محمد مصطفى زيادة - ابن دقيق العيد..

يظفر القارئ في تاريخ المماليك بمصر بشخصية رجل لا تربطه بغالبية أهل ذلك العصر العنيف صلة دنيوية، لتنزهه عن المادة، وعزوفه عن شهوة المناصب وزخرفها، ذلك هو قاضي القضاة ابن دقيق العيد (625 - 702هـ) وهو الشيخ تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري المنفلوطي الشافعي المالكي المصري

وكان أصل لقب (ابن دقيق العيد) الذي عُرف به في كتب التاريخ حسبما ورد في النويري أن جده وهْب بن مطيع لبس في يوم عيد ثياباً بيضاء، فرآه جماعة من أهل الريف فقال قائل منهم كأن ثيابه دقيق العيد لبياضها، فلزمه هذا اللقب، واشتهر به بيته وسلالته

تولى ابن دقيق العيد منصب قاضي القضاة بالديار المصرية سنة خمس وتسعين وستمائة هجرية، والسلطان يومئذ الملك العادل زين الدين كتبغا المنصوري؛ وكان قبل توليته تلك الوظيفة الكبرى قد درّس بالمدرسة الناصرية بالشافعي وبدار الحديث الكاملية وغيرهما، وصنّف التصانيف في فقه المذهبين المالكي والشافعي، وفي الحديث، وأفتى الفتاوي الكثيرة التي برهنت على أنه ثبت وحجة في علم الشريعة؛ وعُرف في جميع أدوار حياته بالشدة في الحق، والسير على مقتضى أصول الدين لا يحيد عنها قيد أنملة، مهما كلفه ذلك من غضب سلطان أو أمير. وقد نقل عنه حسبما ذكر ابن العماد أنه قال: (ما تكلمتُ بكلمة ولا فعلتُ فعلاً إلا أعددت له جواباً بين يدي الله تعالى)

ظل ابن دقيق العيد متولياً لمنصب قاضي القضاة بالديار المصرية حتى وفاته سنة 702هـ وكان كثير التطلع إلى أخبار نوابه بالأعمال المصرية، يبعث إليهم بكتبه المشتملة على المواعظ والتحذيرات من عواقب الغفلة والإهمال في الأحكام. وقد نقل النويري أحد هذه الكتب التي أنفذها ابن دقيق العيد سنة 697هـ ونصه: (بسم الله الرحمن الرحيم: الفقير إلى الله محمد بن علي (يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) هذه المكاتبة إلى فلان وفقه الله لقبول النصيحة، وآتاه لما يقربه قصداً صالحاً ودنيا صحيحة.

أصدرناها إليه بعد حمد الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويمهل حتى يلتبس الإمهال بالإهمال على المغرور، تذكرة بأمر ربك، فإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون؛ ويحذره صفقة من باع الآخرة بالدنيا فما أحد سواه مغبون، عسى الله أن يرشده بهذا التذكار وينفعه، وتأخذه هذه النصائح بحجزته عن النار، فإِني أخاف أن يتردّى فيجر من ولاّه - والعياذ بالله - معه. والمقتضى لإصدارها ما لمحناه من الغفلة المستحكمة على القلوب، ومن تقاعد الهمم على ما يجب للرب على المربوب، ولاسيما القضاة الذين يحملون عبء الأمانة على كواهل ضعيفة، وظهروا بصور كبار وهي نحيفة. والله إن الأمر لعظيم، وإن الخطب لجسيم، ولا أرى مع ذلك أمناً ولا قراراً ولا راحة، وإلا رجلاً نبذ الآخرة وراءه، واتخذ إلهه هواه، وقصر همّه وهمته على حظ نفسه من دنياه، فَغَايُهُ مطلب الحياة والمنزلةُ في قلوب الناس وتحسين الرِّئى والملبس، والركبة والمجلس، غير مستشعر حاله ولا ركاكة مقصده، فهذا كلام معه، فإِنك لا تُسمع الموتى وما أنت بمسمع من في القبور. فاتق الله الذي يراك حين تقوم، واقصِرْ أملك عليه فالمحروم من أمله غير مرحوم. وما أنا وأنتم أيها النفر إلا كما قال حبيب العجمي، وقد قال له قائل: (ليتنا لم نخلق) فقال: (قد وقعتم فاحتالوا). وإن خفي عليك بعض هذا الخطر وشغلتك الدنيا أن تقضي من معرفته الوطر، فتأمل كتاب النبوّة: إن القضاة ثلاثة، وقوله صلى الله عليه وسلم لمن خاطبه مشفقاً عليه: (لا تأمرنّ على اثنين، ولا تَلِيَنَّ مال يتيم) ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم اهـ

وقد حدث في سنة 697هـ، والسلطانُ يومئذ الملك المنصور حسام الدين لاجين، أن نائب السلطنة منكوتمر أراد أن يستخلص من ابن دقيق العيد حكماً في قضية ميراث لأحد أصحابه بغير بيّنة شرعية، فامتنع قاضي القضاة من ذلك وهو عالم بأن منكوتمر أقوى شخصية في الدولة قاطبة، وتردّدت الرسل بينهما وابن دقيق العيد لا يتحرك عن موقفه؛ فأغاظ ذلك منكوتمر وأرسل أحد الأمراء الكبار إلى قاضي القضاة لعله يفوز منه بطائل. وقد أورد المقريزي قصة هذا الحادث في تفصيل، فذكر أن منكوتمر بعث إلى ابن دقيق العيد يعلمه أن تاجراً قد مات وترك أخاً ولم يخلف غيره ممن يرثه، وأراد أن يثبت استحقاقه الإرث بمجرد هذا الإخبار عنه، فلم يوافق قاضي القضاة على ذلك. وتردّدت الرسل فخرج منكوتمر من ذلك وبعث إليه الأمير كُرْت الحاجب؛ فلما دخل كرت وقف بعدما سلم، فقام له القاضي نصف قومة، ورد عليه السلام وأجلسه. , اخذ كُرْت يتلطف به في إثبات أخُوَّ التاجر بشهادة منكوتمر؛ فقال له ابن دقيق العيد: (وماذا ينبني على شهادة منكوتمر؟) فقال له: (يا سيدي! ما هو عندكم عدل؟) فقال: (سبحان الله!) ثم أنشد:

يقولون هذا عندنا غير جائزٍ ... ومنْ أنتمُ حتى يكونَ لكم عِنْدُ؟

وكرر ذلك ثلاث مرات ثم قال: (والله متى لم تقم عندي بيّنة شرعية ثبتت عندي وإلاّ فلا حكمت له بشيء باسم الله) فقام كرت وهو يقول: (والله هذا هو الإسلام). وعاد إلى منكوتمر واعتذر إليه بأن: (هذا الأمر لابد فيه من اجتماعك بالقاضي إذا جاء دار العدل)

فلما كان يوم الخدمة ومر القاضي على دار النيابة بالقلعة، ومنكوتمر جالس في الشباك، تسارعت الحجاب واحداً بعد آخر إلى القاضي وهم يقولون: (يا سيدي! الأمير ولدك يختار الاجتماع بك لخدمتك) فلم يلتفت إلى أحد منهم. فلما ألحوا عليه قال لهم: (قولوا له: ما وجبت طاعتك عليّ) والتفت إلى من معه من القضاة وقال: (أشهدكم أني عزلت نفسي باسم الله. قولوا له يولّ غيري) وعاد إلى داره وأغلق بابه، وبعث نقباءه إلى النواب في الحكم وعقاد الأنكحة بمعنهم من الحكم وعقد الأنكحة

فلما بلغ السلطان ذلك أنكر على منكوتمر وبعث إلى القاضي يعتذر إليه ويستدعيه، فأبى واعتذر عن طلوعه. فبعث إليه الشيخ نجم الدين حسين بن محمد بن عبود والطواشي مرشداً، فمازالا به حتى صعدا به القلعة. فقام إليه السلطان وتلقاه، وعزم عليه أن يجلس في مرتبته، فبسط منديله - وكان خرقة كتان خَلِقة - فوق الحرير قبل أن يجلس كراهة أن ينظر إليه، ولم يجلس عليه. وما برح السلطان يتلطف به حتى قبل الولاية، ثم قال له: (يا سيدي، هذا ولدك منكوتمر خاطرك معه، أدعُ له) وكان منكوتمر ممن حضر، فنظر إليه قاضي القضاة ساعة وصار يفتح يده ويقبضها وهو يقول: (منكوتمر لا يجيء منه شيء) وكرّرها ثلاث مرات وقام. فأخذ السلطان الخرقة التي وضعها على المرتبة تبرّكا بها، وتفرقها الأمراء قطعة ليدّخروها عندهم رجاء بركتها

هذا هو ابن دقيق العيد وتلك شدة مراسه في الحق



للدكتور محمد مصطفى زيادة
الأستاذ المساعد بكلية الآداب


مجلة الرسالة - العدد 246
بتاريخ: 21 - 03 - 1938

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى