أحمد رجب شلتوت - مقاطع من سيرة محفوظ عبدالرحمن العائش بين ثورتين

حينما قدمت الباحثة المصرية سميرة أبوطالب أطروحتها لنيل درجة الماجستير في النقد الفني من جامعة القاهرة، عن " الخطاب السردي في الدراما التاريخية التليفزيونية في أعمال محفوظ عبد الرحمن"، لم تكن تعرف أنها ستقع في شراك التجربة الثرية والعميقة للكاتب الكبير. فتوالت كتبها عنه، كان أولها "عاشق المسرح والتاريخ"، أردفته بكتاب عن موضوع أطروحة الماجستير، وعقب رحيل الكاتب الكبير جمعت عدة شهادات إنسانية وفنية وأدبية عنه نشرتها في كتاب "محفوظ عبدالرحمن في عيون هؤلاء"، ومؤخرا أصدرت رابع كتبها عنه " محفوظ عبدالرحمن.. مقاطع من سيرة ذاتية" الصادر عن دار الحلم بالقاهرة.

تحديان

لا شك أن سميرة أبوطالب وهي تعد كتابا رابعا عن نفس الرجل، وفي فترة تقل عن خمس سنوات كانت تواجه تحديين كبيرين أولهما أن تجد لكتابها الجديد ما يضيفه إلى سابقيه فيبرر كتابته ونشره، لذا قررت ملامسة سيرة الكاتب، فأعمالها الأخرى عنه لم تقترب من سيرته، ومثل هذا القرر تحديا ثانيا فكيف تتصدى لكتابة سيرة رجل برع في كتابة السير للزعماء والفنانين. أعتقد أنها أفادت من طريقة تناول محفوظ عبدالرحمن للشخصيات التاريخية و الفنية، فهو لم يكتب السير التي تناولها بطريقة واحدة، بل اتبع مع كل شخصية الطريقة التي وجد أنها تساعده في سبر أغوارها، لذا اختارت أن تكتب عن سيرته منطلقة من أعماله، فقسّمت الكتاب لثلاثة فصول رأت فيها انعكاسًا حقيقيًا للمراحل المختلفة في حياته، بحيث يتناول الأول بداياته و اختياراته، وفي الفصل الثاني أوضحت كيف واجه ودافع وتخطى عقبات كان من الممكن أن تقف عائقًا في طريق إبداعه، بينما دار الثالث حول الذين مروا في حياته وتركوا أثرًا لم يكن الزمن قادرًا على محوه، وأردت الكاتبة بهذه الفصول الثلاثة أن تكون صورة واضحة للحياة الثقافية والسياسية، التي عاشها محفوظ عبدالرحمن، وتفاعل معها، فقد عاش محفوظ عبدالرحمن ثورتين (ثورة يوليو/ تموز، 1952 ويناير/ كانون الأول 2011) جعلتا حروف إبداعه تتمرد على الواقع العربي، الذي يكسوه الاستسلام، فكان بحثه الدائم عن المناطق المتوهجة في التاريخ العربي، وإن علاها الغبار، ليقدم من خلالها درة إبداعية لا يدانيه أحد في صياغتها".

الوحدة والغربة

ولد محفوظ عبدالرحمن في عام 1933 في إحدى قرى محافظة البحيرة، وكان والده ضابطا شرطيا يحتم عليه عمله الانتقال بين عواصم الأقاليم، وكان يصطحب اسرته معه في كل مكان انتقل إليه فعاش الصبي حياة ملؤها الوحدة والغربة لم يصاحب خلالها إلا الكتب. فعاش حياة موازية، وفي عام 1955 قصد القاهرة للمرة الأولى ليمزج بين حياتيه الحقيقية والمتخيلة. فقد كانت المرة الأولى التي ينتقل بها بمفرده بعيدا عن سلطة الأب، فوضع بتحرره من تلك السلطة فاصلا بين الحقيقة والخيال، وفي الجامعة اختار أن يدرس التاريخ الذي كان قادرا على أن يبعث برسائله إلى الحاضر المثقل بقضايا الإنسان. خاصة وأن الجامعة في تلك الفترة كانت تموج برؤى وتيارات متعددة ، هذا الزخم جذبه إلى الكتابة معبرا عن أفكاره بمقالات وقصص نشرها في العديد من الصحف والدوريات قبل أن يتخرج في الجامعة، وكانت سببا في التعرف على سعد الدين وهبة _ وكان وقتها نقيبا شرطيا يمارس الصحافة _ الذي ألحقه بالعمل في مجلة "البوليس"، وفتح له صفحاتها مما أثار حفيظة محرريها القدامى الذين ضاقوا بالشباب الجدد مثله هو وسليمان فياض ورجاء النقاش. فترك مجلة البوليس فور تخرجه ليعمل بدار الهلال وهي التجربة التي لم تستمر إلا لعامين، فقد آثر الإبداع على الصحافة فالتحق بوظيفة بوزارة الثقافة وكتب مسرحيته الأولى "اللبلاب" عام 1963، والتي قبل بها المسرح القومي وكادت تعرض لولا أن الرقابة ألغت عرضها قبل أسبوع من الموعد المحدد لرفع الستار، كانت تجربة يتذكرها الكاتب بأسى ويقول " أكلت من عمري أحد عشر عاما لم أجرؤ خلالها على الكتابة للمسرح الذي كان أحب الأشكال إلى نفسي". وإن وجد حلا بعد ذلك في الكتابة للتليفزيون، فعرض له في 1965 سهرة درامية "ليس غدا"، وتوالت السهرات والمسلسلات لكن مضايقات الرقابة لم تنتهي فسافر إلى الكويت في بداية 1974، وكانت في جعبته مسرحية ثانية أيضا وأدتها الرقابة وهي "حفلة على الخازوق"، التي كانت باكورة أعماله المشتركة مع المخرج الراحل صقر الرشود الذي عاجلته المنية فتوقف مشروعهما بعد المسرحية الثالثة، لكن ذلك كان كافيا لإزالة الحواجز النفسية التي وضعتها الرقابة بين قلمه والمسرح فتوالت مسرحياته لتصل إلى ثلاثة عشرة مسرحية.

إبحار في التاريخ

وجد محفوظ عبدالرحمن في المخرج الأردني "عباس أرناؤؤط" توأما فنيا وفكريا، وكان يشاركه في الإبحار في التاريخ العربي بحثا عن المجهول فيه، فكان "سليمان الحلبي" أول مسلسل يجمعهما وفيه قدما التاريخ لحما ودما، بعيد عن الشخصيات النمطية و المعالجة التقليدية، وهو ما تكرر في مسلسل "عنترة" حيث عالجا مسألة الحرية، يقول عبدالرحمن " أعتقد أن عنترة حينما اشترى حريته بشجاعته، اكتشف أنها صك بلا مضمون، وأن المجتمع لم يعترف له أبدا بحريته"، لهذا اهتم في المسلسل بشخصيتي شقيقيه "شيبوب" الذي سعى إلى شكل من الحرية يقترب من الوجودية، و"جرير" الذي اكتشف أنه مادام هناك عبد واحد فلن تكون هناك حرية، فسعى لتحرير العبيد وكأنه وجه عربي قديم لسبارتاكوس، وبهذا الطرح المتأني لقضايا الإنسان كان عبدالرحمن يقدم إبداعاته ذات المذاق المختلف، فقد كان مؤمنا بأن كل لحظة زمنية تفرض رسالتها، وهكذا قرر أن يكتب "ليلة سقوط غرناطة" في نفس اللحظة التي شاهد فيها عبر الشاشة الرئيس السادات وهو يصافح قادة اسرائيل، كتب العمل ليدين التطبيع مع العدو وليس ليسقط أحداث التاريخ على فترة حكم السادات، وهو ما يرفضه عبدالرحمن قائلا "يفترض في العمل الدرامي أن يقدم عملا موازيا للقضية الأصلية، وجاء المسلسل ليعبر عن رفض الناس للتطبيع وليس للإسقاط التاريخي على فترة ما، فليلة سقوط غرناطة هي ليلة سقوط بغداد، ومن قبلها ليلة تدويل القدس، وليلة الاجتياح الإسرائيلي لبيروت. وقد مثل هذا العمل فصلا جديدا من فصول الصراع بين الرقابة والكاتب الذي يراها وسيلة لقهر الكاتب قبل أن تكون دفاعا عن السلطة.








مقاطع من سيرة محفوظ عبدالرحمن العائش بين ثورتين .. للكاتب أحمد رجب شلتوت

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى