علي صديقي - التناص والسرقات الشعرية..

إن المفاهيم النقدية الغربية التي سعى بعض النقاد العرب المعاصرين إلى تأصيلها، بالبحث لها عن أصول وسوابق في التراث النقدي والبلاغي العربي، كثيرة ومتعددة؛ منها: «التناص»، و«الاختلاف»، و«النحوية»، و«الأثر»، و«موت المؤلف»، وغيرها.
أما النقاد العرب الذين قاموا بتأصيل هذه المفاهيم، فهم كثر يصعب حصرهم، غير أنهم يكادون يُجمِعون على أن التراث النقدي والبلاغي العربي حافل بالنظريات والمفاهيم النقدية، ومن الضروري العودة إليه للكشف عما فيه من أصول للنظريات والمفاهيم النقدية الغربية الحديثة، وإعادة إدماجها في النقد الحديث.
غير أن أكثر هذه المفاهيم تعرضاً للتأصيل في النقد العربي المعاصر، هو مفهوم التناص؛ وقد جرى تأصيله عن طريق ربطه بمفهوم «السرقات» التراثي، وبما يرتبط به من مفاهيم أخرى، مثل: «الاقتباس»، و«التلميح»، و«التضمين»، و«الاحتذاء». وذهب هؤلاء النقاد إلى أن النقاد العرب القدامى عرفوا فكرة التناص في مفهومها وأبعادها ووظائفها، وإن كانوا لم يصطنعوا هذا المصطلح الغربي، وأن مفهوم السرقات يعد أصلا لمفهوم التناص.
غير أن الدراسة المتفحصة لمفهومي السرقات والتناص تكشف عن وجود اختلافات جوهرية بينهما، تجعل من المتعذر النظر إلى السرقات باعتبارها تشكل الصورة العربية القديمة للتناص؛ فالشروط التاريخية، والخلفيات المعرفية والثقافية التي تحكمت في نشأة المفهومين مختلفة، وهذا ما تنبه إليه عدد من النقاد والباحثين العرب. وفي هذا السياق، يؤكد محمد مفتاح أن نظرية التناص تحكمت في نشوئها شروط اجتماعية وفلسفية وثقافية وسياسية خاصة، مثلما أن السرقات الأدبية وراءها خلفيات اجتماعية وثقافية وسياسية خاصة. «وعليه، فإنه من مجانبة الوعي التاريخي ومنطق التاريخ، أن تقع الموازنة بين نشأة وتطور دراسات السرقات الأدبية في العصر العباسي، وبين نظرية التناص التي هي وليدة القرن العشرين، فمفهوم السرقات استمر أدبياً وجمالياً وأخلاقياً بناء على محدداته. وأما نظرية التناص فهي أدبية وفلسفية يهدف الجانب الفلسفي منها إلى نسف بعض المبادئ التي قامت عليها العقلانية الأوروبية الحديثة والمعاصرة، لذلك فإنه ينبغي ألا يتخذ مفهوم الإنتاج وإعادة الإنتاج والهدم والبناء، مطية وذريعة في ترسيخ المفاهيم النقدية العباسية باعتبارها سبقت ما يوجد لدى الأوروبيين. (النص: من القراءة إلى التنظير محمد مفتاح).
ويتفق كثير من الباحثين على أن دراسة السرقات في النقد العربي القديم دراسة منهجية، لم تظهر إلا في العصر العباسي، وأن هذه اللفظة لم تنتشر إلا عندما اشتدت الخصومة حول أبي تمام بين أنصار القديم وأنصار الحديث. يقول محمد مندور: «والذي نظنه هو أن دراسة السرقات دراسة منهجية لم تظهر إلا عندما ظهر أبو تمام، وذلك لأمرين:
1. قيام خصومة عنيفة حول هذا الشاعر، ومن الثابت أن مسألة السرقات قد اتخذت سلاحاً قوياً للتجريح: ونحن نعلم الآن أنه قد كتبت عدة كتب لإخراج سرقات أبي تمام وسرقات البحتري، وكان المؤلفون متعصبين لأبي تمام ومذهب البديع، أو للبحتري وعمود الشعر، أي منقسمين إلى أنصار الحديث وأنصار القديم.
2. ثم لأنه عندما قال أصحاب أبي تمام إن شاعرهم قد اخترع مذهباً جديداً وأصبح إماما فيه، لم يجد خصوم هذا المذهب سبيلاً إلى رد ذلك الادعاء خيراً من أن يبحثوا للشاعر عن سرقاته ليدلوا على أنه لم يجدد شيئاً، وإنما أخذ عن السابقين ثم بالغ وأفرط» (النقد المنهجي عند العرب محمد مندور).
وقد امتدت المنافسة بين أنصار القديم وأنصار الحديث من الشعراء إلى البلاغيين ونقاد الشعر؛ فكان العلم بالسرقات الشعرية، والتمييز بين أصنافها ومراتبها، شرط إثبات تفوق الناقد ورسوخه في العلم بالشعر.
نخلص مما سبق، إلى أن الصراع بين القديم والحديث وأنصار كل منهما كان عنصراً حاسماً في نشأة مفهوم السرقات، كما أن هذا المفهوم قد اعتمِد، من طرف أنصار القديم، معياراً أخلاقياً وسلاحاً موجها ضد خصومهم لتجريحهم والتقليل من شأنهم. وهكذا، نجد القاضي الجرجاني (ت 366ﻫ) يعتبر السرقة «عيباً عتيقاً»، و«داء قديماً». (الوساطة بين المتنبي وخصومه، القاضي الجرجاني). وقد قسم القدماء السرقات إلى عدة أنواع، وعبروا عنها بجملة من الألفاظ، مثل «الأخذ»، و»الاتفاق»، و«الاستمداد»، و«الاستعانة»، و«الاحتذاء»، وغيرها. غير أنهم اتفقوا على أن المعاني المشتركة بين الناس، والمتداولة فيما بينهم، لا تكون فيها السرقة؛ فقد ميز القاضي الجرجاني بين نوعين من المعاني، هما: المعاني المشتركة بين الناس اشتراكا عاما، والمعاني التي سبق إليها المتقدم فأبدعها وابتكرها، لكنها أصبحت بعده متداولة ومستعملة بكثرة، وكلا المعنيين تنتفي فيهما السرقة، ويمتنع فيهما القول بالاتباع والأخذ. بل إن الجرجاني يتهم من يقول بالسرقة في مثل هذه المعاني بالجهل والغفلة (المرجع السابق).
ويتفق عبد القاهر الجرجاني (ت 471 أو 474ﻫ) مع سلفه القاضي الجرجاني في أن المعاني المشتركة والمتداولة بين الناس لا سرقة فيها؛ حيث يرى أن اتفاق الشاعرين واشتراكهما، إما يكون «في الغرض على العموم»، أو «في وجه الدلالة على ذلك الغرض». فأما الاشتراك في الغرض على العموم، فهو «أن يقصد كل واحد منهما وصف ممدوحه بالشجاعة والسخاء، أو حسن الوجه والبهاء، أو وصف فرسه بالسرعة، أو ما جرى هذا المجرى». وأما الاتفاق في «وجه الدلالة على الغرض، فهو أن يذكر ما يستدل به على إثباته له الشجاعة والسخاء مثلاً».
وينقسم هذا الوجه إلى عدة أقسام، منها تشبيه الشجاع بالأسد، والسخي بالبحر، وغير ذلك (أسرار البلاغة، عبدالقاهر الجرجاني).
وبعد هذه الإشارة إلى أوجه الاتفاق والاشتراك بين الشعراء، يقرر الجرجاني أن الاتفاق في الوجه الأول، لا يدخل في «الأخذ والسرقة والاستمداد والاستعانة»، وأن ادِّعاء دخوله فيها لا يقع إلا «من بعض من لا يحسن التحصيل، ولا ينعم التأمل». أما الاتفاق في الوجه الثاني، فيستدعي النظر والتأمل، «فإن كان مما اشترك الناس في معرفته، وكان مستقراً في العقول والعادات، فإن حكم ذلك، وإن كان خصوصا في المعنى، حكم العموم الذي تقدم ذكره. من ذلك التشبيه بالأسد في الشجاعة، وبالبحر في السخاء وإن كان مما ينتهي إليه المتكلم بنظر وتدبر، ويناله بطلب واجتهاد، ولم يكن كالأول في حضوره إياه نعم إذا كان هذا شأنه، وههنا مكانه، وبهذا الشرط يكون إمكانه، فهو الذي يجوز أن يدعى فيه الاختصاص والسبق والتقدم والأولية، وأن يجعل فيه سلف وخلف، ومفيد ومستفيد» (المرجع السابق).
هذا هو، باختصار، مفهوم السرقات في التراث النقدي والبلاغي العربي، وهذه هي ظروفه التي نشأ فيها. أما التناص، فهو مفهوم غربي ما بعد حداثي، تحكمت في نشأته ظروف تاريخية محددة، وتحولات فكرية وفلسفية أدى تجاهلها وإغفالها إلى سوء فهمه وتحريفه، والاعتقاد بأنه السرقات التي تحدث عنها القدامى.
ويحصي النقاد عددا من الفروق بين المفهومين، أهمها:
1. تختلف السرقات والتناص من حيث حكم القيمة؛ فالسرقات الشعرية تعد من النقائص، وهذا واضح من خلال اعتبار القاضي الجرجاني لها «داء قديماً»، و«عيباً عتيقاً»، ويأتي الحديث عنها في سياق تهجين السارق وتجريحه، واستنكار ما قام به. ولذلك فهي مذمومة، ويجب على الشاعر تفاديها. أما التناص، فبعيد كل البعد عن هذه المعاني، وما يراد به منه هو نقيضها، فهو امتصاص النص غيره من النصوص وتفاعله معها، بشكل يدل على سعة اطلاع المبدع وثقافته، ومهارته في النسج وإعادة الإنتاج، ولذلك فهو محمود ولا مفر للمبدع منه.
2. يختلفان من حيث المنهج؛ فالسرقات تعتمد المنهج التاريخي التأثري، والسبق الزمني. وهكذا، يكون اللاحق هو السارق، والسابق هو المبدع، ولهذا علاقة بالصراع بين أنصار القديم وأنصار الحديث الذي أشرنا إليه سابقاً. أما التناص، فلا شأن له بهذا الصراع ولا بالسبق الزمني، فمنهجه وظيفي؛ لا يهتم بالنص المأخوذ منه، أو النص الغائب، وإنما كل همه النص الجديد الذي امتص النصوص الأخرى وحوّلها.
3. يختلفان من حيث الوعي والقصدية؛ فإذا كان الأخذ في السرقات الشعرية يتم في الغالب عن وعي وقصد، ولذلك يعد الآخذ سارقا، فإن التناص قد يكون عن قصد ووعي، ولكنه في الغالب يكون عن غير وعي.
والنتيجة التي يخلص إليها هؤلاء النقاد الذين رصدوا هذه الفروق بين السرقات الشعرية والتناص، هي أن السرقات الشعرية بمفهومها المعروف في تراثنا النقدي والبلاغي ليست هي الصورة القديمة أو العربية للتناص، وليست رديفاً له، وإن تشابها شكلاً وظاهراً.

علي صديقي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى