اوسكار وايلد - العندليب والوردة - قصة قصيرة .. ترجمة: د. زياد الحكيم

هتف الطالب الشاب: قالت انها ستراقصني اذا قدمت لها ورودا حمراء. ولكن في حديقتي كلها ليس ثمة وردة حمراء.

وسمعه العندليب الذي كان في عشه على شجرة بلوط. نظر اليه من بين الاوراق واستغرب.

هتف الفتى: ليس ثمة ورود حمراء في حديقتي. وامتلأت عيناه الجميلتان بالدموع. كم تعتمد السعادة على اشياء صغيرة! لقد قرأت كل ما كتبه الحكماء، واطلعت على اسرار الفلسفة كلها. ومع ذلك فان حاجتي الى وردة حمراء جعلت حياتي تعيسة.

قال العندليب: واخيرا ها هو ذا عاشق حقيقي. تغنيت به ليلة بعد ليلة بالرغم من اني لم اكن اعرفه. ورويت قصته للنجوم ليلة بعد ليلة. والآن ابصره امامي. شعره داكن اللون مثل ازهار نبات الياقوت. وشفتاه حمراوان بلون الوردة التي يتمناها. ولكن العشق جعل وجهه شاحبا مثل العاج وترك الحزن بصمته على جبينه.

تمتم الفتى قائلا: سيقيم الامير حفلا راقصا ليلة الغد. وستكون حبيبتي في الحفل. ولو اني قدمت لها وردة حمراء فانها ستراقصني حتى الفجر. لو اني قدمت لها وردة حمراء سأضمها بذراعي وستلقي برأسها على كتفي وسأمسك يدها بيدي. ولكن ليس ثمة وردة حمراء في حديقتي. ولذلك سأبقى وحيدا ولن ألقاها. ستنساني وسينفطر قلبي.

قال العندليب: هو ذا العاشق الحقيقي. وانا اغني عذاباته. وما هو فرح لي هو في الحقيقة ألم له. لا ريب في ان الحب شيء رائع. انه اروع من الزمرد واثمن من الياقوت. ولا يمكن شراؤه باللؤلؤ والياقوت، وليس هو معروضا في الاسواق فلا يمكن شراؤه من التجار. ولا يمكن وزنه بميزان الذهب.

2

قال الفتى: سيجلس الموسيقيون في السرادق وسيعزفون على آلاتهم الوترية. وسترقص حبيبتي على أنغام القيثارة والكمان. وستطير في الهواء بحيث لا تلامس قدماها الارض. وسيحيط بها المعجبون باثوابهم الزاهية اللون. اما انا فلن تراقصني لاني لا املك وردة حمراء أقدمها لها. ورمى نفسه على العشب وراح ينتحب دافنا وجهه في كفيه.

تساءلت سحلية خضراء صغيرة مرت بجانبه وذيلها مرفوع في الهواء : لماذا يبكي؟
وقالت فراشة كانت ترفرف على شعاع من الشمس: حقا لماذا؟
وهمست زهرة من زهرات الربيع لجارتها قائلة: حقا لماذا؟
قال العندليب: من اجل وردة حمراء.
هتف الجميع: من اجل وردة حمراء؟ يا للسخف. وغرقت السحلية الصغيرة في ضحك ساخر.

ولكن العندليب كان يتفهم حزن الفتى. وجلس صامتا على اغصان شجرة البلوط وراح يفكر في اسرار الحب.

وفجأة اطلق العنان لجناحيه وحلق في الفضاء. طار فوق الاجمة. ومثل طيف من الاطياف عبر الحديقة.

وفي وسط الروض كانت تقوم شجيرة ورد بديعة. عندما رآها توجه اليها وحط عليها.
قال: اعطني وردة حمراء وسأغني لك بالمقابل اعذب اغنية.
ولكن شجيرة الورد هزت رأسها.
قالت: ولكن أزهاري بيضاء مثل بياض زبد البحر وأشد بياضا من الثلوج فوق قمم الجبال. اذهب الى اختي التي تعيش بالقرب من الساعة الشمسية فلعلك تجد عندها ما تريد.

3

وهكذا طار العندليب الى شجيرة الورد التي كانت تعيش بالقرب من الساعة الشمسية.
هتف قائلا:
- اعطيني وردة حمراء. ولسوف اغني لك اعذب اغنية من اغنياتي.
ولكن شجيرة الورد هزت رأسها. وقالت:
- ولكن ورودي صفراء اللون مثل شعر عروس البحر التي تجلس على عرش من العنبر، واشد اصفرارا من أزهار النرجس التي تتفتح في الروض قبل ان يجزها الجنائني بالمنجل. ولكن اذهب الى أختي التي تعيش تحت نافذة الفتى، فلعلها تعطيك ما تريد.

طار العندليب الى شجيرة الورد التي كانت تعيش تحت نافذة الفتى. وقال:
- اعطيني وردة حمراء ولسوف أغني لك أعذب أغنية من أغنياتي.
ولكن شجيرة الورد هزت رأسها وقالت:
- ورودي حمراء مثل قدمي حمامة، واكثر احمرارا من شعاب المرجان الذي يتماوج في كهوف المحيطات. ولكن برد الشتاء جمّد عروقي، وفتك الصقيع ببراعمي، وحطمت العاصفة أغصاني، ولن يكون عندي ورود هذا العام.
قال العندليب: وردة حمراء هي كل ما أريد. وردة حمراء ليس غير. أليست هناك طريقة للحصول عليها؟
اجابت شجيرة الورد: هناك طريقة. ولكنها طريقة رهيبة فلا استطيع ان اطلعك عليها.
قال العندليب: قولي لي ما هي. انا لست خائفا.
قالت شجيرة الورد: اذا كنت تريد وردة حمراء فإن عليك ان تصنعها من الموسيقا على ضوء القمر وتلونها بدم قلبك. عليك ان تنشد لي في ما تنغرس شوكة في صدرك. عليك ان تنشد لي طيلة الليل، ويجب ان تغوص الشوكة لتصل الى قلبك، ويجب ان يتدفق دمك في عروقي ليصير دما من دمي.

4

هتف العندليب: الموت ثمن باهظ لوردة حمراء. والحياة عزيزة للجميع. من الجميل ان يجلس المرء في غابة خضراء يرقب الشمس في عربتها الذهبية والقمر في عربته اللؤلؤية. جميلة هي رائحة الزعرور، وجميلة هي أزهار الاجراس الزرقاء المختبئة في الوادي والنباتات التي تتماوج على الهضاب. ولكن الحب هو أفضل من الحياة. وما قيمة قلب طائر مقارنة بقلب انسان؟

وهكذا فرد جناحيه البنيين وحلق في الفضاء. طار فوق الروض مثل خيال من الاخيلة، وعبر الحديقة.
كان الفتى مايزال ممدا على العشب حيث كان عندما رآه العندليب أول مرة. ولم تكن الدموع قد جفت في عينيه الجميلتين.
صاح العندليب: كن سعيدا فسيكون لك وردة حمراء. سأصنعها من الموسيقا على ضوء القمر وسألونها بدم قلبي. وكل ما اطلبه منك في المقابل هو ان تكون عاشقا صادقا لان الحب أكثر حكمة من الفلسفة على حكمتها واقوى من القوة على شدتها. جناحاه وجسمه بلون اللهب. شفتاه حلوتان مثل العسل. وانفاسه عذبة مثل المسك.

نظر الفتى الى العندليب وراح يستمع. ولكنه لم يكن يفهم ما كان العندليب يتحدث به اليه، لانه لم يكن يعرف اكثر مما كان يقرأه في الكتب.

ولكن شجرة البلوط كانت تفهم، وشعرت بالحزن لانها كانت مولعة بالعندليب الذي بنى عشه فوق أغصانها. وقالت الشجرة: غن لي أغنية أخيرة فانا سأشعر بكثير من الوحدة بعد ان تفارقني.
وغنى العندليب لشجرة البلوط وكان صوته أشبه بصوت ماء ينسكب من اناء فضي.

5

وبعد ان أنهى العندليب أغنيته نهض الفتى واخرج من جيبه قلما وورقة. وقال في نفسه في ما كان يبتعد الى داخل الروض: ان للعندليب اسلوبا لا يمكن انكاره. ولكن هل له شعور؟ لا أعتقد ذلك. في الواقع هو أشبه بمعظم الفنانين: له اسلوب ولكنه غير صادق. انه لا يضحي بنفسه من أجل الاخرين. انه يفكر في الموسيقا فحسب. ولكن الناس يدركون ان الفنون كلها تمتاز بالانانية. ومع ذلك فيجب الاعتراف ان له صوتا جميلا. وللاسف فان ذلك لا يعني شيئا ولا يفيد شيئا. وتوجه الفتى الى حجرته. واستلقى على سريره وراح يفكر في محبوبته. وبعد ذلك بقليل غط في النوم.

وعندما تألق القمر في السماء طار العندليب الى شجيرة الورد واقترب بصدرته من الشوكة. وراح يغني طوال الليل في ما كانت الشوكة تنغرس في صدره وانحنى القمر الفضي البارد وراح يستمع. وغنى العندليب طوال الليل، والشوكة تدخل عميقا شيئا فشيئا في صدره وراح الدم يتدفق منه.

غنى في بادئ الامر لميلاد الحب في قلب فتى وفتاة. وفي أعلى شجيرة الورد تفتحت أروع وردة، بتلة بعد بتلة، بينما تتابعت اغنية وراء اغنية. كانت وردة باهتة في اول الامر كالضباب المعلق فوق النهر، كقدمي الصباح، وفضية كجناحي الفجر، مثل صورة وردة في مرآة فضية، مثل خيال وردة على صفحة ماء بركة – كذلك كانت الوردة التي تفتحت في قمة الشجيرة.

غير ان الشجيرة صاحت للعندليب ان يندفع اكثر أمام الشوكة: اضغط اكثر أيها العندليب الصغير. وعلا نشيده اكثر فاكثر ذلك انه كان يغنى لولادة حب جديد في روح رجل وفتاة.

6

وشاع في أوراق الوردة لون أحمر قان أشبه باللون الذي يشيع في وجه رجل يقبل شفتي عروسه. ولكن الشوكة لم تصل بعد الى قلب العندليب ولذلك ظل قلب الوردة أبيض لأن دم العندليب وحده يمكن ان يلوّن قلب الوردة.

وصاحت شجيرة الورد للعندليب: اندفع اكثر ايها العندليب الصغير والا فان النهار سيصل قبل ان تكتمل الوردة. واندفع العندليب اكثر واكثر امام الشوكة حتى مست قلبه فاصابه ألم عميق شمل كله انحائه. كان ألما مرا، واشتد غناؤه عنفوانا وقوة لانه كان يغني للحب الخالد الذي لا يموت. واصبحت الوردة الرائعة حمراء بلون الشفق. حمراء كانت حوافّ البتلات. واحمرّ قلبها احمرار الياقوت. ولكن صوت العندليب راح يخفت، وخفق بجناحيه، وغطت عينيه غشاوة. وخفتت الاغنية واحس العندليب بشيء في حنجرته يخنقه. ولآخر مرة انفجر العندليب مغنيا. واستمع اليه القمر ناسيا اقتراب الفجر. وسمعته الوردة الحمراء فارتعشت بنشوة بالغة وفتحت بتلاتها لنسمات الصباح الباردة. وحمل الصدى أغنية العندليب الى الكهوف البعيدة في التلال وايقظ الرعاة النائمين الغارقين في أحلامهم. وطافت الاغنية فوق النهر فأوصل رسالتها الى البحر.

قالت شجيرة الورد: انظر. انظر. لقد اكتملت الوردة الآن. ولكن العندليب لم يأت بجواب لانه كان قد فارق الحياة ذلك ان الشوكة دخلت الى قلبه. وعند الظهر فتح الفتى شباكه ونظر الى الخارج.

7

هتف يقول: كم انا محظوظ! هي ذي وردة حمراء لم أر مثلها في حياتي كلها. انها جميلة وانا على يقين من ان لها اسما لاتينيا طويلا. ومد يده وقطفها. واعتمر بقبعته ومضى مسرعا الى بيت المدرس والوردة الحمراء في يده. كانت ابنة المدرس جالسة عند مدخل البيت تلفّ خيوطا حريرية على بكرة، وكان كلبها الصغير جالسا عند قدميها.

قال الفتى: قلت انك ستراقصيني اذا قدمت لك وردة حمراء. هي ذي وردة اشد احمرارا من اي وردة اخرى في الدنيا. ستضعينها هذه الليلة بالقرب من قلبك وفي ما نحن نرقص ستعرفين مدى حبي لك.

قطبت الفتاة حاجبيها. وقالت: أعتقد انها لا تناسب فستاني. كما ان ابن شقيق حاجب الملك قد بعث الي ببعض الجواهر الحقيقية. وكل الناس يعرفون ان الجواهر الحقيقية أثمن من الورود.

قال الفتى بغضب: اقسم لك انك ناكرة للجميل. وقذف بالوردة في الطريق فسحقتها عجلات عربة. قالت الفتاة: ناكرة للجميل؟ انا اقول لك شيئا: انك شديد الوقاحة حقا. بعد كل شيء من أنت؟ انك تلميذ فحسب. لا اعتقد انك تمتلك مشبكا فضيا لحذائك كما يفعل ابن شقيق حاجب الملك. ونهضت من كرسيها ودخلت الى البيت.

قال الفتى لنفسه في ما هو يبتعد: يا لسخافة الحب! انه ليس مفيدا نصف فائدة المنطق فهو لا يبرهن على شيء. كما انه يتنبأ بما لن يحدث ابدا ويجعل المرء يصدق اشياء كاذبة. في الواقع الحب ليس بالشيء العملي. ونحن في عصر لا يقيم وزنا إلا لما هو عملي. سأعود الى الفلسفة وسأدرس فلسفة ما وراء الطبيعة.

8

وهكذا عاد الى حجرته وتناول كتابا ضخما غطاه الغبار وأنشأ يقرأ.

[email protected]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى