د. زياد الحكيم - عندما يشيخ الأب والأم

عندما يكبر الاولاد يكبر معهم الاباء والامهات. وفي الوقت الذي يبدأ فيه الابناء يعدون العدة لبدء حياتهم الخاصة وبناء اسر لهم يكون الاباء والامهات قد وصلوا الى مرحلة من العمر يحتاجون فيها الى رعاية خاصة من الابناء والبنات. وفي هذه المرحلة يختلف الاباء والامهات عما كانوا في الماضي. تضعف ذاكرتهم، وتتراجع حالتهم الصحية، ويزداد عنادهم. ويتطلب التعامل معهم الكثير من الصبر والحنو والتفهم. ولا ننسى ان لهؤلاء الاباء والامهات ماضيا طويلا عملوا فيه وكدوا، وبنوا فيه اسرهم، وحققوا الكثير من النجاح، وواجهوا الكثير من خيبات الامل والانكسارات، وتراكمت لديهم فيه خبرات حياتية مهمة يجب ان نقدرها ونحترمها ونستفيد منها. ولكن للابناء ظروفهم الجديدة وتحدياتهم الحياتية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والاسرية وكل ما يفرضه عالمهم الجديد من افكار وقيم وخبرات.

وهنا تصطدم الاوضاع بعضها ببعض: عالم الاباء والامهات المسنين بكل ما فيه من خبرات وقيم تنتمي الى ماض بعيد وعالم الابناء الشباب بكل ما فيه من تحفز ورغبة في التحقق والتقدم. هنا يقع الصراع بين العالمين، في الوقت الذي يكون فيه الاباء والامهات بأمس الحاجة الى يد حانية ترد الجميل وقلب كبير صبور يفهم ويقدر ويقدم العون.

لندرك ان الخلاف بين الجيلين في مثل هذه الاوضاع مسألة لا بد منها. ولكن لا بد من احترام قيم الاباء والامهات وخبراتهم. لنعلم ان لهم وجهات نظر مختلفة بطبيعة الحال. وهم قد لا يعرفون الكثير عن عالم التكنولوجيا والتلفزيون والحياة الحديثة. وهذا شيء طبيعي. فالتقنيات لم تكن متوفرة في ايامهم. ولكن في ايامهم عملوا كل ما في استطاعتهم لتربية اولادهم. ولم يكن ذلك بالعمل السهل اليسير.

ويجب ان لا نعزلهم عما نتخذ من قرارات. يجب ان نشركهم في ما يعرض لنا من امور ونستفيد مما عندهم من خبرات. يجب ان يشعروا باننا نقدر ما قدموه لنا عندما كانوا قادرين وعندما كنا في طور التلقي والتعلم والتدرب. ان عزلهم الآن عما يطرأ من جديد في شؤون الاسرة يشعرهم بالعجز ويشعرهم بانهم عالة على الاسرة ويشعرهم بانهم غير مرغوب فيهم. انهم بحاجة الى الشعور بان خبراتهم تحظى بالاهتمام والاحترام. وهم ليسوا بحاجة الى الاحساس بالضعف الامر الذي يدفعهم الى الحزن والتمرد والعناد.

وعلينا ان نذكر ايضا ان ذاكرة الانسان تضعف مع التقدم بالعمر. ومن الطبيعي ان ينسى المسنون اشياء نعتبرها مهمة كايصال رسالة تلقوها على الهاتف من شخص ما. فما علينا الا ان نتحلى بالصبر والتفهم كما نفعل عندما نتعامل مع طفل صغير. فعامل الزمن يفعل فعلته في الذاكرة، والنسيان ليس دليلا على عدم اهتمام. وفي مثل هذه الاحوال على الابناء ان يعملوا كل ما في استطاعتهم كيلا يتفوهوا بكلام جارح او تعليق ساخر.

و يواجه المسن ضعفا عاما وتراجعا في صحته. وعندما يشكو من الم هنا او هناك هو بحاجة الى مواساة وطمأنة. وعلى الابناء ان يظهروا الاهتمام الكافي ويتجنبوا الظهور بمظهر اللامبالي واللامكترث. فاذا كان المسن بحاجة الى زيارة طبيب، فليقدم الابن او الابنة المساعدة بمرافقته الى الطبيب بسيارة. فهذا قد يحميه من مزيد من الاصابات. وهذا ايضا يعطي المسن الانطباع بان الابناء طيبون ومستعدون لتقديم كل المساعدة والمطلوبة عند الحاجة - بكل ما يرافق ذلك من شعور بالرضى والفرح والاطمئنان.

ولنتذكر ان الدنيا دوارة كما يقولون: فكما ان الاباء والامهات وصلوا الى مرحلة متقدمة من العمر فاننا سنصل نحن ايضا الى مرحلة مشابهة سنكون فيها بحاجة ماسة الى كل مساعدة يستطيع ابناؤنا وبناتنا تقديمها الينا.

ويجب ان تترافق المساعدة التي نقدمها للاباء والامهات المسنين بكل الاحترام. علينا ان نحفظ كرامتهم الانسانية بالفعل الجميل والكلمة الجميلة. والمعروف ان التعامل مع الكبار في السن ليس سهلا دائما. وهو يحتاج الى الكثير من الصبر والتفهم. وهذا يعود بطبيعة الحال الى وضعهم الصحي والنفسي. ولنذكر دائما ان هؤلاء المسنين هم الذين عملوا وكافحوا من اجلنا. وحان الوقت الان ان نكون مسؤولين عن تقديم ما نستطيع لخدمتهم ورعايتهم.

ولنجعل هؤلاء المسنين جزءا من حياتنا. لا يضر ان نتصل بالهاتف في منتصف النهار ونحن في العمل لنسأل عنهم، ونعرف حاجاتهم، ونواسيهم، ونخفف عنهم. وهذا الاتصال لا يفيدهم فقط، بل يفيدنا ايضا بان يشعرنا باننا نقدم المساعدة لاعز الناس في حياتنا.

ودرجت في الآونة الاخيرة في بلادنا العربية فكرة ارسال المسنين من اباء وامهات وعمات وخالات الى مأوى المسنين. ومن يفعل ذلك يبحث عن مسوغات ليقنع نفسه بأن هذا هو الحل الامثل الذي يفيد المسن ويفيد من حوله من ابناء وبنات وزوجات وازواج. من هذه المسوغات ان المسن يجد في المأوى كل المساعدة المطلوبة ويجد الهدوء ويجد النظافة والعناية على مدار الساعة. ويجد بعضا من رفاقه فيتسلى معهم ويمضي وقته في اللعب والحديث.

ولكن يجب ان نذكر هنا ان المأوى يضع قيودا مهينة على حياة المسنين الذين تعودوا ان يكونوا سادة في حياتهم: ففي المأوى عليهم ان يناموا في وقت معين وان يفيقوا في وقت معين. وهناك وقت معين للاكل ووقت معين للحمام ووقت معين للتنزه. فكيف يختلف هذا المأوى عن السجن؟ وهذا الوضع يشكل ضغوطا رهيبة على المسن، ويشعره بالوحدة والوحشة، ويشعره بان ابناءه وبناته الذين انفق عمره في خدمتهم وتربيتهم ورعايتهم تخلوا عنه في ساعة الشدة ورموا به في بيئة غريبة باردة يقوم فيها على رعايته اشخاص يؤدون عملهم بأجر وينصرفون الى بيوتهم في آخر الدوام.

طبعا انا اتفهم ان ثمة حالات بالغة الصعوبة تستوجب ان يؤخذ فيها المسن الى المأوى. ولكني اقول ان المأوى يجب ان يكون استثناء وليس قاعدة. الامر الطبيعي هو ان يبقى المسن بين ابنائه وبناته واحفاده في بيته. وله ان ينعم بالسعادة في العيش بينهم. فهذه هي ثمرة حياته كلها.


[email protected]
لندن - بريطانيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى