أنطون تشيخوف Anton Chekhov - الحصان كنيته أو ما يشابهها.. ت: إيرينا كراسنيوك بيش

عندما تمكّن الألم من أسنان العميد المتقاعد والإقطاعي الكبير بولدييف، لم يترك وسيلة علاج شعبية إلا واستخدمها. فقد غرغر فمه بالفودكا والكونياك، وحشا السنّ المنخورة بقطع التبغ والأفيون، وبخّها بالكحول. ومسح خدّه بصبغة اليود، كما كانت أذناه محشوتين بالقطن المبلّل بالسبيرتو، ولكن هذا كله لم يُفده في شيء، ولم يخفّف من آلامه، بل على العكس فقد أثار فيه شعورا بالغثيان والإقياء. حضر إليه طبيب الأسنان وفحص سنّه ووصف له الكينا دواء مسكّنا، لكن هذا أيضا لم يساعده إطلاقا. وعلى اقتراح الطبيب بقلع السنّ المريضة رفض العميد رفضاً قاطعا. أفراد الأسرة جميعهم: زوجته وأولاده وطاقم الخدم وحتى الطباخ بيتكا، كلّ نصحه بالعلاج على طريقته. في حين جاءه مدير أعماله إيفان يفسييتش ونصحه بالعلاج عن طريق التعاويذ والرقى. وقال له:
يا صاحب المعالي، منذ عشر سنوات كان يعمل لدينا موظّف ضرائب اسمه يعقوب فاسيليتش، فكان يرقي الأسنان المريضة، ما شاء الله عليه! لقد كان يلتفت إلى النافذة ويهمس ويبصق، فيزول ألم المريض فورًا، لقد كانت له كرامة من الله. فسأل السيد:
وأين هو الآن؟
بعد إقالته من منصبه انتقل للعيش في بيت حماته في ساراتوف، وحتى يومنا هذا مازال يرتزق من علاج الأسنان. فإن توجعت سنّ فلان راجع يعقوب فاسيليتش، وتمّ شفاؤه على يديه. وهو يستقبل المرضى في بيته من سكان ساراتوف، أما إذا أراد أحدٌ المجيءَ إليه من مدن أخرى فإنه يرسل إليه مسبقاً برقية يبلغه فيها عن عزمه القدوم إليه. أتمنّى على معاليكم أن ترسلوا إليه برسالة عاجلة تشرحون فيها حالتكم الصحية، وتقولون له إنّ الفقير لله آليكسي يقاسي آلاماً مبرحة، فأرجوك أن تساعدني وتخلصني من هذه المصيبة. فإن وافق على الحضور إليكم، تحولون له الأجرة بالبريد المضمون.
أجاب آليكسي بولدييف: هذا هراء ونصب واحتيال!
قال إيفان يفسييتش: حاولوا يا سيدي، فأنتم لا تخسرون شيئا. بالمناسبة أن يعقوب يتعاطى ويدمن على شرب الفودكا، ويعيش بدون زوجة بل يعاشر عشيقة ألمانية، وهو بذيء اللسان، ولكن بالرغم من ذلك فهو إنسان طيب القلب صافي السريرة.
تدخلت زوجة العميد وقالت: يا الله! يا آليوشا. كيف لا تؤمن بالتعاويذ؟ ولقد جربتها أنا شخصيا. فلماذا لا ترسل في طلبه؟ على الأقلّ إنه لن يضرّك في شيء.
ردَّ بولدييف بالموافقة قائلا: لا بأس. في هذه الحال سوف أرسل رسالة عاجلة ليس إلى موظّف الضرائب وحده، بل وحتى إلى الشيطان أيضا. أُفّ! لم أعد أطيق هذه الآلام، … أين يقيم هذا الموظّف الآن؟ إلى من سأكتب الرسالة؟
جلس العميد إلى المائدة وأمسك قلما بيده. فأجاب مدير الأعمال:
إنّ الجميع يعرفونه في ساراتوف. فتفضّلوا بالكتابة إلى هناك،…. إلى السيد يعقوب فاسيلييتش،…. يعقوب….. فاسيلييتش .. واسم عائلته….. لقد نسيت كنيته. لا حول ولا قوة إلا بالله! ما اسم عائلته؟…. عندما كنت في الطريق إليكم كنت ما أزال أتذكّر كنيته…. أنا آسف جدا.
قال بولدييف: ما هو اسم عائلته؟ يا الله، تذكّر بسرعة!
أجاب إيفان يفسييتش: لحظة من فضلك يا سيدي، إن اسمه بسيط جدا فهو يعقوب، أما نِسْبَه فإنها تشبه اسم الحصان أو الخيل….. أو الفرس. أمهلوني قليلا كي أتذكّر.
قال بولدييف: لعلّ كنيته المهر؟
قال إيفان: لا. أبدا، ليس ابن المهر….. إنّني أتذكر أنّ كنيته تشبه اسم الحصان، ولكن ما هي بالضبط فلا أستطيع أن أتذكّر……
من الممكن ابن المهير؟ – قال بولدييف.
لا، لا…… انتظروا قليلا…. ابن الخيل…. ابن الخيول….. ابن المهور…… لا، ليس هكذا!
فكيف سأكتب إليه إذن؟! فكّر جيدا يا إيفان! – قال بولدييف
ثانية واحدة! لعلّه ابن الأحصنة…. أو الأفراس الأصيلة….
هل من الممكن أن تكون كنيته ابن الأصول؟ – سألت زوجة العميد.
لا، لا،…… ابن اللجام،…..لا، إطلاقا. لقد نسيت نهائيا! قال إيفان:
لمَ نصحتَني به إذا كنت قد نسيت اسمه؟! – قال العميد مزمجرا. – انقلع من وجهي!
خرج إيفان يفسييتش من الحجرة ببطء. أما العميد فقد أسند خده على كفه وأخذ يذرع حجرات البيت جيئة وذهابا.
يا ربّ! لقد اسودّت الدنيا في عيني من شدّة الألم! – أخذ يصيح بولدييف.
خرج مدير الأعمال إيفان إلى الجنينة وألقى نظرة إلى السماء وحاول أن يتذكر اسم موظف الضرائب: ابن الخيول….. ابن الفحل…… ابن الفرس ……. لا، لا، أبدا ليس هكذا.
وبعد فترة وجيزة دُعِيَ إيفان إلى أسياده.
هل تذكّرت كنيته؟ – سأله العميد.
للأسف لا، يا سيدي.
من الممكن كنيته ابن الشاة؟
أخذ كل أهل البيت يخترعون كنيات شتّى؛ راجعوا كلّ فصائل وأجناس وأنواع الخيول، وتذكروا العفرة والحوافر واللجام والسرج والغرة وكلّ أكسسوارات الحصان. كان يذهبون ويعودون ما بين البيت والجنينة والقبو والمطبخ، وهم يحكّون جباههم باحثين عن اسم العائلة للطبيب المشعوذ.
أرسل بولدييف في طلب مدير أعماله مرة أخرى.
ابن القطيع؟ – كانوا يسألونه – ابن الحافر؟ ابن الفحل؟
لا، لا – كان يجيبهم إيفان يفسييتش ناظرًا إلى أعلى ولا يزال يراجع الأسماء بصوت جهوري:
ابن الحصان….. ابن…..
يا بابا! – صاح الأطفال من الغرفة – ابن الترويكا! ابن اللجام!
هاجت الدار وماجت، فوعد العميد المنهك بمنح خمسة روبلات لمن يتذكر الاسم الصحيح لعائلة موظّف الضرائب. ثمّ أخذ الجميع يمشون وراء إيفان يفسييتش، مدير أعمال العميد المتقاعد.
لعلّه ابن الأصيل؟! – سألوه – أو لعلّه ابن الفحل؟
لقد حل المساء، ومازال اسم العائلة لصاحبنا هذا مجهولا. أخيرا غرق كلّ أفراد العائلة في نوم عميق، لكن الرسالة لم ترسل. أما العميد فما غمض له جفن طوال الليل وهو يمشي من زاوية إلى أخرى ويئن و يتوجّع. وفي الساعة الثالثة صباحا خرج من البيت ودقّ نافذة مدير أعماله إيفان وقال:
من الممكن ابن المخصي؟ – سأله وهو يتأوه ألما.
لا يا سيدي ليس ابن المخصي – أجابه إيفان يفسييتش وزفر زفرة الإحساس بالذنب.
ومن الممكن أن اسم عائلته ليس ابن الحصان بل شيء آخر؟…
نعم، إن كنيته بالتأكيد تشبه ابن الحصان. هذا ما أتذكّره جيدا.
يا أخا النسيان أو أنت النسيان بذاته ….. إنّ اسم العائلة هذا أغلى عليّ الآن ممّا في العالم كله. وقد تعبت حتى الهلاك.
في الصباح الباكر أرسل العميد في طلب طبيب الأسنان، وقال له: هيّا لنقلعها. لم أعد أستطيع تحمّل كلّ هذا الألم.
جاء الطبيب وقلع السنّ المريضة، فخفّ الألم مباشرة وارتاح العميد. لما خلص الطبيب من القلع وأخذ أجرته، ركب عربته ورجع إلى بيته فالتقى بإيفان يفسييتش خارج بوابة الفيلّا. حيث كان واقفا على رصيف الطريق وهو ينظر إلى رجليه نظرة مركّزة وثاقبة، يفكر في شيء ما. وبحسب التجاعيد على وجهه، والانطباع المرسوم في عينيه، فقد كانت أفكاره متوتّرة ومشوّشة للغاية. وأخذ يتمتم:
ابن الأصيل….. ابن حامل السرج… ابن الخيل….. ابن الحصان….
يا إيفان يفسييتش – توجه إليه الطبيب – أريد أن أشتري من عندك خمسة أرطال من الشوفان. التجّار عندنا يبيعونني الشوفان فاسدا ومدوّدا.
ألقى إيفان يفسييتش نظرة حانقة إليه، وابتسم ابتسامة صفراء، ولم ينبس ببنت شفة، صفق بيديه وجرى نحو البيت بسرعة هائلة كأنه يهرب من كلب مسعور.
آه! لقد تذكّرت يا سيدي! – صاح مسرورا وهو يسرع إلى مكتب العميد – لقد تذكّرت، يا سيدي! إنه بن الشوفان يا صاحب السعادة! أرجو أن ترسلوا رسالة عاجلة إلى ابن الشوفان فيحضر بأقصى سرعة.
قال العميد شاتما ومحقرا:
لم نعد بحاجة إلى اسم حصانك بعد الآن، يا أتفه التافهين، لقد عدت إليّ بعدما سبق السيفُ العذلَ، فقبّحك الله، وثكلتك أمك أيها النذل الحقير!
  • Like
التفاعلات: نوف محمد سمرقندي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى