رشيد المومني - الشعر ومفارقات التدمير..

لا يتقيد الشعر بالإقامة في أرض محددة ،واضحة المعالم،ولا يطمئن إلى زاوية نظر جاهزة ومعلومة.إنه وتبعا لذلك، يتواجد حيث يحتفي الخلل بتداعياته،وحيث التدمير يستمتع بتفريخ حماقاته الصغيرة والكبيرة. كما يكون، حيث يحتد عنف تلك الارتجاجات المتتالية داخل الذات وخارجها،والتي تمتد أصداء ذبذباتها إليك من عمق مدارات ذاكرة الكون،من راهنه كما من آفاق توقعاته، ترصداته واحتمالاته.إنه ووفق هذا المعنى تحديدا، يكون مهيأ للانفلات من مركز كتابة الأشياء،كي يستحث الخطى باتجاه هوامش قراءتها،تلك التي تقع عادة تحت سلطة الفيلسوف، أو المؤرخ ، عالم الاجتماع، أو السينوغرافي، دون أن يتحول-الشعر- بالضرورة إلى جسد عاكس للورطة التدميرية التي دأبت على التقاطها خطابات أي من هؤلاء،ودون أن تستسلم خطواته لجاذبية اللاتوازن الذي تحفره مساراتهم .لأنه وبكل بساطة وتلقائية يميل في قراءته لأبعاد السقطة، إلى توظيف ذات الآليات التي دأب على توظيفها في كتابة العالم، بما تعنيه هذه القراءة من تحليل وتأويل وتفسير، للأسباب والنتائج التي دأبت المراكز التقليدية على وضعها خارج اهتمامات أو اختصاصات الشعر.
وتأكيدنا على دمج دينامية كتابة البدد بدينامية قراءته شعريا،هو تأكيد ضمني على الاختلاف الفارق الذي يمكن أن تتميز به الزاوية التي تستقل بها شعرية الرؤية. وهو اختلاف يمكن تلخيصه بكثير من التمحل، في اندفاع الرؤية إلى ذلك الفراغ اللامرئي الذي يلوح بشكل جد خاطف بين مفاصل الموضوع، كي يكشف عن الأبعاد المنسية في بنائه و اللامفكر بها في هندستها ، أبعاد تظل باستمرار بعيدة عن دائرة اهتمام المؤرخ أو عالم الاجتماع ، أو المعني بتوثيق ما هو آني وعابر.
دائما ثمة رغبة في الذهاب بالفكر إلى مكان آخر.الذهاب إلى مكان آخر يقتضي تغيير المسار الوجهة ، ومع تغيير المسار والوجهة يتغير المشهد كله .يتغير إيقاع الجسد. تتغير دلالة الحاجة ودلالة السؤال، و معها هوية البحث.
حجاب تتالي النقائض
هناك فقط ، وفي ضيافة ذلك التداخل اللاهث و المتسارع في الخطابات ،يكون للكتابة أن تستطيب مقامها ،هناك في أتون تلك الرجات ذات الكوارث المعلنة، أو تلك الواعدة بالأقسى في صيغة الأجمل، وفي تضاعيف تسارع وثيرة الهشاشة المستبدة بالقامات المتراكضة على رقعة خارطة استفحلت فيها التشققات، هناك كما هنا ، حيث لا وقت للقراءة الآلية بالتقاط أنفاسها ،ولا وقت للفكر كي يمارس مهامه التحليلية و التقييمية المجسدة في حصر موضوع ما،أو فصله مؤقتا عن غيره من المواضيع، من أجل تأطيره واستخلاص ما يمكن استخلاصه من آراء ومفاهيم. إذ دائما ثمة عناصر جديدة تشوش على ما سبقها. تقتحمه ،تتسرب إليه،تتخلله ، متقاسمة وإياه إكراه وبداهة تأثير ذي طبيعة مضاعفة،هي التي منها يستمد الموضوع شكله الجديد وبنيته المغايرة لبنيته الأصلية،الشيء الذي ينعكس حتما على منهجية التحليل، وعلى ما يمكن أن تمتلكه من صفاء، كما يؤدي إلى دمج عناصر جديدة ومعطيات مستحدثة ،لا تلبث هي أيضا أن تخضع لنفس التأثير الناتج عن جدلية تسارع دائم ،لا يكف عن إذكاء نار الخلاف و تأبيدها بين هذا الخطاب وغيره من الخطابات. في هذه الحالة يتعذر القيام بعملية الفهم . ذلك أن الموضوع حينما يكون وديعة حركيةٍ قياسية يظل بعيدا عن متناول أي حصر محتمل، وفي غفلة مستفحلة عن عين الفأر المأربي،تلك المتربصة باللحظة الحتمية والمصيرية لخراب السد.
معايير حكيمة لحماقات التدمير
إن منهجية الاستحواذ القائمة على حظوة الاستئثار بالقوة،هي وحدها المؤهلة دائما لإعادة صياغة المعايير،وإعادة كتابة التشريعات التي تتحكم بأناقة في هندسة الشرخ الذي على أساسه تتحقق مشاريع، قد يتم الإعلان عنها بصيغة احتفالية ورسمية، أو يتم تفعيلها تلقائيا في أوج لحظات الارتجاج والتسارع التي تكون فيها عين الحكمة منصرفة إلى معالجة رضوض تبدو ظاهريا عرضية وعابرة، في حين أنها إشارات أولية لانهيارات كارثية هي الآن أو غدا في طريقها إليك.ذاك ما لا يمكن أبدا أن يغيب عن حدس الشعر، وعن اليقظة الأبدية لاجتراحات رؤياه.
امتلاك القوة بحدها المادي أو الرمزي يعني امتلاك ((الحق)) في الاقتراح ،وامتلاك ((صلاحية)) الحذف والإضافة والتحوير والتبديل،وبالتالي صلاحية التدمير .امتلاك القوة هو ما تحتاجه-على سبيل المثال- السيدة الديموقراطية باستمرار كي تمتلك شرعية ومصداقية خطابها،حتى ولو تعلق الأمر بالتفاوض حول كرسي معطوب في حديقة غير آمنة ، حيث الأمر والنهي، التخويف والهيمنة مقنَّعة بهمس بارد شبيه بإيماءة شبح مريب لا يغريك بالبقاء حيث أنت. في حين تغدو الديموقراطية التي يلهج بها الضعيف،أسيرة إحساس مزمن بحالة واحدة وأحادية،هي حالة الإشفاق والتعاطف المتعالي الذي لا يمكن أن يعود على صاحبه بأكثر من ميدالية خرساء لا تصلح لأكثر من التباهي المحزن في قناة يحف شاشتها الظلام. فالديموقراطية المعززة بالقوة المفرطة والبأس ذي الأوجه والأبعاد المتعددة ،لا علاقة لها بديموقراطية طيبة معززة بعجزها الكلي ،لذلك فقط كانت القوة المعربدة،وحدها المؤهلة على إجبارك للامتثال إلى سلبية الإنصات، ذاك الذي يشجعها على استحداث واختلاق المزيد من الحقائق والمفاهيم المدعمة بقوانينها المستمد من طبيعتها الخاصة بها ، من زمن منطقها أيضا،وليس من زمن منطق الأشياء. زمن هدم الشيء وليس زمن إنشائه. أحيانا تتذرع القوة بطيبوبة تخديرية، غير مبررة ومبطنة بتربص ما،وباقتناص الفرصة للانقضاض، حتى ولو تعلق الأمر باستبدال كأس ملوثة بأخرى نقية.تلك هي رؤية الشعري. أيضا امتلاك الآخر للقوة يمنح لاستقامتك شكلا منحرفا تماما،ما من سبيل لتقويمه بغير آلية التدمير.علما بأن الاستقامة قيمة جد مثالية، لا يمكن أن تقتنع بها القوانين الأولية لشعرية الفيزياء،حيث ما من أثر هناك لأي خط مستقيم، ما دام الارتجاج والاختلال هما الأصل والفرع في كل امتداد محتمل.لذلك كانت الحروب المدارة ضد الاختلاف من بين أكثر الحروب بلادة وبشاعة،باعتبار أن الاختلاف، هو الأساس الذي ينهض عليه بناء أي مسكن محتمل، بصرف النظر عن طبيعة هذا المسكن اللغوية العرقية،الدينية أو الشعرية.
من هنا يمكن القول إن عدوانية أي عنف تدميري يفتقر إلى أفق حواري واضح ومتكافئ ،تسعى أولا وأخيرا إلى التحكم في هندسة الأرض التي تتحرك عليها شعرية الكينونة، وإلى التحكم في تصميم حدودها، بما يجعلها قابلة للمزيد من التحجيم و التقزيم.الشيء الذي لا يتحقق إلا عبر ردم إضافي للهوامش التي تبدو ظاهريا مجرد فائض جدير بالبتر والمصادرة ،ولو تعلق الأمر ببقعة ضيقة يمكن أن يستريح في فيئها الظل.إن الأمر أشبه بما يشار إليه عادة بطمس هوية الموقع، بصرف النظر عن موضوعية الدلالة التي تسند إلى مفهوم الهوية ، والتي تظل من وجهة نظر هذا السياق عزاء الإزميل في رحلة التيه. الملاذ الآني لاستعادة ما سيأتي . المبرر الوجودي لجسد هو المقابل المحتمل للحرف. المدونة التي تستمد منها الخطاب جرأته على تجريب كل إمكانيات الحوار مع الأعالي، كما مع العوالم التحتية المكشوفة و المضمرة.هي كذلك المرجع الذي تستمد منه لغة الكائن اعتدادها وكبرياءها، ذلك أن اللغة التي تفتقر إلى اعتدادها بسلطها الطبيعية والرمزية، هي لغة تفتقر إلى شرط وجودها،كما تفتقر إلى ذاكرة توثق لمسارات أسفارها الدلالية في أمكنة المكتوب وأزمنته. بمعنى أنها تؤكد على حضور نسبة كبيرة من البدائية التي دأب تعاقب الحضارات على ردمها.ونظرا لتعدد طرائق طمس الموقع- التي تلي المراحل النهائية للهدم- باعتباره نواة وجود لا تتقبل حضوره إرادات التدمير ، فإن أهم ما يكون مستهدفا فيه هو ذاكرته التي تكون مطالبة من وجهة نظر المدمر بالاحتجاب وبالغياب ، ولعل السبيل الوحيد لهذه الغاية هو تغييب دواعي تفعيل عناصرها ومكوناتها ، كتمهيد منهجي لردمها.
التدمير بين أطروحة التوازن
وأكذوبته
تستند استراتيجية التدمير الممنهج والعشوائي المسلط عليك من قبل زوابع الخارج ، وأيضا من قبل تلك المتربصة بك من داخلك، وبدعم من إرادتك أنت أحيانا، شجرا كنتَ أو وطنا ،من ضمن ما تستند إليه،التلويح بقانون التوازن الذي يخول لها ومن منطلق موقعها العدواني صلاحية التعريف بدلالة هذا القانون، وبشروط تفعيله، إلى جانب تعيين العلامات المعنية بالتدمير،والتي يمكن أن تكون أعشاش طيور مهاجرة.جملا شعرية قادمة من مستقبل اللغة والمخيلة،أو وجهات نظر في المعابر التي ينبغي أن يسلكها الطوفان.كل ذلك بدافع الحرص على تحقيق توازن نقي يخلو من شبهة الأضداد،ومن فتن التنابذ القائم بين رؤوسها وأقدامها. غير أن هذا الكيد لا يمكن أبدا أن ينطلي على الشعر الذي ينكتب الآن في غيبة عن منقار الببغاء، حيث تنعدم إمكانية الحديث عن نقط معلومة، قد تكون سببا مباشرا أو غير مباشر في تحقيق توازن ما،ناتج عن تعايش محتمل بين تصورات ورؤى تسكن ذاكرة الحي،كما تسكن ذاكرة الجثة.على ضوء هذا الانكتاب يكون التوازن هو التعبير الصريح عن هوس التدمير برؤية وجوهه في مرايا الإقصاء.وعلى ضوئه أيضا سيتعذر تحقيق التوازن بدون إلغاء ما يمكن اعتبارهم طرفا مباشرا في إفساده.و هذا الإلغاء لا يتم إلا عبر استحداث شكل مضاد من أشكال التدمير ، بمختلف حمولاتها المادية والرمزية.
ليست هناك إذن قوى متساوية أو متوازية ومتقايسة،وليست هناك خطوط مرسومة سلفا بشكل رياضي لحركة هذه القوى، لذلك يغدو التوازن مجرد صفة من صفات اليوتوبيا،إذ كلما انعدم الانسجام وتعددت وجهات النظر إليه، إلا وتعددت مراكز الثقل التي لا يمكن أن تخضع بالضرورة إلى قواعد ارتكاز محددة،حيث سيكون من المستحيل الحديث عن توازن ثابت، ولن يكون هناك سوى الحديث عن توازن متحرك،يمكن أن يفضي في أية لحظة إلى لا توازنه الخارج من صلب التدمير وترائبه. ذلك ربما هو جزء من الصيرورة الكونية التي ليس لها أن تتحقق أو أن تتقدم إلا عبر ثنائية النقصان والامتلاء التلقائيتين أو المدبرتين.
تلك هي بعض حدوس القصيدة،التي ترى في النقصان الذي يحدثه التدمير الأعمى والمفتقر إلى الحد الأدنى من إرادة البناء، خطوة واثقة باتجاه الإتلاف،والطمس و الإفراغ،والمؤدية تقنيا وعمليا إلى ما يشبه التعمية والتمويه. ذلك أن فعل التدمير مُوجَّه أصلا إلى الإطاحة النسبية أو الشاملة بهندسة الشكل، أيضا بكيانات وشعريات واختيارات لم يعد مرغوبا فيها من قِبَل وعي/رؤية/قناعات/ ما.إنه بمعنى ما يستهدف موضوعه بتشويه وإفساد خصوصيته التي تستقطب عادة فضول تفاعلك الإيجابي. إفساد يؤجج جذوة التشكيك لديك،كما يساهم في توسيع الهوة بينك وبين الشيء/ الموضوع.وبما أن الإطاحة بهندسة الشكل هي الخطوة المبررة لإتلافه،فإن الإتلاف هو الخطوة الموضوعية لطمسه،وبالتالي لتفريغ الفضاء منه،وباختصار شديد لتحويله إلى الباحة الخلفية لقاعة النسيان.وفي قلب الغياب المطلق لأي توازن ممكن، يظل احتمال إبدال ما تم تدميره /إتلافه /طمسه بشكل جديد غير وارد،أو بالأحرى غير محتمل،وغير متوقع، مادام المدمر لا يمتلك عادة إبدالا آخر عدا متعة التملي في الخراب، كي يتجدد الوعي بحالة الخسران،وبحالة فَقْدٍ يلح المبيدون على أن إدامة إقامته بين مضارب خيامهم الإسمنتية والوبرية.
ذلك على الأقل ما تتلافاه شعرية التخوم ، وهي تمارس لذة التدمير وجماليته، ليس من أجل التفريغ العدمي للفضاء،وليس بغاية الطمس المجاني والمبيت لأثر ما،ولكن من أجل استحداث حيز جديد لهواء آخر،يمكن أن تستمد الروح من صفائه ديمومتها المؤقتة،وقصد التأكد من حدود إمكانية الهندسة،لإقناعك بقدرات شرفاتها وكهوفها على تنسيل المزيد من أنسجة القول ومن رحابات الوجود. ومن ثمة، اقتراح أراض جديدة مهيأة لاستضافة بنيات شعرية مغايرة، يعيد الكائن في تضاعيفها اكتشاف إمكانية تجريب دلالات قد تكون دليله إلى مقامات جديدة من مقامات كينونته الغامضة.أيضا ليس من أجل استدراجك كي تمتثل إلى متعة أية لعبة تروم إحداث حالة من التعمية أو التمويه،بحثا عن إنتاج بعض التمظهرات الموحية بانتمائها إلى زمن الحداثة أو ما بعدها ،لكن من أجل استشراف طلائع زمنك المُحَجَّب بأنواء الرتابة وغبار التكرار و معاول التدمير المتباهية بعماها.زمن تلك الكينونة المنذورة لحيوية تدمير، أبدا لا يخضع لسلطان هندسة ثابتة ،ولا لنزوة الإقامة في مسكن الأصل مهما تعددت تلاوين هذه الهندسة ، ومهما تعددت أسماء وبنيات هذا الأصل.


* نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 24 - 10 - 2014

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى