عبدالكريم العامري - طقوس البرزخ - مسرحية

شخوص المسرحية:
1- جسد/1
2- جسد/2
3- جسد/3
4- الرجل/1
5- الرجل/2


غرفة زجاجية محكمة مضاءة بألوان خافتة، في الخلفية ثمة ملامح لوجوه باوضاع مختلفة ملتصقة بالزجاج/الجدران، دخان كثيف في الخلف، ثمة جسدان يقفان في منتصف الغرفة، الجسدان يبدآن الرقص الايقاعي في داخل الغرفة الزجاجية، الألوان تتنوع في الداخل، الجسدان خلال رقصهما يتقدمان من فتحة صغيرة في الجانب الأيمن من الغرفة الزجاجية، يومآن بأنهما يفتحان بابا، يقذف الرجل/1 ويتدحرج في وسط الغرفة، الرجل يبدو بملابس محترقة، يقف مذعورا، يدقق في المكان.
الرجل/1: أنا الذي رأى كل شيء، ونسى كل شيء، انتهى معي كل شيء.. أي متاهة هذه، وأي ضياع.. قبل برهة كنت هناك (يشير الى جهة اليمين) لا، لم أكن هناك..بل كنت هناك (يشير الى جهة اليسار) آآآه ، (يمسك راسه متألماً) ضيعت كل الاتجاهات بوصلتي لا تعمل.. أي مكان هذا الذي أنا فيه، أين أنا.. (يقترب من الجدار الزجاجي ويحاول النظر عبره لكنه لا يرى شيئا) اين أنا.. (يصمت) بل من أنا..؟ (يجلس مستسلما) قبل برهة كنت أحمل الخبز لعيالي، من سرق الخبز مني وجاء بي الى هنا..؟
(الجسدان يتحركان برقصات ايقاعية ، يقتربان من الرجل/1 يحاصرانه، يدور حول نفسه، يقذفه الجسد الأول باتجاه الجسد الثاني، يتلاعبان به..)
الرجل/1: أوقفا هذا اللعب، اوقفا المهزلة..ألا تكفيكم مهازلهم..؟ أما شبعتم من اللعب هناك..؟ سنوات قضيتها في متاهة لتقودني لمتاهات أخرى حتى قذف بي الى هذه المتاهة، أي حظ سيء هذا..؟
(قرع طبول تتصاعد رويدا رويدا، الجسدان يتراقصان حوله، يضع يديه على أذنيه للتخفيف من حدة الصوت، قرع الطبول يزداد والرقص يشتد ويشتد..الرجل/1 يحاول الافلات من الجسدين لكنهما يتبعانه اينما ذهب)
الرجل/1: من يخلصني من هذا العذاب، عذاباتي لم تنته، ما الذي فعلته كي اتعذب هكذا.. (يحاول ابعاد الجسدين) كفوا عني، اذهبا بعيدا..
(الجسدان يجمدان ، ينظر اليهما، يحدق بالجسد الاول)
الرجل/1: كأني رأيتك من قبل، هل تعرفني (يتفحصه اكثر واكثر) كأني أنظر في مرآة، هل أنت أنا، كأنك أنا.. (يتفحصه) بل أنت أنا قبل أن يشتد عودي..
(الجسد الhول يتحرك بايماءات بطيئة، الرجل/1 ما زال يحدق به ويستذكر)
الرجل/1: هذا أنا، يوم كنت أحب الحياة، يوم كنت أظن أن الحياة تفتح أبوابها امامي.. (يتحرك الرجل/1 بينما الجسد الأول يتبعه) لم أكن أفكر بشيء سوى الاستمتاع بحياتي، أن أحصل على أكبر قدر من المتعة، كنت أحلم بالسفر، أن اسافر وأزور كل مدن الدنيا، أدخل كل أزقتها، انتزع منها كل النساء، الشقراوات والخلاسيات أيضا.. (الجسد الأول يتمطى بالقرب من الرجل/1) لكن أحلامي تبددت، مثل هواء في شبك، لا المدن التي كنت أحلم بها زرتها ولا نمت في احضان النساء..هكذا بين ليلة وضحاها ألقي بي في حضن الحرب..حرب لم تنته، المدن الجميلة التي حلمت بها صارت سواتر نار، والنساء الجميلات اللاتي انتظرتهن صرن شظايا لهب..
( الجسد يتحرك بشدة ليصور الحرب)
الرجل/1: راحت الحرب تقذفني من مكان الى آخر، من خرمشهر وديزفول الى سيف سعد وقصر شيرين..من لم تطأها الا بساطيل الجند وسرف الدبابات..(يتحرك في كل اتجاه صارخاً) أنا الذي رأى كل شيء، ولم ينس أي شيء صرت هدفا للرماة القناصين..
(الجسد الأول ينزوي خلف الجسد الثاني، الرجل/1 ينظر اليه بحزن)
ها أنت ذا تنزوي بعيدا، خسرت ايامك ولياليك، خسرت سنواتك، كنت تعد ايامك بعدد الشظايا التي نامت في جسدك..
(الجسد الثاني يتحرك راقصا ويشاركه الجسد الاول في الرقص، يقتربان ويبتعدان عن الرجل/1، يفتح الباب ثانية ويقذف الى الداخل الرجل/2 ، يتدحرج على الأرض حتى يستقر في وسط الغرفة الزجاجية، الجسدان ما زالا يرقصان، الرجل/1 ينظر الى الرجل/2 الذي قذف قبل قليل..)
الرجل/1: (الى الرجل/2) أنت...أنت
الرجل/2: (يصمت)
الرجل/1: ألا تسمعني.. (يقترب منه) ألا تسمعني..
الرجل/2: (ينظر له مندهشا بينما الجسدان ما زالا يؤديان رقصهما الايقاعي)
الرجل/1: غير مجبر على سماعي.. لكن وجودك هنا سيجبرك على ان تسمعني وتحدثني أيضا..
الرجل/2: (ما زال خائفا، ينهض ويركض الى جانب المسرح بقصد الخروج الا انه يصطدم بالجدار الزجاجي، يركض الى الجهة الأخرى ويصطدم بالجدار..يتوقف عند الجدار الزجاجي الامامي )
الرجل/1: (ينظر له ويضحك بصوت عال) لن تستطيع الخروج أنك محاصر هنا ما بين تلك الجدران الزجاجية، لا تستطيع أن ترى ما يجري في الخارج لكنهم يرونك..
الرجل/2: (يتوقف عن يجلس مستسلما)
(الجسدان ما زالا يتراقصان)
الرجل/1: ألم أقل لك لا تستطيع النفاذ من هذا المكعب الزجاجي..؟
الرجل/2: (يحدق فيه)
الرجل/1: ربما سيمتلئ المكان بأشخاص آخرين..
الرجل/2: لماذا أنا..؟
الرجل/1: ولماذا أنا أيضا..؟ هذا سؤال لا نمتلك اجابته..(يقترب منه) قل لي، ما هي قصتك..؟
الرجل/2: في غرفة باردة كهذه، علقت من ساقيّ يومين كاملين، كانوا يتركونني معلقا مع كلب جائع، يقفز بين لحظة وأخرى نحوي، ينهش فروة رأسي، يحاول ايذائي، كانت عيناي تحدقان بعينيه الشرهتين، أرى اسنانه وهي تتوثب لتمزيق لحمي..كنت اسمع اصواتهم الممزوجة بصراخ آخرين غيري في الغرف المعتمة، اسمعهم يضحكون ويضحكون بينما كنت معلقا أنزف دماً..
(الجسدان يؤديان في الخلف حركات ايقاعية)
الرجل/1: يا للهول، ما الذي فعلته كي تعذي هكذا..
الرجل/2: ما الذي بيدي ان افعله، لا شيء لدي كي أعذب بطريقة لم تخطر على بال..
الرجل/1: من قام بتعذيبك..؟
الرجل/2: لا علم لي بمن عذبني، لم ارهم، كنت معصوب العينين، اختطفونني من مكتبتي، شعرت بهم وهم يبعثرون الكتب ويمزقونها، اظنهم اخذوا بعضا منها معهم، وضعوني في صندوق السيارة ومضوا بي الى مكان غير بعيد، سمعت الابواب وهي تفتح وتغلق، سمعت صراخاً ونباح كلاب واشتتمت رائح الدم وهي تنبعث من تلك الغرف..
الرجل/1: كيف تخلصت منهم..؟
الرجل/2: لم اتخلص منهم ابدا، أكاد أشعر بسياطهم وهي تنهش جسدي وأصواتهم وهي تتبعني..أكاد أراهم وهم يطفئون اعقاب سجائرهم في ظهري..
(الجسدان ما زالا يؤديان حركاتهما الايقاعية، يتقدمان الى أمام، كل منهما يواجه شخصا وكأنهما أمام مرآة، يستمران بالرقص)
الرجل/1 والرجل/2: (يتحدثان بصوت واحد، ووجه كل واحد منهما الى الجسد) ابتعد عني ايها الجسد المتفحم، لا طاقة لي بك، من أنت.. وما الذي تريده مني، تتبعني كظلي، ابتعد...ابتعد...أنا لا أطيقك أبدا، لا ارغب فيك، افتح لي الأبواب كي أعود لحياتي وبيتي، لماذا تحشرني في هذا القفص الزجاجي..لماذا تسجنني هنا..قل لي، لماذا تسجنني هنا (الرجلان يهزان الجسدين بقوة فيما الجسدان لا يباليان بهما)
(ريح قوية تقتحم المكان، الرجلان يقاومان الريح، الجسدان لا تشغلهما الريح بل يكتفيان بالرقص. الرجلان يسقطان على الأرض..)
الرجل/2: أين نحن بحق السماء..من أين جاءت هذه الريح اذا كنا لا نستطيع النفاذ من المجهول..(الى الرجل/1) ألا تخبرني أين نحن الآن وما هذا المكان..
الرجل/1: نحن عالقان، لا أحد قادر على اخراجنا..
الرجل/2: لابد من حل وإلا سيقضى علينا هنا.. سنموت هنا ونتعفن ولا أحد يعلم بنا..
الرجل/1: ومن قال لك انك لست بميت..!
الرجلم2: ميت...؟ أنا ميت..؟ كيف..؟ لم اكمل مشواري بعد، هناك الكثير لكي أقوم به، لم أنه كل شيء، لدي أناس ينتظرونني هناك، ابنتي التي لم تكمل عامها الثاني.. ورجل هرم ساقه القدر اليّ بعدما تركه الابناء والخلاّن على قارعة الطريق.
الرجل/1: اطمئن..لن تعود اليهما..
الرجل/2: كيف أكون ميتاً وأنت تراني أمامك..؟ هل يستطيع الميت ان يقف على قدميه مثلي..؟
الرجل/1: لست واقفاً على قدميك، يخيّل اليك أنك واقف، أنت الآن مسجى هناك أمام أهلك بينما روحك تحوم حول جسدك..
الرجل/2: أكاد لا استوعب ما تقول..أنت تمزح، ها، قل بأنك تمزح، أرجوك قل لي أنك تمزح..
الرجل/1: يمكنك أن تمزح في كل شيء لكنك لا تستطيع أن تمزح بالموت، الموت ليس مزحة!
الرجل/3: لست ميتا..قلت لك أنا لست ميتاً، أنت واهم، من للرجل الهرم والطفلة التي تركتها في الدار، اذا كان هذا قدري فمن لهما وما ذنبهما..؟
الرجل/1: هدئ من روعك يا رجل وقل كيف استطعت الخلاص من أولئك الذين عذبوك، من خلصك، متى حدث ذلك، ما آخر شيء تتذكره ...قل لي هل لديك اجابة..؟
الرجل/2: (يصمت)
الرجل/1: أرأيت..؟ أنت لا تتذكر شيئا من هذا لأن دماغك قد توقف..وخلاياك ماتت..وروحك انسلت من جسدك..(مؤكدا) هذا هو الموت..!
الرجل/2: أيعقل أن أكون قد مت معلقا في السقف..؟
الرجل/1: الموت واحد وان تعددت أسبابه..
الرجل/2: (متوسلا) لكنني لا أريد أن أموت..
الرجل/1: هذا هو قدرك ولا مهرب منه..
الرجل/2: (مصرا) لا اريد أن أموت..
الرجل/1: عزرائيل لا يأخذ رأيك في تشبثك بالحياة او المضي الى الموت.. ينتزع روحك دون استئذان، ألم تر من قبل أحدا يموت..؟
الرجل/2: كيف لم أر ذلك..؟ لم يكن واحدا، كانوا حزمة من شباب تناثرت اشلاؤهم في المقهى القريب من مكتبتي، جمعناهم في اكياس النايلون واودعناهم عند عزيز مقتدر..
الرجل/1: أرأيت...؟ هل كانوا يعلمون بموتهم..؟
الرجل/2: ليس هم، هناك من كان يعلم بذلك، الرجل الذي فجر نفسه كان يعرف ان كل من حوله سيموت معه.
(الموسيقى تتصاعد والجسدان يؤديان حركات ايقاعية)
الرجل/1: لكنه لم يكن يعلم كم واحدٍ سيموت، كم فردٍ سيكنسه العصف..
الرجل/2: أنت تبدد وقتي دون فائدة ، سأفكر في طريقة للعودة والخروج من هذا القفص، أرهقني النظر في هذا الجسد الذي صار كظلي (يقترب من الجدار الزجاجي) اخرجوني من هنا (يتحرك الى الجدار الاخر) اخرجوني من هنا (يتحرك من جدار الى آخر) اخرجوني من هنا (حين ييأس يجلس على الارض) يبدو ان لا احد هناك يسمعني..
الرجل/1: لا فائدة يا صاحبي من صراخك وصياحك، لا أحد يسمعك، أنت تنفخ في قربة مثقوبة..الجسد الذي يرهقك وجوده قد يمكنه اخراجك من هنا برمشة عين..
الرجل/2: (يركض نحو الرجل/1) من..؟ هذا..؟ كيف..؟ اخبرني كيف اقنعه ان يعيدني الى حياتي.
(الجسدان يؤديان حركاتهما الايقاعية دون توقف، يقتربان من الرجلين)
الرجل/2: (يقف امام الجسد/2 ويصرخ به) أنت ايها الظل الذي لا يتعب من مراقبتي، هل تستطيع اخراجي من هنا.. ارجوك اخرجني من هنا. اخرجني من هنا (يحاول الامساك به لكنه لم يستطع) ما هذا..؟ (يحاول مرة اخرى الامساك به الا ان يديه لا تصلان له) أي مخلوق أنت..؟ أي قوة تلك التي لديك..؟ (بعد ان ييأس من ملامسته) أعرف أنك الاقوى لكنك لن تستطع التحكم بي..لن تستطيع ذلك..
الرجل/1: استرح يا رجل، لا تؤذي نفسك، لن تستطع الامساك به ولن يسمعك ايضا..لا يسمعك هنا احد غيري، أنت عالق هنا..
الرجل/2: مالي أراك غير مهتم مثلي، هل أنت منهم..؟
الرجل/1: (ضاحكا) أنا منهم..؟ (يشير الى الجسدين) أنا من هذين..؟
الرجل/2: لم أرك قلقاً كأنك استمتعت بوجودك في هذا القفص..
الرجل/1: (بسخرية) مستمتع جدا..أتعرف لماذا..؟ لأن هنا لا أحد يسخر مني، لا أحد يستطيع أن يسرق حقا من حقوقي..
الرجل/2: وماذا عن حقك في الحياة..؟ ألم يسرقونه منك..؟
الرجل/1: كيف ستقتنع أنك غادرت حياتك..؟ اسمع يا رجل، لم نعد حيين، لقد غادرنا الحياة، غادرناها الى غير رجعة، أننا الان في عداد الاموات، ثق بي أنك لن تستطع العودة..
الرجل/2: لم أعد أثق بأحد، لا بك ولا بهذين.. (يشير الى الجسدين) كلكم واهمون، لا يمكن ان أبقى عالقا هنا مثل جرذ اختبار، لا يمكنني الاستمرار فقد تعودت على الحركة والسير لمسافات طويلة، اذهب واعود ماشيا لعملي..
الرجل/1: (غاضبا) اقتنع يا رجل انك لن تستطع بعد الان الذهاب لعملك، لا عمل لك هنا، ما عليك الا الانتظار سيأتون ويأخذونك الى مستقرك..انس كل ما فات..
الرجل/2: كيف أنسى..؟ هل أنسى ذلك الصراخ الذي يأتيني من الغرف المجاورة..؟ هل انسى الألم الذي تجرعته وانا معلق من ساقي..؟ هل أنسى تلك الوجوه التي اراها كل يوم..؟ أتريدني أن أنسى، علّمني أنت كيف أنسى..هل نسيت أنت تفاصيل حياتك..؟
الرجل/1: أنا راض بقدري..!
الرجل/2: وأنا في المكان الخطأ.. اقتادوني خطأ، وعلّقوني من ساقيّ خطأ، وعذبوني خطأ، وجئت الى هنا خطأ..
الرجل/1: نحن محمّلون بالاخطاء، مكبّلون بها..
(صوت من الخارج مع ريح قوية)
الصوت: يا بن آدم، يا من لا يرضى على شيء، لا تقتفي اثر ما فات وانظر الى أمام، هناك قد تجد ما ضاع منك، قد تخسر ايامك وأنت تلوك الحسرات، قد تمضي وحيداً بلا ذاكرة، تحمل أخطاءك على ظهرك المنحني، تبحث عن وجوه غادرتك بلا استئذان، لم تعد أنت كما أنت..ليس سوى ذرة في فضاء شاسع..
(الريح تشتد وتشتد ، يفتح الجدار الزجاجي ويدخل الجسد الثالث، يدور حول المكان، ريح وموسيقى صاخبة، يلتحق الجسدان به ويشكلان كتلة واحدة ، يبدأون بتقييد الرجلين)
الرجل/2: دعوني وشأني، الى أين أنتم ذاهبون بي، اتركوني..دعوني أعود الى حياتي، أنا راض بكل ما فيها من ألم..أرجوكم، فكوا قيدي، دعوني أعود لبيتي..
(الأجساد تسحب الرجلين الى خارج الغرفة الزجاجية من باب آخر وسط اصوات وصراخ الرجل/2)
(اظلام لفترة قصيرة ، ثم بقعة ضوء يظهر فيها الرجل/1، يقترب من الجمهور)
الرجل/1: سواء اقتنعتم أو لم تقتنعوا...تلك هي كل الحكاية..

اظلام- ستار
البصرة 5/5/2016

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى