم ذكور آخرين. وأغلب هؤلاء مصريون. ويستخدم أيضاً النوبيون في القاهرة وفي غيرها من مدن مصر. وكثيراً ما يقوم النوبيون بحراسة الأبواب؛ وهم على العموم أكثر أمانة من الخدم المصريين. وأجرة الخادم تافهة لا تتعدى ريالاً أو ريالين في الشهر، إلا أنه يتناول منحاً كثيرة فيعطي السيد كل خادم في عيد الفطر بعض الملابس الجديدة أو خلعة كاملة من عرى وطربوش وعمامة. وعلى الخادم أن يدبر لنفسه ملابسه السنوية الأخرى ما عدا الحذاء أحياناً. وقد يتناول، علاوة على ما يعطيه السيد، بعض النقود من الضيوف أو من التجار الذين يعاملهم السيد وعلى الأخص عندما يشتري صفقة كبيرة. وينام الخدم بملابس النهار على الحصر، ويغطون أنفسهم شتاء بدثار أو حرام.

وكثيراً ما يرفع الخادم الكلفة مع سيده فيضحك ويمزح معه. وفي بعض الأحوال الأخرى يخضع كل الخضوع ويظهر له كل الاحترام، ويتقبل كل ما يوقعه عليه من العقوبة البدنية بهدوء الأطفال.

ويراعي السيد الخادم العبد أكثر من الخادم الحر؛ ويحيا العبد حياة توافق طبيعته الكسولة. ويمكنه إذا كان غير راض عن عمله أن يجبر سيده على بيعه. وأغلب عبيد مصر يلبسون الملابس العسكرية التركية. وهم على العموم أشد الناس تعصباً في مصر وأكثر تعوداً على إهانة المسيحيين وكل من كان على غير دينهم الذي اعتنقوه دون أن يعرفوا من مبادئه أكثر مما يعرف أطفال العرب الذين لم يمض عليهم في المدارس أكثر من أسبوع. وسأذكر بعض أخبار الجواري في الفصل القادم.

ومعرفة أحوال المصريين المحدثين كثيراً ما تجرنا إلى مقارنة عاداتهم المنزلية بعادات الأوربيين في القرون الوسطى؛ وما في هذه المقارنة من مشابهات، تعتبر اكثر تأثيراً مما فيها من مباينات، هذا بالنسبة للرجال؛ أما بالنسبة للنساء فالآمر على العكس

الآن وقد أطلت الحديث عن الرجال يجب أن أنتقل إلى الكلام عن الحريم. ولكن يجب أولاً أن أذكر بعض الشيء عن الزواج وحفلاته.

يعتبر المصريون امتناع الرجل عن الزواج بلا مبرر عند بلوغ السن الملائمة مخالفاً للآداب ومسيئاً للسمعة. وقد لقيت أنا نفسي لارتكابي هذه الخطيئة (أقول ذلك حتى لا أذكر ما هو أشد قسوة)، مضايقات ومكاره كثيرة، واحتملت عتاباً شديداً أثناء زيارتي الأوليين لمصر. فقد بدا لي في المرة الأولى أن أنتقل من المنزل الذي سكنته بعض شهور في شارع كبير من شوارع القاهرة إلى منزل آخر في حي مجاور، وكتبت عقد الإيجار ودفعت العربون، ولكن جاءني وكيل المالك بعد يومين يخبرني أن سكان الحي وأكثرهم أشراف يعترضون على سكني بينهم لأنني أعزب؛ ولكنهم يقبلونني بكل سرور إذا اقتنيت على الأقل جارية تنفي عني عار العزوبة. فأجبته إنني لا أنوي الإقامة بمصر فلا أحب أن أتخذ لي زوجة أو جارية قد يضطرني الرحيل إلى تركها. فأعاد إلي العربون. وساعدني الحظ في حي آخر فلم يعترض على عزوبتي أحد، وإنما طلب مني الوعد بعدم السماح لأي شخص يلبس القبعة أن يزورني في الحي. ولكن بعد أن أستقر بي المقام أخذ شيخ الحي يحاول إقناعي بوجوب الزواج. ولم يقم وزناً لكل ما أبديته من الحجج التي تمنعني عن الزواج وقال: (تذكر لي أنك تريد ترك مصر بعد سنة أو سنتين. وأن هنا أرملة شابة جميلة تسكن على مقربة منك، ويسرها أن تصبح زوجتك مع رضاها بأن تطلقها حينما تترك البلد. وفي وسعك طبعاً أن تفعل ذلك إذا لم تعجبك.) وقد استطاعت هذه الشابة مراراً أن تجعلني أبصر وجهها الجميل أثناء مروري بالمنزل الذي تسكنه مع أهلها. فقلت لصاحبي إنني رأيت وجهها بطريق الصدفة، وإنها آخر امرأة أرغب في الزواج منها في مثل هذه الظروف لتأكدي من أنني لا أستطيع طلاقها أو فراقها إذا عشت معها. وقد شق عليّ أن أسكت صديقي الخدوم. لقد ذكرت في المقدمة أن الأعزب أو من لا يقتني جارية يضطر إلى السكنى في الوكالة إلا إذا كان يعيش مع أهله، ولكن الإفرنج الآن يّعفون من هذا القيد.

وتبلغ المصريات في سن مبكرة قبل نساء البلدان الباردة. وكثيراً ما يتزوجن في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة. وقد ينضجن قبل السن بشكل يستحق الاعتبار ويتزوجن في العاشرة. إلا أن هذا الزواج المبكر غير شائع. وقلما تبقين بدون زواج بعد السادسة عشرة. وقد تصبح الفتاة المصرية أماً في الثالثة عشرة أو قبل ذلك. ونساء مصر على العموم ولودات، ولكن الأجنبيات اللاتي توطن مصر عقيمات غالباً. ويندر أن يعيش من يولد في مصر من أولاد الأجانب إلى سن الكهولة ولو كانت الأم مصرية. ولهذا يرجع السبب في تبني المماليك المعتقين غيرهم من المماليك.

ومن الشائع بين العرب في مصر وغيرها أن يتزوج الرجل من ابنة العم أو الخال. ويستمرون بعد الزواج على التنادي بألقاب القرابة. لأن رابطة الدم لا تفصم، ولكن صلة الزوجية عرضة لزوال. ومثل هذا الزواج يدوم على العموم بسبب رابطة القرابة، وقد تربطهما وحدة البيئة في طفولتهما، ولكن قلما يسمح للفتى أن يرى وجه قريبته في الطبقتين العليا والوسطى، أو يقابلها أو يحادثها حين تقرب من سن البلوغ إلى أن تصبح زوجته.

ويتم زواج العذراء بالطريقة الآتية، إلا إذا كانت أرملة أو مطلقة فيكون الحفل صغيراً. تبدأ أم الراغب في الزواج أو إحدى قريباته بوصف الفتاة التي تكون عرفتها وذكر أحوالها، وترشده في اختياره. وقد يستخدم خاطبة وهي امرأة عملها أن تساعد الرجال في الزواج.

وقد يستخدم أكثر من خاطبة. وتقدم الخاطبة بيانها عن الفتيات مساره، فتصف الواحدة أنها كالغزال جمالاً ورشاقة صغيرة السن، والأخرى أنها ليست جميلة ولكنها غنية، وهكذا. والعادة أن تذهب أم الخاطب وبعض قريباته مع خاطبة لزيارة عدة بيوت. وللخاطبة حق الدخول لاحترافها سمسرة الزواج، إذا أن النساء كالرجال يستخدمنها أيضاً، وقد تقوم الخاطبة بمهنة (الدلالة) أيضاً تبيع الحلي والملابس الخ، فيسهل عليها دخول البيوت تقريباً، وتقدم النساء اللاتي يرافقن الخاطبة، للبحث عن زوجة لقريبهن، باعتبارهن زائرات فقط، وقد لا يلبثن طويلاً إذا لم يصادفن مرادهن، ويفهم الطرف الآخر طبعاً القصد من الزيارة ولكن إذا وجدن بين نساء المنزل (ولا بد من رؤيتهن جميع من يصلحن للزواج) فتاة أو امرأة شابة تتحلى بالصفات اللازمة يكشفن عن قصدهن ويستفهمن، إذا لم يكن طلب الزواج وقتئذ مستقبحاً، عما تملك الفتاة من أملاك وحلي الخ. وقد تملك الفتات إذا توفى أبوها منزلاً أو اكثر وحوانيت كثيرة الخ. وتملك كل بنت على وشك الزواج، في الطبقتين العليا والوسطى، مجموعة من الحلي الذهبية والجواهر في جميع الأحوال تقريباً. وبعد أن يستعلم الزائرات عن هذا وغيره يقدمن تقريرهن إلى الراغب في الزواج، فإذا رضى بذلك البيان يقدم إلى الخاطبة هدية ويرسلها ثانية إلى عائلة الفتاة لتعرفهن رغباته، وتبالغ الخاطبة على العموم في حديثها عن صفات الرجل الجذابة وثروته الخ، فتتحدث مثلاً عن شاب خامل تعلم هي أنه لا يكاد يملك شيئاً ولا يمتاز بشيء بقولها: (يا ابنتي، إن الشاب الذي يرغب في الزواج منك صغير السن لطيف العشرة أنيق أمرد ثرى جميل الملبس مغرم باللطائف؛ إلا أنه لا يستطيع أن يتمتع بهذا الترف وحده فهو يريد أن تكوني شريكته. وسيعطيك كل ما يشتري بالمال؛ وهو لا يخرج كثيراً؛ وسيمضي وقته كله إلى جانبك يلاطفك ويدللك).

عدلي طاهر نور

مجلة الرسالة - العدد 442
بتاريخ: 22 - 12 - 1941

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى