محمد منصور - صورة الشعراء في سورة الشعراء

وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَب ٍيَنْقَلِبُونَ (227)."سورة الشعراء"
إن الرائج بين الناس منذ القديم أن هذه الآيات دليل إدانة للشعراء، ودعوة إلى عدم قراءة الشعر، باعتباره لا يصدر إلا عن الشياطين، تلك الفكرة الخرافية القائلة بأن لكل شاعر شيطانًا يُملي عليه. ومادام الشعر كلام الشيطان، فإن من ينصت إلى هذا الكلام سيكون بالضرورة من الغاوين الضالين. حيث وردت كلمة "الغاوون" بمعنى الشياطين في أغلب التفاسير.

ولكن هناك فرصة كي نقرأ الآيات بطريقة مختلفة، إذا كنا نمتلك صورة -ولو بسيطة- عن طبيعة اللغة الشعرية، ووضع الشعر العربي قبل ظهور الإسلام وبعده.
فمن المعروف عن اللغة الشعرية أنها تعمد دائمًا إلى الانحراف/ الغواية عن اللغة العادية، حيث إن اللغة العادية قد تواضع عليها الناس بهدف التواصل بينهم، في حين أن اللغة الإبداعية تكون دالة على ذاتها، بمعنى أن "الشاعر يخدم اللغة، إما الناثر فإنه يستخدمها" بحسب تعبير سارتر.
اللغة العادية تقول إن واحدًا زائد واحد يساويان اثنين، في حين أن القصيدة قد تصل إلى نتيجة مختلفة عن العملية الحسابية. والإنسان يشرب الماء ويأكل الطعام، لكن اللغة الشعرية قد تجعل الإنسان يشرب الأحزان ويأكل الهموم.

ومن هنا نصل إلى أن اللغة الشعرية هي إعادة إبداع اللغة العادية، أو ما سماه الجرجاني بـ"النظم". اللغة الشعرية تنحرف عن الاستخدام العادي بهدف رسم صور وأخيلة في ذهن القارئ. ولذلك، فإن من يريد أن يعرف معلومات من الممكن أن يعرفها كل الناس، فعليه أن يقرأ المقال أو التقرير الصحفي، لكن من أراد الغواية/ الخيال/ المتعة، فعليه أن "يتبع الشعراء".
هناك أمر ما لافت للنظر في الشعراء، وهو أنه بإمكانهم أن يخوضوا في كل فنون القول، تجد مثلا شاعرًا يتجنب العشق باعتباره مهلكة وتضييعًا للوقت، لكنه يكتب قصيدة عن الحب. كذلك من الممكن أن يكتب شاعرٌ ما عن الثورة، في حين أنه ابن وفي للنظام القائم. ويبدو أن الشعراء لا يكتبون -عادة- إلا عن الذي يفتقدونه، ومن شدة افتقادهم لهذا الشيء يحاولون امتلاكه ولو بالخيال.
والسبب في ذلك هو قدرة الشاعر على أن يرى صورًا وأخيلة لا يراها الآخرون، حيث يستطيع مثلا أن يتقمص حالة الثوري من دون أن يخرج ولو في مظاهرة واحدة، ويستطيع أن يشعر بألم الوردة حين يرى طفلا يقطفها بقسوة، وأن يتحدث بصوت الأنثى من دون أن يؤثر ذلك على ذكورته.

الشاعر منذ نعومة أظفاره اعتاد أن يعيش بالتوازي بين داخله وخارجه؛ يجيد الإنصات لنبض العالم ونبضه الذاتي في الوقت نفسه. الشاعر -وحده- يشعر بآلام السجين وخزي السجان، وفي النهاية يحاول أن يبرئ الجاني والمجني عليه والقضاة والشهود من أي ذنب. لا تكبله الأيديولوجيا ولا الطائفة ولا القوانين العامة؛ يخلق قوانينه الذاتية التي تجعله دائمًا في منزلة بين منزلتي الأنا والآخر، فيصبح لا هو أنا ولا هو آخر، ومع ذلك بإمكانه أن يكون الاثنين معًا. إذن في هذه الحالة، أليس من الطبيعي أن نرى الشعراء في كل وادٍ يهيمون!
حينما يتكلم السياسي فعليه أن يقنع جماهيره، ولذلك لا يكلمهم إلا بلغتهم، لغة أحادية لا تقبل التأويل، وإن كانت تقبل المداهنة. مثلا نراه في أحد المؤتمرات يقول: "أعمل من أجل الفقراء". مقولة جاهزة تم ترديدها على كل لسان، ونحن لا نعرف ما هو الذي سيعمله بالضبط من أجل الفقراء. هل سيحدد لهم راتبًا شهريًّا يعينهم على شظف العيش؟ بالطبع لن يفعل، لأنه ليس منهم. فإنه لو كان من الفقراء لما أصبح سياسيًّا ناجحًا. قد ينشأ بين الطبقات الكادحة، لكنه سرعان من يتنصل منها وينضم إلى السادة الذين سيدعمونه في البرلمان. ومن دون أي خجل يظل يردد شعاراته عن العمل من أجل الفقراء من دون أن تهتز شعرة في رأسه، ومع ذلك لا يتهمه أحد بالكذب!

في المقابل نجد الشاعر على العكس تمامًا من السياسي؛ لا يعد الفقراء بالجنة الموعودة، ويشفق عليهم، فلا يواجههم بحقيقة واقعهم المر كما يفعل المحلل الاجتماعي والاقتصادي. الشاعر يأخذ فقراء الروح إلى نعيم الكلمات والموسيقى والخيال، فيمنحهم تذكرة سفر إلى البعيد البعيد من دون أن يكلفهم ولو فلسًا واحدًا، ويعود بهم إلى أَسِرَّتِهِم كي يناموا مطمئني البال هادئين، ولو قليلا، كي يقووا على ممارسة الحياة من جديد.

الشاعر لا يرى الفقير والغني بناء على الوضع الاجتماعي أو المادي، ولكن الفقير عنده هو فقير الروح والخيال، والغني عنده هو القادر على أن يعيش بروح شفّافة رفّافة تستطيع أن ترشف رحيق الجمال من أزهار الخيال. الشاعر يربت على أرواحنا من دون أن ينتظر منا جزاءً ولا شكورًا، ومع ذلك نتهمه بالكذب، ونقول: الشعراء يقولون ما يفعلون!
ومن أشهر الأمثلة التي يرويها كل من هب ودب على أن الشعراء يقولون ما يفعلون، تلك الحكاية التي وردت عن المتنبي بأنه حين كان في طريقه من البصرة إلى حلب، هاجمه أعداؤه فحاول الهرب، إلا أن غلامه قال له: ألست القائل:

الخيل والليل والبيداء تعرفني = والسيف والرمح والقرطاس والقلم!

فرد المتنبي على غلامه قائلا: قتلتني قتلك الله. وعاد فقاتل حتى قُتِل.
وهذه الحكاية رغم ما فيها من رائحة الأسطورة كما في جوانب حياة المتنبي المختلفة، فإن المتنبي إذا رجع متأثرًا بقول غلامه، فهذا يدل على أنه ساذج سذاجة الشعراء، أو بمعنى أدق: بريء براءة الأطفال. حيث لو كان أي فارس مغوار في مكانه، سيدرك أن الكثرة تغلب الشجاعة، ومن حقه أن يولي هاربًا إلى أن يجمع لهم العدة والعتاد. ولكن المتنبي صاحب الروح الرقيقة والقلب البريء، خجل من سخرية غلامه، وعاد كي ينتحر حفاظًا على كرامة شعره.

وعلى الرغم من أنني لا أصدق هذه "الحدوتة" برمتها، فإنه كان على المتنبي أن يسخر من غلامه قائلا: قاتلهم أنت، فالشعراء يقولون ما لا يفعلون!
إلى هنا نأتي إلى الاستثناء، وهو الذي يمسك بتلابيبه كل ذي عقل محدود، ظنًّا منه أن الشعر يجب أن يدافع عن القضايا الكبرى، في حين أن الشعر هو الذي يصنع قضاياه الكبرى، ولكنها القضايا الكبرى على المستوى الإنساني والأخلاقي، وليست على المستوى الطائفي أو الأيديولوجي: إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا .. إلخ
بالفعل يجب إخراج هذه الطائفة من عالم الشعر، وتقليدهم مناصب قيادية رفيعة، فهم استطاعوا أن يستعيدوا قواهم وينتصروا على من ظلموهم. إنهم محاربون وليسوا شعراء، ولكنهم بدلا من أن يحاربوا بالسيف فقط، فإنهم يحاربون بالسيوف والكلمات. ومن ضمن هؤلاء -إن لم يكن على رأسهم- حسان بن ثابت.

يقول حسان:

إن الذوائب من فهر وإخواتهم = قد بيّنوا سُنَّةً للناس تُتَّبَعُ..
يرضى بها كل من كانت سريرته = تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا..
قوم إذا حابروا ضروا عدوهمُ = أو حاولوا النفع في أشيعهم نفعوا!

تعالوا معًا نحاول إعادة صياغة ما قاله حسان من "كلام". فهناك فرق كبير بين اللغة الشعرية والكلام.
يريد حسان أن يخبرنا بأن السادة من فهر "جد محمد"، وإخوتهم من الأنصار، قد بيَّنوا سنة للناس عليهم أن يتبعوها، وهذه السنة يجب أن يرضى بها كل من كانت نفسه تخاف الله وتلتزم بما أقره المهاجرون والأنصار، لأن هؤلاء القوم أقوياء جدًّا لدرجة أنهم إذا حاربوا ضروا عدوهم، وفي المقابل ملتزمون بأن يشيعوا المنفعة والصلاح بين أشياعهم.
استطعنا وبقليل من الجهد أن نصوغ معاني حسان البسيطة المباشرة في ألفاظ عادية لا جمال فيها ولا خير. وإذا استطعنا أن نعيد صياغة أي قصيدة بهذه السهولة، فاعلم أنها ليست من الشعر في شيء.
ويبدو أن مقولة الأصمعي عن أن الشعر إذا دخل فيه الخير لان وضعف، صحيحة جدًّا. والخير هنا ليس بمعناه الفلسفي الإنساني، وإنما بمعناه الفئوي الطائفي، إذ أنه من الطبيعي أن يكون الخير بالنسبة إلى من يؤيدون محمدًا، شرًّا وبيلا على من ينكرون نبوته. ولكن الشاعر المبدع يطمح إلى ما هو خير وجمال كونيٌّ وإنساني، وينأى قدر الإمكان عن أن ينحاز لطائفة ضد أخرى.
وفي النهاية نسأل الله العزيز الكريم أن نكون من الطائفة الأولى التي يتبعهم الغاوون، حرصًا على إشاعة الخير والحق والجمال بين الناس كافة!



نقلا عن:
بوابة الحضارات | صورة الشعراء في سورة الشعراء

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى