حسن العاصي - اليمين الأوروبي المتعصب وسوسيولوجيا التطرف .. هل تعود الفاشية؟


بالرغم من الانخفاض الشديد في أعداد المهاجرين واللاجئين الذين يصلون إلى إحدى بلدان الاتحاد الأوروبي خلال الشهور الأخيرة، حيث بلغت نسبة التراجع 94 في المئة عما كان الحال عليه في الأعوام الماضية وخاصة العام 2015 حين دخل حوالي مليونين لاجئ إلى دول الاتحاد كما صرح المسؤولين في البرلمان الأوروبي، إلا أن الضجة التي تثار حول ملف اللاجئين والمهاجرين لا تستكين، بل تحولت إلى قضية تجاذب سياسية بين مختلف الأحزاب الأوروبية يمينها ويسارها، وصلت إلى حد تحولها إلى أزمة باتت تهدد الوحدة الأوروبية ذاتها.
مع إن الدول الأوروبية فرضت قيوداً متشددة للحد من وصول اللاجئين إلى أراضيها بطرق غير شرعية، حيث تعتبر هذه الإجراءات هي الأشد والأكثر قسوة في تاريخ معالجة الاتحاد الأوروبي لهذه القضية، لكن هذا الملف تحول إلى مادة مثيرة لوسائل الإعلام المختلفة. ووجدت فيه الأحزاب اليمينية المتطرفة الذريعة التي تنتظرها كي توسع نفوذها وسط شرائح جديدة ومتعددة في المجتمعات الأوروبية، لأهداف انتخابية للوصول إلى البرلمانات، من خلال نشر ثقافة الخوف بين الأوروبيين من القادمين لسرقة وظائفهم، هؤلاء الوافدون من خلفيات عرقية وإثنية مختلفة وهو ما يهدد النسيج الاجتماعي ويشوه الهوية الثقافية الأوروبية كما يدعون، والمغالاة في تصوير الخطر القادم من المسلمين عبر توجيه خطاب عنصري شوفيني من قبل قادة الأحزاب اليمينية المتطرفة في فرنسا وهولندا وإيطاليا، واليونان والمجر وبولندا وبلغاريا وبلجيكا، وبصورة اقل في ألمانيا والسويد والدانمرك.
حزب الرابطة الإيطالي العنصري يدعو إلى طرد نصف مليون مهاجر غير شرعي من إيطاليا، ويرفع شعارات "لن تصبح إيطاليا مخيم اللاجئين الخاص بأوروبا" وقال زعيم الحزب "سالفيني" الذي يشغل حالياً منصب وزير داخلية إيطاليا موجهاً كلامه إلى سفن منظمات المجتمع المدني المنتشرة في المتوسط والتي تقوم بإنقاذ المهاجرين في عرض البحر أن هؤلاء المهاجرين "لن يروا إيطاليا إلا في البطاقات السياحية" ودعا إلى تشكيل رابطة أوروبية موحدة تجمع الأحزاب اليمينية العنصرية في أوروبا للدفاع عن "شعوب أوروبا وحدودها" كما قال. وبالرغم من الانتقادات التي وجهت له ولسياساته حول الهجرة أكد أنه لن يتراجع عنها.

ما هي حكاية اليمين
اثناء الثورة الفرنسية في العام 1789 وفي إحدى اجتماعات الجمعية الوطنية الفرنسية، تم استبدال الجمعية بمجلس تشريعي، فجلس الرافضين للتجديد والمؤيدين للملك والمدافعين عن الدستور على يمينه، بينما جلس على الجهة اليسرى مؤيدو الثورة والمجددون.
لكن مصطلح اليمين واليسار بمفهومه الأيديولوجي لم يظهر إلا في بداية القرن العشرين، حيث تبلورت المفاهيم السياسية وأصبحت تصاغ بطريقة ممنهجة. فأصبح اليساريين يصفون أنفسهم على أنهم "جمهوريين" وصار اليمينيين يصفون حالهم "محافظين". خلال الحرب العالمية الأولى التي بدأت في العام 1914 أصبحت جميع القوى والأحزاب الاشتراكية والجمهورية والراديكالية في الجلوس بالجهة اليسرى للمجلس التشريعي الفرنسي.
يتبنى اليمين عادة الخطاب المحافظ الذي يدعو إلى إصلاح متدرج، مع المحافظة على كل ما هو عناصر موروثة، ويؤمن اليمين أن هناك فروقات شخصية واجتماعية بين البشر، ويعتنق أفكار تحارب التجدد، وترفع شعارات حرية الأسواق والتجارة والملكية الفردية.
بينما اليسار يؤمن بمفهوم العدالة الاجتماعية والمساواة، يعترف بالتقسيم الطبقي لكنه يناضل لأجل إلغائه، يدعو إلى التغيير والتجدد، وإلى وضع ضوابط لحركة الأسواق والتجارة.
اليمين ليس جميعه يميناً منسجماً، نجد اليمين إلى يمين الوسط واليمين المتطرف. يعرف عن يمين الوسط تبنيه لبعض السياسات الاجتماعية، وانفتاح محدود للتغيير في حدود ضيقة، إذ أنه ليس يميناً محافظاً بالكامل. فيما يتعلق باليمين المتطرف فإنه يغالي في خطابه الذي يعتمد في الأساس على مبادئ اليمين المحافظ.
أيضاً لليسار تصنيفات، هناك يسار الوسط الذي يتبنى بعض السياسات الليبرالية، واليسار الراديكالي الذي يؤمن بالصراع الطبقي وضرورة التغيير الجذري.
بعض المفكرين الغربيين يعتمد تصنيف الأحزاب الأوروبية إلى " شيوعية، اشتراكية، خضراء، ليبرالية، ديمقراطية مسيحية، محافظة، يمين متطرف" ارتباطاً بالموقف من ملكية وسائل الإنتاج، والموقف من الأوضاع الاجتماعية كمقياسين أساسيين. وهناك من يعتمد معايير تقسم الأحزاب بناء على موقفها من الفرد أو الجماعة، مثل " الليبرالية الفوضوية واليمين المسيحي"، إلا أن أكثر التقسيمات شيوعاً هي التي تعتمد على تصنيف اليمين واليسار والتفرعات بينهما.
اليمين المتطرف، هو ما توصف به بعض الأحزاب الأوروبية التي تتقاطع فيما بينها في عدة نقاط أهمها إظهار العداء للمهاجرين، وسعيها لوقف الهجرة إلى الدول الأوروبية، حيث أن هذه الأحزاب تعتبر ان هؤلاء المهاجرين يهددون الهوية القومية الأوروبية – وهذا الموقف يتعلق برؤية هذه الأحزاب للإسلام والمسلمين الذين لا يؤمنون بعلمانية المجتمعات الأوروبية- وكذلك يتهم هذا اليمين المهاجرين أنهم السبب الرئيسي وراء ارتفاع معدلات الجريمة وانتشار الجريمة، وأنهم يستغلون مزايا الرفاه الاجتماعي المتوفر في الدول الأوروبية دون أن يقدمون المقابل.
وتشترك هذه الأحزاب فيما بينها برفضها لسياسات الاندماج الأوروبية، وتعارض تشريع القوانين الديمقراطية الاجتماعية المدنية، وتدعوا إلى تخفيض الضرائب، والتشدد في العقوبات في مواجهة الجريمة، وهي لا تبدي اهتماماً بقضايا البيئة، ولديها موقف عدائي من الأقليات والأعراق الأخرى.

أهم الأحزاب الأوروبية اليمينية المتطرفة
حزب الجبهة الوطنية الفرنسي:
بزعامة "مارين لوبان" ابنة مؤسس الحزب "جان ماري لوبان". الحزب تأسس العام 1972، وحقق في الانتخابات المحلية الأخيرة العام 2017 على ما نسبته 25 بالمئة من الأصوات.
حزب من أجل الحرية الهولندي:
أسسه المتطرف "جيرت فيلدرز" العام 2006 الذي أنتج فيلم "فتنة" المسيء للإسلام. حصل الحزب على 24 مقعداً برلمانياً من أصل 150 في انتخابات 2010، وله 5 مقاعد في البرلمان الأوروبي.
الحزب الوطني الديمقراطي الألماني:
تأسس في العام 1964، وينشط في الولايات الشرقية، وفي العام 2013 تم تأسيس حزب "البديل من أجل ألمانيا" الذي حصد سبعة مقاعد في البرلمان الأوروبي العام 2014. وظهرت حركة "بيجيدا" محتصر لاسم أوروبيين وطنيين ضد أسلمة الغرب.
حزب الاستقلال البريطاني:
تأسس كحزب مناهض للاتحاد الأوروبي العام 1993 وهو معروف باسم "يوكيب". وحصل على مقعد في البرلمان البريطاني في العام 2014 ويتزعمه "نايجل فاراج".
حزب رابطة الشمال الإيطالية:
حزب سياسي إيطالي، يتطلع إلى فصل منطقة بادانيا بشمالي إيطاليا، معروف بنزعته العنصرية، وعداوته للمهاجرين. تأسس الحزب في العام 1989. معروف بعدائه الشديد للمسلمين.
الفجر الذهبي في اليونان:
حزب يوناني متطرف، اسسه " نيكولاوس ميخالولياكوس" في العام 1980، بدأ تنظيما نازيا وانتهى حزبا سياسيا له شعبية ومؤيدون. شكلت الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد أحد أسباب صعوده. وقد شن أعضاؤه ومناصروه مئات الهجمات على الأجانب في اليونان.
حزب الحرية النمساوي:
تأسس في العام 1956، له ماضي نازي، يتزعمه الفاشي "هاينز كريستيان شتراهي" المشهور بعدائه للإسلام والمسلمين، ويتبنى خطاباً نارياً ضد المهاجرين.

حزب أتاكا في بلغاريا:
أسسه "فولان سيديروف" في العام 2005. وهو حزب يميني متطرف، يعتبر أن الأقليات العرقية في بلغاريا – الأتراك، الرومز، الغجر- لا يستحقون مساواتهم مع المواطنين البلغار، ويعارض الحزب انضمام بلغاريا لحلف الناتو، وينادي بعودة الكنيسة ليكون لها دور أكبر في الحياة العامة. لديه سياسة معادية للمهاجرين.
حركة يوبيك في المجر:
وهي جماعية يمينية متطرفة تشكلت في العام 2015 في بودايست. تتبنى خطاباً عنصرياً متشدداً صريحاً ضد الهجرة وضد اللاجئين، يعادي الحزب كلاً من العرب والأفارقة والغجر، ويقول أحد زعماء الحزب "بالاش لاسلو" " يجب أن يأتي مجتمعنا العرقي أولاَ، لا توجد مساواة".
حزب المصلحة الفلاندرية في بلجيكا:
تأسس في العام 1979 ويطالب في انفصال إقليم "فلاندريا" في بلجيكا، يتمدد ويحقق نجاحات في الانتخابات البلدية. الحزب يميني قومي متعصب، يعادي اللاجئين ومعادي للإسلام والمسلمين.
وحزب اليمين الجديد في بولندا:
حزب يميني قومي عرقي تأسس العام 2016، ويطالب بولندا بالخروج من الاتحاد الأوروبي، يدعو لإعادة عقوبة الإعدام، يرفع لافتات عنصرية واضحة مثل "أوروبا البيضاء" و "الدماء النقية". حزب معادي للمهاجرين وللأقليات.
حزب الأحرار في النمسا:
يرفع شعار "النمسا أولاً". حزب يميني قومي عنصري متطرف، ". تأسس العام 1956، يتبنى الحزب ايديولوجية معادية للمهاجرين وللإسلام.
حزب الشعب السلوفاكي:
تأسس العام 1991 باسم الحركة الديمقراطية لأجل سلوفاكيا، وفي العام 2014 أصبح اسمه حزب الشعب. حزب قومي يميني متطرف معادي للمهاجرين واللاجئين، يعادي الإسلام والمسلمين، يعادي الولايات المتحدة الأمريكية واليهود، يرفع شعار شهير "حتى لاجئ واحد فهو كثير". حلف الناتو يصفه بالمنظمة الإجرامية.



حزب الديمقراطيون السويديون:
تأسس الحزب في العام 1988. حزب يميني قومي اجتماعي محافظ، أسسه مجموعة من اليمينيين المتطرفين. تصاعد خطابه العنصري خلال السنوات الأخيرة. معادي لسياسة الهجرة واللجوء. يرفع شعار " فلتبقى السويد سويدية".
حزب الفنلنديون الحقيقيون
الحزب تأسس في العام 1995، وهو حزب يميني قومي محافظ، ينتقد سياسات الاتحاد الأوروبي، يدعو إلى إقامة دولة الرفاه في فنلندا، ويتبنى سياسة صارمة لتقييد أعداد اللاجئين. رغم أن شعاراته تبدو يسارية في الجوانب الاجتماعية، إلا أنه سياساً حزب قومي لا تخلو بعض مواقفه من العنصرية.
حزب الشعب الدنماركي:
تأسس الحزب في العام 1995. وبدءًا من انتخابات العام 2005 أصبح الحزب ثالث أكبر الأحزاب الدانمركية. هو حزب قومي يميني محافظ، تستند سياسته على رفض مجتمع مهاجر في الدانمرك، ولا يرى أن الدانمرك قابلة كي تتحول إلى مجتمع متعدد مثل الولايات المتحدة الأمريكية. يعادي اللاجئين والمهاجرين، ومعادي للإسلام والمسلمين، لكنه لا يعتمد خطاباً شوفينياً مثل بعض الأحزاب اليمينية الأوروبية الأخرى. يعارض سياسة الاتحاد الأوروبي ويتمسك بالعملة الوطنية.

العوامل التي أدت إلى اتساع نفوذ اليمين المتطرف
شهدت الفترة التي تلت انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، فراغاً أيديولوجياً عبّد الطريق أمام انتعاش أحزاب اليمين الأوروبية التي دعت بقوة إلى الخصوصية القومية الأوروبية، ومثلت الخط الراديكالي للغضب الذي ساد وسط قطاعات واسعة من المواطنين الأوروبيين، من عجر حكوماتهم حل المشاكل الاقتصادية، ومعالجة الفساد والهجرة غير الشرعية، لذلك بدأ الناس يصوتون لهذه
الأحزاب اليمينية خلال الانتخابات البلدية والبرلمانية، لأنها كانت ترفع شعارات تعكس سخط الناس.
ثم واجهت الحكومات الأوروبية الأزمة المالية العالمية في العام 2008 بعجز لأدى إلى اتباع سياسات تقشف اقتصادية طالت جميع مرافق الحياة، وتراجعت الدول الأوروبية عن تمويل كثير من برامج الخدمات الاجتماعية، وتسريح عدد كبير من الموظفين العموميين، وتقليص النفقات في قطاعي التعليم والصحة. وبنتيجة الأزمة انخفضت مستويات النمو في هذه الدول إلى أدنى مستوياتها، وارتفعت نسبة البطالة ووصلت في بعض البلدان مستويات خطيرة مثل اسبانيا 24 في المئة وبطالة في اليونان بنسبة وصلت 26 في المئة، الأمر الذي نتج عنه التفريط بحقوق العمالة الوافدة إلى بلدان مثل اسبانيا وإيطاليا، وازدياد أعداد اللاجئين بصورة لم تعهدها القارة الأوروبية من قبل بسبب الأزمات المشتعلة في الجانب الأخر من المتوسط، ومناطق أخرى في العالم، تعمقت مشكلة البطالة، وارتفعت قيمة المصاريف العامة لدى هذه الحكومات بسبب تدفق اللاجئين، والنظر لهم باعتبارهم عمالة بديلة اقل تكلفة من العمال الأوروبيين، وهذا شكل حالة عامة من السخط والتذمر لدى قطاعات واسعة من الأوروبيين.
في ظني ان السبب الأهم في اتساع شعبية الأحزاب اليمينية المتطرفة الأوروبية يعود إلى استخدامها خطاباً تهويلياً يمس الجانب الأخطر في العقلية الأوروبية، وهو الجانب الثقافي الذي تحسن توظيفه لاستقطاب قطاعات واسعة ومتزايدة من الشارع الأوروبي، من خلال الترويج لمفاهيم "الخطر الإسلامي" و "أسلمة أوروبا" و "العرق الأبيض" و "أوروبا للأوروبيين" إلى الكثير من الشعارات التي تستخدمها هذه الأحزاب كفزاعة وخطر يهدد أوروبا وخصوصيتها العرقية والثقافية، التي يهدد وجودها المسلمين والفكر الإسلامي المعادي للمرأة، ويشكل حاضنة للفكر المتطرف الذي يجاهر بالعداء للثقافة الأوروبية العلمانية. هكذا ينتشر فيروس "الإسلاموفوبيا" من مدينة إلى أخرى وتنتقل العدوى من دولة إلى أخرى في الاتحاد الأوروبي، وتجد لها جسداً قابلاً لاحتضان المرض تمثله الدول الاستعمارية "بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا" الأكثر بغضاً للعرب والأفارقة وللدين الإسلامي، عداء متجذر في التاريخ الغربي منذ الحروب الصليبية.

هل مخاوف الغرب مشروعة؟
وفي واقع الحال ينتمي معظم المهاجرون المسلمون في أوروبا إلى شرائح اجتماعية فقيرة في بلدانها الأصلية، ومتدنية التعليم نسبياً خاصة الجيل الأول من المهاجرين، هذا تسبب في عدم امتلاكهم وعياً سياسياً، وغاب عنهم أهمية تنظيم أنفسهم في أطر سياسية ونقابية في مجتمعاتهم الجديدة. ثم أن المهاجرين العرب والمسلمين هم أكثر الجاليات نمواً في عدد زيادة المواليد، ويعتبر الدين الإسلامي هو الدين الأكثر انتشاراً في الغرب، وهناك عامل آخر يتمثل في التصرفات والمفاهيم المتطرفة لبعض المهاجرين واللاجئين، كل هذه العوامل ساهمت في سهولة ترويج الخطاب العنصري للأحزاب اليمينية الأوروبية التي تصور أن المهاجرين والفكر الإسلامي هما مصدر التهديد الحقيقي للقيم الأوروبية العلمانية الثقافية والقومية.
تستغل الأحزاب اليمينية في أوروبا الأوضاع الاقتصادية الصعبة للنفخ في نار العداء للمهاجرين، وتستخدم هذا الملف في الضغط على الاتحاد الأوروبي لإصدار تشريعات تحد من الهجرة، وتعتبر هذه القضية فرصتها لتعزيز أوضاعها الانتخابية على حساب الأحزاب التقليدية. هو ما دفع المستشار الألمانية "ميركل" للقول إن " ملف الهجرة وتضخيمه ونشر الخوف منه أصبح يشكل تحدياً لقيم القارة الأوروبية وتماسكها".
وتدعو ألمانيا إلى عدم المقاربات الأحادية الأمنية في معالجة المشكلة عبر إغلاق الحدود، وضرورة إجاد حلول جماعية. وتم تقديم اقتراحات لترحيل المشكلة من أوروبا إلى دول العبور في الشمال الافريقي " المغرب، ليبيا، مصر، تونس، السودان" إلا أن هذه الدول ترفض إقامة معسكرات استقبال اللاجئين في أراضيها.
نعم لأوروبا مخاوفها المشروعة من الهجرة غير الشرعية إليها، لكن لا يمكن لجميع الحلول السريعة والآنية أن تعالج مشكلة بهذا الحجم. لا بد من إجراء مقاربات تفضي إلى معالجة جذور المشكلة، وإطفاء الحرائق المشتعلة في أكثر من مكان في العالم حول القارة العجوز، ولا بد لهذه الدول الأوروبية من تحمل مسؤولياتها التاريخية كدول مستعمرة في القيام بمبادرات جدية في مناطق الكوارث والفقر لمساعدة هذه الشعوب على نهوض يغنيها عن المغامرة بأرواح أبناءها لأجل الوصول للقارة البيضاء.

ربما لن نجد يميناً ولا يساراً
إن ما يثير المخاوف أن الأحزاب الوسطية اليمينية واليسارية قد تعلن انحيازها إلى جانب الأحزاب اليمينية المتشددة إذا استمر صعودها، وإن تواصل نجاحها في تحقيق توسع واستقطاب شرائح انتخابية جديدة. الواقع الحالي يشير إلى وجود بضعة أحزاب يمينية شعبوية يمكن احتوائها والحد من تداعيات خطابها المتشدد عبر تسويات سياسية عادة تكون -للآن- لصالح أحزاب الوسط والأحزاب التقليدية التي تشكل الأغلبية الحاكمة. لكن ماذا لو زادت نسبة التطرف في الشارع الأوروبي، فإن ذلك سوف يميل لمصلحة الأحزاب المتطرفة، التي كلما حققت نجاحاً فإن هذا سوف يعني تراجعاً للأحزاب التقليدية، وهكذا سيكون الحال في منحى لا نعلم عن ماذا سيسفر.
وربما يؤدي إلى سقوط التصنيف التقليدي بين يسار ويمين، ذلك أن الكثيرين يعيدون صياغة أولوياتهم في ضوء التطورات المتسارعة الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها أوروبا في ربع القرن الأخير. إن الفاعلين في المشهد السياسي الأوروبي في السنوات الأخيرة هم القوى والأطراف والأحزاب التي تؤمن أكثر فأكثر بأفكار القومية والاعتزاز بالماضي والانغلاق والتعصب على حساب العلمانية والانفتاح والتسامح. إنه حنين إلى الماضي المثالي "نوستالجيا سياسية" تكتسح أوروبا. فمن يصنع المشهد الحاضر الأوروبي هم من الغاضبين على الأوضاع السيئة، والحانقين على النخب السياسية الحاكمة التي أصيبت بالرعب من هذا القادم، وكل انتخابات بلدية أو نيابية قادمة في أي دولة من دول الاتحاد الأوروبي سوف تكون مناسبة لقياس درجة خطر هذه الأحزاب العنصرية الفاشية البغيضة.
في نتائج مسح أجرته مؤسسة "يوغوف" في العام 2016 حول مناعة المجتمعات الأوروبية ضد التطرف، وشمل 12 دولة أوروبية، نلاحظ على سبيل المثال مناعة ضعيفة لدى الفرنسيين حيث أظهر الاستطلاع ما نسبته 63 في المئة من الفرنسيين يؤيدون أفكار اليمين المتطرف. في حين كانت النسبة في بريطانيا 48 في المئة. أما في هولندا فالمناعة ليست بخير أيضاً، حيث بلغت نسبة من يدعم الأفكار اليمينية 55 في المئة.

أسئلة مبررة
كانت الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي تعرضت لها أوروبا على إثر الحرب العالمية الأولى السبب الرئيسي وراء وصول الأحزاب اليمينية المتطرفة والفاشية والنازية إلى سدة السلطة، واتسم حكمها بالشمولية مع ازدياد النعرات القومية والإثنية في أوروبا. إذ وصل الحزب الفاشي الإيطالي إلى السلطة العام 1922 نتيجة استنزاف الاقتصاد الإيطالي خلال مشاركتها في الحرب العالمية الأولى، ووصل الحزب النازي للحكم في ألمانيا العام 1933، بسبب أزمتها الاقتصادية والمالية، حيث كانت مطالبة بدفع تعويضات كبيرة للدول التي ربحت الحرب العالمية الأولى.
ترافقت الأزمة الاقتصادية في أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، مع عدم وجود أحزاب قوية، وحاجة الناس إلى انتخاب أحزاب تعيد الاعتبار للعرق الآري في ألمانيا ولعظمة إيطاليا، وهما الفكرتان الرئيسيتان اللتان استند إليهما الحزبان النازي والفاشي.
تماماً كما نشهد اليوم من تدهور اقتصادي في العديد من البلدان الأوروبية، وانخفاض معدلات النمو، ارتفاع معدلات البطالة، ضعف أداء الأحزاب الحاكمة اليسارية واليمين الوسط، المشكلات التي يسببها التعدد الثقافي والعرقي والإثني، زيادة غير مسبوقة في أعداد اللاجئين، الإرهاب وحرص الناس على أمن مجتمعهم، تنامي العداء للمسلمين وللفكر الإسلامي. ألا يعني هذا أننا مقبلون على مرحلة جديدة من مراحل حكم اليمين المتطرف العنصري والفاشي والنازي، تماماً كما حصل عقب الحرب العالمية الأولى؟
إن حالة الاشتباك القائمة حالياً في أوروبا حول ملف الهجرة لا تخدم سوى نمو الأحزاب والحركات اليمينية العنصرية المتطرفة، واتساع رقعتها وتأثيرها وسط عامة الأوروبيين، واشتداد خطابها المعادي للمهاجرين واللاجئين، فمن يضمن عدم حدوث اصطفاف مضاد؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى