أحمد حسن الزيات - 15 - دفاع عن البلاغة (7) الأسلوب

نعود إلى حديث البلاغة بعد أن صرفتنا عنه صوارف من توزع البال وفتور الطبع واعتلال الجسد. وكانت النية أن نترك بقية هذا الدفاع لينشر بجملته في كتاب؛ ولكن رغبة القراء ما زالت تلح على هذه النية حتى تناولت القلم وأخذت أكتب:

سبق القول في الصفة الأولى من صفات الأسلوب الجامعة الثلاث وهي (الأصالة) وما تضمنته من صفات الدقة والصحة والصدق والطبعية والوضوح. وكلامنا اليوم في الصفة الثانية منها وهي (الوجازة). وإذا كانت الأصالة هي الصفة الجوهرية للأسلوب البليغ، والسمة المميزة للكاتب الحق، فإن الوجازة بإجماع الرأي هي حد البلاغة. وإذا كانت الوجازة أصلاً في بلاغات اللغات، فإنها في بلاغة العربية أصل وروح وطبع. وأول الفروق بين اللغات السامية واللغات الآرية أن الأولى إجمالية والأخرى تفصيلية. يظهر ذلك في مثل قولك: (قتل الإنسان!)، فإن الفعل في هذه الجملة يدل بصيغته الملفوظة وقرينته الملحوظة على المعنى والزمن والدعاء والتعجب وحذف الفاعل، وهي معان لا تستطيع أن تعبر عنها في لغة أوربية إلا بأربع كلمات أو خمس. وطبيعة اللغات الإجمالية الاعتماد على التركيز، والاقتصار على الجوهر، والتعبير بالكلمة الجامعة، والاكتفاء باللمحة الدالة؛ كما أن طبيعة اللغات التفصيلية العناية بالدقائق، والإحاطة بالفروع، والاهتمام بالملابسات، والاستطراد إلى المناسبات، والميل إلى الشرح ولم تعرف العربية التفصيل والتطويل والمط إلا بعد اتصالها بالآرية في العراق والأندلس. ولا أقصد من وراء ذلك إلى تفضيل لغة على لغة، أو ترجيح أسلوب على أسلوب، فإن الاختلاف اختلاف جنسية وعقلية ومزاج. والتفصيل إذا سلم من اللغة كان كالإجمال إذا برئ من الإخلال؛ وكلاهما حسن في موقعه بليغ في بابه وقد يكون التفصيل من الإيجاز إذا قدر لفظه على معناه. فإن الإيجاز الذي نعنيه أن يدل اللفظ على المعنى ولا يزيد عليه؛ فإن كان ناقصاً عنه فهو إيجاز التقدير والمساواة. إنما أقصد بذكر الإجمال والتفصيل إلى أن الأسلوب العربي الأصيل موسوم بالوجازة من أصل النشأة؛ لأنه أسلوب أمة صافية الذهن دقيقة الحس سريعة الفهم، تشعر بقوة، وتعبر بقوة، وتفهم بقوة. وقوة الروح والقلب، وقو العقل والخلق، تلازمهما قوة اللسان والقلم، أي البلاغة. والبلاغة الإيجاز، والإيجاز امتلاء في اللفظ، وقوة في الحبك، وشدة في التماسك. ولا ترى التميع والتفكك والانتشار إلا حيث ترى الضعف في شيء من أولئك. وملاك الإيجاز غزارة المعاني ووضوحها في الذهن، وطواعية الألفاظ ومرونتها في اللسان. وإنما يكون الغي والثرثرة ومضغ الكلام من جدب القريحة أو قلة العلم أو سقم الذوق أو نبؤ اللغة أو مجافاة الغرض. ومن الكلام المأثور: من ضاق عقله اتسع لسانه. اختصر في صفة واحدة صفات البلاغة في أساليب القرآن والحديث وأشعار الجاهليين وخطب الأمويين وكتب العباسيين، فلن تكون هذه الصفة غير الإيجاز. أقرأ قوله تعالى في آخرة الطوفان: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك، ويا سماء أقلعي، وغيض الماء، وقضي الأمر، واستوت على الجودي، وقيل بعداً للقوم الظالمين)، وقول الرسول (ص) في تقييد الحرية، وهو الذي أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام: (إن قوماً ركبوا سفينة فاقتسموا، فصار لكل رجل منهم موضع، فنقر رجل منهم موضعه بفأس، فقالوا له: ما تصنع؟ قال: هو مكاني أصنع فيه ما أشاء. فإن أخذوا على يده نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهكلوا)؛ ثم قول زهير في حروب عبس وذبيان:

رعوا ما رعوا منِ ظمئهم ثم أوردوا ... غماراً تسيل بالرماح وبالدم

فقضِّوْا منايا بينهم ثم أصدروا ... إلى كَلأ مستوبَل متوَخمّ

وقول معاوية لعائشة بنت عثمان وهي تثيره على قتلة أبيها:

(يا ابنة أخي، إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أمانا، وأظهرنا لهم حلماً تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد. ومع كل إنسان سيفه، وهو يرى مكان أنصاره. وإن نكثنا نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا يكون أم لنا. ولأن تكوني ابنة عم أمير المؤمنين، خير من أن تكوني امرأة من عراض المسلمين) فهل تجد آية البلاغة في هذا الذي قرأت غير الإيجاز وما يصحبه من الجزالة والجلالة والبروز والسبك؟ وهل تجد مصدراً لهذا الإيجاز المطبوع غير القوي المشبوبة في النفوس والعقول والطباع؟ انحدر بعد ذلك رويداً إلى عهود الوهن والانحلال نجد التطويل وتوابعه من اللغو والحشو والسقط يزيد بزيادة الضعف، ويتقدم بتقدم الجهالة، حتى تسقط به على كتب الدواوين وعهود السلاطين فتدهش أن يكون في خلق الله من يملأ مائة صفحة بالفقر والأسجاع ولا يعني بها شيئاً لذلك كان الإسهاب أول ما يصاب به ناشئة الكتاب، لأن جهدهم القليل يضيق عن شرح الفكرة، فيدورون حولها مجمجمين بالكلم الفوارغ والجمل الجوف. ومن جناية الصحافة على الأسلوب أن أكثر كتابها يؤثرون الكم على الكيف، فيكبرون الصغير، ويطولون القصير، لأن الصحيفة تخرج كل يوم، ولا يجوز أن تخرج بيضاء! وقد كان أحد شيوخ الصحافة يدبج مقالاً في نهرين طويلين كل صباح؛ فإذا نظرت فيه على أن تقرأ سطرين وتترك أربعة بلغت آخره وقد حصلت من ثلثه على ما كان في ثلثيه وكأنك لم تحذف شيئاً! ولعل كثيراً من مزاولي القصص عندنا يفيدهم أن يقرءوا قول ابن الأثير: (جلس إليّ في بعض الأيام جماعة من الإخوان وأخذوا في مفاوضة الأحاديث، وانساق ذلك إلى ذكر غرائب الوقائع التي تقع في العالم، فذكر كل من الجماعة شيئاً. فقال شخص منهم: إني كنت بالجزيرة العمرية في زمن الملك فلان، وكنت إذ ذاك صبياً صغيراً، فاجتمعت أنا ونفر من الصبيان في الحارة الفلانية، وصعدنا إلى سطح طاحون لبني فلان، وأخذنا نلعب على السطح فوقع صبي منا إلى أرض الطاحون، فوطئه بغل من بغال الطاحون، فخفنا أن يكون أذاه؛ فأسرعنا النزول إليه، فوجدناه قد وطئه البغل، فختنه ختانة صحيحة حسنة لا يستطيع الصانع الحاذق أن يفعل خيراً منها. فقال له شخص من الحاضرين: والله إن هذا عيّ فاحش وتطويل كثير لا حاجة إليه، فإنك بصدد أن تذكر أنك كنت صبياً تلعب مع الصبيان على سطح طاحون؛ فوقع صبي منكم إلى أرضها، فوطئه بغل من بغالها فختنه ولم يؤذه. ولا فرق بين أن تكون هذه الواقعة في بلد نعرفه أو في بلد لا نعرفه. ولو كانت بأقصى المشرق أو بأقصى المغرب لم يكن ذلك قدحا في غرابتها. وأما أن تذكر أنها كانت بالجزيرة العمرية في الحارة الفلانية في طاحون بني فلان، فإن مثل هذا كله تطويل لا حاجة إليه والمعنى المقصود يفهم بدونه)

(للكلام بقية)

أحمد حسن الزيات

مجلة الرسالة - العدد 556
بتاريخ: 28 - 02 - 1944

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى