بانياسيس - الحكمة الأخيرة.. مسرحية قصيرة

المسرح: "قاعة محكمة خالية ؛ تواجه الجمهور"

يدلف محاميان يرتديان روب المحاماة الأسود.

جكود: الساعة الآن الثانية عشر والقاضي لم يحضر بعد..
الفاضلابي: سيأتي.. لقد ذهب لعزاء ابنة بنت شقيقة خالته ..
جكود: يعني خالته الثانية..؟
الفاضلابي: هو من المتمة على ما أعتقد...
جكود: أها .. كان لابن عم ابن خالتي منزل واسع هناك...
الفاضلابي: هو من البديرية أليس كذلك...
جكود: أعتقد أمه من البديرية ووالده دنقلاوي...
الفاضلابي: اقصد مولانا القاضي معتصم..
جكود: أعتقد أنه من البني عامر من الشرق.
معتصم: يبدو أن موظفه والحاجب وحتى المشرف غادروا لأداء واجب العزاء...
جكود: يبدو ذلك....
الشرطة جلبت المتهمين .. أعتقد سيتم تأجيل الجلسة..
الفاضلابي: هذا منطقي جدا ..
تدخل سيدة عجوز تبدو فقيرة تحمل صينية عليها كوب شاي يتيم.
السيدة: الجلسات تاجلت ليوم السابع عشر من هذا الشهر...
الفاضلابي:
- حجة التومة.. لماذا كوب شاي واحد...
التومة: (تضحك) لو عايز سآتيك بكوب شاي...
الفاضلابي: قهوة سادة وجكود كالعادة زنجبيل باللبن.
جكود: زنجبيل باللبن يا التومة وليس لبن بالزنجبيل..
التومة: (تضحك) الزنجبيل أصبح غاليا يا أستاذ جكود...
جكود: كل شيء أصبح غاليا...إلا البشر..
الفاضلابي: قتلوا طبيبا البارحة وخوزقوا معلما قبل اسبوعين حتى الموت...
جكود: شيء غريب...أعتقد أنه من كوادر الحركة الإسلامية...
(تخرج التومة)
جكود: نعم هو كذلك من المغضوب عليهم...لقد قبضوا على أحد المشتبه بهم....
الفاضلابي: اسمه العشاري كان زميله من قبل...
جكود: العشاري ..اذن هو من الكواهلة..
الفاضلابي: لا أعرف... ولكن من جنوب كردفان..ربما كادوقلي..
جكود: كادوقلي.. بلدة رائعة الجمال..زرتها قبل عشرين عاما ..
الفاضلابي: جميلة .. وأهلها طيبون جدا... مع ذلك لم تنل حظها من الاهتمام الاعلامي...
جكود: هل هي آمنة الآن ..
الفاضلابي: أحسب ذلك...لقد زارها الرئيس قبل اسابيع..
(تدخل حجة التومة وهي تحمل صينية عليها كوبي القهوة والزنجبيل)
التومة: المتهم في الخارج تبول على نفسه.. (تضحك)..
جكود: ما رأيك.. أعتقد أنه لن يفلت من الإعدام..
الفاضلابي: لا لا أظن.. أمه سيدة غلبانة جدا كانت تقطن في جبل أولياء...
(يأخذ كل منهما كوبه الخاص به)
التومة: (تكاد تبكي) مسكين الولد دة.. حنني..
جكود: القاضي معتصم مشهور بأحكام الاعدام... لا يتردد أبدا في قص أي رقبة ..
الفاضلابي: لو جاءته قضية دعارة سيحكم بالاعدام أيضا..
جكود: مسكين هذا الولد...
الفاضلابي: امه انتقلت من جبل أوليا إلى كرري..من أقصى الجنوب لأقصى الشمال..
جكود: البيوت في جبل أوليا صارت غالية سواء ايجارا أم بيعا..
الفاضلابي: جبل اوليا تحديدا صارت أسعار الأراضي فيها مخيفة جدا..تخيل قطعة أرض ستمائة متر بمليار ومائتي مليون جنيه..
جكود: كم بالدولار؟
الفاضلابي: لا أعرف..كم سعر الدولار اليوم...
التومة: ارتفع أصبح اربعة وسبعين جنيها كاش..
جكود: هل اشتغلت في تجارة العملة؟
التومة: لا ... لقد أرسل لي ابني في ألمانيا مائة دولار ...
جكود: ذهب لألمانيا؟
التومة: تهريب بالبحر من ليبيا ومن هناك لأوروبا.. كانت رحلة مخيفة كما أخبرني...
الفاضلابي: أفضل له.. لا مستقبل في هذا البلد..
التومة: ربنا كريم...يعدل طريقه..
جكود: آمين.... ألمانيا جيدة..
التومة: أخبرني ان فيها عنصرية..يمكن قتله في أي لحظة من قبل الغازيين؟
الفاضلابي: تقصدين النازيين؟
التومة: هو كذلك...
جكود: مجرد مناوشات فقط لكن الألمان شعب راق جدا.. أعرفه جيدا..
الفاضلابي: أتذكر أنك سافرت قبل سنتين أو يزيد للعلاج..
جكود: عيني كانت ستضيع لولاهم .. أنظر إليها الآن..إنها ترى أفضل من النسر...
التومة: قل ماشاء الله يا أستاذ..
جكود: ماشاء الله...
الفاضلابي: الطب عندهم متطور جدا...
جكود: أووووو .. متطور كلمة بسيطة جدا لا يمكن أن تصف ذلك العالم..
الفاضلابي: أفكر في السفر للعلاج هناك.. فقط انتظر انهاء هذه القضية..
التومة: سلامتك يا ولدي..مالك؟
الفاضلابي:
- أبدا.. عندي انزلاق غضروفي بسيط...وأخشى القيام بالعملية هنا فأضيع...
جكود: لا تجني على نفسك..فلا يوجد طب عندنا..
الفاضلابي: صحيح...سماسرة وتجار قساة..
جكود: يجب تأميم القطاع الصحي..
الفاضلابي: أعتقد ذلك...لكن التسيب متفش..
جكود: صحيح...
التومة: سأذهب فيبدو أن مولانا قد حضر..
تخرج ويدخل القاضي والحاجب:
القاضي: أهلا يا أساتذة..
ينهض المحاميان ويحيان القاضي بتوقير. ثم يجلسان.
القاضي: فرغت هذا اليوم من كل أسبوع لهذه القضية فقط ولكن حصلت وفاة..
جكود والفاضلابي: البركة فيكم..
القاضي: طفلة صغيرة مسكينة..لم تتعدى العاشرة من عمرها..
جكود: ماذا أصابها؟
القاضي: قيل بأنها اصيبت بالكنكشة وماتت في اليوم الرابع.. لكن لا أحد.يدري..لقد مرضت فقط هذا هو المؤكد..
الفاضلابي: لا حول ولا قوة إلا بالله...شهيدة بإذن الله...
جكود: ماذا تقصد بشهيدة؟ قال لك ماتت بالمرض وليس في حرب.
القاضي: من مات بالطاعون فهو شهيد..
الفاضلابي: والطاعون هو المرض الجائح.
جكود: غريب..هذا يعني أن الشعب كله سيكون من الشهداء..
(يقهقه الرجال)
القاضي: الله كريم...الفريق كله الآن مصاب بهذا الداء المجهول...والحكومة تنفي حدوث وباء..
الفاضلابي: وقيل بأنه لا يوجد علاج..
القاضي: هذا صحيح..يحتاج فقط للتغذية الجيدة والراحة..تعرف أن التغذية عندنا ضعيفة وغير صحية..
جكود: خاصة مع ارتفاع الأسعار المهول.
القاضي: كم سعر الدولار اليوم؟
(تمد التومة رأسها إلى الداخل)
التومة: شيك ولا كاش؟
القاضي: كاش يا حجة التومة.
التومة: كاش باربعة وسبعين.
القاضي: أريد أن اشتري ثلاثة آلاف دولار...
التومة: السعر سيختلف في هذه الحالة.
القاضي: هل لديك شخص مضمون؟
التومة: نعم ..
ينهض القاضي من مجلسه:
القاضي: حسنا يا حجة التومة .. فلنذهب إليه..
التومة: لا حاجة لذلك.. أنا سأنجز لك المهمة...فقد جهز الكاش...
القاضي: جاهز...
الفاضلابي: يبدو أنك مسافر..
القاضي: نعم .. سأقدم استقالتي غدا...
جكود: هجرة إذن..
القاضي: نعم .. إبني الكبير وزوجتي يصران على الهجرة.. البلد لم تعد تطاق...
الفاضلابي: حقا...
التومة: يمكننا عمل بزبس جيد يا مولانا.. تحويلات دولار بعمولة صغيرة.
القاضي: جميل...سأفكر في الأمر..
(تختفي التومة)
الفاضلابي: احتجاجات مستمرة..
جكود: الحكومة والشعب يتناطحان بعناد...
القاضي: لقد اشتريت قطعة أرض ساتركها تيراب للزمن.
جكود: ستعود يوما ما ...
القاضي: لا أعرف... لكن اصدقكم القول بأن بيئة القضاء لم تعد نقية...
الفاضلابي: صحيح... لم يعد هناك نقاء في أي شيء...
القاضي: نعم... مصاريف العيال عالية جدا... تخيل أن رسوم روضة إبني الصغير خمسين مليون.
جكود: هناك رياض أطفال أرخص.
القاضي: أرخص ولكنها سيئة جدا ..
الفاضلابي: إذا فلن تستمر في هذه القضية..
القاضي: لا .. لقد عزمت أمري....
جكود: ما الحكمة لما حدث لهذا البلد..هل هناك حكمة...
القاضي: أعتقد ذلك...
(يصمت قليلا).. الحكمة بكل بساطة أن هذا الانهيار والفساد دفعني إلى اتخاذ قرار المغادرة هذا..
جكود: أقصد الحكمة الكلية إذا احسنت التعبير..
القاضي: نعم فهمتك ولكنك لم تتركني أكمل كلامي..
جكود: تفضل مولانا..
القاضي: لقد تناقشت مع القاضي سيف حول هذه القضية...وكان لكل منا رأي مختلف...لو لم أتخذ قرار المغادرة هذا لكان إعدام هذا الولد مؤكدا.. أما اليوم .. فغالبا لن يحكم بإعدامه .. أعتقد أن الحكمة من انهيار كل هذه الدولة كان بغرض الحفاظ على حياة هذا الشاب...
الفاضلابي: تبدو حكمة عظيمة..
القاضي: ليس بالضرورة أن تكون عظيمة.. فيكفي أن تحدث كل تلك التعقيدات والتداعيات القدرية ليصل الله إلى نتيجة تبدو تافهة بالنسبة لنا ...
(ينهض القاضي ومعه المحاميان ويغادرا قاعة المحكمة)...
(تدخل التومة ... ولا تجد أحدا)..
- أين ذهبوا... سمعت بأن الشاب شنق نفسه قبل قليل من شدة الإحباط...
لقد انتهت القضية... (تضع سبابتها على ذقنها وتفكر بحيرة) لكن المهم الآن هو .. هل سينخفض سعر الدولار..... أشك في ذلك..

*_(تمت)_*
images-133.jpeg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى