عبد اللطيف النكاوي - من حصار الواقع إلى حصار القناع: دينامية الفضاء في رواية "الثعلب الذي يظهر ويختفي" لمحمد زفزاف

تمهيد:
قبل الغوص في تفاصيل رواية محمد زفزاف ، "الثعلب الذي يظهر ويختفي" – منشورات أوراق ، الدار البيضاء، 1989 - لمساءلتها عن طريقة تنظيمها للفضاء أو للعناصر المنتجة له، نقترح وقفة نظرية مع وظيفة وتعريف الفضاء في النص السردي وفي الفن بشكل عام، وقفة يلخصها السؤال التالي: هل يمكن الاستغناء عن الفضاء في الإبداع الأدبي؟
يجيبنا صاحب " فلسفة الأشكال " بأن " كل شيء يحدث وكأن كل العلاقات العقلية والفكرية لا يمكن إدراكها من قبل الوعي اللسني إلا إذا كانت موضوعة في فضاء معين يعكسها " 1
وهي قاعدة لا يمكن أن تشذ عنها حتى اللغات الأكثر تطورا حيث " نصادف ، حسب الكاتب ، هذه الطريقة المجازية للتعبير عن نشاط العقل بواسطة تحديدات فضائية " 2
الفضاء بدلالته الأكثر حسية هو في الإنتاج الأدبي بمثابة تنظيم البياضات والسوادات على الصفحة . وهو أي الفضاء بدلالته الأكثر تجريدا ، حسب " جون إيف تاديي " Jean Yves Tadié ، بمثابة " المكان الذي تتوزع فيه العلامات بشكل متزامن وحيث تنعقد العلاقات مجردة من بعدها الزمني: إن الفكر في حاجة لاستعارات فضائية ( والتي قد تصبح أحيانا علامة مميزة لفترة ما ) وإن كل نص هو فضاء . دلالة ثالثة تجعل من الفضاء المكان المدرَك والممثِل حيث توجد الصور . فإذا كان الفن التشكيلي بمثابة علامة على الفضاء الممثل ، فان الأدب يدخل مسافة إضافية لأن علامات اللغة تمثّل التمثيل أو التمثّل " 3.
بعد أن ميز بين مستويات الفضاء الثلاث أي:
أ‌- فضاء التمثيل ( الوسيلة أو الأداة )
ب‌- الفضاء الممثَّل ( الوسط حيث توجد الوجوه السردية )
ت‌- فضاء الرؤية ( الفضاء الذي انطلاقا منه يرى التمثيل والذي يوجد فيه المشاهد ) وهو مستوى يخص بالأساس الفن التشكيلي ،
بعد هذا التمييز يخلص " لويس ماران " Louis Marin إلى القول " إذا كان المشكل الأساسي الذي ينهد كل فن سردي إلى حله هو كيفية توزيع عناصره في فضاء ( بغض النظر عن طبيعة هذا الفضاء ) من تعاقب زمني شديد الصلة بالنص وتوالي وحداته الزمنية ، إن الذي يجب التأكد منه هو تحديد فاعل للحدث وإعطائه فرديته للتمكن من تحديد علاقته بالحدث بشكل مرئي " 4.
نخلص بعد هذا إلى أن إفراد الوجوه السردية وتحديدها كعناصر فاعلة يرتبط مباشرة بتشخيص الفضاء وتوزيع الزمن السردي داخل هذا الفضاء . والمشكل المركزي ، حسب " لويس ماران " ، والذي يسعى بأشكال متنوعة كل فن سردي هو كيفية تشخيص زمن القصة بوسائله الخاصة ، وتجسيد العناصر الفاعلة وأفعالها ، وتنظيم الفضاء المشخَّص وأمكنته ". 5
على ضوء هذه التوطئة النظرية ، سنحاول فيما يلي مقاربة فضاء " الثعلب الذي يظهر ويختفي " والفضاء الذي يعنينا ، في هذا السياق ، هو فضاء ممثلي وأحداث النص حتى وان كان غلاف الرواية يغري بتحليل فضائي بالنظر إلى تنظيم السوادات والبياضات .
ينتظم الفضاء في رواية الثعلب الذي يظهر ويختفي حوالي فكرتين أساسيتين يعلن عنهما النص بشكل مبكر في جملته الثانية :" مدينة الصويرة كالمرأة والمرأة هي القفل والمفتاح " 6
القفل والمفتاح أو الضيق والسعة ، حوالي هاتين الفكرتين ينسج نص الثعلب فضاءاته .

1- القفل أو هندسة الإقصاء :
تعبر فكرة القفل عن نفسها عبر مجموعة من الصفات والنعوت منها فكرة الضيق : العالم ضيق ، الشارع الضيق ، دروب ضيقة ، الأزقة الضيقة....ومنها فكرة الصغر ( بنايات قصيرة وساحة صغيرة ) وفكرة القذارة ( ساحة صغيرة تراكمت عليها الأزبال ، المعرض للغبار، كل شيء قذر ، جاءت فتاة حافية ترتدي ثوبا مغربيا رخيصا وقذرا.....) أو فكرة الظلام ( غرفة مظلمة...) أو فكرة القدم ( كرسي عتيق ...).... أفكار تتلاحم لتقوي الإحساس بضيق الفضاء الذي يعاني منه نص "الثعلب الذي يظهر ويختفي" .
إن فضاء الثعلب منظور إليه من هذه الزاوية يصبح فضاءا موقوفا على شخصياته ولكنه في نفس الوقت مظهر للإقصاء الذي يطال هؤلاء . فهم مقصيين في فضاء مقصي . انه فضاء مجرد من كل الصفات عدا صفة الإقصاء ، يحتضن ساكنيه ليقصيهم وليكون شهادة على إقصائهم من الفضاء المقابل، فضاء السعة :
أ‌- الفضاء: ضيق + فقر + ظلام = إقصاء = فضاء مقصي وخاص .
ب‌- الممثلون أو الشخصيات : فقراء + قذرون + شعب الليل = مقصيون .
يقودنا هذا الاستنتاج الى الخلاصة التالية : إن خصوصية الفضاء وإقصاءه من إقصاء ساكنيه والعكس صحيح ، مما يضاعف من مشاعر الوحدة والعزلة والإقصاء ، فهو فضاء مقصي وخاص يحتضن شعبا من المقصيين . فضاء يشكل في نظر ساكنته بالنسبة مأوى وساحة تحتضن أفعالهم من رقابة وسلطة العالم والإقصاء :" منذ وقت وهم يتطلعون إلينا من وراء الحشائش . رفعت رأسي . كان هناك حوالي خمسة أشخاص من البدو يضحكون وراء الحشائش في حين كان الهيبيون / Hippies لا يأبهون بهم . يتشمسون ويدخنون ويسبحون . لم يكن البدو يضحكون بصوت مرتفع . وكانت على وجوههم علامات الذهول والفزع . أعينهم تلمع وراء محاجرها وتدور . سمعت أحدهم يقول : إنه مسلم مثلنا ذلك المصران ذو الشعر الطويل " 7
إن الطبيعة المقصية والخاصة للفضاء في نص "الثعلب الذي يظهر ويختفي" ، تجعل منه فضاء حميميا يعكس طبيعة ساكنيه الذي يختلطون به بل يتماهون معه :" .. منهم من فضل الجلوس على الأرض قرب بركة مائية تفوح منها رائحة السردين وتطير حولها ذبابات ذات طنين رتيب " 8
إن العلاقة مع الفضاء والأشياء في الثعلب الذي يظهر ويختفي تأخذ صبغة مباشرة ، فجة وحميمية تضاعف من طبيعتها المجردة من كل "فزّاعات" الحضارة المدنية مما يفسر الحضور الحيواني المكثف في النص ، حضور يدفع باستراتيجية الإقصاء إلى حد المسخ أو تماهي وتداخل الحقائق والهويات كآخر ترسانة ضد سلطة الإقصاء الساحقة .
2- إقصاء الفضاء وانحسار الذات :
يبرز هذا الحضور الحيواني ابتداء من عنوان الرواية " الثعلب الذي يظهر ويختفي " . يعمد الكاتب إلى تخصيص الثعلب بجملة موصولة تؤكد صفة لائطة بكيان حيوان أمسى اسمه غير كاف للإحالة على هذه الصفة. جملة تنقل " الثعلب " من حقيقة الحيوان إلى مستوى الشخصية الروائية .
ويمكن أن نلمس في هذه الجملة الموصولة المخصصة للثعلب جدلية بين الظهور والاختفاء أو بين عالم الإقصاء والعالم : فضاء الضيق وفضاء السعة . والحضور الحيواني في النص ليس طبيعة ثانية ومشوهة لشخصياته إنما هي الطبيعة الحقيقية بامتياز ، ولكنها طبيعة حكم عليها بالصمت والتعاطي مع العالم عبر القناع البشري .
فليس "علي" هو الذي يلبس قناع الثعلب وإنما الثعلب هو الذي يلبس قناع " علي " : الثعلب حقيقة و"علي" قناع .وبهذا تتضاعف معاني الصغر والضيق المميزة لفضاء الثعلب الذي يظهر ويختفي إلى حدود الاختناق : فضاء مقصي + شخصية مقصية في فضاء مقصي + طبيعة مقصية في شخصية مقصية في فضاء مقصي .
فالضيق الذي يعكسه صغر وضيق المكان ليس إلا امتدادا لضيق وحصار داخليين تعاني منهما الطبيعة الحقيقية الداخلية للشخصيات والمحكوم عليها بالتستر والتخفي وراء القناع البشري .
وإذا كان مفيدا أن ندفع بالتحليل في هذا الاتجاه لفهم الضيق والحصار المضروبين على هذا " الشعب" المقصيّ ، كما تسميه الرواية ، حتى وإن كان أفراده لا يعيشون وضعهم كمقصيين ، فإن دينامية الفضاء المطبوع بالضيق تشمل كذلك العالم الآخر ، المقابل ، عالم السعة .
فالطبيعة المقصية أو المقموعة ليست وقفا على الهيبيين / Hippies وحدهم بل هي القاسم المشترك بين كل "الحيوانات البشرية" . فليس الفرق في الطبيعة المقموعة وإنما هو في القدرة على إخفاء هذه الطبيعة بإعطائها قناعا بشريا .
بهذه الملاحظة الأخيرة يرتفع الفرق أو الحاجز بين الفضاء المَقصي والفضاء المًقصي فكلاهما يعرف إقصاء للذات أو للطبيعة الحقيقية لشخصياتهما . يأخذ الضيق أو الحصار الداخلي أو الوجودي في نص الثعلب كل أبعاده وليس الضيق المكاني إلا صورة مصغرة عن الضيق الداخلي . كما تخفي الأقنعة البشرية وجوها حقيقية حيوانية ، يخفي الضيق المكاني الخارجي ضيقا داخليا وجوديا محوره الطبيعة أو الذات الحقيقية المقموعة .

3- نحو توازن بين الضيق والسعة :
إضافة إلى هذا الإقصاء المتبادل الذي يحكم الفضاءين: فضاء الضيق وفضاء السعة أو فضاء الهبيين وفضاء المجتمع ، تأخذ الذات الواعية دور المحافظة على التوازن بين الفضاءين . ولكن هذا الدور ليس إلا إقصاء مضاعفا للفضاءين : إقصاء للحقيقة الداخلية وفي نفس الوقت مقاومة للحقيقة الممسوخة أو حقيقة القناع .
يعبر هذا الإقصاء المتبادل والدائم بين الفضاءين عن نفسه ، عبر هذه المراقبة المستمرة من طرف شخصية " علي" لأعضائه الثعلبية أو الحيوانية . ملاحظة تقودنا إلى طرح السؤال عن الفضاء الحقيقي الذي يحتضن شخصية " علي ".
وللإجابة عن هذا السؤال نشير أوّلا إلى أن شخصية " علي" وهو اسم لا يخلو من دلالة 9 ، تنتمي إلى الفضاءين معا فهي تعيش حقيقتها الداخلية في فضاء الهبيين كما أنها لا تقطع الصلة بحقيقتها الممسوخة في إطار المجتمع أو فضاء السعة الممسوخ والضيق بحقيقته الداخلية المقموعة .
ونخلص إلى أن الفضاء الحقيقي الذي يحتضن وجود شخصية " علي" هو فضاء اللافضاء بالنظر إلى هذا الصراع الدائم بين الفضائين أو بين الحقيقة والقناع .
بعد هذا العرض عن كيفية انتظام الفضاء المَقصي ، الخاص والمُقصي في رواية الثعلب الذي يظهر ويختفي حول فكرة " القفل" ، سنحاول فيما يلي استجلاء معالم انتظام هذا الفضاء حول فكرة "المفتاح".
4- من إقصاء القفل إلى إقصاء المفتاح :
إذا كان فضاء " القفل " والإقصاء والانغلاق حقيقة مجسدة في الرواية فإن فضاء " المفتاح" أو الانفتاح ينتمي أكثر إلى عالم الحلم والإرادة حتى وإن ظل مقرونا بعناصر واقعية ومادية : المرأة ، الغيطة ، الحشيش ، البحر....
يقصي فضاء " المفتاح" عبر الحلم والارادة علامات الاقصاء وحدوده ، ويبرز كنقيض للقذارة والضيق الملازمين لفضاء " القفل": " شممت الهواء النقي القادم من جهة البحر ، السماء من وراء النافذة تبدو زرقاء صافية وشاسعة " 10
البحر، السماء، المرأة ، والمخدرات....إنها عناصر طبيعية تخلّص من العزلة والإقصاء المطلقين لحساب الانفتاح المطلق:" عندما اجتزت المكان وصلت إلى سعة . كان فيها حوالي عشرين شخصا عراة تماما يتشمسون ويتحدثون ، وراء الوسعة التي تحيطها الأشجار يمتد البحر" 11
ونلاحظ التماس بين فضاء العزلة والإقصاء تحرسه الأشجار وفضاء السعة والانفتاح يمثله البحر .
يرسم نص " زفزاف " حدودا واضحة بين فضاءين متناقضين : فضاء الانغلاق والضيق والإقصاء وفضاء السعة والانفتاح . ولكنها حدود لا تعلن القطيعة بين الفضاء ين لأنهما يظلان محكومين بجدلية أساسها المعادلة التالية: كل هروب نحو البحر ينتهي بالعودة نحو الضيق والأكواخ وكل سفرة عبر المخدرات يتبخر سحرها على صخرة الواقع والحدود . وسفر الراوي في آخر الرواية يجسد الترحال الدائم من عالم الإقصاء الذي اصبح خطرا نحو فضاء العزلة في الدار البيضاء .
ينتظم الفضاء في الثعلب الذي يظهر ويختفي حول ثنائية الانغلاق والانفتاح أو الرغبة في الإنعتاق من قبضة الحصار والضيق ، رغبة تأخذ في النص شكل عودة نحو إقصاء وانغلاق جديدين : إنه الصراع الدائم من أجل استرداد طبيعة ضائعة ، بين فضاء القناع وفضاء الطبيعة أو الحقيقة . فشخصية " علي " لا تستقر إلا في عدم استقرارها أو في مراوغتها للحقائق الأخرى والتي هي في نفس الوقت مراوغة لحقيقتها الداخلية . فهي ، حتى وإن ظلت تأخذ على القطيع خضوعه واستسلامه ، عاجزة عن اقتراح بديل آخر عدا بديل المراوغة والمداورة والسقوط في لعبة القناع والتستر المفروضة من طرف المجتمع . فالنص يقود إلى اقتراح هرمية عكسية أو معكوسة ولكنها هرمية مهزوزة وتبريرية : الهبيون / الأغنياء أو السادة / القطيع .
خاتمة:
نخلص بعد هذا العرض الذي نتمنّى أن نكون قد وفّقنا فيه إلى استجلاء بعض جوانب رواية " الثعلب الذي يظهر ويختفي " للكاتب المغربي محمد زفزاف ، إلى التأكيد على حيوية فضاء الرواية واشتغاله كعنصر فاعل في أحداث الرواية والرؤية التي تنسجها للإنسان والعالم .
وإذا كانت كل هندسة للفضاء مهما أوتيت من الحرية والجرأة لا تستطيع أن تفلت من قبضة هندسة و معمارية المتخيل ، فإن في دينامية فضاء " الثعلب الذي يظهر ويختفي " صدى لدينامية فضاء حضاري عربي وإسلامي تشكّل فيه جدلية الانفتاح والانغلاق عنصرا حيويا ومحددا.
تقودنا هذه الخلاصة الأخيرة إلى مقاربة جديدة لاشتغال الفضاء داخل رواية " الثعلب الذي يظهر ويختفي " بحيث تصير حالة الحصار والخناق التي تمارسها الرواية في حق شخصياتها البوهيمية والمحاصرة من طرف المجتمع ومن طرف الوعي ، علامة على حصار يتجاوز فضاءات مدينة الصويرة المغربية التي ظلت ولأمد قبلة لهذه الشريحة من المجتمع البشري خلال سنوات الستينيات ، ومعها فضاء المجتمع المغربي الموزّع بين ثقل التقليد وجاذبية الحداثة ، ليعانق صراعا ظل ملازما لمسيرة البشرية بين عناصر الطبيعة ومكتسبات الثقافة في تكوين الإنسان .


# باحث وأستاذ عربي ، نشر العديد من الكتابات والدراسات في مختلف المجلات والصحف العربية والفرنسية، دكتوراه فرنسية في الدراسات اليهودية والعبرية ، إجازة في اللغة العربية وآدابها ، يعيش ويدرّس في فرنسا .


1 Philosophie des formes, E. Cassirer, éditions Minuit, p.15
2 Idem. p. 152
3 Le récit poétique, Jean-Yves Tadié, éditions PUF, 1978, p. 47
4 Louis Marin, Encyclopédie Universelle, Volume 19, p.825
5 Idem, p. 825
6 محمد زفزاف ، الثعلب الذي يظهر ويختفي ، منشورات أوراق ، الدار البيضاء ، 1989 ، ص. 3
7 نفس المرجع ، ص. 55
8 نفس المرجع ، ص. 20
9 على الرغم مما تمنحه الخلفية الشيعية المعبر عنها في النص بواسطة أسماء بعض الشخصيات مثل " علي " و " فاطمة " من خلال جدلية الحقيقة والقناع أو مبدأ التقية الشيعي ، من إغراء للدفع بتحليل بعض عناصر النص في هذا الاتجاه لإإنه لا يمكن حصر النص واختزاله في رافد واحد من روافده الثقافية والفكرية الخفية والفاعلة.
10 محمد زفزاف، الثعلب الذي يظهر ويختفي ، ص. 4
11 المرجع السابق ، ص. 48

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى