ليونيد تسيبكين - صيف في بادن.. ترجمة: د. أنور محمد إبراهيم

كان القطار ينطلق نهارًا، لكن الفصل كان شتاءً، بل وفي أكثر أيامه قسوة – الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر. وفضلاً عن ذلك كان القطار في طريقه إلي ليننجراد – إلي الشمال، ولهذا سرعان ما أخذ الظلام يحل خلف النوافذ،- لم تكن هناك سوي محطات ضواحي موسكو وحدها هي التي تبعد مندفعة إلي الوراء مثل وميض البرق، كأن كائنًا ما راح يقذف بها بيد خفية لا يراها أحد. أما الأرصفة الواقعة أمام البيوت الصيفية فقد تراكم فوقها الثلج، بينما راحت أعمدة الإنارة تمرق واحدا وراء الآخر ليتداخل ضوء كل منها مع الآخر في شريط ناري متصل. المحطات تمرق هي الأخري مع صوت صليل مكتوم، مثل قطار يعبر جسرًا،- الصليل خفَّت حدته بفضل إطارين مزدوجين في كل نافذة، وقد أُحكِّم إغلاق العربة تمامًا. زجاج النوافذ معتم يكاد الجليد يغطيه، لكن أضواء المحطات كانت تنفذ علي أية حال من خلاله لترسم خطًا من الضوء، وهناك، بعيدًا، يمكن للمرء أن يتوقع وجود مساحة شاسعة يغطيها الثلج، بينما تروح العربة تتأرجح بشدة من هذا الجانب إلي الجانب الآخر – أرجحة جانبية – لتقترب بخاصة من مدخل العربة، وعندما حل الظلام تمامًا خارج النوافذ، ولم يبق سوي بياض الثلج الناصع المبهم، واختفت بيوت ضواحي موسكو الصيفية، وعلي زجاج النافذة راح يجري معي انعكاس العربة بمصابيحها المعلقة في السقف والمسافرين الجالسين. أخرجت من حقيبتي، التي كنت قد وضعتها في الشبكة المثبتة فوقي كتابًا بدأت في قراءته في موسكو. وكنت قد اصطحبته معي خصيصًا ليرافقني في الطريق إلي ليننجراد. فتحته حيث تركت شريطًا من ورق مقوي مُوشَّيَ بالأحرف الصينية وزخارف شرقية بديعة. كنت قد استعرت هذا الكتاب من خالتي، التي تمتلك مكتبة كبيرة، وأنا أضمر في أعماقي ألا أعيده إليها. أَرسَلْتُه لتجليده فقد كان قديمًا باليًا للغاية وقد تناثرت صفحاته، وقد قام مُجلِّد الكتب بتهذيب حوافه حتي تصبح مستوية جميعًا ومُرتَّبةً الواحدة تلو الأخري ثم ضمها في غلاف سميك، ألصق علي الغلاف الأول له صفحة العنوان وهو مذكرات أنَّا جريجوريڤنا دستويڤسكايا، التي صدرت عن دار نشر يمكن تصور مدي ليبراليتها آنذاك، دار نشر ليست علي غرار دار نشر "ڤيخي" أو "نوڤايا چيزن"، أو ما شابههما من دور نشر، وقد كُتب علي الغلاف التقويمان الجديد والقديم وكذلك بعض الكلمات والعبارات باللغتين الألمانية والفرنسية من دون ترجمة، مع استخدام لقب “M-me” (مدام)، رُسمت بدأب طالبة في المدرسة الثانوية – فكت شفرة يومياتها التي كُتبت بطريقة الاختزال، التي استخْدمتَها في أول صيف لها في المهجر بعد زواجها.
غادر الزوجان دستويڤسكي بطرسبورج في منتصف شهر أبريل من عام 1867، وفي صباح اليوم التالي وصلا إلي ڤيلني. وفي الفندق الذي نزلا به صادفا علي السلم نفرًا من اليهود، الذين أَلحفوا في تقديم خدماتهم حتي أنهم راحوا يلاحقون الحنطور الذي استقله فيودور ميخايلوڤيتش وأنَّا جريجوريڤنا من أجل أن يبيعا لهما مباسم للسجائر من الكهرمان، إلي أن اضطر الزوجان لطردهم. أما في المساء فكان من الممكن رؤية نفس هؤلاء اليهود، وقد أطلقوا شعورهم الطويلة المجدولة علي طريقتهم، وهم يتنزهون مع فتياتهم اليهوديات في الشوارع القديمة الضيقة. وبعد يوم أو يومين وصلا إلي برلين، وبعدها إلي درزدن، ليبدءآ بحثهما عن شقة، لأن الألمان، الألمانيات علي الأخص، كل الوصيفات، أصحاب البنسيونات أو حتي الغرف المفروشة، كن يتشاجرن بغلظة مع الروس القادمين من الخارج ويقدمن لهما طعامًا رديئًا، أما النُدُل في المطاعم فكانوا يغشّون في مبالغ تافهة. ولم يقتصر الأمر علي النُدُل، وإنما كان الألمان عموما يتصفون بالبلادة، لم يكن باستطاعتهم أن يشرحوا لفيديا كيف يذهب إلي هذا الشارع أو ذاك، وكانوا يشيرون له حتمًا ليذهب في الاتجاه المضاد – أتراهم كانوا يفعلون ذلك عن قصد؟ بالمناسبة، فقد لفت اليهود انتباه أنَّا جريجوريڤنا قبل ذلك أيضًا عندما جاءت للمرة الأولي إلي فيديا في بيت أولونكين، الذي كتب فيه رواية "الجريمة والعقاب"، وهذا البيت، بشهادة أنَّا جريجوريڤنا فيما بعد، ظل يُذكِّرُها بالبيت الذي عاش فيه راسكولنيكوف(1)، وكثيرًا ما كانت تصادف علي سُلَّمه أيضًا يهودًا من بين السكان المستأجرين (بالمناسبة، ومن قبيل الإنصاف، ينبغي القول أن أنَّا جريجوريڤنا في مذكراتها التي كتبتها قبل الثورة بسنوات طويلة، وربما حتي بعد تعرفها علي ليونيد جروسمان، لم تذكر شيئًا عن اليهود الذين التقتهم علي السُلَّم)، وفي الصورة الفوتوغرافية المبينة في "اليوميات" يبدو وجه أنَّا جريجوريڤنا آنذاك في ميعة الشباب، وجه لا يبدو عليه أي أثر للتعصب أو التظاهر بالتقوي، بل كانت نظرتها ثقيلة مُقطِّبة. أما فيديا فكان في شرخ الشباب. متوسط القامة، ساقاه قصيرتان حتي أنه يبدو، إذا ما نهض عن الكرسي الذي يجلس عليه، أطول قليلاً فحسب، أما وجهه فيكشف عن روسي من عامة الناس، كما كان يبدو للجميع أنه كان يُحب أن تلتقط له الصور وأنه شخص مكبٌ علي الصلاة. هذا هو السبب الذي جعلني أتحرك بهلع (لا أخشي ذكر هذه الكلمة) في كل أنحاء موسكو ومعي "المذكرات"، إلي أن عثرت علي مُجلِّدٍ للكتب، ثم رحت في لهفة أُقلِّب صفحاتها المهترئة في القطار، باحثًا بعينيّ عن تلك المواقع في الكتاب، علي ما يبدو، أتوقع أن أقع عليها، ثم، وبعد أن تسلمت من المُجلِّد الكتاب، والذي أصبح علي الفور ثقيل الوزن، وضعته علي مكتبي، ولم أرفعه من فوقه نهارًا أو ليلاً، وكأنه الكتاب المقدس. لماذا أسافر الآن إلي بطرسبورج – لا إلي ليننجراد وإنما إلي بطرسبورج، حيث الشوارع التي كان هذا الرجل قصير القامة، قصير الساقين، يقطعها جيئةً وذهابًا (مثله بالمناسبة، علي الأرجح، مثل معظم السكان في القرن الماضي) رجل له وجه حارس كنيسة أو جندي أُحيل إلي التقاعد. لماذا أقرأ هذا الكتاب الآن، في عربة قطار، في ضوء لمبات خافتة، تارة يتألق نورها، وتارة تكاد تنطفئ من جراء الحركة السريعة، حركة القطار ودوران محرك الديزل، أقرأ علي صفق أبواب مدخل العربة، حيث يدخل المدخنون وغير المدخنين يحملون أكوابًا في أيديهم ليسقوا أطفالهم، أو ليغسلوا بها بعضًا من الفاكهة، أو ليأخذوها معهم ببساطة إلي دورة المياه، التي يصفق بابها بعد باب مدخل العربة، علي صوت هذا الصفق والخبط لكل هذه الأبواب؛ فضلاً عن تأرجح القطار يَمنْةً ويَسْرة، الأمر الذي كان يذهب بالنص الذي أقرأه بعيدًا، مستنشقًا رائحة الفحم والقاطرات، التي لم تعد موجودة في أي مكان منذ زمن بعيد. علي أن هذه الرائحة ما تزال موجودة لسبب ما. ها هما وقد استقر بهما المقام في غرفة لدي مدام زيمرمان، وهي امرأة سويسرية نحيفة القوام طويلة القامة، ولكنهما وما إن استقرا في هذا الفندق الواقع في الميدان الرئيسي، حتي توجها علي الفور، في اليوم الأول لوصولهما، إلي إحدي قاعات عرض اللوحات،- أمام متحف بوشكين في موسكو انتظم طابور طويل، كانوا يسمحون لعدد محدد تلو الآخر بالدخول، وفي أحد الأماكن في الميدان عُلِّقت بين الطوابق صورة "للمادونا الستينية"(2)، وقد وقف أسفلها شرطي،- منذ سنوات عديدة مضت، كانوا يعرضون في هذا المتحف لوحة "الچوكندا" لليوناردو، خلف زجاج مزدوج مضاد للرصاص، مضاء بشكل خاص، طابور من الذين جاءوا "بالمحسوبية"، يقف في هيئة قوس، بدأ الطابور في الاقتراب من اللوحة، من الزجاج المُصفَّح إن شئنا الدقة، حيث توضع خلفه لوحة المادونا علي خلفية منظر طبيعي، وكأنها جثة محنطة موضوعة في تابوت، كانت ابتسامة المادونا غامضة بالفعل، ولعل ذلك يعود ببساطة، ربما، إلي الإيحاء الناتج عن الوصف الشائع، وإلي جانب اللوحة أيضًا وقف شرطي، راح يدفع الطابور برفق ليتحرك، باعتبار أن الطابور يضم خبراءً أو شخصيات دُعيت خصيصًا قائلاً: "وداعًا، وداعًا، كان الناس يحاولون التلكؤ بجوار اللوحة، وبعدها يلتفون عائدين، بعد أن ينضموا إلي الطابور الخارجي الدائري، يمشون مواصلين النظر إلي اللوحة، لاوين رقابهم، مستديرين بعد أن يديروا رؤوسهم مائة وثمانين درجة تقريبًا،- كانت المادونا الستينية معلقة علي حائط بين نافذتين بحيث يسقط الضوء عليها من الجنب؛ فضلاً عن ذلك كان النهار غائمًا – كانت اللوحة مغطاة بدخان ما. راحت المادونا تسبح في السحب، التي بدت في ذيل ثوبها الرقيق، وربما بدت ببساطة وقد ذابت فيها،- وهناك في مكان ما، في الأسفل يسارًا يقف حواري له ستة أصابع في يده ناظرًا إلي المادونا في خشوع، صورة فوتوغرافية لهذه اللوحة كانت قد أُهديت إلي دستويڤسكي في عيد ميلاده بعد مرور عدة سنوات علي رحلته إلي درزدن قبيل وفاته بفترة قصيرة، حيث كانت تعد آنذاك هي اللوحة المفضلة لديه، مع أن لوحته المفضلة كانت، ربما، هي لوحة "المسيح الميت" التي رسمها هولباين الصغير(3)، هكذا، فإن صورة "مادونا" رفائيل الفوتوغرافية، المحاطة بإطار خشبي، المعلقة فوق الأريكة الجلدية، التي لفظ عليها دستويڤسكي أنفاسه الأخيرة، في متحف دستويڤسكي في ليننجراد – المادونا الرشيقة وقد أمسكت طفلها المستلقي في وضع مائل وقد لُفَّ بقماط، وكأنها ترضعه من صدرها، كما تفعل الغجريات، أمام الجميع، لكن تعبير وجهها لا يمكن الإمساك به مثل الچوكندا،- الصورة نفسها، وإن كانت أصغر وأسوأ، علي الأرجح، حيث أنها صُنعت في زماننا، كانت موضوعة، كأن عن عمد، لتُترَك هناك دون عناية، خلف زجاج أرفف الكتب عند خالتي. دستويڤسكي وزوجته يذهبان إلي قاعة العرض يوميًا، كما كانا يذهبان إلي منتجع كيسلوڤودسك، حيث صالة الاحتفالات ليشربا المياه المعدنية. أو ليتقابلا، أو ليتوقفا ببساطة، ليراقبا الناس، ثم يذهبا بعدها ليتناولا طعام الغداء – كان عليهما أن يختارا مطعمًا رخيصًا، حيث يمكنهما أن يجدا طعامًا جيدًا، وحيث النُدُل أقل خداعًا – كان هؤلاء دائما ما يخدعون دستويڤسكي وزوجته في اثنين أو ثلاث قطع نقدية فضية، لأن كل الألمان كانوا نصابين دون أدني شك،- ذات مرة وبعد أن أنهيا زيارتهما الدورية لقاعة العرض ذهبا لتناول غدائهما في شرفة بريوليف، المطلة علي نحو رائع علي نهر إلبا. كانا قبل ذلك قد لفتا نظر النادل، وكانا يسميانه "الدبلوماسي"، لأنه كان يبدو وكأنه دبلوماسي، لأنهما اكتشفا أنه أخذ منهما خمس قطع فضية بدلا من إثنتين مقابل فنجانً من القهوة، لكنهما استطاعا خداعه، فقد دسَّت أنَّا جريجوريڤنا في يده قطعة نقدية تساوي فضيتين علي أنها قطعة تساوي خمس فضيات، وكان النادل قد أعطاها لها قبل ذلك باقي حسابها علي أنها خمس فضيات،- في ذلك اليوم كانا يشعران بالجوع بشدة، وخاصة فيديا، لكن "الدبلوماسي" بدلاً من أن يأتي إليهما، انشغل بدأب في خدمة ضابط سكسوني ما، جاء متأخرًا عنهما،- كان لهذا الضابط أنف أحمر سمين، وعينان ضاربتان إلي الصفرة، وكان من الواضح تمامًا أنه يميل إلي الإفراط في الشراب،- نادي فيديا علي النادل، لكن هذا واصل عمله برباطة جأش في خدمة الضابط، الذي حشر ورقة منشاة في الياقة الضيقة لسترته الرسمية،- كان من الواضح أن "الدبلوماسي" تعمد الانتقام منهما علي ما فعلاه به في المرة السابقة – طرق فيديا بسكينه علي المائدة – وأخيرًا جاء "الدبلوماسي" إليهما، ثم قال بشكل عابر أنه سمع النداء وأنه لم يكن هناك داعٍ للطرق،- طلب فيديا دجاجًا وكراتٍ من لحم العجل، بعد فترة من الزمن أحضر "الدبلوماسي" طبقًا واحدًا فقط من الدجاج، وردًا علي سؤال فيديا: "ما معني هذا؟" – أجاب النادل بأدب ملحوظ، أنهما قد طلبا طبقًا واحدًا فقط من الدجاج، نفس الأمر تكرر بعد ذلك مع كرات لحم العجل،- في القاعة المجاورة كان هناك أربعة من الخدم يلعبون الورق، أما في القاعة التي كانا يتناولان طعام الغداء بها، فلم يكن هناك سوي عدد قليل من الزائرين، كان من الواضح أن النادل أخطأ عن عمد – وهنا صعد الدم إلي وجه فيديا – راح يتحدث مع زوجته بصوت مرتفع قائلاً: أنه لو كان هنا وحده، لكان قد تصرف معهم علي نحو آخر، ثم راح يصيح فيها، كما لو أنها هي المذنبة لكونهما جاءا إلي هنا معًا،- وبعد أن رفع السكين والشوكة، ألقي بهما عمدًا، حتي أنهما سقطا محدثين رنينًا عاليًا، بل إنه كاد أن يحطم الطبق،- راح الجميع ينظرون إليهما، بينما غادرا المكان دون أن ينظرا إليهم، ولدي خروجه ألقي فيديا علي المائدة بطالر بأكمله بدلاً من ثلاث وعشرين فضية هي ما كان عليهما أن يدفعاه، ثم دفع الباب حتي ارتج زجاجه،- سارا في الممشي المحاط بأشجار الكستناء، هو – في الأمام، بخطي ثابتة، وهي – خلفه، تكاد تهرول وراءه،- لو لم تكن معه، لأكمل الأمر إلي نهايته ولنال ما أراده، أما الآن فهو يغادر المكان، وهو يشعر بالإهانة من جانب هذا الخادم السافل، لأن كل الخدم سفلة،- إنهم تجسيد لأكثر خصال الطبيعة البشرية خسة، علي أن في داخل كل منا تكمن طباع التملق والخضوع،- ألم ينظر هو نفسه نظرة خضوع في عيون هذا الضابط الوقح، الذي كان في حالة من السكر البيِّن بأنفه الأحمر ونظرته الصفراء، حقًا – بمن يذكره الضابط السكسوني منذ أن رآه! يذكره بذلك السكير، الذي كان يسير بصحبة الحرس ثم إذا به يندفع مقتحمًا العنبر الخشبي، وبعد أن نظر إلي المعتقل في ملابسه السوداء الباهتة وعلي ظهره رقعةً صفراء وقد وضعوه علي طاولة خشبية، لأن المعتقل في هذا اليوم كان يعاني بشدة من المرض ولم يستطع الخروج إلي العمل، صرخ فيه بكل ما أوتيت حنجرته من قوة: "إنهض! اقترب هنا!".– كان هذا المعتقل هو نفسه، دستويڤسكي، الذي يسير الآن عبر ممر أشجار الكستناء مغادرًا هذا المطعم، وهذه الشرفة المطلة علي نحو رائع علي نهر إلبا،- آنذاك أيضًا، في المعتقل، كان يشاهد الأمر كله من بعيد وكأنه يحدث له في حلم، أو ليس معه هو، وإنما مع شخص آخر،- ذات مرة حضر إلي مقر الحرس ليشهد تعذيب أحد الأشخاص – رقد صاحب العقوبة دون حراك تحت ضربات العصا، التي تركت علي ظهره ومؤخرته آثارًا دموية، وقد قام الرجل صامتًا، شبك أزرار ملابس السجن عليه بدقة ثم انصرف، دون أن يُنعِم ولو بنظرة علي هذا الضابط كريڤتسوف(4)، الذي كان يقف هنا إلي جواره، تري هل نجح هو أيضًا في أن يلتزم الصمت وأن يغادر غرفة الحرس بإحساس الكرامة؟- لقد قفز من الطاولة الخشبية، مضطربًا مرتديًا بيدين مرتعشتين معطفه الأسود الباهت، واتجه نحو كريڤتسوف، الذي كان يقف عند باب العنبر – كان يسير منكسًا رأسه،- لا، لم يكن يسير، وإنما كان يهرول تقريبًا، وهو أمر كان مهينًا في حد ذاته، وعندما اقترب من ضابط الميدان، نظر إليه، لا بثبات وجفاء وإنما بتضرع في عينيه – كان يشعر بذلك، لسبب واحد هو أن حدقتي كريڤتسوف اتسعتا بشراسة – كانت حدقتا عيناه الصفراوتان واجفتين لا لإنهما كانتا فقط تشبهان عيني الوَشَق، ولكن لأنهما كانتا تجوسان، باحثتين عن الضحية التالية،- عندئذ أيضًا، راح يفكر، وهو يقف أمامه، في أمر ما، وهنا بدا له غريبًا، أن يفكر في هذه اللحظة في هذا الأمر تحديدًا – علي أية حال، ما دخل المذلة هنا؟!- كان ذلك خوفًا، خوفًا عاديًا، ولكن أليس الخوف هو الذي يخلق المذلة؟- لحقت به أنَّا جريجوريڤنا، وبعد أن دست يدها المغطاة بقفاز مهترئ تحت إبطه، نظرت في عينيه بإحساس بالذنب – لو أنها لم تكن معه، إذن لوبَّخ هذا الخادم، ولأوقفهم جميعًا عند حدودهم!- أشاح ببصره ببطء عن وجهها لينظر إلي يدها التي أسندتها علي كتفه،- "أظن أن المرأة الأنيقة لا يليق بها أن تسير بمثل هذا القفاز"،- قالها ببطء ووضوح ومن جديد أشاح ببصره عن يدها لينظر إلي وجهها – كانت شفتاها ترتعشان، أما جفناها فقد انتفخا علي نحو غريب، كانت ما تزال تسير إلي جواره، وإنما بقوة الدفع، ولأنها أيضًا كانت لا تزال تتصور أن ما حدث لم يكن لها يد فيه، إذًا ما كان له أن يقول لها ذلك –أسرعت الخطي، بعد أن تركته، لتنعطف وهي تجري تقريبًا إلي ممر ما جانبي تَحْفُهُ أيضًا أشجار الكستناء،- في لحظة حانت منها التفاتة لتري من خلال دموعها وأوراق الشجر هيئته، وهو يسير بثبات كما كان يفعل قبل ذلك عبر الممر، كان يرتدي بدلته الرمادية الداكنة، الأقرب إلي اللون الأسود، التي اشتراها في برلين،- لم يخطر بباله آنذاك، أن يقول لها أن تشتري لنفسها قفازًا جديدًا، علي الرغم من أن قفازها قد تمزق تمامًا، وأنها قامت في الطريق، برتقه مرتين أمامه، والآن يأتي ليوبخها مرة ثانية، علي الرغم من أن نفقات رحلتهما كانت من رهن أشياء تخص أمها،- كانت تسير في الشارع، وهي تعدو تقريبًا، بمحاذاة البيوت، بعد أن أسدلت خمارها، حتي لا يري أحد وجهها الذي انتفخ من أثر الدموع، وكانت تقابل في طريقها رجالاً ألمان حسني السلوك يرتدون القبعات وهم يصطحبون نساءهن الألمانيات وقد توردت خدودهن وظهر علي وجوههن الرضا، كن يمسكن بأيديهن أطفالهن، وقد ارتدوا ملابس نظيفة وأنيقة، ولم يكونوا جميعًا بحاجة لأن يفكروا كيف سيدفعون ثمن غدائهم أو عشائهم اليوم، وهم لا يرفعون أصواتهم فوق أصوات بعض، أما فيديا، وفي المطعم، فكان يصرخ فيها. تسللت عبر باب بيتها، محاولة أن تبقي هناك دون أن يراها أحد، دلفت إلي الغرف، أولاً – إلي الكبري، التي يستخدمانها كغرفة للطعام، حيث علقت علي حوائطها لوحات زيتية مستنسخة، كانت تصور تارة نهرًا – الأرجح أنه الراين – تنعكس علي صفحته أشجار، وتارة أخري تصور قلاعا ما علي قمة جبل علي خلفية سماء زرقاء علي نحو متكلف، ثم – إلي الغرفة الثانية، وكانا يستخدمانها للنوم وتضم سريرين كبيرين، ثم إلي الغرفة الثالثة – غرفة فيديا – وبها مكتب رُصَّت عليه علي نحو منظم رزمة من الورق الأبيض وسجائر وتبغ متناثر، وفجأة أدركت أنها جاءت إلي هنا بأمل خفي هو أن يسبقها وينتظرها في المنزل،- قَرْرَتْ الذهاب إلي مكتب البريد، حيث يذهب فيديا أحيانًا، لكنه لم يظهر هناك، كما لم تكن هناك أي خطابات له أيضًا – فعادت مرة أخري إلي المنزل – كان من المفترض أن يصل الآن – أخبرتها مدام زيمرمان، بعدما قابلتها علي السلم، أن فيديا قد عاد، ولكنه خرج إلي مكان ما،- هرعت إلي الشارع وفجأة رأته – سار باتجاهها، شاحبًا شاعرًا بالذنب حتي أنه كان يبتسم لها تملقًا،- تبين أنه عاد إلي الشرفة، معتقدًا، أنها عادت إلي هناك لتنفرد بنفسها، ثم ذهب بعد ذلك إلي قاعة المطالعة ليبحث عنها هناك،- عادا إلي البيت لدقائق، لكي يستبدلا ملابسهما، فقد كان المطر علي وشك السقوط،- وعندما خرجا، كان المطر ينهمر علي أشده، علي أنه كان عليهما أن يتناولا طعام الغداء،- عرجا علي Hotel »ictoria وطلبا ثلاثة أطباق كلفتهما طالرين وعشر فضيات – ثمن مخيف، لقد دفعا اثنتي عشرة فضية مقابل كرات اللحم، أين يحدث ذلك!- كان يومًا تعيسًا بالتأكيد، عندما غادرا المطعم، كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة مساءً، حل الظلام، وكان المطر ما يزال ينهمر، وعندها فتحت مظلتها، ولكنها لم تفتحها كما يفعل ذلك الألمان المحنكون، إذ صدمت بها ألمانيًا ما، كان يمر بجوارها،- صاح فيديا فيها، لأن رعونتها كان من الممكن أن تُفهم علي نحو سييء من جانب هذا الألماني، ومري أخري تنتفخ عيونها، ولكن، الحمد لله، لم ير ذلك أحد في الظلام، بعدها عادا إلي المنزل القريب، دون أن يتبادلا أي حديث، كأنهما غريبان،- وفي البيت، عادا للشجار من جديد وهما يشربان الشاي، علي الرغم من أنه لم يعد هناك بعد ذلك ما يتشاجران بصدده، بعد ذلك سألته في أمر ما يتعلق برحلته المنتظرة إلي هامبورج، ومرة أخري إذا به يعود ليصيح فيها، وردًا علي ذلك صاحت هي أيضًا فيه ثم دلفت إلي غرفة النوم، أما هو فقد أغلق علي نفسه غرفة المكتب. لكنه عاد إليها ليلاً ليعتذر،- كان يجئ إليها كل ليلة يطلب منها أن تصفح عنه، وخاصة بعد كل خلاف أو شجار، فقد كان بإمكانه أن يعطي كلمة "الصفح" معني آخر،- كان يوقظها برقة، يمرر يده عليها بلطف، يُقبِّلها، لأنها مِلكٌ له، ولأنه كان بمقدوره أن يجعلها تعيسة أو سعيدة، وهذا الوعي بسلطته المطلقة علي امرأة شابة تفتقر إلي الخبرة، يستطيع أن يفعل بها ما يشاء، ما يخطر بباله، كان يشبه، علي الأرجح، هذا الشعور، الذي جرَبْتُهُ تجاه الجِراء الملساء، التي ما أن تمد نحوهم يدك، لمجرد المداعبة، حتي يبدأوا في خوف وتزلف في هز ذيولهم، يلتصقون بالأرض ويرتعشون رعشة خفيفة،- عانقها، قبَّلها في صدرها، ثم بدأت السباحة، سبحا معًا بضربات كبيرة، كانا يطلقان يديهما من الماء في آن واحد، يملآن رئتيهما بالهواء في آن واحد، ذهبا بعيدًا للغاية عن الشاطئ، نحو موجات البحر الزرقاء العالية، ولكنه كان في كل مرة تقريبًا يجد نفسه أمام تيار معاكس، تيار يدفع به جانبًا بل وحتي إلي الوراء قليلاً،- لم يكن باستطاعته أن يلحق بها، بينما كانت تواصل بإيقاع ثابت إطلاق يديها لتغيب بعدها في مكان بعيد، أما هو فكان يتصور أنه لم يعد يسبح، وإنما يتخبط في الماء، محاولاً أن يصل إلي القاع بقدميه، وإذا بهذا التيار، الذي راح يحيد به جانبًا، والذي لم يكن يسمح له بالسباحة معها، يتحول إلي عيني ضابط الميدان الصفراوين وقد راحت حدقاتهما تتسعان بشراسة، إلي السرعة التي راح يفك بها أزرار ملابس السجن، لكي يرقد علي طاولة منخفضة من خشب البلوط صقلتها من قبله مئات الأجساد، كانت موضوعة في منتصف مقر الحرس، لم يكن باستطاعته أن يكبح أنينه، عندما راحت ضربات العصا تنهال علي جسده، وكأن سلكًا محميًا مُدَّ خلال عضلاته وعظامه، إلي الارتجافات التشنجية، التي بدأت تنتابه بعد العقوبة، إلي نظرات السخرية أو الشفقة، التي كانت موجودة آنذاك، إلي ابتسامة الاشمئزاز علي وجه ضابط الميدان، عندما أمر باستدعاء الطبيب، ليستدير بعدها علي كعبيه مغادرًا مقر الحرس، نفس الأمر حدث معه تمامًا مع نساء آخريات، لأنهن جميعًا، مثلهن مثل آنيا، كن حاضرات علي نحو غير مرئي عند لحظة العقوبة – كن ينظرن إليه من خلال قضبان نافذة مقر الحرس، محاولات المرور عبر الباب، لكي يتشفعوا من أجله، ولكن لم يُسمح لهن – جميعهن كن شاهدات علي ذلك، وقد كرههن جميعهن، لأن ذلك حَرَمَه من أن يشعر بكل هذه الأحاسيس، واليوم يضاف إلي كل ذلك تلك النظرة الوقحة التي سددها إليه هذا الخادم، الذي سخر منه، ثم وجْه الضابط السكسوني، الذي كان يذكِّره بوجه ضابط الميدان. منذ زمن بعيد ميَّز في قاعة المعرض، حيث عُلِّقت لوحة المادونا الستينية، كرسيًا مُريحًا ذا ظهر مُقوس، كان موضوعًا بطريقة ما بعيدًا عن الكراسي الأخري، التي جلس عليها زوار المعرض، لينالوا قسطا من الراحة أو ليتأملوا اللوحة،- لسبب ما لم يجلس علي هذا الكرسي أحد – ربما لكونه كان مخصصًا للموظف، وربما، لأنه يمثل قيمة تاريخية ما – وعندما فكَّر للمرة الأولي في أن يفعل ما دار بخلده، سرت البرودة في ظهره، إذ بدا له ذلك سلوكًا وقحًا، أمرًا لا يمكن اقترافه. راح يتحايل علي الأمر، وهو يمر بجانب الكرسي، بل إنه كاد أن يرفع قدمه، لكن القاعة كانت مليئة بالجمهور، والموظف في سترته الرسمية وقد اكتسي وجهه بالملل واستند بظهره إلي الحائط. ربما كان عليه أن يفعل ذلك بالمناسبة أمام كل الناس بل وأمام الموظف علي وجه الخصوص، لأن الموظف تحديدًا يجب أن يعترض علي ذلك. عندما اقترب من الكرسي. راح قلبه يهبط إلي مكان ما، تماسك لثانية وحيدة، كأنه أعاد النظر في فكرته، من أي جانب يتفادي هذا الكرسي، ولماذا مرَّ بعيدًا عنه، بينما راح يمعن النظر وباهتمام مبالغ فيه في المادونا. ولكنه في تلك الليلة، عندما ابتعدت آنيا سابحة بعيدًا عنه، بينما ظل هو يتخبط في مكان ما بالقرب من الشاطئ – لم يفلح في أن يبلغ القاع – في هذه الليلة قرر بصورة أكيدة أن يفعل ذلك الأمر.


هوامش المترجم :

(1) راسكولنيكوف: بطل رواية «الجريمة والعقاب»‬. (2) »‬المادونا الستينية»: لوحة رفائيل سانتي (1493-1520) الشهيرة رسمها في الفترة من 1515 إلي 1519.
(3) هولباين الصغير (بالألمانية Hanz Holbein der Jüngere) (1497 أو 1543) فنان ألماني من عصر النهضة ويعتبر من أكبر رسامي البورتريهات في عصره، والده هو الرسام هانز هولباين الكبير. استقر في انجلترا تمامًا منذ عام 1532، وكان قد نال حظوة كبيرة عند ملوك انجلترا وأصبح رسام البلاط.
(4) كريڤتسوف: من رواية »‬ذكريات من منزل الأموات». ضابط برتبة ميجر، رئيس السجن. قام بتعذيب دستويڤسكي.



3/17/2018


* منقول عن جريدة أخبار الادب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى