ممدوح السكاف - آيات من سورة الجسد.. شعر

إلى محمد عمران صديقاً.. شاعراً يعود من رحلة التيه إلى إبداع القصيدة.‏


كانت تُعانِقهُ رُؤَانا في هَواهُ أو تُعَانِقُنا رُؤَاهُ على هَوَاهْ‏
ويحتفي شِعرٌ بمقدَمِ شِعْرِهِ‏
كانت تُسبِّحُ في سماهْ‏
لُغةٌ تَشِفُّ‏
كما تَشِفُّ الأرضُ عن ماءٍ‏
تَهيَّأ في سَلاسِتَه، لَدَانتِه، طواعيةً، شفافيةً لإبريقِ الصلاهْ‏
مُتيمِّماً بترابٍ ذاكرةٍ الطفولةِ‏
أَثمرتْ وَجَعَاً جَنيَّاً عبقَريَّ النحتِ،‏
ينحتُ في القصيدةِ‏
كان ليلُ غِلاله أرقَ الطريدةِ‏
ترتوي بنعاسِ يقظتها‏
إذا نَامتْ‏
ودَمعِة جِسمِه‏
إذا انْطرحتْ على زَنْديْه عاريةً‏
لِيغسلَها بِنُورٍ مِنْ شَذاهْ‏
كانت تُودعُه دُنَانا أَوْ تُودعنا دُنَاهْ‏
في رِحلةِ الأعضاء‏
تَهميْ عَبْرَتَانا، عَبْرَتَاهْ‏
هو مِنْ رأى رُؤيَا وأوجسَ أَنْ تَراهُ على مداها في مَداهْ‏
***‏
مَنْ ذا يَلوحُ على البعيدِ مِنَ البعيدِ معَ الشراعِ –إذا يُطأْطِئُ –كالشِّراعْ‏
أَمنارةٌ مهجورةٌ‏
في مرْفأٍ غافٍ‏
وشمسٌ رَنَّقتْ لأصيلها بِهديِلها‏
تُهدي لَملاَّحِ المغيبِ‏
شُعاعَةً لرحيلها‏
فيغيبُ في بحرٍ ليصطادَ الظلالَ‏
تَصيدُه حوريةٌ‏
في جسم معْنَاها‏
ارْتَدَتْ روحاً لمبناها‏
ويُغرقُها على قُربٍ من القُربى هَواهْ‏
مَنْ ذا يلوحُ للحبيبةِ في نُضار للشعاعِ –إذا تَوهجَ –كالشُّعاعْ‏
ويقتفيْ جسداً‏
يُجسِّدُ كونهَ في كِونها‏
مِنْ بُرعمِ الذكرى‏
ونيسانِ الحضورِ‏
أَمامَه‏
قمرٌ من الأطيافِ‏
يحبو‏
كالوليدِ‏
وراءَه‏
ظِلٌّ مِنَ المجذافِ‏
يهطلُ‏
بالنشيدِ‏
يضيعُ في وهمٍ توَهَّمَه فصدَّقَهُ فصادَقَهُ..... بَنَاهْ‏
***‏
هو شاعرٌ نهم الحواسِ أحسَّ بالأجراسِ تهمسُ همسَها في حِسِّه:‏
في ضفّتيْ جسمٍ مرَنَّحتينِ‏
خاصرتَيْنِ صامتَتيْنِ‏
ألقى للجريدةِ‏
حُزنه الجسديَّ‏
لهفة روحِه‏
للبوحِ في جسمٍ لأنثى من خيال الجوعِ تُزهرُ‏
فاجأتْه بعُريها العاري عَريّاً كالحقيقةِ‏
واستضاءتْ بالرَّغائبِ حُرةً وطليقةً‏
تنْضُو عن الأسرارِ أسرارَ الخليقةِ‏
أومأتْ بِنداء عينيها الجريء‏
دعتْ فَرِيضَةَ جِسْمِه لِغِوايَةِ التُّفاحِ، يا تفاحُ أنتَ السرُّ....‏
أذعنَ‏
للمصيرِ‏
المستطيرِ‏
وكَورَ الكفَّينِ في رُمَّانَتَيها‏
أطلقَ العُصفورَ من قفصِ الجنونِ، فجُنَّ‏
ناداتْه الفواكهُ وهي ناضجةٌ منضَّجَةٌ على أملٍ‏
فسّمَّى بالنبيذِ مُعتَّقاً‏
وعلى اسمه بكرومِ نَهديها استظلَّ وظلَّلَ الجسدَ المخضَّبَ بالعواصف‏
كان نخبُ صباحهِ‏
زقَّيْنِ مِنْ شهدٍ‏
وعاقَ في مساءٍ للعبورِ‏
رغيفَ‏
سُرِتَّها‏
حَبَا‏
لخميلةِ اللوزِ الظليلةِ‏
ثم قطَّفَ نغمةً من مشتهاهْ‏
في رفَّةٍ عصَرتْ رحيقَ جنونِه‏
وسَمَتْ به للأوجِ‏
طارَ‏
كأنما ولِدت قصيدةُ جِسمه‏
من وردةِ الشفَتينِ‏
عُتقَتا على شفتيْ إلهْ‏
وَدَنا إليه خريفُه ووجيفُه فانهارَ في صمتٍ وفي موتٍ رآه‏
***‏
والآن.. ماذا الآنَ؟... يلتمعُ الجليدُ على هجيرٍ في هجيرِ رماله ونصالِه من طعنةٍ‏
طعنتْ بلاداً‏
هتَّكتْ جرحاً‏
عباداً‏
أيها الوطنُ الذي يمتدُّ في ضيقٍ على ضيقٍ‏
دماءٍ في عروقٍ‏
عطَّلتْ دورانَها‏
سِنُة الذُّبولِ‏
وتمتماتٌ كالزّواحفِ للوصولِ‏
وهرولاتٌ تنحني لرضا ذليلٍ في قُبولٍ للقبولِ‏
مع المهازل‏
والسلاسلِ‏
لستَ من طينٍ ولكنْ أنت صخرٌ‏
فانتهضْ وانهض كما مَيتٍ يقومُ‏
وللدُّجى يعنو حزيناً في قيودٍ من نجيع الحزن تُظلمُ كالدَّياجي خطوتاهْ‏
***‏
أَهُوَ الضَّنى أَضناهُ من دَنَفِ المنيةِ في اشتياقٍ للرحيلِ‏
حفيفُ قافلةٍ من العتماتِ‏
ضرجَها بُكاءٌ كالصليلِ‏
سطوعُ مذبحةٍ تهبُّ على الأصيلِ‏
وعمره يفنى كقنديل المنافي في الفيافي‏
نَاوَشَتْهُ الريحُ‏
فاختلجتْ ذُبالَتُهُ‏
كما ضوءٍ يُغَرْغَرُ في هُتُونِ الفجرِ‏
جَفَّتْ قطرتاه‏
***‏
أتراهُ يصعدُ في مراق من مهاوٍ ثم يهبطُ في خفيضٍ من ذُرّاً‏
يعتلُّ من جَدْبٍ‏
ويَعفُوْ في الخصابِ‏
إذا رأى‏
وهو الذي يوماً رأى مالا يُرى فيما يَرى‏
ورأى الخيولَ كسيحةً‏
أتهيضُها فُرسَانُها؟‏
ورأى لقاحَ النطفةِ الخضراءِ مُنْحلاًّ‏
أتَلفِظُهُ دُجَى الأرحامِ؟‏
تلك قصيدةٌ عَزَفَتْ أنينَ اللحنِ في جسمٍ عليلِ الروحِ‏
صار الجسمُ صفصافاً‏
وغادر نبعةً للسنديانِ‏
وشارفَ الملكوتُ يملك مُلكَهُ‏
فحنتْ عليه في غياهب غيبهِ‏
وسورٌ من الرحمنِ‏
تحضُنُه‏
فيتلوها‏
وهلَّتْ في شتاءاتِ الوداعِ‏
سحابةٌ من أصدقاء الحرفِ‏
تُمطرهُ بحبٍ يانعِ الثمراتِ‏
هَلَّتْ مَقْلَتاهْ‏
ورأى المنايا عابرات برزَخَ الأحياءِ في حمَّى من الأشلاءِ‏
حُشِرجَ في مضيقٍ‏
من شهيقٍ‏
أمعنَ الإسراءَ في المعراجِ‏
كان بُراقهُ‏
لَمْعَ السرابِ‏
على بريقِ السيفِ هزَّ جذوعه،‏
وأتتْهُ في رؤياه أمٌّ كالسنابلِ‏
طمأْْنَتْه:‏
-"بُنيَّ‏
لا تجزعْ‏
وصابرْ، واصبرنَّ‏
تعودُ للريحان‏
في بيت تُعطَرِّه أميرتُه البهيةُ بابتسامتها الوديعةِ‏
نخلتاهْ‏
ووحيدُه، ووحيدنُا الغالي غلا بفتونه وشبابهِ‏
لا تيأسنَّ"‏
من الفناءِ رَقتْ إليه وحصنته بسبحةٍ من وِرْدِها ووُرودِها‏
ردَّت لغرغرةِ الظلامِ‏
على الأُوامِ‏
حشاشةَ المصباحِ‏
أوقدها نشيجٌ أو زفيرٌ منْ بُكاهْ‏
واستحضرتْ (ملاَّجةُ) الأسمارِ شاعرها يَنثُّ كما الرمادِ يّنثُّ في حطبِ الشتاءِ‏
سعتْ إليه‏
لهوفةً وعطوفةً‏
ونديةً وشذيةً‏
تستقبلُ الغادي مُعافى من عَويلِ العصفِ‏
يعصفُ كالزوابعِ‏
في بحار منْ متاهٍ ضلَّ في تيهِ المتاهْ‏
وتصبُّ في كفيه زَيتاً‏
يُعْشِبُ الزيتون في شفَتَيْه‏
يخفقُ بالمسرةِ سرُّه الجسديُّ‏
ينهضُ من رمادٍ في وهادٍ جَانحَاهْ‏
***‏
هو من رأى موجاً على موجِ المرايا نخلةَ امرأةٍ‏
تُحممُ‏
في الصحارى‏
مُهرةً‏
سمراءَ‏
تصهل في جحيمٍ من شرار في احتضارٍ‏
أشرعتْ جسداً كما الظُّلَّماتِ‏
يسطعُ‏
في نحيبِ البيدِ‏
وهي جميلةٌ حبلى مطهمَّةً‏
تُسمِّيها القبيلةُ‏
آيةَ الميقاتِ في العَثَراتِ‏
جَوَّدَها كقرآنٍ على مِسْك وبانٍ‏
عاشقٌ كهلٌ‏
وكانت بانتظار بُزُوْغِه‏
هتفتْ له: -يا كهلُ.. يا روضَ البنفسجِ‏
يا رهيفُ ويا أليفُ‏
ويا شغوفُ ويا عطوفُ‏
ويا وصيُّ على الوصيةِ‏
إنني أهواكَ‏
ساعدني وسددْ لي سُرايَ إلى سُراكَ‏
ولُفَّنِيْ بغيابكَ الجسديِّ‏
عانقني على ملأٍ بلا خجلٍ‏
وخُذنْي أخذَ مقْتَدرٍ قديرٍ‏
في يمنيكَ أو يسارك، من جنوبك أو شمالك،‏
بَيْنَ.. بَيْنَ‏
وضُمَّني لحضورك الروحي‏
واحرثْ في الخضابِ من الترابِ‏
حراثَةَ المشتاقِ غُيِّبَ في ضميرٍ للغيابِ‏
مَخَاضي القاصي قريبٌ يا حبيبي‏
وارتفِقْ بسريرتي‏
قمحاً سأُخصِبُ‏
فاغْتَرفْه بساعِدَيكَ السّابَغْينِ الساهِرَيْنِ‏
وقمْ إليَّ‏
معاً سنَنْثره على موتِ الحياهْ‏
وكانَ في وَسَنٍ يُطاوعه فقامَ وقامَ من ديجورِ غفوته سناه‏
ورأى الحديقةَ‏
نوَّرَتْ بالنورِ‏
أبيضَ كالَّلآلئ‏
صافياً كالطَّلِّ‏
أدلجَ في ندى زهرٍ تَأَمَّلهُ، تعشَّقَهُ، جَناهْ‏
***‏
هو شاعرُ الأحزانِ تُنجبُ نَسَلها العربيَّ أنضجه النهارُ‏
وشعَّ في ليلٍ كما رمحٍ‏
وعادَ لوعده‏
رشأً يُريشُ حنَانَه من زنبق القُبلاتِ‏
يرفُلُ في مروجٍ سابحاتٍ عاطراتٍ‏
هائماتٍ عاشقاتٍ‏
مِنْ جَنى حَلْىٍ حَلاهْ‏
وسَهتْ على يدِهِ القصائدُ والوسائدُ في حريرِ النومِ‏
أيقظتِ القصيدة أمُّها‏
أمٌّ لعائلةِ القصائدِ‏
أمرعتْ سُحباً تُباركها الجباه‏
وراح ينبوعٌ من الأنساغِ يصدحُ بالنشورِ مع البكورِ‏
يدورُ في ثدي الفطورِ‏
فتلتقي بحليبهِ الوطني أفواهٌ‏
وترضعُ من مَلاَوتِه‏
على نهم السرورِ‏
وفيضهِ‏
لهواتُ أطفالٍ جياعٍ‏
أسرفتْ في مصحفِ السَّجْداتِ ترتيلاً‏
وصلَّتْ للسُّحورِ‏
وقَبلَّتْ إنجيلَ جلْجُلَةٍ‏
لترقى ذروةً في مرتقاهْ‏
وطنُ القصيدةِ أنتَ يا عطشانُ رَوِّيها بأشعارٍ مقطرةٍ مُطيبةٍ‏
كوبل من ضحى الأزهار ينضحُ بالعبير‏
يَدُوفَه عسلٌ مُصفَّى‏
دَافهُ عَسَلُ الشِّفاهْ‏
وأقراْ قصيدةَ شمعةًٍ‏
ذابتْ على جسدٍ‏
تُطوِّحه هواجسُ من وساوس زمهريرٍ‏
قمطريرٍ‏
للمصير‏
المستجيرِ‏
مُوَلَّعٍ بهديلِ مبكاةٍ‏
لمرثاةٍ‏
فيا ناراً على ثلجٍ‏
تنادفَ رفَّ قُبرةٍ‏
تُسَفسفُ‏
ثم تهوي في غدير الدمعِ‏
ظامئةً إلى رحبٍ فسيحٍ‏
راعشٍ بالنور أو بالماء‏
ينبع من مجاهلَ في فلاهْ‏
كُونْي سلاماً من سلامِ الجسم ينزلُ كالملاكِ على سديمِ الروحِ‏
يعلو في بُروجٍ من شواهقَ أِتْأَمَتْ فيها عُلاها أو علاه‏
***‏
كانت تُصافحنا يداهْ‏
في وردةِ اللقيا‏
وتطفر من نسيمٍ للسعادةِ‏
في ترانيم الولادةِ‏
شهقتاهُ ودمعتاهُ‏
***‏
هو ذا ينوء بفرحةِ الجسدِ الصَّبُوْحِ‏
طعامُهُ من نرجس الرؤيا‏
على صبح الموائد‏
مدَّها سمرٌ صباحيٌّ‏
وواكبه شرابٌ من عصير البوح،‏
باحَتْه الجنائنُ أورقتْ خبزاً وتمراً‏
من حقول الزعتر الطفليِّ‏
تعبقُ ريحهُ ريانةً ريا‏
تناجي عندليب غبارِ طلعٍ‏
هبَّ من أفق النباتِ‏
على رشيمٍ من حدائقَ‏
أفرغتْ في مُنتهاها نطفةً نشوانةً نشوى تُكلمُ منتهاهْ‏
متوشحاً بوشاح نُعمى من كواكب فاغماتٍ بالضياء تضيءُ‏
في رئتين خضراوينِ‏
خاصرتينِ ناطقتين واضحتينِ‏
يدرجُ في المساِ مُنَغَّماً بهزارِ أغنيةٍ من السهر المطير‏
تفيضُ بالسرِّ السريرِ‏
وتزدهي بُحدَاء قافيةٍ‏
فيحدوها‏
ويُطلقُها نعيمٌ من نعائمَ أزهرتْ كهتافِ حنجرةٍ‏
وَرَنَّتْ في فضاء مُطلق‏
من غابةٍ عشقتْ فضاهْ‏
***‏
مازال لي نثرٌ على نثرِ الكلامِ‏
له قصائدُهُ كما سجعِ الحمامِ‏
ولي هوادجُ نائياتٌ دانياتٌ‏
ساهراتٌ نائماتٌ‏
حُمِّلَتْ بنساءِ مملكةٍ من الأحلامِ‏
شادتني على صرحٍ صريحٍ راعفٍ من عسجد الأوهامِ‏
شَيَّدَ لهوي اللغويُّ مقصوراتها الوسنى‏
بألفاظٍ حزيناتٍ غريباتٍ‏
شريداتٍ وحيداتٍ‏
ترنح ظلها كالخمرِ‏
لي وطنٌ أُضَمِّدُ جُرْحه بالحبِّ ينبض في خلايا من شراييني‏
وأعبده ويغمرُني بآلاءٍ من الشَّمَمِ الجموحِ‏
ينيرُ مرحلتي‏
أشاهدُ فيه شاهدةَ العصورِ‏
وأبجديتها الشهيدةَ‏
أصطفي لخضابه المرويِّ من أرَجِ الشهادةِ‏
هودجَ الأعراسِ زُفتْ للزواج الملحميِّ‏
وأنسلتْ بنطافها الأرضي ولداناً يزكيها الربيعُ‏
وتنتشي برذاذه المطريِّ فواحاً على جسدٍ‏
يُكللِّه من التيجان تاجٌ من نداهْ‏
ولكَ القصيدةُ موطناً، وطناً تهدَّجَ بالمحبةِ‏
في يقين حبيبة كقصيدةٍ توَّجَتْها بالتبرِ،‏
أنتَ شُعاعها الذهبيُّ،‏
تَوَّجَها بعزْفٍ أو بنزفٍ‏
أو بسطر أو بحبرٍ‏
من دماءٍ في دماهْ‏


ممدوح السكاف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى