بيتر بلاكا - الناس والنمل.. قصة قصيرة ترجمة: عبد عون الروضان

تحرك الهواء الساكن وعكست أحجار الرصيف موجات الحرارة على المارة العابرين وكان هناك رجل يركع في ظل نصب تذكاري وقد انحنى وراح يحدق في الأرض ..بثبات ترك الأطفال قصور الرمل الرطبة التي بنوها واقتربوا من الرجل مملوئين بالفضول.. استشاطت إحدى الأمهات وقالت : حسناً مع كل هذه الأشياء المقرفة مخمور في منتصف النهار ، وفي هذا الجو الحار … وتصاعدت حمرة ثوبها عالياً في الشمس .

ـ أوه… ربما كان مريضاً قالت أخرى بإشفاق.

إنه ثمل.. هذا كل شيء.. واضطرب نهداها النافران تحت الثوب الأحمر الشفاف.. وأضافت.. أنا أعرف أمثاله.

ماتت ضحكات النسوة سريعاً خلال الهواء المتوهج واستدار الجسد الضخم في الرداء الأحمر نحو عريف شرطة يقترب ، صرخت : أنا أقول إنه أمر مقزز أن ينظر أطفالنا إلى السكارى يستعرضون أنفسهم على هذا النحو.

استلم العريف رسالتها واتجه نحو الرجل الراكع ربت على كتفه : هيا انهض كان عليك أن تخجل من نفسك.. وفي وضح النهار أيضاً !

نظر إليه الرجل باندهاش ، ضيق عينيه ثم ألقى نظرة على أرضية الشارع المرصوفة ثانية.

ـ ألم تسمع ما قلت ؟ هيا. انهض ؟ ثم صار صوت العريف أشد غلظة.. ماذا تعتقد أنك فاعل ؟

ـ هنالك نمل.. قال الرجل من غير أن يتحرك.

نظر العريف إلى الأسفل بحيرة كذلك. كانت هنالك سلسلة من أجسام سود دقيقة تسير في خط طويل.. سلسلة لا نهاية لها.

ـحسناً.. وماذا بعد ؟ قال العريف بلا مبالاة وهو ينظر إلى الرجل نظرة متشككة. ـ هل سبق لك أن رأيت قبيلة من النمل تنتقل بكاملها ؟

لم يقل العريف شيئاً.

ـ إنها ظاهرة نادرة الوقوع..فالقبيلة تهرب كلها من كارثة ، وقد اصطدمت في طريقها في المدينة. هل سبق وأن شاهدت نملاً على الأرصفة !

أنا.. لم أشهد ذلك.

لوح العريف بيده. لكن الرجل واصل كلامه قبل أن يستطيع العريف أن يقول شيئاً : أنا لا أعني نملة واحدة أو اثنتين من هذه التي يمكن أن تطردها من الخضروات أو باقة الزهور.. ولكن قبيلة نمل بكاملها وهي ترتحل..أنا بالتاكيد لم أر شيئاً مثل هذا من قبل.

الآن.. لم يعد الرجل والعريف لوحدهما. فالفضوليون موجودون دائماً..حتى في الأماكن النائية فيما يبدو.. توقف الأطفال عن ترددهم وجاؤا يتفرجون ولمع الثوب الأحمر في الشمس خلف الرجل الراكع.هل سبق لك أن حاولت أن تحفر أحد بيوت النمل ؟أقصد من الأسفل تماماً ؟ النمل سيندفع إلى الخارج دون شك. لكنه خلال يومين يعود إلى بيته ليصلح ما تخرب وبشكل أفضل من السابق. أما هذا النمل فربما يكون قد فوجيء بحريق أو شيء آخر. لقد رأيت مرة نمل غابات بأعداد كبيرة وهو يقوم بحركة انتقال واسعة بعد أن فوجيء بحقل نفطي يتكون إزاء بيته ، أنا أفترض أن النمل لا يحب رائحة النفط..ولكن أن ينتقل النمل بهذا الشكل خلال المدينة..

اندفعت ساق أحدهم نحو خط النمل.

ـ انتبه !قال الرجل محذراً صاحب الساق.. ستسحقها إذا لم تاخذ حذرك.

ـ إنها تريد أن تطلع على معالم المدينة. إيه ؟ قال صاحب الساق منسجماً.

ـ نعم.. نعم. هكذا هو الهذيان بعينه قالت المرأة ذات الثوب الأحمر بقلب.

ـ أو.. اصمتوا.. ! قال صوت آخر.. ابتسم الرجل له ، بينما واصل الصول كلامه : هذا شيء ممتع..استمر أرجوك وأخبرنا المزيد عن النمل.

ـ لماذا ؟ غمغم الموظف الحكومي.. لماذا نصغي إلى كل هذه التفاهات عن النمل ؟

ـ لا أحد يجبرك على البقاء ؟ قال الصوت.

تشنج الموظف الحكومي.

ـ هناك متسع لنا جميعاً في الشوارع كما أرجوا.

قال الرجل الراكع : بيت النمل عبارة عن سلسلة من الأنفاق المعقدة انه أشبه بمدينة ضخمة تحت الأرض. وكل ما تستطيع رؤيته فوقك هو السقف. المباني هائلة وهي تشبه ما كان يتخذه أهل الأنكا والأستيك ولكن بمقاييسهم الضخمة.

تصاعدت ضحكة الموظف الحكومي الدائرة أعلى فأعلى.

ـ قرأت مرة كتاباً عن النمل. كان اسمه “الصغير ضد الكبير ” أو ما يشبه ذلك. قال صوت آخر صادر عن شاب طويل يرتدي قميصاً أخضر حائل اللون ثم اضاف : كنت أظن أنها حكايات عن الجن..ويتحدث أيضاً عن مدينة..

استمر الموظف الحكومي متظاهراً بالضحك.

قال الرجل الجالس على الأرض : صحيح.. ربما كان بعضها حكايات عن الجن ، لكن بيوت النمل مبنية بالطريقة ذاتها بالضبط ، كل شيء حيث يجب ان يكون ، إنها تدفعك إلى التفكير.. أليس كذلك ؟ تدفعك إلى القول إن مجرد حشرات صغيرة بإمكانها أن تفعل ما تفعله ,

ـ أوه ، هراء.. قالت المرأة ذات الثوب الأحمر وهي تأخذ ابنها بين يديها لكنه انفلت منها.. ثم أضاف : من الخطيئة أن تعبثوا بكومة من التراب بهذا الشكل. التقت عيناها بعيني الرجل الزرقاوين واهتز لغدها الخالي من مساحيق التجميل. ثم أضافت : أنا لا ألوم أحداً. البعض يهتمون بالنحل وآخرون بالنمل.. ماذا يهمني ؟ لكن النحل يعطي العسل على أقل تقدير.

أحست بأن الناس ينظرون إليها. كان هناك صمت. ثم أردفت : ما أزال أعتقد أن هذا خير من جمع الطوابع ، وهذا ما يفعله زوج أختي.. أنا أتساءل هل جمع الطوابع..

ـ أمر محير ، قال الرجل ذو القميص الأخضر الحائل اللون وأضاف : أمرلا يصدق.. كما لو أن هذه الكائنات تمتلك القدرة على التفكير.

التفت الموظف الحكومي نحو المرأة ذات الثوب الأحمر.

ـ حسن.. ربما لا يكون هذا بالضبط ، قال الرجل الجالس على الأرض.. ولكنها مخلوقات كاملة في نوعها.. وغالباً ما نصاب بالدهشة إزائها.

ركع خمسة أشخاص على أحجار الرصيف الحار ، واتخذت المرأة ذات الثوب الأحمر وضعاً في مواجهتهم. كانت المرأة تتنفس بصعوبة وهي تتابع بعينيها خط النمل الغريب

قال الرجل : هذه هي المربيات إنها تعنى بالجيل الجديد.

قال الموظف الحكومي.. نوع من رياض الأطفال.. إيه؟

ـ نعم ، إذا شئت ذلك نوع من رياض الأطفال. كان النمل يسحب بيوضاً بالغة الضخامة إلى درجة أن النمل لا يكاد يرى من تحتها. كانت نمالاً صغيرة ذات رؤوس كبيرة وكانت تنطلق بسرعة إلى أمام بجانب القافلة.

ـ وهذه ؟.. سأل الرجل ذو القميص الأخضر الباهت.

تستطيع أن تسميها شرطة النمل.. وهي مسؤولة عن أمن القبيلة.. والاختلاف يبدو من البيضة. لكل فصيلة مهامها الخاصة المنوطة بها وتتشكل أجسادها طبقاً لذلك. كان الشاب في الثانية والعشرين تقريباً. وكان يرتدي ملابس البحارة. وكان للفتاة تسريحة شعر على شكل خلية نحل وكان أحدهما يحتضن الاخر ، لكن أحدا لم يلاحظ ذلك. كان الانتباه كله موجها نحو النمل.

ـ تعرفه ؟ قالت الفتاة.

وجه مألوف. قال الشاب.. يكتب عن الحيوانات : بنات عرس.. إناث الأرانب والأيائل والقوارض الشبيهة بالجرذان.

ـ أوه.. إنه زميلنا إذن.. قالت الفتاة. وضحكت.

ـ كاتب ؟ تشدق الموظف الحكومي.لقد فهمت الآن. أنت كاتبة أيضاً ؟

ـ هذا يتوقف على الظروف. لم أنشر كتاباً بعد.. في المجلات فقط.. لكن الموظف الحكومي لم يواصل إصغائه. بل كان يهمس للمرأة ذات الثوب الأحمر : إنه كاتب. ثم انحنى لينظر نحو النمل.

قال الرجل.. نظام ملكي وقوة صارمة.

قال الموظف الحكومي هل تصدقينه ؟

قال الشاب للفتاة.. أخذني مرة لمعاينة قرية نمل. كانت هنالك نملتان تجوبان الأرجاء وقد قال لي إنهما متقاعدان مخموران وقال أيضاً إن النمل يسكر عن طريق تخمير افرازات الذباب الأخضر.

ـ وهل هي قليلة حقاً !

ضرب الشاب جبهته بلطف وقال..

ـ لا تكوني ساذجة. إنه يريد أن يقنعنا بأن النمل يتصرف مثل الناس.. إنه مجنون بالنمل.. أنا أراهن بأنه لم يعد يسمع ما أقول.

قالت الفتاة.. ليقنعنا بأنه ما يزال هناك أناس مثله. ثم أضافت لماذا تنبهه ؟

ـ عن أي شيء ؟..عن الكتابة عن الحيوانات في عصر الفضاء ! ربما هو الآن يكتب رواية عن علم نفس النمل.

قال الرجل : نعم لقد خمنت ذلك وربما لم تخمنه بالضبط لأني أعتقد بأني سبق وأن أخبرتك بنفسي عن الكثير.

ـ أنت فعلت ذلك ؟ تسائل الشاب وهو يحاول أن يبدو قليل الاهتمام. نعم.. بالضبط.. لقد كتب فيركورس عن القنادس. وقدقرأت بنفسك ولن تعده شيئاً سخيفاً بل وجدته أمراٍ منوراً ، لكنني بالطبع أعرف من هو فيركورس.. إنه كاتب يستحق كل الاهتمام.

في نهاية سلسلتي البالغة الطول كانت مجموعة من النمل لا تحمل شيئاً ,

هل هي من قوات الشرطة ، أيضاً ؟

لحظة من فضلك.

قال الرجل وهو يلتفت ثانية نحو الشاب ثم أضاف ما دمنا بصدد حرب الفضاء.. فمن أجل أن نستطيع قهر الفضاء علينا أن نتسلح بالمعرفة. والنمل هو جزء من هذه المعرفة لأنه ينتمي إلى عالمنا. الناس من أمثال برادبري يعرفون ذلك جيداً وكذلك الأمر بالنسبة إلى ليم. إنك لم تفهم بعد..ربما ستكتب شيئاً حول رجال الفضاء ولكنك ستفعل ذلك مثل مبتديْ. ثم التفت نحو الرجل ذي القميص الحائل اللون. ما الذي كنت تسأل عنه ؟

ـ فيما إذا كانت هذه من أفراد الشرطة.

ـ دهماويون.. غمغم الشاب.

ـ محاربون.. قال الرجل. انظر إلى فكوكها السفلى الضخمة.

ـ ما هي حاجة النمل إلى الجيش؟

قال الموظف الحكومي المزيف : من المؤكد أنها لا تفكر بشن حرب.

ـ عندما تصطدم قبيلة من النمل بقبيلة أخرى يموت مئات الآلاف من النمل.. قال الرجل.

سخر الشاب منه بسرعة.

ـ ثم يقولون بأن الحرب ليست حتمية.

ظل وجه الرجل هادئاً ،ونهض واقفاً على قدميه ببطء. مسح ركبتيه بعناية.

ـ نعم.. النمل حشرات كاملة. ولكننا كائنات بشرية.

تلاشت البقع السود الأخيرة واختفت عن الأنظار في نهاية الظل الذي يصنعه النصب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى