إبراهيم فاضل - المتنبي في لبنان بين عامي 935 – 948م

أُطلِقَ سراحُ المتنبي من سجن (حمص ) أواخرَ عام 934 م بعد أن أقامَ فيه سنتيْن . وعُذِّبَ وجُوِّع ليقول لسجّانه ( أبي دُلَف ) :

أَهـْوِنْ بطول ِ الثـَّـواءِ والتـَّـلَفِ = والسِّجن ِوالْقيـْدِ يا ( أبا دُلَفِ)
غـيرَ اخْتيار ٍ قَبِلتُ برَّكَ لي = والجوعُ يُرضي الأسودَ بالجيَفِ
كُنْ أيّها السجنُ كيف شِئْتَ فَقَدْ = وَطـَّنتُ للموْتِ نفـسَ مُعترِفِ
لو كان سُكْناي فيكَ مَنْقَصة ً = لمْ يَكـُن ِالدُّرُّ ساكنَ الصَّدَفِ

خرج المتنبِّي مِنَ السّجن بعد أن فشلتْ ثورتُه في المرتفعات المطلّة على مدينة ( سلمية) من الشمال . وتسمّى ( بارقاً) . والواقعة بين ( بُرْقان) شرقاً و ( براق) غرباً .. وتمتد أحياناً لتصل ( وادي العذيب) ؛ يقول المتنبّي :

تذكَّرتُ ما بين الْعذيبِ وبارق ِ = مجرَّ عوالينا ومَجْرى السّوابق ِ..
وصحبةَ قوم ٍ يذيحونَ قنيصَهم = بفضلةِ ما قد كسّروا في المفارق ِ

ويذكرُ في هذه القصيدة ( سماوَة َكَلْب) المجاورة لسهول مدينة سلمية من الجنوب الشرقي بين الفرقلس وتدمر والبلعاس فيقول :

توهّمها الأعرابُ ثورَة َمُتـْرَفٍ = تُذكـِّرهُ البيداءُ ظِلَّ السَّرادِق ِ
فذكّرتَهم بالماء ِ ساعةَ غبـّرتْ = (سماوَة ُ كلـْبٍ) في أنوفِ الحزائق ِ

لأنَّ المتنبي وُلِدَ عام 915 م في ريف ( سلمية ) حيث كانت ْ قد دُمِّرت ْ وقُتِلَ سكانُها عام 909 م على يد ( الحسين بن زكرويه) المعروف ( بأبي مَهزول) مما دفع الناس للهرب إلى جبال ( بلعاس ) أو ( العلاه ) . وجبال ( بارق ) قسم من العلاه يمتد مِنْ جبل ( عين الزرقاء ) إلى قرية ( كيتلون ) التّي أول ما سجن فيها المتنبي وهو يومئذ ٍ في مطلع الثامنة عشرةَ من عمره .. وهو القائل :

زعمَ المقيمُ ( بكيتلون ) بأنـّهُ مِنْ آل ِ = هاشم ِ اْبن ِ عبدِ مَنافِ
فأجبتُه: مُذ ْ صِرتَ مِنْ أبنائِهم = صارتْ قيودُهم منَ الصِّفصافِ

ومن معتقل كيتلون إلى سِجنِ مدينة حمص .. إلى .. أن أُطلق سراحه كما سَلَفَ وذكرتُ .. !
والآن إلى أين يذهب ؟
سمع المتنبي ، وهو المثقف ُ الثائرُ ، بجناتِ ( لُبنان) التي طالما تذكّرها مع وطنه الصغير ( ريف سلمية) الواقع بين مدينة حمص جنوباً وقرية ( خناصرة) شمالاً .. حتّى قال في عام اغتياله 965 م :

أُحـبُّ (حمصاً) إلى ( خُناصرة ٍ) = وكلُّ نفس ٍ تُحبُّ مَحياها
حيث التقى خدُّها وتفاحُ ( لبنان) = وثغْري على حُمَيّاها

إذن إلى ( لبنان ) .. إلى الفيلسوف اللبناني الشهير باسْم ( هارون بن عبد العزيز الأوراقي ) المكنّى بـ ( أبي علي) . ولنترك ( المتنبّي) يصف طريقه إليه ببلاغتِهِ وبيانِهِ وموسيقاه ودقة ورشاقة تصويره :

بيْني وبيْنَ ( أبي عليّ) مِثْلـُهُ = شُمُّ الجبال ِ ومثلُهـُنَّ رَجاءُ
وعِقابُ ( لُبنان ٍ) وكيفَ بقطْعِها = وهُو الشِّتاءُ وصيفُهنَّ شِتاءُ
لَبَـسَ الثلـوجُ بهـا علـيَّ مسـالكي = فكأنّها بِبياضِها سوْداءُ
وكذا الكريمُ إذا أقامَ ببلْدةٍ = سالَ النضارُ بهــا وقامَ المــاءُ

ومما قاله في هذا الكاتب الفيلسوف الذوّاقة :

في كلِّ يوم ٍ للقوافي جوْلة ٌ = في قلبهِ ولأذنهِ إصْغاءُ
وإغَارَة ٌ فيما احتواه كأنّما = في كلِّ بـتٍ فيلقٌ شهباء ُ

هذا هو الفيلسوف اللبناني ّ الذي تحمّل قول ( المتنبي ) بل قُلْ حمّلَ قول َ المتنبي محْمل َ التوحُّد فيه من حيث ( المعرفة الكليّة ) هذا القول الفخم المشبع بعظمة الإنسانيّة المتمثّلة في المتنبي :

أنا صخرة ُ الوادي إذا ما زوحمتْ = وإذا نَطَقتُ فإنّي َ الجوزاءُ
وإذا خَفيـتُ على الجهول ِ فعـاذرٌ = أن ْ لا تراني مُقـْـلة ٌ عمْياءُ

لا شكّ ، أخي القارئ ، بوضعكَ يَدَكَ على توحّد الأوراقي اللبناني مع الجوْزائي السوريّ كتوحّد خدّ لبنان وثغر سلمية المتنبي . ومن الطريف أن ( سلمية ) في القرن الواحد والعشرين الراهن تشرب ُ من روابي ( الهرمل ) اللبنانيّة .. وتغسلُ قدميهْا في مياه نهر العاصي المُرسَل إليها من ( لبنان ) . ولقد قلتُ في هذا ، وأنا مِنْ ( محيا المتنبي ) ولقد ذكرته في أكثر من خمسين كتاباً خصّصتها للمعرفة الكلِّية ..!.. نعم ، قلت ما يُسرّ المتنبيّ في ( لبنانه ) :

هذي ( سلمية ُ) والعاصي يُغازلها = يأتي لها مِنْ رُبى ( لبنان ) بالْعَسَل
حتّى إذا اغْتسَلَتْ في غيمة عشقت = تُعْطيهِ أضعافَ ما أعْطى مِنَ القـُبل ِ
ما أطيب َ العيشَ، والجاران بيتهما = بيتُ المحبّةِ فـي ناس ٍ وفي دُول ِ

نعم ، أيها اللبنانيون السوريّون أبناء الكنعانيين الذين رسموا الحضارة على أدمغة الإنسانيّين منذ أيّام تسميتهم لبلاد الغال ( بْري تانيا ) – بريتانيا – ( بلد القصدير ) بتاريخ عام الخمسين لبناء صور أي من – أربعة آلاف وسبع مئة سنة شمسيّة [ ولقد ذكرتُ هذا بالتفصيل في كتابي ( وحدة الفكر الإنساني ) ] ..
وبهذا الرّسْم ِ [ كنْعنوا ] المعرفة َ – كما أن الرحبانييّن بفيْروزهم [ رحْبنوا وفيْرزوا ] الذوقَ البشري ّ ووحّدوه حول [ خدّ لبنان وثغر المتنبي ] .. وجعلوا من لبنان [ سمفونيّة الإنسانيّة في فرحها الجمالي ] .
ومن ( الأوراقي ) نَهَدَ المتنبي إلى ( أبي الحْسين ، بَدْر بن عمّار بن اسماعيل ) وهو في الوسط الكنعاني ؛ في ( طبريّة ) .
و[معذرة من جهلة الجغرافيا ] أقول :
( من دَرَسَ اللغةَ ( الكنعانيّة ) على طريقة ( فيزياء الكلمة ) وجد أن كلمة ( لبنان ) تعني الجبال المطلّة على البحر ، من أعالي طوروس حتى ما وراء العريش . وهكذا ( فلبنان ) هو ( لبنان الشام ) كما نقول ( بادية الشام ) .. فالشام هو الوجه المظلل الشرقي ّ للجبال ، ولبنان هو الوجه الغربي المُنار ... فإن تعذّرت ْ عليك فيزياءُ الكلمة ، عُدْ إلى كلمتي ْ ( شام )ْ و ( لُبِنْ – آن ْ ) الكنعانيتيْن من حيث ُ حركيّة الحرف البنيويّ .
المهمّ أن المتنبي انتقل من طرابلس إلى طبريّة ليرسم حوالي ثلاثين لوحة للفارس ( بدر بن عمّار ) منها مقطوعات صغيرة ومنها ملحميّة كوصفه ِ الفارسَ بدراً ينازلُ السّبْعَ :

أمعفــِّر اللّيث ِ الهزَبْر ِ بسَوْطِه ِ = لمن ادّخَرْت َ الصارمَ المَسْلولا
وَقَعتْ على ( الأُردُن ّ) منه بَلِيّةٌ = نُضِدَتْ بها هامُ الرّفاقِ تلولا

وأرجو من القارئ الرجوع إلى ديوان المتنبّي ليرى اللوحات الناطقة بالجمال المتحرّكة وكأنها على الشريط التلفازي الملوّن .. والمتنبي وابن عمّار يتوحّدان بالشجاعة والذوق .
ويعود المتنبي من مسرح ( ابن عمّار ) إلى مسرح كاتب أصيل ومفكر كبير هو ( علي بن أحمد المرّي ) وكان في سفح الجبل المطلّ على ساحل ( صيدا صور ) حوالي (النبطيّة ) يعود المتنبي يرسم لنفسه لوحة ً شهيرة ً جداً في سلوك ( النرجسيّة ) رسمها لمعرفته بمعرفة ِ صديقهِ ( عليّ ) لقيمته وجلاله.. يقول المتنبي في لوحته اللبنانيّة الجديدة :

ضاقَ ذرعـا ً بـأن أَضيقَ به ذَرْ = عا ً زَماني واسْتكْرَمتْني الكِرامُ
واقفاً تحتَ أخْمَصَيْ قَدْر ِ نَفْسي = واقفــا ً تحـتَ اَخْمَصَـيَّ الأَنــامُ
أَقـراراً ألـَـــذ ّ فــــــوقَ شَــرار ٍ = ومَرامــا ً أبْغــي و ظُلمي يُرامُ
دونَ أن يَشرَقَ الحجــازُ ونَجْــدٌ = والعراقـــان ِ بالقنــــا والشّــــامُ

أين اللبنانيون الأحبّة الذين يتماحكون اليوم خارج ( الفهم) وفي نفق ( الفوضى) يستمعون للشاعر اللبناني ، المتنبّي..؟
أقول الشاعر اللبناني لأن مضيفه اللبناني ّ ( علي المرّي) وافقه ودعمه وصفّق له لسماعه ما يقول ، بل لمعرفته وتذوّقه وطربه لموسيقى طبول الحريّة الداخلية لممثل البشريّة جميعا ً في قوله :

كــلُّ حِلـْـم ٍ أتـى بغيْـر اقْتـدار ٍ = حُجّة ٌ لاجئٌ إليها اللِّئامُ
من يَهُنْ يَسْهُـل ِ الْهـوان عليه ِ = ما لِجُرْح ٍ بِميِّت ٍ إيلامُ

ويرحل المتنبي إلى ( إنطاكية ) ساحرة ِ الشمال اللبناني ليلتقي بـ ( محمد الخطيب الخصيبي ) قاضي إنطاكية .. ولينادي في جموع البشريّة :

أفاضلُ الناس ِأغراضٌ لدى الزّمن ِ= يَخْلو منَ الْهمِّ أَخْلاهـُمْ منَ الْفِطـَن ِ

وفي إنطاكية يتصل بزعماء الفكر هناك أمثال ( أحمد بن عبد الله الإنطاكيّ ) ويَتَوِّجُهُ بقصيدته ِ :

لك ِ يا منازِلُ في القلوب ِمنازلُ = أَقـْفرتِ أَنـْتِ وَهُنَّ منكِ أواهِلُ

ثم يقول لأخيه (( سعيد )) قصيدتَه :

( قد علَّم َالبَيْنُ منّا الْبَينَ أجفانا )

ويعزفُ لـ ( أحمد بن عمران ) لحنَ :

( سِرْبٌ محاسِنُهُ حُرِمتُ ذَواتِها)

ويؤلّف سمفونيّة َ لـ علي بن عامر الإنطاكي ّ .. :

( أطاعنُ خيْلا ً مِنْ فوارسها الدهر ) ..

وينتقل إلى الساحل المقابل لإنطاكية ليغني أمام ( عليّ بن مكرم ) :

( ضروبُ الناس ِ عُشّاقا ً ضروباً )

ويعود أدراجَه إلى ( الرّمْلة ِ على الساحل الفينيقي ّ الجنوبي ّ ليقول أمام ( الحسن بن عبد الله ) :

( أنا لائمي إن كنتُ وَقْتَ اللّوائِم ِ )

ثم يرسم له سبعَ عشرةَ لوحةً حركيّة ً في مقطوعاتٍ شعريّة لم يصل إلى مستواها شاعرٌ قبله ...

ويظلّ المتنبي متنقّلا ً على الساحل الفينيقي ّ ( لبنان ) من شماله حتى جنوبه إلى أن يحل عام 948 م ويظفرُ ( سيفُ الدولة علي بن عبد الله ) بـ ( حصن برْزويْه ) ظفرا ً عظيما ً . ويعود إلى إنطاكية ويجلس في فازة ٍ من الديباج عليها صورة ملك الروم وصورة وحش وحيوان ... وهنا .. هنا يدخل عليه المتنبيّ ليصف هذا الانتصار.. وليدخلا في صداقة ٍ حميميةٍ وغايةٍ نبيلةٍ تستمر إلى عام 958 م ... أنشده فيها ، نداً لند ، ( ألفا ً وسبعَ مئةٍ وأربعة وثلاثين بيتا ً ) من أجمل َ وأمتنَ وأدقّ تصويرا ً مما قالته شعراء الإنسانيّة..! ولقد كتبت الكثير عن المتنبي : كانَ شاعراً ، فيلسوفاً عالمَ اجتماع ٍ ، عالمَ نفس ٍ .. ممثلاً ( للإنسان الإنساني ) حتى لقد وجدت له في بحثه عن الزمن ( مئة وثمانين نظريّة ) تحدّث عنها تلميذه أبو العلاء المعري فيما بعد . وأرجو من الفنان ( منصور الرحباني ) أن يلتفت إلى المتنبي ضيفِ لبنان وهو بثالوثه – مع عاصي وفيروز – ليتكوّن َالرّباعيُّ الجماليُّ الخالد..!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى