عبد الفتاح البارودي - 1- فن المسرح..

(تحية للأستاذ الفاضل زكي طليمات)

ل
توافينا الأنباء الفنية الخارجية يوماً بعد يوم بدلالات كثيرة على اهتمام الأمم الراقية في الأعوام الأخيرة بالمسرح اهتماماً يوشك أن يعيد إليه اعتباراته الأدبية ومكانته الفنية الصحيحة مما حدا بكثير من النقاد إلى تسمية عصرنا الحاضر بعصر (بعث المسرح

فنحن نجد مثلاً أن بعض كبار الممثلين (وفي مقدمتهم شارلس لوتون) يقررون اعتزال السينما وقصر جهودهم على المسرح! ونجد أيضاً أن هيئة فنية لها قيمتها مثل (جمعية المسرحيات ذات الفصل الواحد) في لندن لا تكتفي بمضاعفة نشاط المسرح الخاص بها مضاعفة جبارة بل تقرر علاوة على ذلك طبع ونشر أضخم عدد ممكن من روائع المسرحيات ليتسنى لمن لا يحظى بمشاهدتها مثلاً أن يحظى بقراءتها متى أراد. وفعلاً صدرت - في فترة قصيرة - جملة مجموعات من بينها المجموعة المعروفة: (مسرحيات النساء) جمع واختيار الكاتبة (اليزابيث إفرارد ونجد كذلك أن مؤتمر الخبراء المسرحيين التابع لمنظمة التعاون الثقافي لهيئة الأمم المتحدة يقرر - فيما يقر - بجلسته المنعقدة بباريس في يوليو الماضي: (اعتبار المسرح أداة ثقافية رفيعة. . . وإنشاء معهد مسرحي عالمي. . وتأليف جمعية دولية من المسرحيين العمليين والنظريين للنهوض بالمسرح وكفل أسباب التعاون بين رجاله في العالم والمحافظة عليه من طغيان السينما. . . الخ).

هذا في الخارج، أما في مصر والشرق بصفة عامة فأغلب الظن أن المسرح لا يزال - بالرغم من جهود القائمين على شؤونه - من أقل الفنون شأناً بلا سبب واضح سوى جهلنا بحقيقته من جهة وعدم التفاتنا إلى مكافحة هذا الجهل من جهة أخرى. ومرد ذلك إلى أننا - فيما يبدو - لم نؤمن بعد هذا الفن العريق من حيث كونه (فناً) له ذاته وله موضوعاته الخاصة به وله مقوماته وله فوائده الأدبية والمادية. . . بل لعلنا لم ندرك بعد - أو لم نكد ندرك - ما له من قيم

لهذا سأبدأ بشرح موجز لأهم هذه القيم تاركاً لمن يشاء حرية المناقشة في حدود الفن الذي نرجو له كل نماء وازدهار: المسرح وقيمته الفنية:

لعلنا لا نغلو إذا قلنا إن الفن المسرحي أرفع الفنون الجميلة وأفضلها. وربما كان من السهل أن ندلل على ذلك بدليل بسيط معقول وهو أنه إذا كان كل فن من الفنون يؤدي رسالة ما وبجانب ذلك قد يشبع حاسة ما (الموسيقى تشبع حاسة السمع مثلاً والتصوير يشبع حاسة البصر. . . وهكذا) فإن الفن المسرحي باعتباره شاملاً لكثير من الفنون يؤدي بالطبع رسالاتها جميعاً أو معظمها وبجانب ذلك يشبع أغلب ما تشبعه من حواس. ولكن لا نريد أن نقف عند هذا التدلي السطحي وأن كان منطقياً فإن للفن المسرحي في ذاته ومن ذاته قيمة كبرى مستمدة من أنه ينفرد دون سائر الفنون بإبراز ما في الحياة من صور إنسانية بطريقة حية وناطقة إبرازاً (واقعياً) خالصاً. هذه مسألة هامة ودقيقة جداً لأنه قد يظن أحياناً أن التصوير الخيالي أروع من التصوير الواقعي. . وهذه غلطة شائعة. فالخيال أن لم يكن متصلاً بالواقع اتصالاً قوياً أصبح تخيلاً أقرب إلى الوهم وأدعى إلى التضليل! والفن المسرحي هو أكبر الفنون استئثاراً بالواقع على نحو نموذجي. وهذه ميزته. فهو - لأصالته وقوته - أشد الفنون نفوراً من الشذوذ الخارق واصدقها تعبيراً عن الحياة الإنسانية وما يخالجها ويحركها من عواطف مختلفة بحيث لا تخرج الظواهر الممثلة على المسرح عن الحدود الطبيعية. سلوك إنساني في عالم إنساني مأهول يؤثر في الناس ويتأثر بهم.

ولهذا يشترط في المسرحية الناجحة أن تكون حوادثها محتملة الوقوع وخاتمتها طبيعية أي متمشية مع مجرى هذه الحوادث وبذلك تكون مرآة ناصعة يشاهد الجمهور فيها صورة من حياته ويلمس العوامل التي كونتها. . . أي يرى (حقيقته على المسرح رؤية مجسمة ومركزة كما يحس جمال الفن في أبدع مظاهره وأبهجها وفي هذا كله ما يثير رغبته في تصحيح أوضاعه وتجميلها والتطلع إلى مثل عليا.

المسرح وقيمته الفكرية:

كاد يصح في أذهان الناس أن المسرح مجرد متعة. وإنه لكذلك. ولكن ما نوع هذه المتعة؟ أليس للفكر فيها نصيب؟! وإلا فبماذا نفسر تطور المسرحيات من صراع بين قوتين إلى صراع بين عاطفتين إلى صراع بين الإنسان وبيئته وخواطره وملكاته؟ وبماذا نعلل وجود (مسرحيات المشكلات في أدب المدرسة الحديثة التي أنشأها إبسن النرويجي وتبعه برناردشو وغيرهما.

الواقع أن الفكر عامل هام من عوامل المسرح. وقد تصل أهميته أحياناً إلى حد اعتباره عاملاً أساسياً. لأن المسرح فضلاً عن كونه وسيلة للتسلية أو الترفيه فهو في نفس الوقت وسيلة لتحقيق الاتصال بين تفكير مؤلف المسرحية وبين الجمهور.

وكل ما في الأمر أن هذه التفكير يظل دائماً مستخفياً وراء العناصر الظاهرة الأخرى ولكنه رغم ذلك عنصر ضروري له ذاتيته الخاصة ويمتاز عن ضروب التفكير الأخرى بثلاث ميزات:

فميزته الأولى أنه لا يعني (الحقائق الكبرى) وعلاماتها أن يكون لها أثر مباشر في حياة الإنسان واحساساته كالموت والقضاء والقدر والحب ونحو ذلك. وصحيح أن بعض أدباء فرنسا خاصة وأوربا عامة اتجهوا - في العصر الحديث - إلى العناية بالحقائق التافهة ذات الأثر المؤقت استجابة لميول العوام وشغفهم بالجديد أياً كان إلا أن هذا يعتبر انحرافاً خطيراً على حساب الفن الصحيح.

وأخشى أن يفهم من ذلك المسرح فن محافظ أو رجعي التفكير وهذا خطأ. لأن الحقائق الكبرى الخالدة. فالصراع بين القديم والجديد مثلاً حقيقة خالدة نراها في مسرحية (الضفادع) لأرستوفان. في القرن الخامس قبل المسيح كما نراها في المسرحيات الحديثة دون ملل أو استغراب. وحيرة الإنسان وضعفه حيال القضاء حقيقة خالدة يصورها أندريه جيد الآن كما كان يصورها شاعر الإغريق سوفو كليس بلا خلاف في اللب والجوهر والصميم. وهكذا. . .

وميزته الثانية. أنه لا يعرض الحقائق الكبرى على العقول كقضايا جدلية فتستعصي على الفهم بل يثير الاحساسات والمشاعر فتصبح هذه الحقائق في متناول مختلف العقليات غالباً. وفضلاً عن ذلك فإنه يعرضها عرضاً اختيارياً بمعنى أن الناس لا يجبرون على مشاهدتها ومن هنا يسهل اتصال نفوسهم بها اتصالاً مباشراً فيفهمونها من حيث يخيل إليهم أنهم (يتسلون بها).

وميزته الثالثة: الحوار. ومعلوم أن أبرع وأفعل أداة في توضيح الاتجاهات المختلفة أو المتناقضة في الموضوع الواحد لأنه يعرض الفكرة ثم يقرنها بأضدادها وأشباهها كذلك وحينئذ يتسنى للمشاهدين بالمقارنة أن يتبينوا أوجه الضعف أو القوة فيها. وكم من أفكار كانت بحكم العرف وغيره عقائد راسخة في الأذهان ثم تناولها مسرحي ماهر مثل برناردشو فاستطاع أن يبين ما فيها من سخف بفضل الحوار الذي يواجه العقل باحتمالات تهز رواسبه وتستبقي ما يؤيده البرهان فقط.

وكل هذا لا ينقص من قيمة (المتعة) التي يجب أن يحس بها المشاهدون. فلا تزال هي الغرض الرئيسي للمسرح. غير انه لا تخلو من عنصر (الفكر) وأن لم يعمدوا ظاهرياً إلى التفكير البحت. . وإنما يحسون في نفوسهم بالسرور والائتناس لأنهم - دون شعور ملحوظ - يحللون ما يشاهدونه على قاعدة تفضيل الأسمى والأجمل والأروع. . . وهذا هو مناط التفكير السليم.

(للبحث بقية)

عبد الفتاح البارودي


مجلة الرسالة - العدد 754
بتاريخ: 15 - 12 - 1947

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى